نحن
المجانين
-
ديوان كامل
أصدقائي
وأعزائي...أرسل هذا الملف وفيه ديواني الذي صدر أخيرا من اليمن، في صنعاء
بمناسبة اعتبار صنعاء عاصمة ثقافية لعام 2004، وهنا الديوان وصورة الغلاف، هذه
نسخة الكترونية مهداه لكم...محبتي كلها...هدى حسين
أغلقت الباب
فاتسعت حجرتي
رقصة
واقفاً
ضع كفيك خلف رأسك
واثنِ ركبتيك بأرجل مفتوحة
ثم لف في دوائر حلزونية.
أثناء ذلك كله
احرص على تبادل الوقوف على إحدى قدميك:
أنت الآن تفرح.
سأمنحك هذه:
وحده الطين يكفي لصنع البشر
حدودي
الطينة المتحركة
الجعران الخامل المستوحد
حاملاً بيضة الشمس
اللوتسة
تنبعث من حواف أوراقها
خيوط الأشعة.
أرفع يدي فينزل المطر
أخفضها فيرتفع النبات.
أمر على بيت خرساني فيتهدم
ألامس طفلاً فتضيء فوق رأسه
هالات من الضحك.
أمنح للماشية نظرة ودودة
ولمسة حانية على الجلد
الذي ستحزله الشياطين بلعنتها
إلى حقائب وأحذية.
شبحي على زجاج الفتارين.
البضائع المعروضة تبدو
أكثر حقيقية منه.
حدودي أن أتسلم القرابين نيابة عن الآلهة
ليطمئن العامة إلى معتقداتهم
وأجابه وحدي في الرعد
عروق السماء الغاضبة.
جيتار
الذين تتقاطع حياتنا معهم للحظة
في الشارع
في محطة المترو
ثم لا تضيع أبداً بعد ذلك
كل التعبيرات التي حملتها ملامحهم
إلى الذاكرة
سيمضون حتماً
تمتصهم أحزانهم وأحلامهم
ولن يتذكروا ملامحنا
التي ألقيناها إليهم
في التفاتة عابرة.
تاريخنا
بعصبية مدمن مهتاج
أقضم مبسم آخر سيجارة لديّ
دون حساب
لقدر الخسارة
وقدر البلاهة
أمام علبة فارغة.
نشيد
انظر إلى الدخان يصعد ويطير
كم هيئة يتخذ
كم شكل يصنع
كم روح تشرق وتنتشر.
عود بخور العنبر
كل روح تصعد للسماء
كل جسم يهبط كالرماد
الفاتحة
على النزع الأخير
والصلاة
على السر في الرائحة.
الميت
قِبلة.
إيقاع
قلبي الأحمر
ينبض.
بلا دم،
قلبي بنفسجي
لا ينبض:
الإيقاع ً
أزرق.
خفة
في آنية زجاجية خضراء
سكبت الرمل
بخفة
كي لا ينزعج من اللون المضاد.
الرمال معتادة حملها في الريح
باتجاه الريح
و ربما بلا حنين
إلى وطن.
خداع اللغة
كل اللغات تؤنث الطبيعة
مع ذلك بقيت
أنوثة الطبيعة توجد كائناً
وذكورتها تحدد ماهيته.
كل اللغات تذكر الإنسان
ذلك الذي
يا للغرابة
أوجدها.
راقب
القهوة التي أشربها كل صباح
تدخلني بسر الحقول التي أنحبتها
في أمريكا الاتينية.
القهوة التي اشربها كل صباح
تدخلني بسر الجثث التي دفنت تحت الحقول التي أنجبتها
في أمريكا اللاتينية.
القهوة التي أشربها كل صباح
تدخلني بسر الأيدي التي دثتها في حقول أمريكا اللاتينية.
كل صباح أشرب
قطعة من الأرض الغربية
مرت عليها الشمس والماء والريح
كل صباح
أشرب حضارة المايا فردا فرداً
كل صباح أشرب حسابات الفلك والزرع
وآثار التفاصيل العائلية التي دخلت مزاج الفلاحين
قبل واثناء الزرع والري والحصاد
كل صباح
يدخلني صيف وغناء يخفف
من قسوة العمل.
غير أني أعتقد
أن هذا البن الحبة حاملة السر
حرقت بنار مصرية قديمة التحنيط
وطحنت برحى صوفية
عبرحركة الجسم الطاحن بين النقطة والدائرة.
كل صباح
مع صعود الشمس وانتشار الأشعة
أضع مقدار من كل هذا الخليط
بملعقة من حديد مارس
في كنكة من نحاس فينوس
لها مقبض خشبي يحمل ذاكرة الشجرة المحرمة
أضيف ماء النيل الساري من عمق الحبشة
وأنضجها على نار برومسيوس
ثم أصبها
في فنجان ياباني صغير بلا مقبض
وأشربها في النهاية
على الطريقة التركية
أي بطبقة من البن على السطح
اسمها الوجه
طبقة كثيفة
تماما
كالحائط الرابع الذي
قرر بريخت أن يكسره.
الطبيعة
عندما نموت
تأخذنا الأرض
كالبذرة
كالسماد
وتتبخر أرواحنا نحو السماء
كاحتمال مقبل للمطر.
عندما يسقط المطر
تعود الروح إلى البذرة
ونصبح
أخيراً
كلنا
أشجاراً محرمة
تستعيد مكانتها
في الجنة.
الغراب الأسود
أفتح عيني فأرى الموت
أغمضهما
أموت.
حاملات الذكرى
العجائز الشمطاوات
المرشوقات في زوايا الطريق
والمختصَرات في كومة من العظام البارزة
سلالهن تدعو لليمون أن يباع
وللمارين أن يسترهم ربهم..
العجائز..
هؤلاء..
بنفس القوة
يبدو أن أحداً لن يشاركني هذا الحلم
ذا الشاشة المربعة
في ثلثيها التحتيين
ماء أزرق شفاف
وكرتيّ بينج بونج تحتولان الغطس
برغم امتلائهما بالهواء..
وعندما أضغطهما للداخل أكثر
يخرجان بنفس قوة الضغط
في اتجاهين متعاكسين،
بحيث تشكل حركتهما
- لو وُضِعَت على ورقة رسم بياني -
سن رمحٍ
في حالة رشق للماء.
تماماً كالعاصفة
تهبين في وجهي فجأة
وتحملين كل الرمال إليّ.
أنا لم أفعل شيئاً إجرامياً:
أحببتك
وتركتك ترحلين
هل تعتقدين أن ذلك هين؟
حملت عنك أتربة الذكريات الخربة
وانتظرتك ساعة في المقهى
لأشعل سيجارتك وأتركك
لشهوة الكلام.
لم أدفعك إلى الفراش بركلة قدم
ولم يسل لعابي عليك كالقروى الساذج.
فهل تعرفين هذه الغصة التي تشبه الحب؟
هذا الألم الذي يخرج بابتسامة صافية
بينما يرف شالك وأنت تنقلين قدميك
الواحدة تلو الأخرى
بخفة على الرصيف؟
يدك المعلقة باستخفاف في ذراعي تمنحني رعشة
وعيناك الشاردتان بعد فاصل طويل من الحكي تدفعاني للبكاء.
وأنت تنهين الكلام:
- "عندما تذكرتكِ
وشعرتُ أنني أفتقدكِ
نطقت اسمك
يا هدى."
الملاك الحارس
الراعي العجوز
تعرفه خرافه تمام المعرفة:
هو الذي يملك مفاتيح ابتهاجها.
له شجرة وحيدة وعنزة محببة يحرِّم عليها الخراف.
أحياناً يعزف الكمان تحت شجرته
الأوتار تنقطع لو اندمج في العزف.
هذا هو سوء التفاهم اللازم
لتعبِّر عنزة وحيدة عن انفعالاتها.
وجه الشبه
الذبابة التي تزعجني أثناء الكتابة
يزعجها دخان سجائري:
كلانا يحارب الآخر في مجال تنفسه
حرباً عادلة.
فكلانا أسود ومطرود ومحتَقَر.
لكن الذبابة تتميز عليّ بالأجنحة
وبعري تام
لا يستنكره أحد.
في المدرسة
سنعلم الأطفال
أن يكتبوا أسماءهم على التراب
أن يرسموا أحلامهم على التراب
أن يقبضوا براحاتهم على التراب
مادم هناك مازال
بعض التراب
مازال
تحت السيطرة
أخاف
أخاف عليك يا سلحفاتي الصغيرة
من أن تدمر القنابل مزارع الخس.
أخاف عليك من تلاحق الأحداث
بسرعة لا يمكنك مجاراتها.
ومن تفاخرك الأعمى ببطولات جدتك
التي هزمت الأرنب وأكلت النبأ..
من أدراكِ أنه لم يكن مسمماً؟
قِدر الطعام
لأني هنا سألعب
فلن أذهب بعيداً
اللعب مسئولية كبرى
في هذا العالم الذي أصبح
على شفا الموت جوعاً
القِدر الذي على النار منذ خمسين ألف عام
يطبخ فيه مفهوم الأمومة والصبر والأمل
بحاجة إلى أطفال ينشغلون عن الحليب باللعب:
هيا نصنع عالماً وننشغل به
قبل أن يشدوننا من قفانا إلى الخدمة العسكرية
أو إلى مقصلة الزندقة.
من قال إن الأرض كروية مات
ليس لأنه اعتقد ذلك لكن لأنه قال.
ولأنني هنا مازلت على هذه الأرض الكروية
فسألعب في صمت
وعلى من يريد أن يعرف
أن يشاركني اللعب
حتى ينفضح الوهم الذي في القِدر
أو تنتج لعبتنا قوانينها.
لأمي
السلام للموتي
وللجرحي الدعاء أن يموتوا بسلام
ولي أن أبحث عن دور غير الكتابة
كأن أمرض قلب أمي الذي ينتفض للأخبار
أسدد فاتورة كهربائها وأناولها الدواء
أوسد لها السرير وأغلق التلفاز بعد أن تنام
بسلام كالموتي
عليّ أن أحمد الله لأن لي أماً لم تمت بعد
بسببها لن أتعلم التمرض
ولن أذهب إلى حيث الجراح
محدودة بحدود الجسد
الموتى محظوظون حقاً
ولنا نحن الأحياء أن نقع في هوة الحرب
فريسة لعيوننا التي ترى
ولأيدينا المقطوعة إذ سرقنا قطعة من الشمس
فاحترقنا بما نرى..
أي دور كنت سألعبه لو مات أمي
أي دور
هنا
حيث الكلمة لم تعد تخلق كوناً
ولا تصلحه.
إنهم يصنعون الخبز
في الركن الملتهب من الشارع
أي شارع
يصنعون الخبز
يشعلون النار في الأفران
يحرقون جباههم وأيديهم
وهم يصنعون الخبز
نهلل لمصر في كأس العالم
وهم يصنعون الخبز
نصرخ ضد الحرب
وهم يصنعون الخبز
نقاطع البضائع الأمريكية
ونحتج على غلاء الأسعار
وهم يصنعون الخبز
نقاتل في سبيل حقوق المرأة
وهم يصنعون الخبز
تسقط حافلة من أعلى الكوبري
ينقلب قطار في الصعيد
نأسف للضحيايا ونتأثر
بمشاهد الجثث الدامية
نسخر من قلة قيمة الإعانات المصروفة
للأسر المنكوبة
وهم يصنعون الخبز
نسترق من الوقت والمجتمع المعادي
لحظات نحب فيها بعضنا بعضاً
ثم ننام
وفي الصباح
نجد الخبز على المائدة
نأكل
ثم نهلل ونصرخ ونقاطع ونأسف ونسخر ونحب...
وهم يصنعون الخبز مازالوا
هؤلاء المتحالفون مع النار
القادرون إلى هذه الدرجة
على وضع الدقيق المستورد والمحلي
سواءً بسواء كله
في أفران جماعية
ألا يستطيعون أن يستخدموا خبرتهم هذه
في مواقف أكثر تأثيراً؟!
الغربان الجدد
نحن الغربان الجدد
نشهد كل الخراب بلا فعل مؤثر:
فعلنا يأتي فيما بعد
عندما تنتهي الحروب
سنعلم الناجين كيف يدفنون الجثث.
الناجون عليهم
لو أن التاريخ يعيد نفسه فعلاً
أن يشبهوا قابيل
نحن الغربان الجدد
سنساعد قابيل على دفن آخر أثر للجريمة
لكننا
لكي نقوم بدورنا العظيم في تاريخ البشرية،
عليناأن نختار من بيننا ضحية ونقتلها
وننتظر حتى تنتهي الحرب
حاملين جثة الغراب المختار
لا نواريه التراب حتى يلتفت المنتصر
ذلك لو أن الحرب مازالت تحمل في
من صفاتها الوراثية القديمة
نصراً وهزيمة.
قد ننتظر كثيراً حتى تنتهي الحرب
وقد تتعفن جثة غرابنا في أيدينا انتظاراً
لكن
ماذا يهم
ولدينا من الغربان الكثير
ويمكننا
أن نقتل واحداً كلما توهمنا أن الحرب اوشكت أن تنتهي
نحن الغربان الجدد
شهداء على عصرنا
شهداء
شواهد على عصرنا
شواهد
بغداد
بالأمس
تصفحت ديواناً مترجماً
لشاعر أمريكي أسود
نُشِر
في بغداد
كان ذلك عام 1971
قبل أن أولد بعام
قبل أن أولد
كانت بغداد
تنشر شعراً.
سأقول أعرفها
أنظر إلي المشاهد المعروضة على الشاشات
كل الشاشات
فأنا في عزلتي المكانية
مازالت لي عينان.
ولو سألني أحد عن جثة
أية جثة
سأقول أعرفها
كانت تطهو الطعام في الصباح الباكر
وتجلب الأطفال من المدرسة بعدما تنتهي من العمل
لتستذكر لهم دروسهم
كانت تتشاجر مع زوجها أحياناً
هذه الثرثارة المسكينة
لكنها لم تكن تفكر أبداً في الطلاق
من شريك العمر
وسأدعي
أنها كانت تنشف يديها بخرقة المطبخ قرب البوتاجاز
بعدما تصنع الشاي لي ولها
وتنبتسم في شجن وتقول
- فحتماً كان لها صوت هذه الجثة-
: " أي أسرة تلك التي تخلو من المشاجرة؟..
البيوت أسرار."
الأشياء
القطط الصغيرة
أطفال الحدائق
العصافير المحلقة في فضاء شتوي شاحب
وبر الحيوانات
رائحة الطمي الأسود عند احتراق الغابات
الوجوه المنحوتة في الخشب
الأقنعة الأفريقية
قلاع البرونز اللامعة في مواجهة الشمس
المعابد القديمة
محبتي لله
الأشياء التي أحبها
الأشياء التي أسخر منها
الأشياء التي لا أحدث بها أحداً..
الآلة الإبداعية الحية
أطلق على نفسه اسم الآلة الإبداعية الحية.
دون وعي، كان يبحث عن أسطورته.
كنجمة دهنية تليق بجسم السماء الممتلئ
كان يسهل فقأه
هنا المجال أوسع للوحات عدوانية
لشيء ملول كالسخرية.
عشرة أعوام
بعد عشرة أعوام
سيأتي خط غائر ويستقر أسفل عيني
وخطان غائران يستريحان على جبيني
من نزق الشباب الجارف..
عليّ أن أهيئ نفسي من الآن
لأشكال التعلق الأمومي
التي وحدها ستأتيني من قبل أطفال
سينضجون على نار عشرة أعوام ستمضي.
الحب
أن تهجر فراشك لتقرضه للمحبين
تهديهم شاياً ووروداً
ثم تتستأذن للخروج.
أن تؤَمِّن الأبواب خلفهم
وتلهي عيون الجيران بابتسامة مهذبة
وأنت تقرؤهم السلام على السلم.
تنزل بخطى رشيقة
فرحاً
قد لا تعرف إلى أين تذهب..
لكنك تذهب بعيداً وراضياً..
فجأة تجد الشوارع وقد اتسعت لروحك
وزعيق آلات التنبيه
تجده يطرب أذنيك
كأنه مقطوعة من موسيقى الجاز..
تقفز كعصفور على الرصيف
لا يقلقك اعوجاجه..
والحفر المتخلفة عن انكسار بعض البلاطات
عندما تتعثر فيها تبتسم..
تقول لنفسك: "مؤكد
مر الكثيرون من هنا"
وتحاول أن تتخيل ضخامة الأجساد
ومقاطع من الأحاديث الثقيلة
التي كسرت بلاطة هنا
وحفرت حفرة هناك
في ذاكرة الرصيف..
تجد أنك تضحك
وتعتذر
للذي يصدم كتفك بينما يمشي شارداً
تعتذر
لأنك صرت شفافاً إلى هذه الدرجة
ولا مرئياً..
تكتشف أن أوراق الشجر الخضراء
خضراء فعلاً
ونضرة
برغم التراب المتراكم عليها
وأنها تهتز برغم الصيف الحار
لنسمات سامية لا تدركها قامتك
لكنها هناك
تساعد أوراق الشجر على التلويح إليك بفروعها
وتقرؤك سلام صغار العصافير في العش..
يأتيك نادل المقهى بكوب الشاي الذي طلبته
بينما أنت تفكر في الزغب
كيف أنه ناعم
نعومة مطلقة هكذا
ورهيف..
وبسبب الزغب الناعم
بسبب النعومة المطلقة وحدها
تستوعب نظرة النادل المتعجبة:
تمقت الشاي مقتك للعبودية
وقررت بلا سابق ئغنذار
أن تستوعب اختلاف الآخر
بل وتجربه..
يبدو أن الحب يتعلق بهذا أيضاً
زبأكثر
مما ستكتشفه وحدك
في المقهى
في وحدتك المطلقة
المتدفقة بالعاطفة.
ساحرات القمر
الآن يا روحي وقد اكتملتِ
سأعلمك الفرح بالاكتمال
منذ ألف عام
عندما تدخل قصرا مهجورا، ستتوقع أن ترى تراب ألف عام بعلو أركانه البارزة.
تماماً حيث كانت تستقر المزاهر. ستجد واجهات زجاجية ملونة بألوان الورد، قد
غزلت عليها العناكب خطوطاً جديدة محتملة التلوين.. ستنتظر صمتاً متربصاً، أو
صراخاً مكتوماً، أو حتى.. آثار همس لأحاديث عائلية قديمة..
عندما تدخل، ستترك باب القصر موارباً، لتنفلت منه عفاريت البيت هرباً من كثافة
مادتك. ستشدك باقات الزهور التي استوحشت بعدما حنطها الوقت. وستقنع نفسك أن ذلك
قد حدث من ألف عام -بلا زيادة ولا نقصان- لما في هذا الرقم من وقع موسيقي، في
قصر، بُعثِرَت نوتته.
أبواب الحجرات الداخلية تستحي مقابضها استعادة ذاكرة الأيادي. أبوابٌ مرعوبة من
أن تنفتح مجدداً. بخلاف سلالم يأكلها التراب تتوق لانطباع قدم على درجاتها.
شهيقك يغري المصابيح لاكتشاف كثافة حرارية أخرى، موَلِّدةً للكهرباء. وسيخبرك
الزجاج الملون أنه التمع لحدث كهذا. والخدم بعثوا ليجهزوا وليمة العشاء. ثم
ماتوا بعد غسل الأواني. وتغيير الملاءات.
مأساة اللون
كان لي أخ ذو قلب أخضر كسلحفاة. كل شيء أخضر ينتمي إليه. حتى عفن الرغيف
والأشعة الصادرة من المومياوات.
وبرغم أنه كان نحيفاً وخجولاً، إلاّ أن وجهه لم يكن يحمرّ في المواقف الحرجة.
فقط تتحرك يداة بعصبية وتنفر عروقه الخضراء تحت الجلد.
لم يكن يحب الفتيات المغاليات في الزينة. ذات يوم وقع في غرام عاملة آيس كريم
تعمل 12 ساعة يومياً، بحيث شكَّل الإرهاق هالات خضراء تحت عينيها. ولأول مرة،
تعلم أخي المشي والكلام، بلا نهاية، بينما تتحرك المشاهد خلفهما ذهاباً وإياباً
من شارع عماد الدين إلى قصر النيل. هي، أشركته في سر أيس كريم الفستق
والكنتالوب. وهو أطلعها على عفن الخبز والمومياوات، بل وكاد يقتنع بها لدرجة أن
يهديها سلحفاته. لكنه عندما رفعها إليها صرخت. كان الوجه الممدود من داخل
الصخرة المتحركة يكتشف زيف العدسات في النظرة، وكان أخي قد قرر أن يختبئ داخل
غلاف صلد من القسوة المتصنعة.
مومياء
الوردة التي أهديتها لي العام الماضي في ذكرى زواجنا الذي نسيتَه وذكَّرتُك
فصنعت لي وردة من ورق المراحيض بساق من ورق التسخين المفضض.. الوردة التي حاولت
لأسابيع أن أقنع نفسي أنيي سعيدة بها، ثم نسيتها شهوراً ملتصقة بالجدار فوق
المكتب، مازلت اراها مع بداية كل يوم ونهايته. وأتذكر أنني فكرت فعلاً في
الحفاظ عليها. فغلفتها بورق السوليفان الشفاف خشية التراب ولصقتها بالجدار
مخافة أن تبلى منسية في أحد الأدراج.. الآن أراها صدفة في الذكرى الثانية
لطلاقنا، عندما قررت أن أغير نظام الحجرة. مازال ورق المرحاض وورق التسخين
سليمين. لكن السوليفان غلفه التراب. فصارت الوردة تبدو من تحته كمومياء. أو
كيرقة محنطة في جدار لم أطِر بعد إلى ما ورائه.
معركة
المجنونة شبه العارية التي تقف وسط إشارات ميدان التحرير تسب إسرائيل بصوت أجش
وتتوعد الأجانب المتجهين إلى المتحف المصري، يزيدها زئير السيارات توهجاً. إذ
يتوقف السائقون أمامها بالذعر في عيونهم ويلوحون بأيديهم ويصرخون.
الأصوات العالية تدفعها للتحمس. لذا، عندما مرت سيارة الاسعاف وسيارة الشرطة،
اكتمل الكونشيرتو. وبقيت هي المغنية الوحيدة والمايسترو، تتجه نحوها عيون
العازفين في الإشارات، والمتفرجين الواقفين على الأرصفة الدائرية المحيطة
بالميدان.
الشمس تصفع شرطي المرور على قفاهم. هكذا تزداد حرارة الموقف في تلويح الأيدي
للسيارات وانقباض الملامح أثناء التصفير بالمرور أو التوقف. يزداد ضجر المارة
إذ تلتف حبال الأشعة حول أرجلهم وأيديهم وأعناقهم. وينهار رجال الشرطة والاسعاف
صراخاً ونواحاً. غير أنه لا جروح هنا سوى جروح القلب. وبرغم الذعر والترقب، لم
تسفر الأحداث بعد عن قتيل واحد.
ليلى
شعرها الذي تصر على إبقائه قصيراً، ثديها الضامر، وبعض الحبوب على وجنتيها.
بقامة قصيرة وعيون سوداء مذعورة كفأر لم تزل على جلده آثار المقشات. مطرودة من
البيت تسكن المقهى وحدها، وتدخن.
الشيشة عضو مبتور لا يتصل إلاّ بالمستوحدين. تصل المبسم بفمها فيبدأ الحوار،
الغليان المكتوم يفضي بسره الآن من القارورة الزجاجية. ثلثها ماء فاتر، وثلثاها
دخان يتسرب مع الذكريات في الجو. هذا ما يسميه الحمقى بالتلوث.
أنا ذقت طعم الموت في فمها. شربت دمها المسكوب لعى الاسفلت وأدرتُ ظهري للحياة.
كل هذا الشجر ينبغي أن يتفحم. كل هذه البيوت والسيارات. كيف تجرأت الشمس وسطعت
على أرضٍ لا تسكنها حبيبتي!..
ماذا يعرف الإعلام عن ليلى؟ تسعون حبة مهدئة في جوفها وتَخَبُطٌ وسط جدران
المستشفى: "لا تذهبوا بي إلى الأطباء. سأقول إنكم اختطفتموني عنوة!". غناؤها
عديد كلبة بحر بعد انتزاع وليدها. ليلى توقن أنها تستطيع الطيران وأن بإمكانها
لمس السماء. ولا تفيق.
كل الرجال يحبون وقاحتها ويتراهنون من منا يقتل ليلى؟ صديقاتها يخشين تقبيلها.
فتضمر ليلى وتبقى عيونها متصلبة كالماس. معاكسات الرجال تصيبها بالغثيان، فلا
تتوانى عن هتك سر الحقيقة الشائكة.
ماتت حبيبتي. موتها مستقر على الرصيف المقابل يحمل لحمها ودمها وذعر انفراجة
فمها وعيونها المفتوحة باندهاش. موتها يحمل لهفها الأشد من الاصطدام بسرعة
العربات. على هذا الرصيف أحيا وعلى الرصيف المقابل موتها، وبيننا نهر من
الكشافات وآلات التنبيه. وأنا لماذا لم يأخذني لهفي إليها؟ لماذا يمنعني الجميع
الآن من اللحاق بها في الموت؟
أسافر كل ليلة إلى أنهار ثقيلة وحدي أتقلب وسط العشب الداكن، تقرصني الحشرات
وتوخز لحمي. أسنان العشب المدببه لا تنبض بي، وعيوني لا أريدها أن تنفتح على
مشهد كهذا. رأسي ثقيل ومفرغ تسكنني الطحالب والفطر السام يأكلني. ولا تسكنني
حبيبتي.
أعلى. ليصدر عني هذا الصوت أعلى. قهقهاتي هوائي تنفسي. ليخرج عني هذا الزفير كي
يسهل استقراري في القاع. بما أنكم جميعاً ترفضون إهدائي صخرة وسلسلة لأوثق قيد
قدمي. أعلى يا ضحكاتي يا وقاحة نكاتي يا نظرتي الحجرية، سهامي التي تخترق أجساد
النبات، يا فرحة الأولاد لاشتراكي في المعاكسة، يا قسوتي على نفسي يا قسوتي يا
قسوة الحياة.
هل تأخذيني في أحضانك يا صديقتي؟ بلا جزع مني؟ هل ستضغطين حزني وتلملمين عظامي
وتبكين معي؟ هل تربتين على كتفي وتمسحين ظهري بكفيك؟ وتنشبين أظافرك في شعري؟
هل أقبِّلك الآن وتعدينني ألاّ تموتي مثلها؟
الرجل الذي يخطفك مني ويقبل محبتنا لا يستطيع الرفض خشية أن تهربي. ولم يعد
يعرف كيف يحدد مفهوم الخيانة: "لا تذهبي مع رجل غيري. اذهبي إلى ليلى لو أردتِ.
وعودي." هكذا الحرية المتوهمة.
أراهن على كل الجميلات ذوات الأرداف المكورة الصغيرة والتفاحتين. شعورهن
القصيرة تتيح للرقاب أن تنتصب بجلال. النظرة المبتورة لا تكل عن تقديم القرابين
بالدم. أراهن على شموخ النخل في خصر مشدود لأعلى وعشر تمرات ملتصقة بالأقدام.
كلما رأيت بنتاً جميلة تذكرت ليلى. وكلما أخبرت ليلى تبتسم. هكذا صار اسمها
مقروناً بالجمال, وصار يمكنني بعينها أن أرى لهفي على استقرار محبتي في اللمس.
أنا أيضاً باستطاعتي الطيران. لمس السماء بأطراف أصابعي. هنا لا عنف ولا ضوضاء
ولا محبة بالإكراه. هنا بسمة متوترة وحوار بالنظرات: "لا ينبغي يا حبيبتي أن
يفضح سرنا أحد". نضحك كأطفال خبأوا كل السكر في جيوبهم وأوقدوا البوتاجاز
وأشعلوا كل الشموع ولعبوا بالسكاكين في غياب آبائهم. نتقافز حول العجائز
المتصابين يثيرون شقاوتنا فنتغامز. العجائز يصدقون كل كلمة نقولها ويستعيدون
الرغبة والأمل. لكننا نعتذر عندما يضغطون على أيدينا في التحية متأسفتين لأنهم
أقوى بكثير مما توقعنا أو نحتمل!
نخرج. نتابع الملابس الداخلية في الفتارين. نتحسس طراوة الحرير والدانتيلا.
تحبني في الأسود الشفاف وأحبها في البنفسجي المشدود على الخصر.. ثم ننفجر من
الضحك: أحبها عارية من تفاهات الموامس وتحبني عندما أحكي الحواديت.. لا غيمة
تفرق بين سمائينا.. لنا الآن أجنحة.
ثم تموتين وحدك؟! قديمة وباهتة كمرآة متروكة أسفل جدار البيت يشوه الضوء الكثيف
الحقائق التي تعكسها.. وحده هذا الشحوب يترك للجدار فرصة المصارحة: كانوا
أناساً طيبين, طفوليون بعض الشيء لكنهم طيبون.. عندما كسروا مرآتهم لم يكونوا
يتعمدون إيذاءها. كانوا أطفالاً فقط يكتشفون للمرة الأولى حقهم في كسر مرآة
قديمة. وعلى كل حال – تقول ليلى- كلن للمرآة وجه واحد ورأي واحد تماماً كالشلل
النصفي. نصف جبهة وعين واحدة ونصفا شفتين تصلحان فقط لكلام يسقط فور إلقائه
مهشماً من الدور العلوي.. حسناً أن تركوها أسفل جدار البيت.
والآن يا ليلى؟ هل ترين الألوان صافية؟ الأحمر يختلف كثيراً عن الناري والأزرق
ليس بالضرورة بارد.. ليس من اللازم أن تشعلي شمعة لأجلي، ولا داعي أبداً من
إيقاظ النائمين..
أجمع طمي الأرض في حجرتي كنهر لا يتوقف عن نحت الجنادل. كل ثقوب الصخر تنفتح لي
فأسدها بأصابعي العشرين. زجاجة من النبيذ تكفي لإراقة الدم. وسدادة من الفلين
تفتح باب الشهوة. أصنع تمثالاً لحبيبي فتتكسر ليلى. أرممها بالماء والزيت. أشعل
كل الشموع لينضخ فخارها ثم ألقي بأفراني كلها تحت سرعة العجلات.
أواجه الموتي بموتهم
عود الكبريت الذي يشعل سيجارتي، يلقي الضوء على أشياء كثيرة. ثم ينطفئ، قبل أن
تحترق الحقائق بين أصابعي.
المسكينة الرئة. ألم تتعب بعد من ملاحقة القطران للدم؟ وهذا التكرار الدؤوب
لحركات التنفس، ألم يصيبها أبداً بالملل؟
قلبي يدق على أرتام خماسية، ولا يكل الرقصة ذات الحنين إلى حكمة الجنوب.
أرى أنني لا أساوي شيئاً بدون غناء. وأن معدتي التي تصاب كثيراً هذه الأيام
بتقلصات لا مبرر لها، قد سئمت حشوها بالتفاصيل التي لا فائدة من هضمها.
يهبط وشاح أسود شفاف فجأة هكذا، من السماء. أو من الدور العلوي لإحدى ناطحات
السحاب.. سيان. المهم أنه يهبط صريعاً من هو الجاذبية.
الفلاح الفصيح الذي أحبه، سأطلب من أن يحضر لي دجاجة. وأن يدفعني تحت تهديد
السلاح لأن أذبحها: في هذا الواقع الوحشي الذي يتوعدنا، نحن الأبرياء بحاجة إلى
تجربة سادومازوجية بما يكفي لفصل النزاع بين أفكارنا عن الحق في الوجود، وبين
حقنا ذاته في الوجود.
العائدون إلى باطن الأرض، هل يمضغون جذور النبات قبلنا؟ هل يبعثون إلينا
بالبريد الجيولوجي؟ هل يعرفون أننا هنا نراقبهم ببلاهة من لا يعرف ماذا يفعل
بحياته؟
في الدائرة المحفورة على الجدار الأيسر، خط مستقيم أفقياً يفصل ثلثيها
الفوقيين. على هذا الخط، يتواجه رجلان جالسان. في يدي كل منهما عصاتان برفعانها
كالصليب. الذي الوحيد الذي يجعلني لا أراهما رجلاً واحداً ينظر في المرآة، هو
أن النحات استبدل بالمرآة رموزاً تعني: "عين الخلود لمن ينصت للمغناطيس". كان
الجدار الأيسر أيسراً بالنسبة لي. بالنسبة لموقعي في المكان.
جاؤا بالجرارات وآلات الحفر والتنقيب. رتبوا المشاهد كلها ووقف كل في موقعه
ينتظر لحظة رفع الستار عن مقبرة أثرية تدعو للفخر، أو مقبرة جماعية تدعو للخزي
والهرب من محاكم جرائم الحرب.. هؤلاء الأموات الخبيثون يتحكمون بطريقة موتهم في
مصائر الأحياء من البشر.
صوتك يزعجني
هأنذي جالسة صامتة ، كجندي خسر آخر رهان لديه ، هل تعرف من الجندي؟ إنه الذي
تدفعه الأشياء بلا رحمة ، ليقتل كل الذين تدفعهم كل الأشياء الى الميدان. ثم
يقرب وجوههم من صدره هكذا ويصلي - يا أخي - على أرواحهم . لكنه يبتسم أحيانا
ذلك الجندي عندما يخسر آخر رهان لديه. و لا يبكي مرتميا في حضن امرأته . هل
تعرف لماذا لا يبكي مرتميا في حضن امراته؟ لأنها عادة ما تكون واقفة خلف الباب
تتسمع خطواته، تفتح الباب قبل أن يطرقه ، وتجري عليه، تدفعه خارجا بثقل بكائها
على غيابه. هل تعرف معنى أن يحضر فتحدثه عن غيابه ؟
في الليل سنطل معا من شرفة قطار كجنديين قتل أحدهما الآخر. أقول لك نجوم الأرض
أكثر من نجوم السماء مشيرة الى أعمدة النور ومصابيح المنازل ، لأن الأرض لا تحب
كتمان سر سكانها، أقول لك رأيت بجعة بيضاء تطير مزهوة بجناحيها، لكنك لا تراما
وأنا لا أؤمن بالهلاوس .
هل رأيت الدم من قبل ؟ لونه أحمر، دماء الخراف لزجة. لابد أن الدم البشري لا
يختلف كثيرا. ترى، لو وضعنا مكان وجوهنا ألوان دمائنا، فهل كنت تعرفني؟ جرب
النزول إلى الميدان من الصباح إلى المساء حيث يتدفق مصابو الحرب بأعضائهم
المبتورة المتهدلة كالماء. أحياناً يسمونهم الشحاذين وأحياناً يسمونهم
المجانين. أنا أيضاً لي أسماء عديدة أنادي بها نفسي سراً كتعويذة تعيدني إلى
محارتي حيث أتضخك كلؤلؤة ابتلعت أنواعاً شتى من الجراثيم. هل تعرف أنهم هكذا
يصنعون اللؤلؤ؟ لكنهم لا يقولون ذلك عندما يعرضونه في الفترينات.
أنزل إلى الميدان ودماء الحيض تسيل بين فخذي. لا أحب أن يزعجك هذا. فدماء الحيض
تشبه تماماُ ألوان الدماء الأخرى. لكنها سرية كعوداتي. لهذا أتركها على الأرض
كدليل أني مشيت، وكأثر يدلني عليّ لو أردت التراجع.
الحذاء الذي أرتديه حذاء أختى. فلا تنخدع لو تخطيت به الإشارات الحمراء. اخترته
وحده من صندوق الأمتعة القديمة النازل من خيط عذرية ما قبل زواجها. لا بد أن
هذا الحذاء قد دار في رقصات حلزونية ضاربا الأرض بانفعال حلاوة روح المذعنين
للأشكال الاجتماعية.
أختي تلد طفلا في فبراير، وتمنعني من حمله على قدمي الآثمتين بينما تردد بصوت
هامس أسماء ابتدعتها للنهر أو الاثابة كتمرين على مسؤوليات الأمومة. لكنها لن
تشتهي الورود الحمراء كالدم ، الحمراء الطليقة كالصراخ الحر، والتي تلفظها بطني
الخاوي. الهذا فعلا ينجب الأبناء أحفادا؟ ليجد آباء الأبناء من يحبهم ؟ ليجد
الأبناء ما يهبونه لآبائهم لغفران أيام العقوق الأولى؟
ألم أحك لك حكاية الغزالة يا صغيري؟ كان ياما كان في سالف العصر والأوان -لأن
التاريخ صار من الماضي- كانت هناك صحراء تكدست خبات الرمل فيها لدرجة الاختناق
، وكانت غزالة تائهة تبحث عن قطيعها. قالت للرمل صادقني فأجابها بشرط -في ذلك
العصر كان هناك شيء يدعى صداقة، وكانت مشروطة- بشرط أن تثيري حباتي كلما جريت
فتنفس هكذا قبل الغزالة شرط الاثارة، ومرت أوقات سعيدة حتى أدركت الغزالة
القطيع فالتفتت للوراء، كانت القصة تمرح خلف ظهرها.
لكن الغزالة سرعان ما اكتشفت وضعها كعدد لا يختلف عن غيره فثارت كالرمال راغبة
في التنفس ، عندئذ هلل الصيادون لشرود غزالة ، وانطلقت نافورة من الدم تزين لهم
الميدان . قالت الغزالة لجنين كان في بطنها: "ما الذي يفيدني لو رجعت لي ؟
الناس ترجع الى ربها على كل حال .. سأفرك لك بعضا من البتلات الحمراء. تمنى
أمنية الرمش على الخد باليمين . هل ترى هذه الشجرة ؟ فروعها دموية كالشمس . سر
كهذا لا يجب أن يتقاسمه أكثر من اثنين ، احدهما الشجرة . تقطر من عيني لؤلؤة
كلما رأتها فهل تأخذها ثمنا لحفظ السر؟"
بالأمس حلمت أني دمية على هيئة خروف أحاول تعديل أزرار آلة بحجم جدار في
هيستيريا لأستعيد صورتي، بينما هناك من يحاول أن يركبني متأهبا للحظة الذبح.
أفسدت الحلم حبال من دمي. هل سقطت عليك بعض القطرات؟ صرخت ليوقظني أحد لكن أحدا
لم يوقظني . بنصف صداع ونصف ذاكرة تساءلت أين ذهب الباقون . لم يكن الوقت فجرا
، ولم تكن رؤيا مجرد أضغاث أحلام _ أي الأحلام التي تزج بها الشياطين للناس
فتعذبهم بها _ ماذا فعلت للشياطين ليسوقوا أشيائي ، ويعرضوها على أنوف الكلاب
كلما حاولت الفرار؟ هل تعرف المهانة ؟ أن تضطر لشراء كرامتك بالتقسيط الممل
لأنك لا تملك شراءها دفعة واحدة وتكون غير مقتنع أساسا أنها الى هذه الدرجة
معروضة في الفترينات.
هل تعرف أمي ؟ إنها هنك تغزل بالتريكو بلوفرا لي مثلما كانت تفعل نساء الثورة
الفرنسية ، كل غرزة باسم شهيد تريد أن تنتقم له أو عدو تريد أن تنتقم منه. لا
أعرف إلا أن البلوفر يشغل باسمي. أقول لأمي : "أتركي البلوفر وتحدثي معي "
فترفض لأنها تريد أن تصنع لي بلوفرا ، أقول لها :"أتركي البلوفر وكلي معي"
فترفض لأنها تريد البلوفر أقول لها : "أتركي البلوفر وتعالي نخرج للنزهة "
فترفض . تريد البلوفر لي ولا تريدني لنفسها. هل تعرف كيف يتدفق شعور في الهواء
أنني أحدثها بينما تطبخ أحدثها بينما تنشر الغسيل ، أحدثها بينما يزداد تركيزها
مع فيلم الظهيرة الأجنبي، وعندما يملؤني الصمت ، تقول للضيوف "طبعها صموت منذ
الصغر".
هذه وربة باب عن أمي . لا يمكنني أن أفتح الباب أمحو، ربما تكون نائمة أو نازعة
منديل رأسها أو عارية تقيس كرمشات البطن بعد خمس وعشرين سنة من يوم الولادة .
مسكونة بهاجس التخلص من التاريخ ، تشد الكورسيه وتلعب التمارين الرياضية . أمي
ضئيلة جدا كثقب أسود في الفضاء. كبيرة جدا كثقب أسود في قلب إله . وهذا أمر
خطير. لأنه لو صار قلب إله مهددا، سينتشر في الدنيا فزع شرس من الموت ، بينما
ستزداد الهوة بين قلوب البشر اتساعا هوة سيسقط فيها الملايين على جذور رقابهم،
ويسيل الدم النابت من الجذور متتبعا أقدام المذعورين حتى يلتف حولها كثعبان سام
. يتخشب المذعورون كمن أعدموا بالكهرباء . ولن يكون هناك يشد "الكوبس "
ليعيدنا الى ألعاب الطفولة . أمي طبعا لا تعرف كل هذا لأنها منهمكة في شغل
البلوفر.
ذات ليلة لم يوقظني فيها أحد ظهر لي عزرائيل على هيئة نحلة تريد أن تلسعني كنت
كلما أقترب من جزء من جسمي أنحرف به بيدا. هكذا هوت أبدو للرائي من الخارج مجرد
فتاة ترقص في السرير. بينماعزرائيل يصوب نحوي أحد خدامه. تنين بجلد سميك مرصع
بقشر السمك يجثم على صدري فأغوص في النوم أكثر. هكذا يصبح النهار معجزة وأولد
امرأة أخرى. وأقول لنفسي : مازلت،برغم كل شيء تستطيعين التنفس. أدخن سيجارة
لأتحقق من زفيري. ثم سرعان ما أجهض الصور التي يشكلها الدخان في أركان البيت
قبل أن تباغتني أمي بعودتها من العمل. وأجتهد في الاختباء وسط اللعب. الدمية
تفتح عينيها وتفلقهما لو أدرت أسطوانتها ستضحك ولو قلبتها ستبكي الدمية. تستطيع
أن تمشي وأن تقول بابا وعاما لكنني أتميز عن الدمية بأطراف لا تنخلع مهما
رميتني لأصطدم بالجدران . ثم إني مع كل هذا أستطيع التنفس . لم يأت أحد
ليأخذني من مخزن اللعب . لكنني لم أعد أخشي على جسدي من ترابه المتراكم. أخشي
فقط أن أعطس فينكشف أمري كواحدة من الأربعين حرامي الذين صنعتهم من فضلات قماش
فساتين أمي ليؤنسوا حكاياتي فلا أعود أخاف من الدمى التي تظهر لي في النوم ،
والتي عندما أفتح عيني في الصباح . بنصف صداع ونصف ذاكرة ، تتبعني الى اليقظة
وتستمر في مطاردتي فأصرخ ليوقظني أحد. تقول أمي إنها مجرد ملابس مبعثرة في
الظلام بين الشماعة وأرضية الحجرة . وأنا يزداد يقيني أن العفاريت لا تظهر إلا
لي، فأصنع عفاريت قماش على شاكلتها،لتحاربها من أجلي . لكنني سرعان ما أدركت
ميزة أن يظهر لي عفريت وينتخبني وحدي لرؤيته من دون الآخرين.
حكى لى العفريت أن أهل هذا البيت يهدرون كرامة سبت الغسيل إذ يلقون اليه
بالملابس بعد أن نالوا غرضهم منها. وحكت لي الملابس أنها لا تجد من تتقاسم معا
أحزانها التي بدأت رائحتها تفوح بأهات مكتومة إلا هذا السبت الرقيق. حاولت أن
أصلح بينهما لولا أن الأحذية منعتني. بخبراتها المكتسبة من امتياز النزول الى
الشارع علمتني أنه لا فائدة من محاولة تغيير العالم. حكت لي أنها ذات مرة أعلنت
التمرد على أهل البيت الذين لا يسكتون عن وضع أقدامهم في أفواهها فقادت مسيرة
صامتة مغلقة أفواهها الى الأبد. عندئذ لم يكن من أهل هذا البيت إلا أن القوها
في المخزن حيث فئران كثيرة وتراب يأكل جلدها. هكذا اكتشفت الأحذية أن لأهل هذا
البيت طرقا رادعة للعقاب فاضطرت للخضوع الى رغباتهم المهينة مستسلمة لقانون
تبادل المنفعة، إذ حظيت بعد ذلك بحمامات دورية من الورنيش تعيد اليها فضارتها.
هأنذى أحكي لك عن أشياء ربما لا ترغب في سماعها، لأنها لو بدت لك ستجعلك رقيقا
الى حد الكسر، ولو اعتنقتها ستصبح غير مقبول من قانون الجماعة . لكنني مع ذلك
أستحلفك أن تسمع حكاية الحجرة ولو مرة واحدة في حياتك، قبل أن تغادرها. كل ليلة
كانت الجدران تبكي . لم يكن يحيطها بيت ولا يعلوها سقف أو يقبل شفتها باب،
وكانت ترى في السماء سحابا تبني النجوم لنفسها عليه بيوتا، والمسكينة الجدران
بدأت تنشع ماء من كثرة البكاء وكادت تنهار.
ذات ليلة سقط سقف سهوا من يد النجمة ، وأخذ يصرخ بحركات انتحارية أن يتلقفه
أحد. لما سمعته الجدران راحت وجاءت محاولة أن تثبت في موقع نزوله. حتى تلقفته
على قوائمها. أخذ السقف نفسا عميقا وسألها ما الذي تبغيه لرد الجميل. قالت
الحجرة عين لك علي فتخبرني بصورتي، وعين على السماء تخبرني بها وأتني بنافذة
وباب لأكتمل "سمعا وطاعة" أشار السقف لنافذة وباب فهبطا الىالحجرة.
في الصباح نادى السقف الحجرة أن أنظري طلعت الشمس. ما شكلها؟ كرة من النار تطلق
سهام أشعتها على عيني ونادت النافذة الحجرة أن أنظري يخرج الناس الى العمل ما
شكلهم يتدافعون بعيدا كأنهم يريدون الفرار من أمام عيني ونادى الباب الحجرة
الاّ تنظري فأنت لا ترغبين في النظر. قالت الحجرة صحيح . ليت عيوني هي عينك
التي لا تطل على شيء فتغلقها من أجلي .
في المساء نادى السقف الحجرة أن طلع القمر وأطفاله النجوم. ما شكلهم؟ يتقافزون
مجتازين حواجز السحاب كأنهم يريدون الهبوط نحوي ونادت النافذة أن أنظري عاد
الناس لأحلامهم . ما شكلهم يتقلبون كأحلام في دماغ العمارة وقال الباب للحجرة
يا حجرتي لا تنظري فأنت تتغذين على حرمانك بالنظر صحيح ليت عيوني هي عينك التي
لا تطل على شيء وتغلقها من أجلي.
لم يمنع اكتمال الحجرة بكاءها أتفهمني ؟ ثم إنك هذه الأيام لن تجد بابا كهذا
يجتمع بالسقف والنافذة من وراء الحجرة ليساورهما في سبيل إسعادها. قال السقف
سأرسم من دموعها نجوما وقمرا على وجهتي المطلة عليها لتفرح . وقالت النافذة
سأحرك ظلال البشر على وجهتي المطلة عليها لتفرح .وقالت النافذة سأحرك ظلال
البشر على وجهتي المطلة عليها لتفرح أما الباب فقرر أن يصف لها من الأن فصاعدا
أحلامها في الليل ثم إن الحكاية لم تنته عند هذا الحد.
بَنت عائلة بيتا ألحقت به الحجرة، ففتح الباب عينه التي لا تطل على شيء حتى
ألهته أحداث العائلة عن متابعة الحجرة ، عندئذ قررت الحجرة أن تصيب حواسها
بالعقم فتضامنت معها كل الجمادات وظلت صما، بكما، كفيفة ثابتة في موضعها تكره
الافصاح عن سرها للبشر الفاعلين للأحداث وتنتظر حتى يحل السكون لتمارس حياتها.
تماما كالذين يكتبون في الليل ، عليك أن تصير جمادا لكي تعايشهم . أن تتخلى عن
حواسك كلها لتنفتح عليك أسرار حياة أخرى.. هو شيء يشبه أن تتنازل عن وجودك
للنوم.
أنت ميت الآن . لنقل أنت نائم فالأحلام التي تأسرك لن يتركك السرير معها للأبد،
ثم إنك مازلت تصدر ذلك الصوت الذي يخرج من أنوف النائمين ليبرهنوا به أنهم
عائدون بعد قليل .تحت هذا الأنف سأطبع علامة تستطيع ملامستها علامة تشبه جملة
"حضرت ولم أجدك . أنتظرك على المقهى المقابل للنوم ". وهناك سأتذكر بيني وبين
نفسي كم البلوزة السوداء الذي التمع احتراقا أثناء الكي بوميض فضي. عرفت ساعتها
أن للروح وجودا ملموسا. وبالامارة لونها فضي كم البلوزة مات احتراقا ليخبرني
بهذا السر.
للجدران ميزة الا يردك أحد وأنت نائم إلا بإرادتك . أن تقول له مثلا "انظر لي
وأنا نائم . كيف أبدو؟ هل افتح عيني بلا وعي مني؟ هل أغط في النوم ؟ هل أتقلب
كثيرا؟ هل أخرج ريحا؟ هل أبدو ملاكا لطيفا؟ هكذا تجد من تحدد بصره بوجودك.
فيجيبك بأنك وأنت نائم ، يبدو أنك تملك سريرا.
بالقوة
سأنتزع فرصتي في النوم
على أريكة في أحد الحدائق
وويل لأي شرطي يسألني
عن ورقة غير هذه
تثبت هويتي.
وعندما أستيقظ لا بد للشمس أن تواجهني
وسنرى ساعتها
أينا أكثر وضوحاً في انتماءاته
ويمكنه حقاً من أجلها
أن ينفجر.
|