نشرة الأحوال
أيقظها المطر.
خربش على النوافذ، ثم نقر بقوة فاستيقظت.
"ماذا تريد أيها المطر؟!"
"أريد أن أشرب القهوة معك"
"اتركني أرجوك. إني نعسانة. كنت أرفو جوارب الطريق كي يمشي بي إلى
الأمام، لقد تعبت من وقوفه. وكنت أرتب حطب البرد كي أشعله في مساء قادم. أظن
سيعمّ البرد. يهطل الثلج..
تبرد القلوب، فتبرد الحروف. تهرب من برد إلى برد. لكنهم سيجدونها،
أخيراً، ميتة على قارعة المدارس"
"ياه..."
"لاتبتئس أيها المطر. هذه هي الحقيقة المرّة التي تقف بعيداً على
بوابة الزمن"
يبكي المطر. يمسح دموعه في النافذة، يستلقي على الأسطحة، يسأل بقهر،
"والأطفال؟!"
"ماذا يفعل الأطفال؟ سيلعبون بالحروف الميتة، وقد يملؤون
جيوبهم بها، يأخذونها إلى المنازل، يعرضونها على الآباء، لذلك سيبكي
الآباء سراً في الليالي الممطرة".
"مع ذلك أودّ أن أشرب القهوة معك"
"قلت لك أنا نعسانة.. وحبيبي مايزال نائماً. إذا استيقظت فإنه
سيفيق، سوف ينزعج..
غضب المطر. ضرب النوافذ. أحكمت إغلاق الأبواب. لكنه كسر أغصان شجرة
البرتقال الصغيرة. فرفط ثمارها، ثم نزل إلى البحر يتسكع بين الحارات النائمة.
(2)
هطل المطر بغزارة هذا المساء.
أمي خاطت أكمام حكاياتها حتى لاتبرد.
أبي العائد من الحقول، ربط الثيران في حظيرة تدلف. ثم أشعل ضوءاً
صغيراً كي تتفرج الحيوانات على بعضها.
"هل تعرف الحيوانات بعضها يا أبي؟! هل تحفظ الملامح؟!"
هزّ أبي رأسه بالإيجاب. قال لأمي: دعي المطر يدخل. ربما يذيب بعض
هذا الأسى.
ظلت أمي منهمكة في عملها، أمرني أبي أن أفتح الباب كي يدخل المطر.
لم أعترض. فتحت الباب. "افتحي النافذة" حاضر أبي. لكن المطر يرفض أن يدخل، ليس
عندنا نار ولاموقد، ولا حصير، ولا سجادة تهريب ، ولا.. التفت إلى أبي فوجدته
يذوب، يذوب ويصير بحيرة ماء.
(3)
كلما عاتبته لأنه مشغول، يقول لها: ولمن أعمل أليس من أجلك؟ تنهدت
"ولكنك تطيل الغياب. أكاد أنسى رائحتك، وأنسى حركة يديك. وأكاد.. يلعن أبو
الشغل، ينتهي العمر ولا ينتهي.. "هكذا هي الحياة.. العمل يتطلّب ذلك".
سنوات والعمل يتطلب ذلك. يسرق لحظات من الزمن. يلتقيان، ثم يغيب
مجدداً.
كل صباح تشرب القهوة وحدها. تحضر فنجانه. تصب له القهوة، ولكن
لايحضر. تشرب قهوتها وهي تكتب له نشرة الأحوال.. أحوال الروح، الجسد، المدينة،
الأصدقاء، الحياة، ألـ..
في الفترة الأخيرة لم تعد تكتب له. ماعاد للكلام قيمة.
عندما عاد آخر مرة رمى بالهدايا والأموال أمامها.
"انظري ماذا جلبت لكم؟"
ظلت قابعة في كرسيها الهزّاز، حدثها، لم ترد.
امتدت يده تشدّ على أصابعها، شعرت أن أغصاناً يابسة بين أناملها.
"مابك؟"
نهضت عن كرسيها، صنعت القهوة ثم عادت، "تعال نشرب القهوة هنا"
بصعوبة كان يمشي، بصعوبة كان ينتقل، أمسكت به، ساقته إلى المرآة. همست بقهر
"تأمل نفسك".
حدق جيداً، رفع يده يتلمس وجهه. أيقظته خطوط الزمن إلى بياض الشعر.
إلى أنفاسه المتعبة.. إلى وجه زوجته المكدود. إلى ..
أنزل يده. تأملها. رآها قطعة خشب يابسة. أطلق دمعة كبيرة.
الدمعة صارت غيمة. حلّقت في الغرفة واستقرت على المرآة. غامت عيناه.
تلمست المرأة شعره "أيسترجع هذا الكنز الذي حملته شعرك الأسود؟"
لم يرد. ظل واقفاً.
"أتعيدني هذه المجوهرات إلى أنثى حارة، فتية، تذوب بين يديك؟"
ظلّ صامتاً ثم سار باتجاه أول كرسي، استرخى عليه، وأغمض عينيه
متعباً.
في الفترة الأولى، كانا يجلسان معاً ويتبادلان تحية الصباح ويشربان
القهوة مع نشرة أحوال موجزة.
بعد فترة، صارا يتبادلان تحية الصباح ثم يشرب كل منهما قهوته وحده.
لكن في الفترة الأخيرة. ماعادا يتبادلان تحية الصباح.. ولايشربان
القهوة. إنها مضرة بالصحة.
(4)
حين رآني بعد غياب طويل أصرّ أن أزوره، كي نتبادل الأخبار
وأحاديث الصبا والأصدقاء.
"لقد كبرت ياماهر!"
"هكذا.. نولد كي نكبر، وأنت أيضاً ابيض شعرك"
حين ودعته أصرّ أن نلتقي. ثم راح يشرح لي أين يسكن.
"ياسيدي تشرّق إلى الشرق عدة كيلومترات. هناك على الطريق الذي يمر
قرب السنديانة العتيقة ستجد قصراً منيفاً. له آجر أحمر وجدران رخامية. هناك
كلاب حراسة كثيرة، ستنبح عليك. لاتخف إنها فقط للنباح لا أكثر. بعد القصر
بأمتار يقبع بيتي. بعد بيتي يوجد شجرة زعرور وبقرة مربوطة إلى ساق الشجرة. هل
حفظت العنوان؟!"
"حفظته. سأزورك قريباً"
"أهلاً بك... لاتنسى ها؟! بيتي قرب القصر.. ولكن أريد أن ألفت
انتباهك إلى شيء مهم. لاتسأل أحداً.. بيتي معروف جداً. ولكن لاتخطئ به وتظنه
بيت كلاب الحراسة إنه منخفض، وترابي، وبسيط، لكن.... هذا هو بيتي فمتى تأتي؟!"
ضغطت على يده، لم أستطع أن أحدد له موعداً. لكن بالتأكيد لن أذهب.
"لو كان الفقر رجلاً لقتلته؟!".
إذن. كيف أصادقه أنا؟!
(5)
آلو..
نعم...
حبيبتي. كيف أنت؟!
اشتقت إليك، أتعلم أن الشوق يجعلني أبكي. تعبت من الشوق. هيا تعال.
حاضر. سأجيء. جهزي القهوة.
ألو.. لقد جهزت القهوة، تأخرت، هيا.
حاضر. افتحي الباب. مدّي يديك، أبعدي المطر عن النوافذ
كي لايراني عندما أعانقك.
"حاضر. ها أنا أطرده"
"أنا قادم.."
"لقد بردت القهوة. لماذا تأخرت؟!"
"أنا قادم ياروحي"
أغلقت السماعة. نظرت حولها. قهقه المطر شامتاً.
هي تعرف بأنه لن يأتي.
وهو يدرك بأنها تعرف بأنه لايقدر أن يأتي، لأن المسافات عاقة، ولأن
المفارق كثيرة.
لكن، كلاهما كان يحلم. لذلك، زعلت القهوة. أهرقت دموعها السوداء على
البياض وقالت:
تكذبون عليّ؟!
(6)
أنهت قصصها القصيرة.
طوت الورق ووضعت قلم الحبر فوق الأوراق المكدسة. تنفست بهدوء. امتدت
يدها إلى فنجان القهوة، لكنها ارتبكت حين سمعت صوتاً يأتي من بين الأوراق. إنه
صوت أنثوي جميل، حزين. نظرت حولها لم تجد أحداً. أشعلت سيجارة من علبة تبغ
بيضاء وراحت تراقب الدخان الملتوي. عاد الصوت مرة أخرى" أخرجيني من أوراقك".
ذهلت. "من؟!"
"قلبت لك أخرجيني من أوراقك. لا أريد أن يسجنني الحبر والورق. أريد
أن أخرج إلى الهواء، إلى النور، أريد أن أمشي في المدينة، أغير شارعاً، أبدّل
حديقة، أصنع رجالاً على طريقتي. أهدم قناعات. أريد... هيا أخرجيني."
"أنت من؟! قولي. من أنت؟"
"ألا تعرفين من أنا؟!! تعبثين بي. تلبسينني كل مرة قميصاً بلون.
وزمناً بلون. تأمرينني أن أقول ماتريدين.
لقد تعبت، وكرهتك. أريد أن أرحل."
تراجعت الكاتبة. أطفأت السيجارة. "ولكن لم أعرف من أنت؟!"
"أنا.. أنا الفكرة.. انظري. ألا ترينني؟!"
نظرت الكاتبة إلى الورق. رأت دمعة كبيرة، ورأت الحبر يذوب ويرسم
أشجاراً مقطوعة.
خبز المقهورين
أقسم بأني لم أزعل.
ماذا لو تبادلنا الأمكنة والأزمنة؟
الروح تسير عارية، والجسد لايتوكأ على ذاكرة. إذن الأمور تجري
ببساطة. بلا عقد. وبلا قيود. أعرف أني لم أقل شيئاً حتى الآن .أليست هذه مقدمة
لقصة؟: فليفرح النقاد: لقد خالفتهم. لكن هذا ماحدث فعلاً. هذه المرّة لن أقسم
بالمزارات، ولا بسنديانة جدي برهوم. صدقتم أم لم تصدقوا، الأمر ماعاد يهمني.
أنا أحكي لنفسي. كل يوم أقصُّ الحكاية، أشذّبها، وأحياناً أزيد عليها لتأخذ
الشكل المناسب. إنها قصتي وحدي وأحاول إرضاء نفسي فقط. فتنحّوا أيها النقاد.
***
عادة...
كنت أقرأ في المقبرة. أجل المقبرة: مكان هادئ، صفصاف على ضفة الماء
الجاري، ريحان مبعثر، قبور مسيجة بأسلاك شائكة وأخرى ابتلعتها الأرض والعشب
والزمن،
فخارات مكسورة فيها بقايا بخوّر كأنها بقايا أحلام محروقة. أمي
تناديني: الغداء جاهز. يعني البرغل والبصل الأخضر. لا أهتم لصراخ أمي.
كنت منشغلة بإنجاز قصيدة مطولة أتحدث فيها عن جدتي التي ترقد في
المقبرة منذ فترة وجيزة فقط.
جدتي تدعى مريم. لها شعر طويل، طويل، حتى قدميها. حين تستحم جدتي في
النهر كانت ترخي بشعرها الطويل على جسدها فلا يراها الرجال الذين يختلقون الحجج
كي ينزلوا إلى النهر ويلتهموا بعيونهم الأجساد العارية المسيجة بالماء والعتمة.
الصفصاف البرّي يشكل جداراً، لكنّ بعض ذوي النفوس الـ.. من رجال
القرية كانوا يختبئون فيه. أسراب النساء تصعد إلى القرية. رائحة الصابون تفوح،
وحبق مدهوس بين الأثداء، ضحكات ووشوشات، رجلٌ يخرج من بين الصفصاف، بسم الله
الرحمن الرحيم، تصرخ جدتي، يذوب الرجل، تقسم بأنها رأت جنياً.
***
نعم.. كنت أقرأ في المقبرة.
لم يزعجني أحد، كان الوقت ربيعاً. الورق يتفتح عنيفاً على الضوء.
الروح شاسعة كعطر. برّية: وأنا أفترش المكان بعيني.
الريحانة التي على قبر جدتي كبرت فجأة، ارتفعت أغصانها، اسودت
ثمارها الصغيرة، قطفت بعض الثمار، لم أستطع مضغها، حاولت أن أبلعها، عجزت،
تشردقت، ونزلت الدموع، كدت أختنق فندهت "ياعجمي".
مايزال العجمي يقبع منذ طفولتي على الطريق الراحل إلى الجبال،
عارياً يقف العجمي. عليه بقايا بخور وشرائط خضراء وكأس ألمنيوم. إنه مايزال
ينتظر النساء المقهورات من عشاقهن. هنّ ينذرن الخبز الحاف، يضعنه في سلّة عتيقة
معلقة في رقبة شجرة الزعرور، ويملأن جرّة الفخار بالماء بانتظار نساء مقهورات
قادمات.
أياد كثيرة طافت بسلّة العجمي. تعبت السلّة وماانتهى القهر. ذات يوم
راحت تصرخ بأعلى صوتها، فاهتزت شجرة الزعرور فزعاً. تساقطت أوراقها وثمارها
الصفراء اللذيذة، وظلّت السلّة معلقة عند رأس العجمي.
***
أرجو ألا تضطروني لحلف الأيمان، هل رأيت أنا ذلك أم أني لم أرّ؟
المهم: هكذا قالت جدتي لأمي، وأمي قالت لي، وأنا أقول لكم. ها: أمامكم العجمي
على بعد عدة كيلو مترات من القرية، إلى الشرق قليلاً، الشرق أكثر، حيث كان
الخطيب يعلّم القرآن، وأنا أغرّب وأشرّق ثم أرتاح عند المقبرة حتى تناديني
جدتي.
جدتي مريم. ألم أذكر لكم اسمها من قبل؟!
كانت جميلة جداً. حملها جدي من ريف صافيتا. في ليل عاصف، البحر
مسكّر، والطرقات مقطوعة.
"جدك ككل الرجال، لايقبل بامرأة تعطيه نفسها فوراً.
يجب أن تكون شرسة. شرسة للغاية، أو أنها تدّعي الشراسة لتفسح له
مجال اقتناصها. عند ذلك سيزيح "طربوشه باعتزاز" وسيفخر برجولته الفذّة."
"ولك يامريوما خطفتك من ألف رجل.. "
ومريوما تزداد بهاءً. لكن الذي كسر خاطر مريوما صديق جدّي. وقف
أمامها وهو ينظر إليها وإلى جدتي: أهذه مريوما التي ناضلت من أجلها؟!
"قم.. اخرج من بيتي" هكذا قال جدي لصاحبه. "صبّي زوفا يامريوما..
ماببدلك بألف مرا..." لكن جدتي أقسمت بأنه أحبّ غيرها أكثر من واحدة بعد ذلك.
لا، أنا لم أكن قد تكورت في بطن أمي. أمي كانت ترفض الانجاب كي تظل
ممشوقة ورقيقة. هكذا كان أبي يحبّ، وعندما حملت بي أخذت تدحرج الرحى على بطنها،
وتصعد الأسطحة، تدحل الشوفان البرّي النابت، لكنّي قاومت. أتيت إلى الحياة
رغماً عنها، فأعطتني اسم جدتي قبل أن تموت.
"مريم".
ينادونني فأرد، وترد جدتي. تمرضُ وأشفى أنا. تبكي مريوما فأضحك.
تنهرني بحزن فأهرب بعيداً وأختبئ وراء حائط التنور. وعندما تنام
وأدرك أنها استغرقت في النوم، أصرخ بأعلى صوتي "مريم" فتفتح عينيها وتقول:
ياعجمي تريحني، ثم تركلني بعصاها. فأدعي بأني أنادي نفسي لأمرّن صوتي على
النداء من أجل احتفالات المدرسة.
تذرف جدتي دمعة وتصمت، أو تخرج عند الجيران حيث يرحبون بها وهي
ترتاح لذكرياتها عندهم. وإذ تذكر اسم صافيتا، تهزّ رأسها وكأن صافيتا تبعد عنها
آلاف القارات.
"كنّا في صافيتا نقطف التين! كنا نذهب إلى نبع "الغمقة" كنا. وكنا"
" أبداً... لم أنس ما أود قوله.. لكن" قل كلمتك وامشِ"
***
عندما سألني هشام بكل جرأة وتوسل: أيذهب خيالي معك إلى المنزل؟"
صمتّ لحظة، تذكرت وصية جدتي "الرجل يحب اقتناص المرأة التي ترفضه
لذلك أكذبي"
"أنا أكذب ياجدتي؟ "
أنا بعد أن نلتُ شهادة كبيرة من الجامعة، ودرَّستُ مئة طالبة،
وتلقيت مئات الرسائل والقصائد، سأخالف مريوما. قلت لهشام: لا. خيالك لايذهب
معي. كنت صادقة، هو ظنّ بأني أتمنّع وأنا راضية. ظلّ هشام يطاردني لكني أحببت
سامي. رأيته لأول مرّة في مطعم بحري. صوت الموج كان يدندن في دمي. نظرات سامي
تنفرط على جسدي. عندما خرجنا من البوابة العالية للمطعم، همست له أن نلتقي.
وعندما التقينا، شرحت له إعجابي، ثم حبّي، ثم فرّ هارباً باتجاه لبؤة يصطادها.
لبوة شرسة كالتي حدثتني عنها جدتي. قلت له: فلتذهب أنت ولبوتك المصطنعة إلى
الجحيم. العجمي يقصف عمره. خرجت بعد ذلك مقهورة، أحمل الخبز إلى العجمي. كان
الخبز خبز أفرانٍ وليس خبز التنور المعجون بقهر النساء المحرومات، الملهوفات.
بكيت أمام العجمي وقلت له: ياعجمي "موّت أمه وأباه، واجعل أشجار قريته أفاعي.
ودجاجات خالته جرابيع. ياعجمي". ثم مسحت دموعي ونظرت إلى الخبز فرأيته يتطاير
عالياً كقبرات. لماذا لم تقبل النذر ياعجمي؟!
غاضبة عدتُ. كان الطريق يمرّ بحقول الزيتون. تلفّت إلى الوراء بقهر
وقلت: إسمع ياعجمي: جدتي ماتت. وأنا حفيدتها مريم. رفضت خبزي. أي رفضت شفائي من
قهري. مع ذلك لن أرتدي ثوب لبوة حقيرة. سأقول مشاعري. وسأكون أنا. أنا . لماذا
اللف والدوران والزيف؟! لماذا عليّ أن أصنع رجولة زائفة لمن أهوى؟! ليمت..
ليشعر بأنه ممسوخ وقزم. ماعلاقتي أنا؟ "
***
عند شجرة الصفصاف التي تنحني على قبر جدّتي جلسنا. تحدثنا في الأدب
والعشق، ثم قطف لي باقة من شقائق النعمان. اقترب مني راغباً في أن يطوقني
بذراعيه. ابتعدت. ارتعش جسدي. شعرت سياط الزيف تنهمر.. سمعت صوت العجمي. أجل
لقد كذبت. كنت راغبة في وروده وذراعيه وهمسه. ولكن لا أعرف لماذا شعرت بالخوف
من الموت الذي يهددني به العجمي إن أنا كذبت. هكذا كنت قد نذرت. وهكذا أجدني
خائفة "ألا ترغبين بي؟"
لم أرد. نظرت إلى قبر جدتي. رأيت شجيرات "الريحان" تهتز. وكأن ريحاً
عابثاً عصف بها، ثم سمعت صوتاً مدوّياً. ركضت أحتمي بشجرة الصفصاف، فرأيت صبية
فاتنة تخرج بهدوء من القبر. دهشت من رؤية شعرها الطويل، الطويل، ومن أصابعها
الطرية، شعرها الأسود يتدلى إلى كاحلها. تلمست شعري، قرّبته من عيني فإذا به
أبيض كالثلج. أخرجت المرآة الصغيرة التي أحملها، رأيت وجهي ممتلئاً بغضون
السنوات العجاف، أصابعي مكدودة، خطواتي ثقيلة. بكيت "ياعجمي" ناديته. سأحمل لك
الخبز والماء. سأصنع أقراصاً بالسمن والعسل، ولكن...
بعد صمت.
بعد توجع روحي، لم أسمع إلا ضحكة جدتي. نفضتْ ثوبها من التراب
واقتربت من الرجل. ألقت برأسها على صدره وراحت تغني. ناديت العجمي، ناديت
القرية، كأن القرية بلا أبواب، بلا آذان. كأنها تلاشت واختفت "جدتي" اقتربتُ
منها.. كان القبر فارغاً مفتوحاً أمسكت بثوبها، شددته، بقيت قطعة من الثوب في
يدي. شعرت أصابعي تحترق. نظرت إلي بغضب. أشارت بيدها إلى القبر. ثم التصقت
بالرجل مرة أخرى.
كان لابد من أن أنزل، أنزل بهدوء، أتلفتُ حولي، أفجّ الريحان، أهزّ
الأغصان، أنتظر، لاأعرف ماذا. ناديت الرجل الذي أحببته "أنا أحبك يا..
أتسمعني؟"
ابتسمت جدتي. لقد خسرته ياصغيرتي. أنا صغيرتها؟!!
شعري أبيض وجسدي ليس جسدي.
كان الرجل يقتنص جدتي وأنا كنت أحاول الهروب. أبتعد، فيقترب القبر
مني. يمدّ ذراعيه. يناديني هشام الذي أحبني، لكني أرفض، ماأزال لاأحبك ياهشام،
"دورك الآن. هيا، انزلي إلى القبر"
تأملت القرية النائية. الأشجار. ماء النهر الذي لايهدأ. ثم نزلت
القبر دون حزن. دون اعتراض. أغمضت عيني وأنا أتمدد، أستلقي، أرخي يدي، أشعر
ببرودة التراب. ناديت: جدتي، أغلقي عليّ القبر أرجوك. لم ترد، ناداني هشام. مدّ
يده كي يخرجني. رفضت. تركني ومضى وأنا رحت أنتظر جدتي لكي تغطيني، أو تأخذ
مكاني.
تفاصيل أخرى للعشق
قال لها: أنا بعيد جداً.
مدن كثيرة تمتد بيننا، وموجٌ شاسعٌ بين أعيننا، مع ذلك أسمع صوتكِ،
فتكونين معي. وحين أمشي على ضفّة البحيرة تكونين معي أيضاً.
أشعر أنه يكفي أن أحرّك أصابعي لألمس أصابعكِ وأشم عطركِ.
أو لأحضن قامتك الرهيفة.
غصّت، ولم تقل شيئاً. كانت عاجزة عن الكلام أمام غول المسافة القابع
بينهما. أبعدت السماعة قليلاً كي لايسمع نحيب شوقها، وتمزّق أنفاسها.
"أتسمعينني؟ "
"تنهدت. ألا تراني؟. إني أهزّ رأسي".
كان الشوق مستبداً. طاغياً. لكنها تدرك تماماً، أن الحياة بلا شوق
كالجسد بلا روح. الشوق يجعل الحياة رحبة، والأمنيات يانعة. يجعل لألواننا فضاء،
ولعطورنا قيمة. ولوجودنا معنى.
"أجل. ها أنا أراك عبر الأسلاك، وعبر المسافة وعبر الزمان، أراك
بثوبك الكحلي الذي ينساب على جسدك الجميل.. اسمعي"
ابتسمت. "لماذا تأمرني؟ "
"آه. أبداً. الشوق هو الذي يأمر. غداً عيد الحب. أريد أن أحتفل به
من أجلك. أريد أن أقدّم لك الورد، لكن كيف والمسافة تفتح شدقيها.. ذبلت من
الغياب".
كادت تبكي. ماأسرع أن تنهمر دموعها، وتكاد تقول له، أنا التي ذبلتُ
من الغياب ومن الانتظار. ذبلت من الوقوف على الشرفة ومن اللهفة بانتظار رنين
الهاتف. لكنها آثرت الصمت. لاتريد أن تعرّي وجعها ولا أن تسبب له الأرق "الحب
تضحية".
"الحبّ هو الذي بلا مقابل. لاثمن للحب أبداً.. إلا الحب.. "
-ألو
أتسمعينني؟! ألو. هل انقطع الخطّ؟
وإذ ترد بصوت منكسر يرش أوامره بسرعة كي لايفضحه الحزن ويبتلع صوته
"اذهبي إلى بائع الزهور، ألا يوجد بائع زهور في المدينة؟ اشتري وردة جورية
حمراء ملفوفة على عطرها، ضعيها في كأس ماء، أمامك، على الطاولة، أو قرب فنجان
قهوتك الصباحية. واكتبي إهداء سريّاً جداً خوف عيون الجدران والجيران وستائر
المنزل -"منّي.. إليك" وأرجو أن تسمعي موسيقا النهر الخالد لعبد الوهاب.
موافقة؟! "
لم ترد. كانت الذكريات حارقة، والشوق طاغٍ. إنه يتفجر فوراً عبر كل
همسة تنساب.. عبر كل حرف يسيل في خطوط الهاتف.. إذن الهواتف تفجّر الشوق. تجمد
اللحظات. وربما شاركها الحبر المنسكب في الرسائل والقصائد والروايات. الحبر
الذي نستخدمه يثبت الزمن أكثر ويمسك باللقاءات الهاربة. كم مرة كتبت له وإليه.
ثبتت تفاصيل لقائه أو تفاصيل زعل أو تفاصيل شوق؟!
"أنت السبب ياحبيبتي"
"بل.. أنت..."
"انتبهي. الخطوط مراقبة. قولي كلاماً محترماً،"
"يعني كلام الشوق غير محترم؟! ثم ماذا يدفعنا للكلام لولا الشوق.
ليراقبوا، هل يحاكمون الورد على عطره؟ اسمع. اسمعوا. أنا مشتاقة إلى..." تضحك،
ها أنا لاأكمل العبارة حتى يبقى الاسم سراً. عند ذلك سيجنّدون الجيوش والورد
للبحث عن الاسم.
يضحكان. هاهما يخرجان من حزن الشوق إلى أسئلة أكثر رحابة.
"برأيك من المسؤول عن الحب؟"
"أظنه. القلب هو المسؤول"
"أليس الصوت؟ هو المجرم لأن يثير الزوابع والبراكين. يهدم جبلاً
ويرفع آخر. يعلق حدائق ويحرق غابات...؟"
ربما.. هي لاتستطيع أن تتخيله دون صوته، مرة استبد بها الحنين فذهبت
إلى قريته. راحت تبحث عنه. لم تجده. هي تدرك بأنها لم تجده، وتعرف بأنه وراء
البحار يشرب القهوة الآن، أو يمشي في شوارع مكتظة بالورد. لكنّها كانت تبحث عن
خطواته على الطرقات. عن وجهه على النوافذ. عن عينيه في عيون أهل القرية. شعرت
أنها تسمع صوته. يناديها، كادت تتهاوى فاستندت إلى أول شجرة سنديان وراحت
تتلمسها بأناملها.. "هذه الشجرة تلمسها حبيبي وربما صعد إلى أعاليها كي يشدّ
البحر إليه".
-آلو..
لم تستطع الرد. أجهشت بالبكاء. لم تعد قادرة على الاستمرار أكثر.
أهي الحياة هكذا تفنى بين وداع ووداع؟!!
... ... ...
الوردة في الكأس
الغرفة واسعة جداً.
الهاتف لايرن. إنه صامت، أخرس، يتحداها.
الوردة صامتة، تحدق بالجدران التي تفصلها عن الحدائق والشمس.
هل يحزن الورد؟
تساءلت المرأة التي تتكور في مقعدها الجلدي.
الصباح واسع، البرد واسع، والجسد ضيق جداً. شعرت أن روحها تطفو فوق
حريق يتعالى. شعرت أنه عليها أن تحرق نظريات كثيرة كي تصنع قهوتها في آخر الليل
والمدينة نائمة.
الهاتف لايرن. ياه. كم من الأرواح معلقة على أسلاكه؟ كم من الأيام
تذوب عبر صوته؟
جرس الباب يرنّ، تستيقظ من نفسها، ترفع سماعة الهاتف، يالها من
خيبة!.
إنه الباب ياسيدتي، تنهض، من الذي هناك؟!
... ... ...
الجسد ضيقٌ
الشوق واسع.
أقصد الحب يجعل الروح شاسعة، والقصيدة أكبر من مدينة. أقصد الحروف
تضيق على الوجد.
"يا للترهات. ترهات امرأة تعيش لجسدها"
"أبداً.. الجسد يعني أنت. الجسد معرفة. له لغة خاصة. إذا فقد لغته،
يتحول المرء إلى حيوان. انظر حولك، كم من الحيوانات ترى؟ الذي قتل طفلة
الجيران.
الذي أغلق باب دكانه على امرأة عجوز؟
الذي أطفأ عقله وإنسانيته في حيوانات الـ...."
"أعيدي ماقلتِ؟! "
"قلت: هي ترهات الشوق، الحلم، القتل. آه. أبعد يدك عني. إنك تخنقني"
اليد ترتفع. اليد تمحو العقل أحياناً، اليد تنتزع القلب كنبتة برية
أحياناً أخرى.
الوردة في الكأس، تحدق في الوجوه الغريبة التي تملأ الغرفة "منّي..
إليك"
"مجنونة. تكتب إهداءات لنفسها".
تبكي الوردة. ألف عام وربما أكثر يحتاجون ليفهموا لغة الورد. نزع
كبيرهم عمامته. فرشها على الأرض. ركع، وتمتم. خلع ثيابه. تعرى.. ظهرت قرونه
المخيفة. العالم مجنون. العالم يقتل الورد. ماذا يبقى بعد ذلك؟
هل تنوب الأشواك عن الورد؟ الحجارة عن الحدائق؟ أيكفي أن نكدس
الرخام والإسفلت والكريستال والعمامات الملفوفة على الأفاعي لنكون سعداء؟
... ... ...
اليد..!!
يده.. وسادتي.
يده تطوق خصري.
يدي. تخربط شعره وقميصه وأزراره وجسده.
اليد..
تحمل السكين. تقطع الحلوى. تقطع الجسد. تصافح.
"يدك.. أحبّها"
يدانا... أصابع عشرة تتعانق في جيب واحد.
ماذا تفعلان؟!
"البرد ياسيدي"
كانا معاً. سارا تحت المطر. تعانقت الأصابع العشرة. رآهما الحارس.
أطلق صوته خلفهما. فرّا هاربين.
اليد! ترفع الوردة تمزق البطاقة "منّي..إليك" تفرط وريقات الوردة
ورقة. ورقة. تتناثر البتلات، تملأ الغرفة.
"هيا.. انهضي. ادعسي بتلات الورد"
"ياإلهي.. ماذا تقول؟"
"أقول: دوسي بقدميك الجميلتين هذه الوردة اللعينة. أقول: ياامرأة.
اخرجي من باب الورد. ادخلي باب النار. اخرجي من حدائق الشوق ادخلي باب الشهوة.
هيا. ها نحن نفرش العمامات، هيا.."
... ... ...
أقول: ذبلت من الوقوف على الأبواب
أقول: مات الورد.
تشهق "مابك؟"
هاهي تراه الآن على الطرف الآخر من الكرة الأرضية. يحرك يديه عبر
آلاف الكيلو مترات ويطوقها. "كيف حال الوردة؟"
تلعثمت. أرادت أن تقول شيئاً، لم تقدر، تودّ أن تبكي الآن بين يديه.
أن تلقي برأسها في حضنه. يكرر السؤال، تقول هامسة: هذا ليس زمن الورد، إنه زمن
الصقيع.
"كيف حال الوردة؟ هل اشتريت وردة وسمعت كلامي؟ "
"... آه..."
"الصوت بعيد. ارفعي صوتك"
" آلو.."
هي لاترد.
"ماتت الوردة، أليس كذلك؟"
انفجر غضباً. أعرف. البعد يجعل الورود تموت. كان من المفترض أن أدرك
ذلك. وأن أدرك بأنك غير قادرة على الصبر وعلى تحمل الحبّ الكبير.
كاد يغلق الخط، لكنها أسرعت تقول. هم قتلوها. رصاص. نظريات. عمامات.
صحارى تمتد. مارقٌ هذا الورد. مارقٌ هذا الشوق. و. انقطع الخط، لم يكتمل الحوار
آلو. آلو.
... ... ...
تكورت من وطأة الخيبة.
تكومت كمعطف في مكانها. تذكرت: مع كلمة "تكوّم" تتخيل جسدها باقة
ورد يتكوم في حضنه.
"لأنك تعيشين خوفاً متجذراً"
"ربما لأني أشعر أنك الذي يحميني"
نظرت حولها. ظهر لها الهاتف كجثة جامدة. لاحسّ ولا حركة. حرّكت
سمّاعة تستجديها أن تصرخ. أن تبكي. الخط مقطوع، الجهاز ميت، ركلته بقدمها. غطت
وجهها بأناملها العشرة وراحت تنحني إلى الأمام، تنحني، تتكور، حتى اصطدم رأسها
بركبتيها. شعرت أنها بدأت تتلاشى، لكن يداً ربتت على ظهرها. لم تتحرك، لم ترفع
عينيها، "بماذا تفكرين ياسيدتي؟ "
كان الصوت يعوي، يحشرج، يجرح كزجاج مكسور. لم ترد. عاد الصوت يهدر
"بالورد؟" قهقه الصوت "جميل الإهداء. منه. إليها"
ظلّت مكومة على نفسها "ماذا تخبئين؟ " كادت تصدق. أجل ماذا تخبئ في
حضنها؟ وروده؟! وجهه؟! صوته؟! وأشياء كثيرة يمكن أن تتناثر أمامهم إذا نهضت
الآن؟!
تكورت أكثر. اليد ربتت مرة أخرى ولكن بألم وفجور أكثر "بماذا تفكرين
سيدتي الجميلة؟" قالت وهي ماتزال منحنية "هذه أفكاري. هي تخصني وحدي ياسيد".
"لا الأفكار لاتخصّ الشخص وحده. ربما تفكرين بجعل المدينة حديقة.
الأفكار ملك عام إلى أن يقولها صاحبها. قولي بماذا تفكرين؟"
ظلّت هادئة. صامتة، أخذت تحدق بالوردة، والوردة تحدق في الوجوه.
اليد تمتد إلى رأس المرأة. يمسك بباقة الشعر. يرفع الرأس إلى أعلى.
"هنا انظري"
القطار يصفر. نوافذه تركض على رؤوس الأشجار. هاهي تستعيد كل
التفاصيل. الحياة تصنعها التفاصيل. الصداقة تصنعها التفاصيل. الحب يتجذر
بالتفاصيل. تنهدت. كل يوم تسأله ماذا ترتدي؟ أي لون؟ ويسألها ماذا تفعل؟! ماذا
ترتدي؟ من زارها. هل تناولت الطعام جيداً؟
شدّ رأسها ثانية. حدقت في الجدار المواجه. رأت لوحة ترتفع أمامها.
اللوحة لطفلة تحمل حذاءها وتركض على الورق اليابس لشجرة كافور.
"اللوحة مؤثرة"
يسأل الرجل الآخر.
هي ترد: أجل:
"وأنتِ.. ؟!"
"أنا.. ؟!"
"ما الذي يقصّفك، كأغصان هذه الشجرة؟
كادت أن تقول له: الهاتف الصامت. الحوار الذي انقطع. أو ستختصر كل
ذلك وتقول: الوردة. ولكن لماذا عليها أن تقول؟ أفكارها ملكها وحدها. يحدق الرجل
بجرأة في جسدها المختبئ تحت قميص أسود حريري ويقول وهو ينقر على جبهتها
بسبابته.
"أخرجي الأفكار من هنا، من رأسك، هنا لا أفكار خاصة، ولا أفراح
خاصة، ثم رفع مسدسه عالياً. أطلق عدة طلقات في الهواء.
"قولي بماذا تفكرين؟ "
"... ... ..."
لكزها مرة أخرى.. "قولي"
المرأة تظلّ صامتة.
الرجل يرفع مسدّسه في وجه المرأة.
هي، تتكور على أفكارها وجسدها وروحها. تشعر بأنها تخبئه في حضنها
كسرّ. كعطر. تسمع روحها تشكو وهو يردد "حبيبتي". تغمض عينيها لتراه أكثر. تتكوم
بين ذراعيه "وحدك القادر على احتوائي" يضمها بقوة، تريد أن تبكي. "لماذا هذه
الدموع؟" تجهش "لأني لا أقدر أن أثبّت الزمن. أمسك به. أدخله غرفتي فلا يهرب،
لماذا لم نلتق قبل الآن؟! "
"أأنت تهذين؟ قولي شيئاً مفيداً؟" صوت الرصاص يدوّي.
نظرت بتحدٍ وجمر غضب يتطاير من صوتها "به.. أنا أفكر به"
"من؟ من به. ما اسمه؟ ألا يوجد له اسم؟"
"لايهم الاسم. أنا أسميه بكل الأسماء التي أحبّها"
"ماذا تقصدين؟"
"أقصد؟! أقصد الهاتف. أقصد. انقطع الحوار وهو في الطرف الآخر من
العالم"
"أقصد.. فقدت صبري يا امرأة"
حرّك مسدسه في الهواء. أخذت الطلقات ترش سماء الغرفة، طلقة طائشة
تصيب الوردة. طلقة أخرى تصيب الفتاة الصغيرة في اللوحة. الفتاة تنزل على الأرض
تحمل حذاءها المثقوب وهي تعرج وتنزف.
"قلتُ: بماذا تفكرين؟"
يركلها. تقول: أفكر بعودة الخط لأكمل الحوار، الحوار يحولنا إلى
بشرٍ.. أريد أن أتابع حواري الخاص، أفكاري الخاصة "قلت لك: لاأفكار خاصة" شدّها
بقوة باتجاه الجدار. الطلقات تنهمر غزيرة على الأفكار فتقتلها. أرض الغرفة تفيض
بالأفكار الميتة والدم الذي يفيض، أرض الغرفة تصير بحيرة، الطفلة تعرجُ، بحيرة
الدم ترتفع والأفكار تطفو كأسماك ميتة، بينما المرأة تعود إلى تكورها كمعطف سقط
عن جسد، تحدق بالأفكار وتنتظر الهاتف أن يرنّ.
ثرثرة في المحطة
دون استئذان جلس إلى طاولتي.
فنجان قهوتي برد، والثلج يرخُّ وراء الزجاج المغبّش. نظرت إلى وجهه.
لم أقرأ شيئاً. الوجه أول صفحة في جسد الإنسان، والوجه أوّل باب للدخول إلى
العوالم الباطنية. مسافرون يغادرون. مسافرون يدخلون. القاعة الواسعة تتكسر فيها
الأصوات والخطى والوجوه. دخانٌ وكؤوس وكراسي بلاستيكية بيضاء. عطور تمتزج
بالزفير ورائحة الفطائر المحروقة. صوت ينفلش في القاعة كلها. الرحلة رقم كذا
على البولمان كذا.
الرحلة؟!!
ورحلتي لم يعلن عنها، لابدّ أن عمراً ينتظرني الآن في المحطة..
-عمرو. سأكون في محطة الوصول الساعة الثانية عشرة.
ستنتظرني؟!
-طبعاً.. ألست حياتي؟!
-والله..؟!!
-...
أفتح كتاباً وأطلب شاياً بالقرفة، لا أريد أن أقرأ أي شيء. مللت
قراءة الشعر -أنا أحبّ القصة أكثر ياعمرو- هذا الذي يحدق بي ويلتقط حركاتي
يزعجني. لم يطلب شاياً ولا قهوة. فقط وضع رجلاً فوق أخرى وراح يحدق بي. لا أعرف
لماذا أردت أن أسأله: أتعرفني؟!! الثلج يهطل بغزارة. ندف الثلج تتراكم على
الزجاج. رياح قوية تركض في الشارع. رياح كسرت باب البولمان ثم شالته. بعيداً
ميتاً على ضفة الطريق والطريق كانت مسرعة. وأنا أريد أن أصل لأرى عمراً واقفاً
في زاوية المحطة محدّقاً بالوجوه، بالحقائب، ماذا سأقول له؟!
"لاأعرف". سيفاجئني بصمته وأنا أحبّ أن يثرثر. ليحدثني مثلاً عن
صباحاته، عن المساءات، عن النساء اللواتي أحببنه، عن التي أحبّها وكانت أجمل
امرأة، هكذا كلهم يقولون وعندما يحبون امرأة تكون هذه المرأة أجمل امرأة في
المدينة، ماتت به، ثم تركها ليحبنّي، أليس كذلك ياعمرو...؟!
إذن ليحدثني عن غرفته، وسريره وأحلامه، عن ألوان قمصانه، ألوان
خيباته. بعد ذلك سنملّ الحديث. سنترك الأحلام في مكانها على الطاولة. في فناجين
القهوة، فوق كراسي المقهى، ثم سنهبط دون مراعاة إلى الطابق الأرضي، إلى القبو،
إلى العالم ..الأسفل، حيث سنرى الأموات يتشاجرون حول الاتفاقيات والتقسيمات،
حول جثة لينين إن كانت مازالت بلا ديدان وبلا نخر، حول المرأة البوسنية التي
تحولت إلى رجل، حين مرَّت تحت قوس قزح...
-أتصدقين ذلك؟!!
لماذا لا أصدق ياعمرو؟ الله قادر على كل شيء. في قريتنا تحولت امرأة
إلى شجرة بجذعين وبغصنين شاهقين. وتحول الرجل الذي يحبها سراً إلى شجرة بلوط
كبيرة بجذع ضخم. التفت الأغصان ذات صيف، ومال الجذعان مقتربين من بعضهما، ولكن
ما إن حلَّ الشتاء حتى قصفهما الرعد. فجَّ المسافة بين الشجرتين وخلخل الجذور
وقصّف الأغصان المتعانقة. ألا تصدق ياعمرو؟ اسأل أهل قريتي إذاً...؟!
لابدَّ من الخصام في نهاية الحديث "عمرو.. أنا أكرهك بجنون" لماذا
لاتصدقني؟ كلما حدثتك عن شيء تقول لي: خيالك خصب ياحبيبتي..؟!
ماذا تقصد؟!
أغضب وأثور، أتحول إلى طفلة. أريد أن أبكي. أريده أن يضمني ويطفئ
ثورتي بينما تظلّ يداي تضربان ظهره وكتفيه، ثم أغمر رأسي في صدره وأشهق.
الرجل الذي يجلس أمامي يحدق بي. نظرته تشبه نظرة عمرو. أرتعش وأنا
أنظر إليه. أهرب إلى قهوتي. أنفخ دخان سيجارتي في الهواء. يراقب الدخان الملتوي
بصمت. أنظر حولي باحثة عن طاولة فارغة، فلا أجد، كل الطاولات محجوزة. أكرر
النظر إلى عينيه: يا إلهي: عيون عمرو نفسها، وعمرو الآن في المحطة يطارد بعينيه
النساء الهابطات من الباصات، يطارد كل الوجوه كي يصطادني، لكنه سيفشل، عند ذلك
في سيتوه في المدينة. وسيقول عني بأني كاذبة ومعقدة، دائماً أخلف المواعيد.
سأعتذر له. سأخبره بأن باب الباص طار من شدة العاصفة، لن يصدقني،
ماذا أفعل؟ هل أشرب البحر حتى يصدقني.؟! ليطق إذا لم يصدق. الرجل الذي قبالتي
يثير غضبي. إنه لايتحرك ولا يطلب شيئاً. لايدخن ولا يتكلم. يظل محدقاً بي،
يتابعني. أظنه يسمع صوت أسراري وأنا أتحدث إلى عمرو. سيقول: هذه المرأة مجنونة
تحدّث رجلاً غائباً. لايهم. الجنون يخلصنا من السجن أحياناً. هذا الرجل يفرض
وجوده عليّ. يتأمل بطاقته الشخصية ثم يعيدها إلى جيبه.
سأطلب إليه أن يترك الطاولة. أنا أول من جلس إليها. سأطرده، أو أقول
له: معي ضيوف، معي أصدقاء سيأتون من حجرة الهاتف. سأقول...
-أتدخّن؟!
هكذا قلت له بتودد، لكنه لم يردّ، هزَّ رأسه بالنفي. ربما كان أخرس،
ربما، لاأعرف. سأحاول ثانية أن أطرده أو أن أكسر السور الذي بيني وبينه. عطره
يعجبني، نظرته، أصابعه تشبه أصابع عمرو، ومازال الباص معطلاً. البرد قارس،
والصمت قارس. لارغبة بي إلا بالتحدث عن عمرو: ماذا يحبّ؟ ماذا يكره؟! حولت نظري
بعيداً وقلت للرجل: تافهة هذه المرأة التي هناك، هناك في الزاوية، إنها تشرب
القهوة وتقهقه بصوتٍ عالٍ -صوتها مزعج، أليس كذلك؟! زمَّ الرجل شفتيه وكأني لا
أتحدث إليه.
-أتشرب قهوة؟! أيضاً هزَّ رأسه بالنفي. مع ذلك تابعت حواري دون
اكتراث.
أنا أشرب قهوة كثيراً مع أن معدتي تؤلمني. عمر قال لي: حبيبتي أرجوك
لاتشربي قهوة: أترى؟! إنه ينصحني وهكذا يقول: لكنه يريد أن يتحكم بي. أنا
لاأقبل. الأمور المتفاقمة تبدأ بدايات صغيرة ثم تكبر وتصير تلالاً لاتقدر على
إزاحتها. لن يجبرني أحد على شيء لا أريده. أحبّ القهوة، وسأظلّ أشرب. أصلاً
الحياة الحالية لم تترك لنا إلا شربَ القهوة وتأمل خطوط الحظ في أيدينا. غيرنا
يشرب بلداً بكامله. يشرب نظريات مثلاً، أو قل مبادئ!! لم يقل له أحد سيصيبك عسر
هضم..
أوّل مرة شربت قهوة صفعني أخي. قال: القهوة للكبار، قلت له: أنا صرت
كبيرة. شدني من شعري وربطني إلى الساموك- صرخت أمي "اتركها" لا، لن أتركها. هي
فعلاً كبرت ويجب أن أؤدبها، إنها تكتب القصائد لابن رقية"
أمي مسحت على كتفي وقالت المرأة التي تشرب القهوة يصير لها شوارب
وأخوك معه حق، ثم مامعنى القصائد؟!!
"معه حق؟! "
أتصدق..؟! أنا لم أكن أحب ابن رقية. كنت فقط بحاجة إلى رجلٍ أكتب
له، كتبت له كثيراً حتى ظنّ أني أموت فيه. ولكن لم أكتشف نفسي معه. لم أجدني
وهو يقبلني. كنت معه صخرة لاأكثر، لذلك صفعني وقال لي: أنت صخرة. قلت له لأنك
لست رجلاً. تركته ومشيت: أتسمعني؟! ظل الرجل الذي أمامي صامتاً، ابتسم ابتسامة
بلهاء، ثم عاد إلى وجومه وصمته وظلام وجهه.
"أنت تشبه عمراً" عمرو الذي ينتظرني الآن، أو أن ملَّ ورحل. كل شيء
نملّه إلا الحياة. لانشبع منها أبداً. أعتقد أنّ زهير بن سلمى كان يكذب حين قال
سئمت. أتعرف؟! صوتك مثل عمرو، انكمشت. لم أسمع صوته. صححتُ خطئي. قلت: أقصد
عيونك، لونك الأسمر، قامتك. ابتسم الرجل ثم أشاح بوجهه. شعرت بالحزن. أدركت كم
أنا وحيدة في هذه الزحمة والثلج يسقط في الخارج. المحطة تضيق على المسافرين
وتكتظ بالدخان من كل الماركات.
الذباب يهرب إلى الداخل من شدة البرد. الروائح المخنوقة تشعرني
بالغثيان. أشعلت سيجارة ثم أطفأتها. قلت متحدية صمت هذا الرجل.
عمرو ينتظرني الآن، سيأخذني إلى بيته، المدينة غريبة. لا أعرف فيها
أحداً. عمرو رجلٌ طويل، طويل. أحبّ طوله. أشعر أمامه بالضعف.. لكن آخر مرة
التقيته تشاجرنا. دائماً نتشاجر حين نتحدث عن الأدب والسياسة. لانتفق أبداً،
أنا أقول له إننا نسير إلى الوراء وهو يقول: هذه حتمية الصراع. لابدّ من منتصر
ومهزوم. أي انتصار؟! الانتصار نقرؤه ولانعيشه. نتوهمه ولانخلقه أليس كذلك؟!
حدق بي الرجل طويلاً مقطباً حاجبه. أزاح كرسيه بقسوة ثم حمل حقيبته
ومضى. إلى أين؟! لم يردّ على سؤالي. يا إلهي: ظهره يشبه ظهر عمرو، قامته،
مشيته، إنه هو.. هو. رحت أركض بين المسافرين. ناديته -عمرو. عمرو- لم يرد. قلت
للمرأة التي تقف بعيداً: أرجوك: هذا الرجل الذي يمر أمامك أوقفيه. قهقهت المرأة
وقالت: أي رجل؟! قلت هذا الذي يرتدي "جاكته" كحلية ويحمل محفظة رمادية.
"أين؟! "
ركضت وراءه. لم أستطع اللحاق به. أعاقتني الكراسي والطاولات
والمسافرون. الثلج ينهمر. خرجت إلى الشارع. سياراتٌ تمرُّ... لوحت بيدي: عمرو..
أجل إنه هو، ينعطف، يغيب، يتلاشى، يذوب كقطعة ثلج، فأقف يعتصرني البرد، أقف،
أدور حولي، مشدوهة، ووحيدة. أجرجر نفسي إلى داخل المحطة، أنفث هواء ساخناً،
أعود إلى طاولتي.
"أين كنت.. طوّلتِ، بردت قهوتك"
نظرت إلى محدثي -أردت أن أسأله: من أنت؟! لكنه قاطعني وقال:
مايزال الباص معطلاً، بالتأكيد سنتأخر. لماذا تدخنين كثيراً وتشربين
قهوة كثيراً؟!
لم أردّ.. تابع حديثه: رائع هذا الثلج، يعوضنا عن نقص الأمطار. أظن
أن الأراضي مقبلة على جفاف مميت. أوه.. ألا تكفينا الحروب؟!! يقولون.. و. استمر
الرجل بالحديث، بينما الثلج يتراكم والشارع يرتدي الندف الأبيض، وأنا لا أسمع
شيئاً، وذاكرتي تمضي بعيداً عن المحطة، أدور بحثاً عن عمرو، والرجل يسألني:
لماذا لاتريدين؟! ثم ينظر إليَّ بأسىً، يهزّ رأسه ويقول بصوت هامسٍ: للأسف إنها
خر..ساء، لكنها جميلة.
نقر على الذاكرة
قميصها الأزرق مايزال معلقاً على الشماعة.
هو يحدّق بالقميص والقميص يتنهد. لقد تعب من الانتظار وتعبت الشماعة
من الوقوف.
... ... ...
لايدري لماذا حمل قهوته إلى غرفة النوم. أشعل سيجارة وجلس مقابل
القميص بعد أن أقفل الباب على نفسه ووضع المفتاح في جيبه. "لاتشعل السجائر
أرجوك، الدخان يختفي".
يتلفّت حوله، يطفئ السيجارة، يسمع قهقهة النافذة "لاأحد هنا غيرك"
نظر حوله. رأى صورته في المرآة، يبدو أنه نام بكامل ثيابه، حتى ربطة عنقه،
ماتزال تتهدل كغصن مشلوع من شجرة عتيقة.
"أهذا أنا حقاً؟"
قهقهت المرآة، أدار ظهره لها، حمل قهوته وخرج إلى الصالون.
... ... ...
البرد يهطل على اثنين يخرجان من باب الجامعة، الشفاه المزرقّة،
الأًصابع المرتعشة، كل ذلك لايمنع من أن تتلاقى عند المدخل، أو في عتمة مصطبة
الدرج. هي تذوب داخل باب خشبي كبير مزخرف بورود محفورة بعناية، وهو يتلاشى في
انحناءات الشارع الضيّق.
"أكره لحظات الوداع"
"في القرية عندما نودع أحد الأعزاء، نتأمله إلى أن يجتاز مسافات
طويلة، يظل قابعاً أمامنا إلى أن يصغر... يصغر وهو يبتعد، ويبتعد، ثم يتلاشى
إما بين شجر الصفصاف أو الزيتون أوالديس الشائك. وقد ينحدر ويضيع بين منعرجات
الهضاب. أحياناً نفكر بأن نركض وراءه مرة أخرى كي نحضنه ونودعه مرة أخرى، أو كي
نكمل كلاماً لم ينتهِ بعد".
أمالت برأسها إلى الأسفل. "هنا نفترق في لحظة. أشعر أني أتشلّع عنك"
هكذا هي حواراتهما. لم تكن مبرقشة بالنظريات الجامدة. ولم يطرح أي
منهما خططه المستقبلية. وقت العشاق لايسمح بالتنظير. إنها تعلم أنه ريفي، ذكي،
عاش مرحلة الطفولة في قرية نائية. بعد ذلك انتقل إلى المدينة. صار أكثر أناقة
من أهلها. لكنّها كانت تحسّ به حزيناً أحياناً، أو منزوياً عندما تدعوه إلى
سهرة مع أسرتها في مكان باذخ، لذلك كانت تمسك بأنامله تحت الطاولة، أو تدعس على
حذائه لتؤكد له أنها إلى جواره.
"مروان"
تناديه أكثر من مرّة، تسمعني؟ يهزّ رأسه.
"مروان"
"نعم"
غداً.. عندما نتزوج، سنعمل معاً في الجامعة. وفي مكتب واحد. سنسافر،
ونبني بيتاً جميلاً له حديقة غنّاء، ومسبح واسع يحولني إلى سمراء أمازونية "ألا
تحبّ الأمازونيات؟ ".
"نعم"
يردّ هامساً. كأنه يسبح في خيال بعيد.
"لكن. احذر، لن تراني إذا غبتَ عنّي وتركتني وحدي. سأصير سمكة.
ستبحث عني، تناديني، تبكي. لا.. لن تجدني. وقد أتحول إلى -بلطية بنيّة-".
"وأنا أصير الصياد. أين ستهربين منّي؟ لكن اسمعي: ممنوع السباحة.
أخاف أن تراك الغيوم. ترسل حبالها وتسرقك كي ترشو إله المطر. أنت تعلمين: المال
والنساء أغلى الرشاوى، وهما قادران على حلّ أي مشكلة. ممنوع أن يراك حراس
المطر. ممنوع أن. وأن"
ظلّ يعدد الممنوعات حتى تضرّج وجهه وجحظت عيناه وتهدّج صوته. شعرت
بالخوف. كأنه ليس مروان الذي أحبّه. كأنه يحزّ عنقي بسكين.
أكاد أختنق "أبعد السكين عني أرجوك". ترتعش، ترسل يديها في الهواء.
تغمغم.
"مابك؟!"
"أريد العودة إلى المنزل"
"بردانة ياروحي؟!"
في الشارع العريض المزروع بشجر الجكرندا، ثمة اثنان يمشيان. المطر
ينقر على الرصيف. الهواء البارد يلمّ أوراق الشجر. دعسات رتيبة تمضي بلا أصابع
متشابكة. بلا عصافير تطير عند الوداع وترتمي ذابلة.
... ... ...
"إنه ينتقد كثيراً. يكثر الملاحظات حول لباس صديقاتي. حول زميلاته.
أشعر أحياناً أنه يعطيني درساً من خلال انتقاد الآخرين. أمي. كأني تغيرت؟"
"لابأس. دائماً يحصل هذا في بداية الزواج. ترتفع أسوار. تنهدم أسوار
والسرّ لم يعد سرّاً"
... ... ...
حبيبتي.. سأخرج الآن. عندي محاضرة في ندوة عن تخلف المرأة العربية"
"خذني معك"
"لا. لا.. ألا تعرفين أسباب تخلّف المرأة؟ انتظريني. حين أعود نخرج
إلى بيت أهلك..".
"حاضر.. ولكن"
ألقى أوامره ومضى. هي استرخت في الكرسي الهزاز، راحت تراقب
التلفزيون، فرحت جداً عندما أذاعوا خبر الندوة وأعلنوا اسم زوجها "الأستاذ
مروان"
عندما عاد، طوقته بذراعيها. حملها. طار بها، ثم ذابا معاً تحت دوش
الماء الدافئ.
ماأكثر الندوات! ماأكثر التنظير!
كتب يقول: حزبه التقدمي حزب يهتم بالمرأة ويحاول رفع سويتها
الثقافية والمادية. و.. لأن المرأة نصف المجتمع ولها حق الحياة والحب والعلم
والعمل...، كالرجل تماماً.
قبل أن يخرج قال: انتظريني، لن أتأخر،...
قرأت عدة مجلات. ثم أعادت قراءة محاضرته. اتصلت بصديقاتها: كلهن في
العمل أوفي السوق أوفي الندوة القطرية للمرأة. تشعر بالاختناق فكرت بزيارة
أهلها أو بالذهاب إلى السوق. ارتدت ثيابها. اتجهت إلى الباب، باغتها الباب
المغلق المتحدي، لايوجد لديها نسخة مفاتيح أخرى. تراجعت إلى الوراء. لاتريد أن
تصدق أنه أغلق الباب وأخذ المفتاح معه. حاولت مرة أخرى. عبثاً كل المحاولات إلا
إذا نشرت القفل. انهمرت على أول كرسي كثوب مهمل، أغمضت عينيها، لاتريد أن ترى
هذا الجنزير الحديدي الذي يتدلى من السقف ويلتفّ حولها. مشت إلى المطبخ. سمعت
جرجرة الحديد وراءها. دخلت غرفة النوم، غمرت رأسها تحت اللحاف، كانت ترتعش من
الخوف، عندما عاد زوجها لم تشعر به. اقترب يطوقها، ابتعدت عنه. اقترب أكثر. صار
جسدها يقشعّر لملمس يديه. ظنّها بردانة، حاول ثانية أن يحيطها بجسده، ابتعدت
وتناومت.
... ... ...
أتعلمين؟!!
كتبت الصحف عن محاضرة الأمس. ونقل التلفزيون فقرات منها.
هو يتكلم، وهي تنظر إلى النافذة. تراقب المدى المفتوح، تود لو تطير.
تتخيل أنها تطير لكن رصاصة طائشة أصابتها. يتناثر دمها وريشها. تنفرط دمعتها
"آخ"
"مابك؟ "
"هل يتحول المرء إلى طائر؟"
"أي خرافة هذه؟"
"لماذا هي خرافة؟ الله قادر على كل شيء، ألا تؤمن بالله؟ يحول الرجل
إلى امرأة أو العكس. أنت تعرف ذلك. الله يحول الإنسان المثقف، العصري، المنفتح،
إلى ماضوي، مغلقٍ، والباب المفتوح إلى باب مقفول والمدى الواسع إلى سقفٍ يتدلى
منه جنزير مخيف. و. فلماذا لايحولني إلى قبّرة مثلاً؟"
"كأنك تحتجين؟ "
"أعوذ بالله. أنا أحلم فقط"
"تحلمين؟! إذن اسمعي. الباب مقفل! يعني مقفل في غيابي. لاينفتح إلا
بوجودي. هل سمعت قصة فلانة؟ وزوجة فلان؟ و.
"أنا لست فلانة.. وأنت لست فلاناً... ربما قرع الباب عليّ. ربما
جاءت صديقة ما. أهلي مثلاً؟"
لم يرد. ارتدى طقمه الأسود. وضع ربطة عنق حمراء، رش العطر وحمل
أوراقه ومضى. المفتاح في جيبه. تتأمله حتى يغيب. تمشي في المنزل، لاتعرف ماذا
تفعل. تمسح دموعها، حاولت أن تفتح لكنها لم تقدر. راحت الأفكار تأخذها وتعود
بها، نظرت إلى أثاث المنزل. شعرت بالحسرة. هنا تشرب القهوة. هناك أغفت في حضنه.
هنا اجتمع رفاقه أعضاء حزبه التقدمي. أخذت ترتدي ثيابها وتخلع اللحظات المرّة.
سمعت صوت القيود ترتطم. صوت الأقفال تنغلق ثم تتصدع. صوت المنشار. صوت الباب
ينفتح. صوت امرأة تهرول على الدرج. توقف أول تاكسي وبيديها محفظة يد ووراءها
باب تُرك مفتوحاً للريح.
... ... ...
"هنا من فضلك"
ترجلت. مشت، صعدت سلالم، انعطفت، دخلت القاعة رقم واحد. من الباب
الخلفي. صور ولافتات. نظريات منقوشة على القماش. نساء كثيرات ينصتن باهتمام إلى
محاضرة الأستاذ مروان: حرية المرأة تقدم المجتمع.. وهي تتقدم، صوت حذائها يقرع
المدرّج الخشبي، الرؤوس تلتفت إلى مصدر الصوت، الكعب العالي يهبط، يهبط، يقرع
بصوتٍ رتيب، السيد مروان يتابع المحاضرة، ينقر على الطاولة احتجاجاً على الهمس
المتسرب من الخلف إلى الأمام، اللغط يرتفع، المرأة الأنيقة تتقدم باتجاه
المحاضر، يتجاهل اللغط، يتجاهل الحذاء الذي يحفر في الصمت وفي نظريات المحاضر
وفي كلامه المرصوف أمام النساء الباحثات عن حريتهن. تمتد يد المرأة إلى لوحة
مليئة بالشعارات. تشدها إلى الأسفل. تنخلع الشعارات. تسقط على الأرض. تدوسها
وتتابع السير إلى المنصة. ينظر إليها بغضب شديد يتطاير من عينيه لكنه يعرف كيف
يضبط نفسه كي لايتشظى، تصل إلى المنصة، تصعد، تقف قبالة زوجها، يسود الصمت
المترقب، تحدق في وجهه، تفتح محفظة يدها، تُخرج القفل المخلوع، تضعه على
الطاولة أمامه، تتراجع إلى الوراء، تستدير، تنقر بكعب حذائها، تظلّ تنقر، تنقر
إلى أن تغيب في الممر وتتلاشى نقرات الحذاء بينما يتبقع الممشى بسربٍ من
العصافير الميتة.
مجرد عبور إلى....
" أنا التي أسمعه أينما كنت "
حبيبي الذي أشرب صوته -كل صباح- مع القهوة، لم يتصل هذا اليوم. بردت
القهوة. تكومت على نفسها، نعست وأمالت برأسها ثم أخذت تفرط دموعها على الطاولة.
فتحت النافذة، رأيت الشمس تخرج من قميصها وتمضي. ورأيت الصباح يتمشى
في الشارع. دعوته لكي يشرب القهوة. رفض. ضاق المنزل.
اكتأبت زهرة الجلّنار على النافذة. أرخيتُ الستائر. استرخى الظلام.,
أنا صرتُ قبرّة تنقر القهر.
(2)
هو. مشغولٌ جداً، يرتب أزمنة وجهات. يجمع أبجديات بين يديه وساحات.
يرتب عقولاً ووصايا. أشياء، وأشياء، الهواء القادم سيخربط كل شيء صدقني.
يقولون: يأتي الهواء محملاً بذرات صغيرة من مادة النسيان. تلتصق
بالثياب فتذوب الثياب. تلتصق بالمدى فيصير أصغر من بيتي. تلتصق بالقلب فيفنى
الشوق- ألستُ قلبك؟!- إنه الهوى الغربي-
أنا أخاف الهوى الغربي. أخاف أن يلفحني فيحوّلني إلى شجيرة "كفّ
مريم" أكفّها مليئة بأشواك القسوة. أمشي في الشارع. أقطع الشجيرات الصغيرة.
أدوس أصابع الأطفال ولا أزعل. أملأ جيوبي بدموع المظلومين والثكالى ولا أزعل.
تهزني أمي كشجيرة "سماق" "مابك. ما بك؟"
- لا أعرف ما الذي بي يا أمي، لكني مثل كل هؤلاء. أمدّ يدي باتجاه
مدينة متاخمة للشوح والقيقب، مدينة من القصور الفارهة.
يمرّ البرد عليها فلا يرتجف ورق الشجر. ويمرّ الفقر في شوارعها
فيطلقون عليه النار. يكسرون أضلاعه. يزحف. يجرجر نفسه إلى القرى المحيطة. يصل
قريتي. يركض وراءه الأطفال. ينهض. يمسك بأحذيتهم. يدخل البيوت. يعيش آمناً. وكل
مساء يتعشى خبزاً وزيتوناً ويشرب شاي الحلم. لو أنه يموت وندفنه في مقبرة
القرية- سيخرج مرة أخرى".هل "مرَّ الهوى الغربي يا أمي؟!"
طفل "مكرمش" الأصابع يمسح زجاج سيارتي المهترئة. ينغرس في الصقيع.
"هل أنت في المدرسة؟"
تنفتح الإشارة. تقع ممسحته تحت الدواليب، أنظر إلى الطفل عبر
المرآة، لكنه يضيع في زحمة السيارات، أبتعد. تتحجر الآه في فمي. ككل الناس.
أصير صخرة.
(3)
حبيبي... أخاف الهوى الغربي. الهوى الشرقي يشقق الأصابع. خالي
العجوز يجزّ خشب السنديان ويشعل القرامي. الهوى الشرقي. أغلقْ في وجهه الباب.
الهوى الغربي يفّرخ حقولاً بلاستيكية مصهورة.. يفرخ أطفالاً يلعبون بالأقمار
المحروقة. ونساءً من رصاص ورجالاً من فزاعات. حبيبي. كيف أحتمي من الهوى
الغربي؟
أوزع الزعتر البريّ على المفارق وأصعد الجبل الذي تقف على كتفه
أشجار السنديان وتقعد على حوافه نوافذ حبيبي وقمصانه المعلقة بأغصان الزعرور،
ثم أشعل البخور وأوّزع الخبز اليابس ربما تنزل الآلهة من الأعالي.. تمشي بين
الناس. تراني. ترى. تسمع. تتألم. أنصير نشبه الآلهة؟!
عصفور الدوري ينتقل من غصن إلى غصن. ينقر ندى المسافات. يغطّ على
كتف امرأة عجوز. يسخرمنها. تذرف المراة دموعها وتشتم الزمن. و.
(4)
حبيبي مشغول. يوزع صوته على الجهات كي يلمّ أطراف الريح. ألو- كيف؟
مين. ألو.
"ألم تعرف صوتي؟"
"لم أعتد على الصوت الرسمي"
لا أقدر على الكلام. صوته يصير قطع ثلج تنهمر. لو نشعل نار اللهفة.
انتهى الحطب. نستعير. وحده هذا الحطب لا يعار.
ألو... ما زلت أنتظر أن يتصل حبيبي قبل أن تنزل الشمس إلى قاع البحر
وتأكلها الحيتان. عند ذلك يتوزع ضوءها إلى قمصان أرجوانية. يتنازع عليها الملوك
والقادة، وتقوم الحروب. وإذ تضيق الأرض بالقتلى والجوعى والهوى الغربي الفتّاك
و العصافير الميتة في الجيوب، والأشجار الباكية، عند ذلك يصعد المناضلون، الـ..
المحاربون، إلى القمر وعلى سطحه المجال واسع للقتال.
"انهض يا جميل بثينة. قم. لقد قتلوا القمر الذي أهديته لحبيبتك"
ظل جميل يشخر. أي عاشق هذا؟! تناثر القمر. ترمد. انحنت النفوس تحت
الوطأة. الـ..
آه. قلبي يصير قبّرة فزعانة. أصابعي ورق زيزفون باهت. وجهي برتقالة.
أمي تطحن الأيام. وحبيبي لم يتصل بعد.
(5)
أنا أحبّ. إذن أنا موجودة.
بيت حبيبي في الأعالي. يمدّ يديه يمسك بالغيوم. تنزل بهدوء. تنسكب
في كأسه دون قسرٍ. أنزل وحدي" يشرب كأس الزعل الذي أورق مرة وصار شجيرة عليق
على تخوم الهوى. لا أحد يجرؤ على اقتلاع الشوك حين يكبر.
"لا تحاول... إني مزروعة على هذا الكرسي اللعين".
"تعالي... أفتح لك سبع مدائن تليق بك. بجسدك البحري. بـ "لاتحاول لن
أفك يدي عن الكرسي"
يحاول اقتلاعي. يجهد نفسي في رفع المرأة والكرسي. يجهد رغباته. يخرج
الشوق من زوايا روحه يملأ القاعة المزدانة بالأبواب السرية والرغبات السريّة.
هو يندلق على الأرض كوحل. وهي تزهر وتبكي. "يلعن أبوك.."
هذا ليس حباً، هناك يبيعون الخبز والبصل الجسد. هناك من يشتري. ما
أكثر الذين يشترون.
حبيبي لم يتصل بعد. قهوتي بردت. غرفتي
امتلأت بالشوك.
كيف نقتلعه؟!
أنا أقول لك كيف؟ بالشوق، بالحب... "حقاً...؟! كل الأعالي تنزل
بالشوق تهبط إلى الساحة.
(6)
حبيبي الذي يدور في الساحة كل يوم، ينبت وراءه كلام كثير. البارحة
انتظرته تحت الشجرة الواقفة في آخر الرتل قرب مصباح لا يتعب. ناداني الشرطي:
"ماذا تفعلين هنا؟"
"أنتظر حبيبي"
"من حبيبك؟"
الذي يصطاد الغيوم العالية ويفصل منها قمصاناً لي. الذي يقطف الجبال
عن نافذة بيته الذي. "كفى. كفى"
"هل أتابع؟"
"لا. لقد عرفناه. يمرّ كل يوم. قولي له أن يحصد الكلام الذي تطاول
وملأ الساحة. صار يعيق مرور "الهوى الغربي"
امتلأت أصابعي بالضحك. تنبه الشرطي. خبأت ضحكتي. "إذاً تعب
حبيبي..؟!
قلت لك مرات: إذا قلت آخ تشهق الأشجار. وإذا تأملت بكت نوافذ بيتي.
على فكرة عرفت شرفة بيتك المعلقة على حلم بعيد، بعيد، باب الشرفة ينفتح على
مخيلتي. ابتسم شعرت بصوته العذب يتقصف على جسدي"
تحبينه؟!!
سأل الشرطي الصارم:
"لا أعرف. لكّني أحبّ صوته. ورائحته. ويديه..."
"إذن لا تعرفين . افتحي الحقيبة".
كنت أجرجر حقيبتي الثقيلة وأركض لألحق بالحافلة. فقد مللت الانتظار
وقررت العودة.
لا يوجد في حقيبتي سوى الثياب.
"الثياب!! قلنا افتحي الحقيبة. ربما أنت حرامية... قد تسرقين بحراً.
قمراً. ساحة". أو"
"أنا؟!! أنا أسرق عطر حبيبي.و...
حرامية إذن"
"أقصد. هناك حرامية كثيرون"
"افتحي الحقيبة"
أقصد يسرقون أعمار الناس. يعني الذي يسرق جهدك ألا يسرق عمرك؟ الذي
يسرق فرحك. ألا يسرق ضحكة أطفالك؟! الذي يسرق عشر سنوات من عمر صديقي ورماها
وراء القضبان، سرق كل الكلام و... بنى عشرة جدران...جداراً وراء جدار. وبين كل
جدار وآخر شعلة أمنيات. شعلة دموع لامرأة تحترق. شعلة حزن لطفل ينادي -سرقوني-
حرامية... لكن الجدران تكتم الصوت. مثل النقود مثل المكاتب الفاخرة- المغلقة
على كرسي وامرأة يتشقق قميصها. وتتقطع سلاسلها وتصير كرسياً.
افتحي الحقيبة.
"أكاد أتأخر"
"ما هذا؟"
هو صفّر ونادى لشرطي آخر. وأنا أندهشت.
"حبيبي لم يمرّ في الساحة اليوم. ربما... أبكي. يذوب شالي الصغير"
أنا أقسمت أني وضعت قمصاني وثيابي الداخلية وعطري وبعض الأوراق، مع
دواء للصداع ومنديل أصفر، فقط، لاغير، وكل هذا الذي في الحقيبة لم أصفه.
نفض الشرطي الحقيبة على الطاولة. تبعثر الكلام والهمس. نفخ الشرطي.
ماذا أرى؟ "لماذا لم ترَ غيري؟"
حبيبي يطوقني بذراعيه. يمرر أنامله على جسدي. أذوب. أصير قطعة سكر
في يديه. يصير نقطة ماء. وجعلنا من الماء كل شيء حي؟!
... ...
(7)
عندما تنظر إلى الشمال ألا تراني؟!
بيتٌ. هضاب. نوافذ لا نهاية لأحلامها. أنظر إلى الشمال. سيواجهك جبل
كاسيوس بعل يقف على القمة. أغلق ممنوعالنافذة أرجوك كي لا يدخل "الهوى الغربي"
فتهبط شرفتك. يتشرذم البحر. بيتك يمتلئ بأشلاء الزمن الميت. غطِ وجهك.
غطيت عيني. مع ذلك أراك.
عندما تنظر إلى الشمال. سترى الإله بعل يصلي كي تظل الأبجدية خضراء،
وكي يظل الشعراء يقطفون منها القصائد ليبنوا بها الحلم والعشق. ماذا إذا لم
تتركني أحلم؟ أدخل مكتبك. أبعثر أوراقك وقمصانك. و. أذوب. أترك بعل في صلاته
لنا صلاتنا الأخرى. تعال نصعد بهدوء. بهدوء. نطلق كمشة عصافير.
أتعرف؟ الرب ينزل إلى مملكة العشاق. وإلى أسرّة الأطفال. وإلى...
معقول؟!
"أمي قالت ذلك"
الرب مشغول بغيرنا.. الرب ينزل إلى القصور وإلى ... فقط لا غير.
"لا..الرب يرى كل شيء. يراني وأنا أدور في الساحة.. أبحث عنك.
ألوح لك وأنت واقف في زاوية عالية من شرفتك. تراقبني وتضحك... تضحك
مبتهجاً لأن لهفتي صارت "حوراً عالياً" تضحك وتمدّ يدك. تقطف رأس الأشجار
الباذخة.
كان لا بد من الصراخ بحيث تنتبه إليَّ المصابيح وترخي ضوءها حزناً.
"لماذا فعلت ذلك؟"
لماذا؟ ألا تعرف أن النبات الذي نقطف رأسه لا يكبر ولا يشمخ عالياً
بعد ذلك؟ يعني يتقزم. كذلك نحن. كذلك المشاعر.
لا تقزم مشاعري.. آمرك. وإلا... تمتلىء الساحة بالفراشات الميتة "علّوش"
رفيقي في المدرسة. ضربه الأستاذ على رأسه. قطف أحلامه الخضراء الغضة. لم يرفع
علوش رأسه بعد ذلك.
لا تفتح النافذة للهوى الغربي. يقطف براعم روحي الطرية. يتقزم قلبي
يضيق لا يتسع لك بعد ذلك. وبعد ذلك...
(8)
مدّ يديك.
انزع عن جسدي ثوب الحزن. كلما اشتريت ثوباً للفرح، ابتهجت ونزلت
الساحة. "أمرق أمام نافذتك، يطاردني الشرطي. تطاردني الأسئلة. لمن تضعين أقراط
الفرح؟ أصمت أو أكذب. أجبروني على الكذب. أبكي. أقول هذه دموع الفرح. أكذب.
أحمد مدير دائرتي الذي حولني إلى كرسي خشبي. أشكره.
لكن الحريق يندلع. أشم رائحة احتراق مبادئي وقيمي. اللهب يتصاعد من
روحي. أترمد، أصير هباء، تحركني الريح كيفما تشاء، أكذب، ها أنا فرحة. أخلع
ثوبي البهيج كي أنام. أسترق النظر إلى جسدي. أرى يديك تطوقانه، أصير وردة،
أخضّر. ينطفئ اللهب. أشمّ رائحة البحر. أشعر أني قطعة سكّر وأنك الماء. وأنا.
أذوب. و.
في الصباح أبحث عن ثوبي الذي علقته على الكرسي الأخضر. "أين ثوبي يا
أماه"؟ "أخذه الهوى الغربي"
تعطيني ثوب الحزن الممزق، أكره هذا الثوب، تبدله، تعطيني آخر،
انقطعت أزرار أحلامه.
"أكرهه."
تعطيني ثالثاً باهت الصوت والكلام. "لماذا عليّ وحدي أن أقبل؟
لماذا؟!!"
أبكي وأنا ألبس روحي قميصاً مممزقاً.
كنت أنوي ألا أفتح خزانتي العتيقة بعد أن ألبستني يداك ثوب الماء،
و.. ذبت... وبعد الخوف، التردد، الانغلاق، التوحد، أجل أحبّه. أكسر الخزانة
تغضب أمي. أمشي في الشارع، يمرّ الحمام فلا يعرفني، يركض النهر، يمسك بي زعتره
البرّي " من أنت؟".
أنا التي كنت في الساحة.
"ماذا تفعلين....؟!
"أعدد المصابيح والأشجار وأترقب قدوم حبيبي حتى تضحك النوافذ وتلقي
بالورد على جسدي.
أنا التي بعد زعل وجلّنار، بلوزة زرقاء، وقميص الموف و: أفتح الباب،
يباغتني، أرتبك، ماذا أفعل وأنا بالقميص المشجر؟ ماذا أفعل لا أعرف؟! أأهرب؟ أم
أرتمي بين يديه؟ أم "إذا هبت أمراً فقع فيه"؟
تلاشيت بين ذراعيه، مرّ الهواء ولم يقدر أن يمرّ. تجاوزنا. نزل
الدرج وتركنا في حديقة الارتباك لم نقل شيئاً. بعد صمت طويل قلت: "أرجوك: دعني
أحبك دائماً"
تدحرج رأسي على صدره. تكورت مثل طابة صغيرة- لم يسألني كيف، وأنا لم
أتابع. شعرت أن ثوبي غيمة تطير.
شعرت أنه...
(8)
لا تأمنن الزمن؟!
لا الأيدي الممدودة، لا الكلام الذي ينمو على درجات السلم، لا
الأبواب المغلقة.
"الهوى" طيّر ثوب صديقتي.
أي امرأة هذه؟!
مشيت يشار إليّ. يمد البحر رأسه. يتفرج على امرأة ما عادت تعرف كيف
تفرح، ولا كيف تبكي. "كأني قطعة خشب تطفو. يحركها الموج. كأني. إلى أين؟!"
الهوى الغربي يغير كل شيء. الأحلام. والقيم. والمبادئ. ما عدت أطيق ارتداء
الأقنعة. احذري مني يا وفيقة. "لماذا؟" إني أتغير. كل صباح أفيق، أجد شيئاً قد
تغير. قد أصير امرأة أخرى. "صحيح؟ لا أصدق" اسمعي. كنت أحب النسكافة. لا أطيقها
الآن. كنت أحب الرجل الأسمر. لا أطيقه الآن.
كنت أبكي مع كل يد تنكسر، وأطير مع كل عصفور يطير. ها أنا أريد أن
أطلق الرصاص على الورد والعصافير والصداقة. و... "لماذا نتغير"؟
لأن -العلم المستقر هو الجهل المستقر"
"كذابة"
جبيبي قال: أنا كذابة. ضحكت.
"أرجوك لا تتغير. عند ذلك سأنتزع قلبي وأضع قطعة صخر بديلاً له"....
(10)
أوقفوني في باب الحيرة وقالوا: لماذا تغيرتِ؟
أشعلوا النار. مشيت عليها. ما قلتُ آخ. رموني في البحر، غرقتُ. بعد
أيام خرجت من جهة أخرى. سرتُ حافية. تلاشيت في حضن أمي في البداية، لم تعرفني.
لقد ضعف بصرها، وضعفت يداها، كنت أريدها أن تحميني لكنها كانت مثل شجرة قديمة
يابسة. لها جذع مليء بحفر الزمان. ألقيت رأسي في حضنها. لم أشعر أن رأسي تفتح
وصار وردة. سحبت رأسي. رميت جسدي على ركبتها الواهنتين. لم أصبح شجرة سنديان
شامخة، لذلك نهضتُ، تركتُ أمي تبكي. نادتني، لم أرد. قال الجيران: صارت ابنتك
عاقة.
قالت وفيقة: لقد تغيرتِ. أنا قلت له: أرجوك لا تدعني أتغير. قالت
البيوت التي تحاذي طريقي: مللنا الصمت والوقوف. نريد أن... مثلاً نمشي، نغيّر
أماكننا. سمعها الشرطي. لوّح لها بعصاه، وقفت البيوت رتلاً واحداً منضبطاً.
قالت خيالاتي التي لا تُحدّ: الشرطي لا يراني.
قال الشوق: الشرطي لا يستطيع الإحساس بشغبي وصراخي.
قال حبيبي الذي يشبه البحر: أنا أحبك.
قلت: والجدران؟!
- أية جدران؟! قلت: جدار أول بناه الشرطي. جدار ثانٍ بناه الزمن.
جدار ثالث بنته القبيلة. جدار خامس أنت ترفعه بهدوء. ثم: جدار المسافة جدار
لأنك مشغول. سيهرب العمر في غفلة منك وأنت مشغول.
لا تأمنن الزمن.
كم أخاف أن يرتفع الجدار الذي بيننا ويصير أعلى من بيتك. عند ذلك
سترنو إلى الشمال عبر نافذتك لن تراني.
رأيت دمعته. جمدت دموعي لكن قلبي كان ينتحب، ألقى برأسه على صدري.
همستُ "أخاف الجدران" تحسستُ شعره، وجهه، مع ذلك رأيتُ صحراء تمتد. هو في طرف.
وأنا في طرف. وأنا في آخر. نمشي كل باتجاه الآخر ولكن لا نصل.
(11)
حبيبي مشغول، أنا أتحول إلى شجرة، من يأكل من ثماري يتحول إلى قطعة
خشب. فزع الأطفال صرت وحدي أقف في الساحة. أعلق نظري على الشرفات العالية.
"ياه....كم أنت حبيبي"
كانت هذه آخر الرسائل. آخر الورق الأخضر.
لا تأمنن الزمن. الذي كنت تذوب في يديه. قد يحولك إلى قطعة غرانيت
شفافة صالحة للنحت فقط.
(12)
هذا
أنتِ.
هذا.... طوقها بذراعيه، شفتاه تطوفان على الجسد. لكن الجسد ظلّ
شجرة.
يابسة. بوغت، هزّها، تساقطت دموع كبيرة. ناداها وبكى. ذكّرها
بتفاصيل العطر والقمصان والأدراج والصباحات الباردة. هو يقرع الباب، تفتح هي.
تطوقه. تغمره في صدرها تذوب تحت معطفه. همهم بحزن "ماذا أفعل؟" حمل الشجرة
اليابسة، أخذها إلى صديقة النحات. طلب إليه أن يصنع من الشجرة تمثالاً لحبيبته:
بطولها، بجسدها الجميل، بملمسها، ولكن: رائحتها!!
صمت.
"كنت أتحول إلى شجرة يابسة ببطء، لم تشعر بي. كنت مشغولاً"
أخرج قصاصة ورق من جيبه... دائماً تدسّ له القصاصات.
حين تكومت في حضنه سألته: أيموت الحبّ؟
"كل شيء يموت إذا لم نعتن به ونغذّيه"
حبيبي مشغول. والحبّ يحتاج إلى غذاء كي يظلّ أخضر كالحبق.
هو... وضع التمثال في المنزل. خرج إلى البحر وعاد. جلس يتأمله. رأي
دموعاً كالورق الأصفر تتكوم عند ساقي التمثال. أراد أن يحضن التمثال. لم يستطع
الحركة. لقد بدأ يتحول إلى شجرة يابسة. صرخ. طلب صديقه النحات. نظر إليه بأسى:
ما الجدوى؟ أخرج النحات أدوات الحفر والقطع وراح يصنع تمثالاً آخر. وضعه إلى
جانب تمثال المرأة كي يظلاّ متلازمين.
"قلت لك. الحياة اثنان دائماً"
فكر النحات أن يعرضهما في الساحة. هي تعلق بصرها على شرفته وهو يعلق
نظره على السحب المتجهة إلى الشمال.
المغّني
(1)
"لااستطيع أن أصدق ذلك".
الجميزة الوحيدة عند الزاوية تهدلت أغصانها، لامست الرصيف. كان
الهواء يعبث بأغصانها ويطلق صوتاً شجياً كأنه أنّات عوده الحزين، مدرسة البنات
المجاورة -للجميزة- خرجت كلها. اصطفت البنات ثم جلسن على الرصيف. راحت الجميزة
تنتحب، فانتحب الجميع. لا أقدر أن أصدق.
الفتاة ذات الشعر الأسود والقامة الهيفاء، الذابلة النظرة، راحت تلم
الدموع في كفيها. بين الأصابع الرقيقة نبتت زنابق بيضاء وأزهار النرجس. همست
"هذه رسائله لي".
المغني اعترف بأنه يحبّها. المغني لم يودعها ولم يترك على نافذتها
أغنية. كان من المفترض أن يكون هنا الآن، لكنه مضى. الأقاويل بالجملة.
المعلم جابر أرسله خارج المدينة لأنه فزع من عوده.
المعلم جعفر أرسل حراسه كي يربطوه إلى صخرة في الشاطئ حتى لاتعشقه
بنات المدينة.
لكن حورية بحرية خرجت من الماء. فكت قيوده وأطلقته إلى الزرقة.
حين تمر في حارته -أمام بيته- ترى شجرة زنزلخت تهرق أوراقها
باستمرار على المارين. الأشجار تبكي ياإبراهيم.
الأشجار لها روح، إنها كائن حي، تذبل، تموت، إذن تقدر أن تبكي.
لكن المغني لم يعد.
(2)
ياجدتي: لو أنك تشترين لي عوداً. أغنّي لك في الليالي الباردة.
أدندن في الليل الطويل فيقصر. ياجدتي: أحلم أن أملأ الحقول بالغناء. هه. اسمعي.
أورفيوس يدندن. يناديني. يملأ أصابعي. ياجدتي: يا...
غطت العجوز وجهها ورأسها جيداً باللحاف القطني البالي. لاتريد أن
تسمعه كي لاتنجرح روحها فهي غير قادرة على تحقيق الحلم. حبا على يديه. شدّ
الغطاء عن وجهها، ابتسمت، حضنته ونامت.
........
أشتري خشب الأشجار. أشتري مناديل الحرير. أشتري الزجاج. أشتري. و..
كان البائع الجوال ينادي في الحارات. يدور على القرى. يردد نداءه
فيفزع الشجر ويتكور.
"أتشتري هذه الشجرة؟ "
"شجرة توت.. ؟!! أجل"
راح البائع يلمس ساق الشجرة. تأوهت الأغصان. بكت العجوز.
"أتبيعينني؟"
"مضطرة.. سامحيني"
اندهش البائع إذ رأى الأوراق تسقط والشجرة تتعرى خلال دقائق. مرت
نسمة هواء، كنست الورق، ظهرت كومة سنين قديمة. تدلت من الأغصان عقود البامياء
المجففة. وسخابات اليقطين اليابس. حكايات العجائز. سيقان الأطفال تصعد لتقطف
ثمار التوت، مناديل الحرير التي تغذت ديدانها على الورق، غامت السنوات والحقول
والجهات في عيني المرأة العجوز.
مع ذلك: همست بصوت متقطع: "إقطع".
الشجرة تميل. تميل. ماأصعب أن تصير القمم نائمة على التراب. هوت
الشجرة. سقطت. دخلت العجوز مسرعة إلى المنزل. لاتريد أن ترى شجرة التوت ميتة
كخروف مذبوح. عدت النقود. ربطت زاوية منديلها على غلّتها. ثم غادرت المنزل إلى
عند أصدقاء لها في قرية أخرى.
... ... ...
ياجدتي: اسمعي. كنت أسير في الحقول. سمعت أورفيوس يغني ورائي.
التفتّ. ظلّ يعزفّ. رأيتَ رتلاً من الحوريات. كل واحدة مثل سمكة. تتلوى. ترقص.
الشجر يرقص. ياجدتي: صرت أغني لكنّي أحتاج إلى عود. أريد أن أعزف للدنيا.
طوق جدته بذراعيه. أصابعه حبق.. صوته كشذى الياسمين. غنّى "شفتك
ياجفلة".
رقصت الزواريب. نهضت حجارة النهر. تضايق الشيخ نعمان. ماهذا ياعجوز؟
حرام. حرام.
"لماذا ياشيخ؟ هل يؤذي أحداً؟ هل يسرق أحداً؟ هل.."
الشيخ يكيل الشتائم للمغني الصغير، يحرمه دخول بيته، يحرمه اللعب مع
أطفال الحارة. لكن الطفل ينمو مع الغناء والعصافير.
... ... ...
أريد أن أبيع هذا المنديل يازلفا.
طوت العجوز منديل الحرير. وضعته في قطعة قماشية. وأعطته إلى زلفا.
تبيعين منديل رأسك ياجدتي؟!!
لم ترد العجوز. ولم تحاول النظر إلى عينيه. قرفص الولد أمام جدته
وراح يقبل يديها.
"إذهب غداً واشتر عوداً يابني"
"ولكن..."
"همس. ماقلته لك تسمعه. ألست مكان أبيك وأمك. و.."
غصّ الطفل. تذكر أنها والده وأمه.. و.. هي مكان الأب الذي استشهد
ومكان الأم التي تزوجت. هي العالم كله.
"فركت" العجوز شعر رأسه بيديها. ابتسمت له كي تنتشله من حزنه -هيا-
غنّ لي.. انطلق الولد يغني. لكنه صمت فجأة إذ راح يحلم: غداً ياجدتي أذهب إلى
العاصمة. آخذك معي. أشتري لك عدة مناديل. وربما سآخذك إلى أوروبا، حيث ستركبين
الطائرة.. و... ياه.. ياجدتي.
غمغمت العجوز -إذا عشت.. أتأكل؟ "
هي تعد العشاء. وهو يغني ويحلم.
.......
المغنّي مرَّ من هنا حاملاً عوده.
المغنّي غنّى في ساحة المدينة.
صار اسمه على كل لسان. عندما عاد من حفلة مسائية وجد الشيخ في
طريقه. شتمه الشيخ ودعا عليه وشتم الجدة. لم يخبر الجدة. لكنه لم يتناول الزوفا
الملينة للحبال الصوتية قبل النوم. فقط قال لجدته. أريد ياجدتي أن تأخذيني إلى
المعلم "فهد"، له أيدٍ كثيرة، وله أصوات تدق كالطبول. إنه يقدر أن يساعدني.
الفن يحتاج إلى من يرعاه. والفنان يحتاج إلى من يقتنع بموهبته ويشدّه إلى
الأعلى.. لقد مللت. مللت. أريد أن أخرج إلى دائرة أكبر.
"حاضر يابني.. "
المغني لايعرف ماهي الوسيلة التي اتبعتها العجوز للوصول إلى المعلم
فهد. ما الذي باعته؟ ما الذي قدمته للذي وصلها بالمعلم؟! لا أحد يعرف. المعروف
أن المغني راح يفاخر. سهرت عند المعلم فهد. ذهبت إلى عند المعلم فهد. و...
... ... ...
كان ذلك منتصف الليل. قُرع الباب بشدة على العجوز. كانون بارد.
وشتاء القرى موحل.. "نائم؟!"
"أجل.. ماذا هناك"
"المعلم فهد يريدك. لم يستطع أن ينام لأنه حزين بسبب خسارته في
البوكر في بيروت. هو ينتظرك"
"حاضر..." لبس المغني. حمل عوده ودعاء جدته ومضى.
عاد منهكاً.. يتلوى من السهر..
بعد عدة أيام. كان الرعد يشق الصمت. ويهرق البرق على القرى.
مع ذلك جاؤوا وسحبوا المغني من فراشه (المعلم يريدك. عنده ضيوف
ويريدك أن تسلّيهم وتعزف لهم)
إذا قلق المعلم، يجب أن يذهب المغني. إذا زعل المعلم...
بعد فترة زعل ابن المعلم الصغير من أستاذه، فكان على المغني أن يخفف
زعله. وعندما انزعجت ابنة المعلم من عشيقها نادوا المغني، وعندما أزهرت شجرة
اللوز حضر المغني ليصف جمالها وودعتها.
و...
زعل المعلم. فرح المعلم. لم ينم المعلم. المعلم صار يفرّخ معلمين
ومعلمات. والمغني وحده تاركاً جدته العجوز.
مرة هرب، لكنهم وجدوه فأمر ابن المعلم الصغير بربطه إلى الشجرة
الكبيرة المتاخمة للمدخل. ومرة غادر المدينة. أرسلوا إليه رجالاً مسلحين. قالوا
له: استأذن قبل أ ن تسافر. في مرات قادمة لاتفعل ذلك.
في آخر نوبة قلق للمعلم فهد. حاول المغني أن يخفف عنه فلم يقدر.
لذلك ضربه وأمره أن يبقى عدة أيام لايغادر.
"حاضر يامعلم. "
الروح تحترق. العالم بدأ يضيق. صار يلمس أوتار العود بعصبية
"يامعلم. أرجوك. أريد.. أن.."
"لم تنته المدة بعد.."
وعندما انتهت المدة. عاد المغني. قرع الباب على جدته العجوز لم تفتح
له. ناداها عزف لها. لم تفتح. ركل الباب بقوة. كسره. دخل.
رآها جثة متعفنة. مزق قميصه وضرب عوده بالأرض. قرفص يبكي.
"لماذا فعلتَ ذلك يا بني؟".
"ماعدت أريد أن أغني ياجدتي".
وضع الورد على قبرها، أشعل البخور وما إن جلس يتلو القرآن حتى انتصب
له رجال المعلم فهد.
"نعم"
"المعلم يريدك. لم يقدر أن ينام".
"....."
"فلنا لك. المعلم يريدك."
"حاضر. اسبقوني. سألحق بكم."
لكن لم يلحق بهم. فتش المعلم فهد القرية. فتش المقبرة. لكن المغنّي
اختفى، على الرغم من أن من يمر أمام بيت العجوز يسمع دندنة عوده ويسمع نشيج
امرأة عجوز. النشيج لاينقطع. والمدينة ماتزال حزينة تنتظر عودته.
لكن المغنّي لم يعد حتى الآن.
فستان الشيفون الأسود"
(1)
لاأعرف لماذا انزعجت.
(2)
كنت أرتدي فستان الشيفون الأسود. وكنت أعاني صداعاً نصفياً حاداً.
الغرفة المحجوزة لي في الطابق الرابع، واسعة: سريران ونافذة تطلّ على ساحة
المدينة. قرنفلة حمراء في الكأس، وحبوب الصداع على الطربيزة.
شراشف ملونة كأن خريفاً تساقط عليها. موعد الحفلة لم يحن بعد.
مازالت الطريق التي اجتزتها عالقة بقدمي. أجرجره من الغرب باتجاه الشمال
والشرق. ساحبة البحر معي إلى تلك المدينة الصحراوية.
يتنازعني صمتٌ وباب ونافذة وانتظار، وبهو في الطابق السفلي يخبئ لي
الأسرار والمفاجآت، ومساء لا أعرف كيف سأطوي عتمته، وهاتف أخرس طيلة الوقت يرنّ
فجأة، فيخربط الهدوء ويلمّني عن السرير.
(3)
أنا أتفقد الغرفة.
كل حطام روحي جمعته وجلبته معي.
نزق أمي، نزق الزمن، صراخ أبي، وجوه بعض الأصدقاء، ثم الصداع. إني
لاأترك شيئاً حين أسافر، من فرشاة الأسنان إلى آخر الهموم.
الهاتف يرن. لماذا دعوني وأنا لاوقت لديَّ للفرح؟
الهاتف يرنّ. ثمة أحد يستعجلني النزول. أتكاسل في رفع السماعة،
لارغبة لدي بالتحدث والمجاملة ونثر الأسئلة. الهاتف يرن. ولكن لماذا انزعجت؟
(4)
كنت متأهبة لملاقاته. لقد حدثني أحمد عنه كثيراً حتى قلت له مرة
"صرعتني به" ابتسم وقال: "اسمعي" إنه رجل رائع. وهو صديقي جداً جداً.
سرد تاريخ معرفتهما. هززت رأسي. ماعلاقتي أنا؟ ومرة أعطاني السماعة
وقال: سلمي عليه. إنه يعرفك، لقد حدثته عنك، كدت أغلق الخط.
لماذا أسلّم على رجل لاأعرفه؟ لم أحب هذه الطريقة، مع ذلك.
أخذت السماعة وسلمت.
"حدثني أحمد عنك كثيراً"
"وأنا كذلك. نحن نعرف بعضنا"
وإذ أغلقت السماعة لاأعرف لماذا اعتراني الفضول كي أشاهد هذا الرجل.
ثم تتالت حواراتنا عبر الهاتف في المناسبات. كان يعرف عني كلّ شيء
من خلال أحمد. وكان قد شاهد بعض لوحاتي المرسومة على الخشب. وأنا بالمقابل عرفت
عنه أشياء كثيرة، لكنّها لاتهمني. مع ذلك وجدتني مع كل هاتف أرسم له شكلاً
معيناً.
مرة أعطيه شكل أخي الكبير. ومرة أعطيه شكل أبي، ولكن سرعان ماأعتقد
أنه يشبه خالي كامل.. هكذا: طويل، وسيم، عريض المنكبين، له صوت جميل، وربما كان
أجمل من خالي.
في مكالمة تالية، أعطيته شكل عمي: قصير القامة، ممتلئ الجسم، أسمر
الوجه، بعد ذلك أمحو كل التصورات والملامح والأسماء زاعمة بأنها لاتعنيني.
(5)
كان أحمد صلة الوصل بيننا.
صرت أعرف متى يسافر عليّ، ماذا يحبّ، كيف يعيش تقريباً. ولكن كنت
أثبت لأحمد دائماً أن اهتمامي بعليّ -الذي لم أره أبداً- يعني اهتمامي بأحمد.
وعندما كنّا نتحدث عليّ وأنا، كان أحمد محور الحديث. أحياناً كنت
أدير ظهري لكل هذه المجاملات والطقوس وأتمرد على قوانين العلاقات المعتمدة على
الزيف، في الوقت الذي نكون فيه نكاد ننفجر.
كنت أبرر لنفسي دائماً: لاشيء يقيدني، أنا أتحدث مع من أشاء، ساعة
أشاء، وليس من أجل إرضاء أحد. هذا الـ -علي- لايعنيني كصديق.
إنه صديق صديقي وكفى. عالمه غير عالمي، وهمومه لاتشبه همومي. إنه
لايقع ضمن دائرة تخيلاتي. والقواسم المشتركة بيننا قليلة.
أحمد عاتبني بشدة. قلت له: آن لنا أن نختار أصدقاءنا. ماعدت قادرة
على المجاملة.
"آن لي أن أكون أنا. أنا"
"ولكن عليّ رائع"
"لا أحد رائع إلا بعد تجربة. كنت ملدوغة من الزمن، ومن الأصدقاء،
لذلك كنت سريعة الحكم والهروب. "ولكن لماذا انزعجت عندما تقابلنا لأول مرة؟! "
"لا أعرف."
(6)
كان تشرين في أواخره.
هوى تشرين يحرر الورق الأصفر الحزين. الغيوم تتكدس وراء نافذة
الغرفة في الطابق الرابع، تطلّ على ساحة المدينة.
الساحة واسعة، موحشة، غريبة، الباب مقفل وأنا غريبة ومتعبة لا اعرف
كيف أرمي أكداس القلق من هذه النافذة في الساحة ليتشظّى ويتناثر والناس يقولون:
امرأة بحرية رمت أسماءها ووجعها الساحلي في ساحتنا، فهل لأحدكم اعتراض؟!
كنت أسمع الجدران تتكلم: "سيعترض عمال البلدية. سيعترض رئيس
البلدية، والمحافظ، سيقولون: من أين لنا بالعمال ينظفون هذا الكم الهائل من
الحزن والهذيان المتناثر في الساحة.
الساحة للاحتفالات. للعروض التي تظهر قوة المدينة وعظمة المحافظ
وضخامة رئيس البلدية. الساحة للفرح. يستعرض بها الناس مقتنياتهم النادرة وكتبهم
العملاقة وسيوفهم الفتّاكة. إنها لاتخصّ فرداً يلقي بها أحزانه ويجلبنا لنتفرج
عليها.
"ولكن أنا من الشعب. والشعب يعني أنا".
"الحزن كالفرح، نحتاج لنعبّر عنه"
"من أنت يا امرأة؟"
"أنا ..سيدي امرأة غريبة، تشيل همومها اليومية وإرثها القديم من
البطش على كتفيها. رأيت الساحة خالية، وأريد أن أذهب إلى حفل صديقي. لم أستطع
إيجاد مكان أفضل من الساحة الواسعة ألقي بهمومي كي أرتاح، وأذهب إلى الحفلة
مبتجهة. كي.."
"..... "
"لا. لم يعترضني حراس المفارق. ولم يفتشوا رأسي في الطريق. آه" رأسي
يؤلمني الصداع اللعين...آخ"
ينتشلني الهاتف الذي يرن. أركض إليه حافية. أتزحلق. أصطدم بحافة
السرير. أقع. أظلّ على الأرض مكومة. ينتهي الرنين وأنا ماأزال كقطة خائفة، لا
أقدر على النهوض.
ظننت أن صديقي يستعجلني. أتلمس صدري المرضوض. أعتقد أن ضلعاً قد
كسر. نهضت بتثاقل. شتمت الفندق، وعماله الذين رفعوا الموكيت. شتمت الذي اتصل.
عاد الهاتف إلى الرنين. رفعت السماعة. حاضر. سأنز.. ولم أكمل. كان الصوت
هادئاً: أنا علي، علمت أنك موجودة هنا. هل أقدر أن أراك؟
"طبعاً"
تلعثمت: أنا في الغرفة "407" في الطابق.. وفي الجهة.. في المدينة
التي تجرّدني من اسمي وعناويني ويبقى شكلي الخارجي فقط: أنثى سمراء، طولها كذا،
وزنها كذا، أصدقاؤها هم كذا.. مرت هنا و.
قال: مسافة الطريق.
مسافة؟!
أي مسافة يقصد؟!
الآن سيأتي. يريد اجتياز الساحة التي تفصلنا. لن يقدر. سيرى الساحة
مملوءة بالتماثيل الصغيرة التي فرّخها التمثال الكبير. لا . لن يستطيع العبور.
عليه أن ينحني ويلتفّ. تماثيل القلق التي نثرتها في الساحة تشكل مطبّات وحواجز.
ولكن: كل هذه التماثيل أنا جلبتها؟!
لا أظن. ربما تشجّع غيري ورمى بعض تماثيله التي تثقل ظهره؟ أو كنسّ
بيته الذي ضاق بهذه التماثيل وأراد أن يتخلّص منها؟!
لاأعتقد بأنها كلها تخصّني. أرقب الساحة وأنا أفكر بالحوار الذي
سأديره مع علي. إنه حوار وجه لوجه. حوار مختلف عن حوارات الهاتف.
أوه..
مسافة؟!
أحاول اختراع حوارات لطيفة أحدّث بها عليّ" الصداع يشجّ رأسي.
أستلقي على السرير. غيوم تتساقط في الغرفة. صَدري يؤلمني. لابدّ أن ضلعاً قد
كسر. ليكنْ. أصير ناقصة ضلعين بدلاً من ضلع واحد. سيكون ذلك ميزة أنثوية فائقة
بالنسبة لي. أتأوه وحدي. أتقلّب على السرير حتى لايتجعّد فستان الشيفون الأسود،
المنسدل على جسدي.
"ترى كيف يتصورني عليّ؟!"
أنا أتصوره وسيماً. أنيقاً. أحمد قال: بأنه دار العالم. نهل من
ثقافات كثيرة. وتعرّف على نساء كثيرات. إذن يجب أن يكون وسيماً.
بالتأكيد هو لايشبه فلاحي قريتي المشققة أكفهم بالمطر والوحل.
لايشبه زملائي الموظفين الذي يرتدون القميص طيلة العام، يغسلونه ويكوونه ثم
يعيدون الكرّة حتى تتنسَّل خيوطه ويجرد لونه. قد يشبه ابن عمي عامر الفنان. أو
يشبه صديقي الجراح الكبير. أو. يُقرع الباب: انهض. أسدل ثوبي الأسود الشيفون.
"من؟"
"أنا عليّ"
أدير قبضة الباب. القبضة لاتدور. أحاول شدّها. "لحظة من فضلك الباب
لاينفتح" أشعر بالحرج. أحاول مرات حتى أجرح أصابعي.
يظنني مشغولة بوضع العطر. أعارك الباب مرّة أخرى. يديرُ أكرة الباب.
أخيراً ننجح: هاهو أمامي. أتراجع إلى الوراء. تتلعثم أصابعي في كفّه الرقيقة.
أهتدي إلى كلمة "تفضل".
جلس على حافة السرير. ظللت واقفة لا أعرف كيف أبدد خيوط الدهشة.
تأملني. أطرقتُ رأسي. ساد الصمت. كنت خجلة جداً.
... ... ...
(7)
ماذا لو أن الباب لم ينفتح.
"أنا أعرفك جيداً.." قال كي يكسر زجاج الصمت. لم أستطع الكلام.
أربكتني المفاجأة. وأحزنني الرهان الخاسر مع خيالاتي. للأسف هو لايشبه أبي أو
عمي ولا أخي الكبير. إنه لايشبه خالي. ولايشبه عامر.. لماذا؟ لماذا انزعجت؟
ماعلاقتي به؟!
"أتشرب القهوة؟ "
"لا. لن أعطلك عن الحفلة"
اعتراني إحساس بالحزن والأسى. لقد خسرت مع نبوءتي. إذن الصوت لايحدد
الشكل.
"ولكن لدي وقت كافٍ لنشرب القهوة"
لكنه يرفض. هكذا ببساطة يأتي، وببساطة ينسحب. "لن أعطلك" ما أثقل
هذه العبارة! ليكن. أظنه جاء ليرى شكلي، وأنا كنت أريد أن أرى شكله بعد
المهاتفات والحوارات. ولكن لماذا حضرَ الشكل وغاب الحوار؟
نزلنا معاً البهوَ. ودعني. كانت يده باردة، وكان صوتي بارداً.
راقبته من بعيد. تكسر غصن برتقال في روحي. هل كنت أنتظر صورة أخرى لصوت أعرفه؟!
في السهرة نسيت اللقاء، وعاتبت نفسي كلما تذكرت انزعاجي. ليكن
طويلاً، قصيراً، نحيلاً، شاباً، عجوزاً، بشعاً، ماعلاقتي به؟!
.... ... ...
(8)
لا. لم يغير لقاؤنا من طريقة الحوار. نبدأ بالطقس، وآخر لوحاتي،
وننهي الحديث بالكلام عن أحمد وعن آخر أعماله. لكني صرت أستفقد هواتفه عندما
يتأخر.
وقد أسال عنه أو أتصل به. وشيئاً فشيئاً صار وجهه يطغى ويحتل غرفتي.
لم أكن أخطط لذلك، فأنا لاأميل بالتدريج. دائماً أخشى اللقاء الأول. ولقائي
الأول به مرّ. لم يبق في ذاكرتي إلا لون ثيابه -طقمه الأخضر- أو الزيتوني.
والباب الذي رفض أن ينفتح مباشرة كأن الأبواب تدرك ماوراءها؟ يضحك. "أتذكر
ذلك؟"
غمرني بنظرة شفيفة وقال: أذكره، وأذكر ماذا كنت ترتدين. إنه ثوب
الشيفون الأسود. الجميل. المثير. الـ.
وأنت كنت ترتدي اللون الزيتوني المخضّر. يومها لا أعرف لماذا
انزعجت؟ لم أخبرك إلا بعد زمن طويل وكان الوقت ليلاً، والهواء الشمالي يعصف
بالمدينة. كانت الآلهة خائفة، والأشجار خائفة، المدفأة تئن، وأنا أرسم، وإذ رنّ
الهاتف وسمعت صوتك ارتبكتُ. رحت أهرب من ارتباكي بأسئلة عابرة عن الطقس والبرد
والمكان الذي تتكلم منه.
"أكلمك من المدينة التي التقينا بها لأول مرّة.
"صحيح..؟ أتذكر تفاصيل ذلك اللقاء الآن"
"كيف الطقس عندك؟ برد؟ بردانة؟"
"جداً.. برد وهواء شمالي يصفرّ على النوافذ""
"عندك برد؟"
"لا.. المكان مدفأ. تعالي أدفئك بين ذراعي. ألو."
ساد الصمت. وجهك ملأ الغرفة. انصهرت ألوان ثيابك مع ثوبي الشيفون
الأسود.
"لماذا قلتها؟
"ماذا قلت؟"
"قلت: تعالي أدفئك؟
"الحق على البرد" ابتسم.
كلمة واحدة حملتني إلى غرفتك. اجتزت مسافات وجبال صقيع وتكومت بين
يديك. يبدو أن لكل حالة توحد كلمة واحدة. كلمة تكفي لتصير أنت كل الرجال وأصير
أنا كل النساء. كلمة؟! قد نقضي العمر ولانجدها. وقد تنبجس فجأة من بين ركام
الكلام والوجوه والألوان فتزيل تماثيل القلق من الساحات وتلغي البرد والمسافات
وكل الوجوه والأسماء و. هناك أشياء تُحسّ ولاتقال.
(9)
غمرت رأسها في صدره وقالت: "ماذا لو لم ترتدِ أنت الأخضر" وأنا لم
أرتدِ فستان الشيفون الأسود. أو أنني ماجئت المدينة لحضور حفلةٍ. ماذا لو أن
الباب لم ينفتح؟ كنت ستظلّ صديق صديقي لا أكثر”
طوقها بذراعيه. شعرت رائحته تتغلغل إلى مسام روحها.. تأملته. إنه
ليس الذي رأته أول مرّة. إنه الذي تراه بقلبها. وهو لايشبه أباها ولا أخاها
ولا... إنه يشبه كل الذين تحبهم. نظرت إلى عينيه "ماذا لو أن الباب لم ينفتح؟
مرر أنامله في شعرها الأسود. همس. "مع ذلك كنّا التقينا"
|