توت شامي.. يا توت
الإهداء
الصديق الراحل الدكتور
محمود موعد "أبو عماد"
قطرة ندى الصباح
غابت شمسك باكراً
فتركت غصة في القلب لاتمحى أبداً ...
لكن عزائي أنك
الميت.. الحي...
إليك..
جمال جنيد
إعلان
مساءً، وقبل المسلسل التلفزيوني اليومي، توقفت السيارة-كانت سوداء،
لمّاعة، صقيلة، أمام بيت مصطفى- الموظف في مصلحة القطارات.
كانت النجوم تبرق على سطحها الصقيل، وبداخلها القمر، فتاة بيضاء،
فارعة الطول. عيناها خضراوان. وساقاها عاج مصفّى. ونظرتها تكرسح أعتى الرجال.
-السيد مصطفى... موجود!..
تقاطر أولاده ببيجاماتهم المتسخة. المطوطة، يرقصون، ويرقبون.
همهمت زوجته، بفمها الكبير، كلمات غير مفهومة.
ولم تتفوه بكلمة واحدة رغم الهمهمات، وكأن الشلل أصاب لسانها....
ليس مصطفى الذاهل على عجل، واندس في السيارة، إلى جانب القمر، كان
صوت أطفاله مرتفعاً، لكن السيارة ما إن تحركت حتى تقطعت أصواتهم، ثم انقطعت،
كما انقطع مصطفى عن عالمه بلحظات أشبه بالحلم....
- أين ؟!..
لفظ تساءله، وهو يرقب بخجل شديد الحورية الأسطورة إلى جانبه..
كان يفوح منها عطر حالم، أعلن عنه برقة وشفافية على شاشة التلفاز،
لكنه، ولحالته الراهنة. نسي اسمه..
-ستعرف يا مصطفى!..
وغيرَّت بَدَّال السرعة...
تلمست عيناه فخذيها، التماعهما، استدارتهما، نعومتهما، طولهما،
الزغب الأشقر المنتشر عليهما...
شوفاج السيارة يمنحه دفئاً على دفء..
الطريق المشجرة التي رآها عبر أضواء السيارة النافرة، مثل حلم
وأسطورة.
اقتربت السيارة الصقيلة من قصرٍ حجري، مغسول بالأنوار، وفي جهته
الغربية شلال من ماء زلال.
-انزل يا مصطفى!..
وقبل أن تمتد يده لفتح الباب. تقاطرت الصبايا الجميلات. والأنيقات.
يفتحن له الباب ويستقبلنه بالبسمات، لو وزعنها على أهل القبور لنهضوا من
مراقدهم أحياء.
تفرَّس فيهن مندهشاً، كأنه رأى وجوههن من قبل...
سأل واحدة:
-وجهك ليس غريباً علي!..
-نحن فتيات الإعلان!.
يدخل مع الحورية إلى قاعة ملمعة من (بوفالو)...
أحاطت به الحوريات من كل طرف، استحى لأنه كان يرتدي ملابس رثة.
لكنه، حين نظر إلى نفسه وجد أنه قد لبس أرقى أزياء الـ (400)!.
نظر إلى القاعة، بلسان مهدَّلٍ، يقول في نفسه:
-"لابدَّ أنني دخلت هذه القاعة من قبل.. متى؟..متى؟!..... أأنا
أحلم؟!..
يتلمس بزته الجديدة ويكمل:
-"إنها حقيقية.. أنا لا أحلم!..".
في نهاية القاعة، مُدَّت مائدة مفتوحة، مما لذ وطاب، يمتلئ البطن عن
آخره لو تناول المرء من كل صنف لقمة لقمة...
يسيل لعابه..
تنظر إليه الحورية:
-موعد الطعام لم يحن بعد!.
تقوده إلى طاولة عليه ضوء مذَهَّب، وورد قرنفل، أحمر.
كان يشتهي لبس ربطة عنق حمراء، ينظر إلى صدره فيجد أن قميصه الأبيض
تزينه ربطة عنق حمراء..
تجلس القمر إلى جانبه، يحتك فخذها بفخذه، يروح إلى عالم، ويأتي من
عالم...
-مابك يا مصطفى؟!...
-أأنا أحلم؟!..
-تلمسني وستعرف!...
يدها، حرير قز، وعيناها تسبي القلوب...
فجأة، ينزرع الموسيقيون في ركن من القاعة، يتقدم من الميكرفون مغنية
كوجه الشمس، تغني وتتأوه ثم تنصرف..
أكل مصطفى اللحوم المشوية والمقلية، وأنواعاً من الكبب، وأصنافاً من
الحلوى..نسي ما حوله. وهو يأكل بنهم جائع لم يذق طعاماً..
تقول حوريته، وهو غارق في الطعام!..
-هناك عرض إعلاني.. انتبه!.
على البلاط الملمع.. تبدأ البرادات والجلايات والغسالات تركض من
أقصى القاعة إلى أقصاها..
يصفق الحاضرون..
وتأتي الحسناوات. يعرضن الأزياء، وأكياس البطاطا، ولفافات الشعر،
والمنظفات.. و...
تذكر أنه لم يلبس قميصاً أبيض، لكنه يتذكر أنه قبل قليل رأى نفسه
يلبس قميصاً كالضوء حين نظر إلى ربطة عنقه الحمراء.
بطن مصطفى تنتفخ من الطعام، كأنه سم زعاف..
يرى الصبية اثنتين. بل ثلاثة. يميل. إلى قمره الخلاب قائلاً:
-أليس هناك دورة مياه؟!..
-بلى يا حبيبي... في الركن الأيسر هناك!..
يمشي مصطفى مترنحاً...
يشعر بالراحة بعد أن أفرغ مثانته وأمعاءه، في دورة مياه لماعة..
لمّاعة..
يفرك يديه سعيداً، يفكر بالطعام مرة أخرى..
وبالفخذين المزغوبين اللماعين..
يدخل القاعة. لا يجد أحداً؛ لا الناس، ولا الطاولات، ولا الصبايا،
ولا قمرة الأبيض..
يجد فقط. عدة رجال أشداء، في ثياب السهرة. يشيرون إليه، ويركضون
خلفه...
يهرب منهم...
ينظر إلى ثيابه، يجدها ممزقة، يركض ويركض.. حتى بعد أن يتوقف الرجال
ويختفون عن أنظاره،
وأخيراً قرب الحاوية يجد نفسه أمام باب بيته في زاوية الحارة..
الميت الحي
للوهلة الأولى. شعرت أنني لا أصدق ما أرى...
كان منظراً يدني من حافة الخوف، بل من حافة الموت...
لم أكن قد تهيأت نفسياً لهذا المنظر.. قبل ذلك استجمعت رجولة
الثلاثين ربيعاً من عمري، ونزلت قبر عمي المدفون، ولما يتجاوز عمري عشر سنوات،
نزلت قبره، لأواري جثة أخي الأكبر (كمال)....
لو قص عليَّ أحدهم مما رأيت لضحكت عليه..
ولم أكن على استعداد للاكتفاء بذلك، بل لجعلته سخرية الآخرين،
وهمزاتهم ولمزاتهم.. بل وقد أتهمه بالجنون...
حين رأيت ما رأيت. تحجَّر لساني في فمي- نظرت إلى فوق بوجه متحجّر،
حاولت الاستغاثة. لم أستطع حتى الإشارة. كانت الصورة، قد ترسخت في ذهني، حين
سقط الضوء على وجه عمي المدفون منذ عشرين عاماً، ضوء شمس غاربة حمراء ومدمّاه...
وجه عمي حليق، وشعره نظيف لمّاع. وعلى فمه ابتسامة رضى، وكأنه شرب
للتو، قهوة الصباح.
حين نروي مسائل، لايَدَ للعلم بها، نكون في موقف ضعيف، فالناس،
عندئذ، إما ضاحكون أو ساخرون، أو مغرضون، أو يرفعون أنوفهم، وقد بتوا أمرهم...
أما أنت، فإنسان متخلف من العصور الحجرية، وهم، فقط، يحملون على
أكتافهم حضارة القرن الواحد والعشرين.
شعرت. أنني عشت لهذه اللحظة، منذ أمدٍ طويل. كانت مخبوءة في أعماقي،
بدت عينا عمّي نصف المفتوحتين، وكأنهما تنظران إليَّ. عبر زمن العشرين سنة
الماضية، بل عبر عشرين قرناً...
لم أفاجأ بنظراته، ولا بابتسامته الراضية، بل فوجئت بتلك النظرة.
التي مازلت أذكرها قبل عشرين سنة. قبل وفاته بأيام، بساعات، أو بلحظات،
كان وجهه قد غام مثل وجه يلفه الضباب، خلال ذلك الزمن البعيد.
الآن..
عادت إليَّ الحياة الحياة السابقة بكل تفاصيلها...
انحلَّ الضباب، وتوضح الوجه...
بفمه هذا.. كان يقوم بحركات مضحكة...
وبحاجبيه الأسودين الكثين هذين، كان يرقص وجهه، حين يرتفعان
وينخفضان، فيبدوان مثل نصفي دائرتين، قُطِعا من شعره، وألصقا على وجهه. فصارا
طوع أمره...
سمعت أصواتاً من فوق القبر. وكأنها آتية من أعماق الكون:
-لُمْ عظام عمك.. يلاَّ.... عجل.. الشمس ستغرب!.
لم أنتبه إلى الصوت أول الأمر...
لكنه. حين ألح عليَّ، انتبهت أنني وضعت كيس الخيش الذي سألمُّ به
عظام عمي إلى جانبي ونسيته...
أمسكت الكيس، لكنه، أُفلت من يدي..
حين جددت النظر إلى وجه عمي الحليق. تساءلت.. ماذا سألمُّ منه؟!..
هل ألمُّ شعره المصفف اللامع؟!... أم وجهه الحليق...أم ابتسامته
الراضية؟!...
إنه ليس عظاماً...
إنه لحم ودم..
لا ينقصه إلا أن يفتح فمه ويحادثني، يقوم بحركاته المضحكة، يخرج لي
لسانه. ينطط حاجبيه، ويركض خلفي..
قم...
افعل ذلك يا عمي..
عُدْ حياً لأصرخ فيهم قائلاً... عمي حي..
عمي لم يمت.. لقد دفنتم عمي خطأ قبل عشرين عاماً...
ها هو.. انظروا إليه... قم... حادثهم، وينتهي الأمر...
قد يكون أخي هو الآخر حياً.. سنعود جميعاً إلى البيت أحياء..
عندها، يا عمي، ستعود عجلة الزمن إلى الخلف...
حيث الطفولة التي مازالت حية في أعماقنا...
عمي....
لتعد إليك الحياة، لتكن أول إنسان يعود حياً من باطن الأرض بعدما
خرج يونس حياً من بطن الحوت..
قم.. يا عمي...
حادثهم، ذكرهم بحكاياهم السابقة، بنكاتهم، بألمهم، بفرحهم، بفشلهم،
بنجاحهم....
سَلّم على ما تبقى منهم حياً، من أهلك وجيرانك، وانزع عن نفسك هذا
السكون الأبدي. قم...
من أجلي، من أجل أن يقولوا... إن (ربحي) صادق، ولم تتهيأ له تهيؤات
لا وجود لها، بسبب خوفه من النزول إلى القبر...
قم... أرجوك...
كان عقلي يعمل... وأنا أنظر إليه ملّياً، إلى ابتسامته ووجهه
الحليق، وشعره اللّماع...
لم يكن أخي الأكبر (كمال) قد أُنزل القبرُ بعد..
كانوا ينتظرون إشارة مني، كنت أقرفص تارة. وأنهض أخرى، وأنا لا أدري
ماذا أفعل..
نظرت إلى فوق، شعرت أنني مفصول عن الأحياء بمئات السنين..وحين أنظر
إلى وجه عمي أشعر بالراحة والسكينة...
أيمكن أن يحسُّ شخص حي بالهدوء والسكينة مع ميت بدا له حياً؟!..
لابدَّ أن شيئاً فظيعاً قد حدث!...
قد تكون القيامة. وقد تكون العلاقة الحميمة بيني وبين عمي... أو قد
تكون رهبة اللحظة، حين نزلت القبر وحدث ما حدث...
فكرت بالخروج والتخلي عن مهمتي لشخص آخر...
لكن، ما ثناني عن عزمي، هو محبتي القديمة لعمي، التي خبت بفعل
الزمن، مثل ضوء واهن بعيد، وإذا بها الآن يصب فوقها زيت، فتشتعل وتشتعل،
وتتناسل وتتشعّب، تعود الروابط بحبال من حديد، بل من فولاذ، وتشدني إلى تحت.
تربطني به، أتملَّى وجهه قطعة قطعة. وأنسى الوجوه في الأعلى وجهاً وجهاً.
هذا الانفصال، بدا لي تدريجياً، شيئاً ممتعاً، وليس مخيفاً أو
مميتاً، كما ظهر لي منذ المنظر الأول، ورغبت لو أنهم نسوني هنا، وذهبوا، حتى
أستطيع أن أحيا، تلك اللحظة. بتفاصيلها المدهشة.
عشت لحظات، صعبة الوصف...
هذا عمي. غاب زمناً طويلاً، ثم أطل فجأة، بوجهه الصامت؛ وكأنه عاد
من سفر طويل، عاد بعادات وتقاليد مختلفة تماماً، لم يعد يضحك، لم يعد يرفع
حاجبيه، لم يعد يُخرج لي لسانه الأحمر- كأن اللصوص سرقوا فرحه، وعاد صفر
اليدين. لا هو ميت ولا هو حي...
عند هذه النقطة. فكرت بالحياة والموت...
أردت أن أعرّف هاتين الكلمتين. كلمتان متضادتان، كلمتان تتوقف عليها
حركة الإنسان وسكونه، ومع ذلك فما زال الإنسان حائراً أمامهما...
أنا لا أقصد تلك التعريفات القائلة إن الحياة هي صرخة البداية، وإن
الموت هو نفخة الحياة.. أريد كنههما... رائحتهما. الخصيصة الكامنة فيهما،
أريدهما، كما لم يعرفهما شخص آخر..
خرجت من تأملاتي، على صوت من الأعلى، من بعيد، بعيد:
-لماذا لا ترد يا ربحي؟!.
خرج صوتي من صدري:
-ها أنا ألم العظام!..
ومن فوق، ردت أصوات مهمهمة مطمئنة..
أعرفك يا عمي..
في حياتك، كنت ميتاً، وفي موتك ها أنا أراك حياً...
حدثني عنك أبي...
حدثني في ليالي الشتاء الباردة...
بلدتك، مجد الشمس، التي خرجت منها بعد الاحتلال،
أخذتها، بحجارتها، وهوائها، ومائها، وضعتها في عقلك وأسكنتها قلبك،
ولج لسانُك بها..
كنت تتذكر تفاصيل حياتك بها، وأنت تتركها في العشرين من عمرك..
تعيد التفاصيل لولديك وليد و يزيد، ولهدى ابنتك...
تعرض عليهم صوراً قديمة مهترئة، صور بيتك في مجد الشمس، أو مجدل
شمس.. صور التلال والجبال، صور الهواء والماء، وصورتك وأنت تحمل بندقيتك
القديمة، ومفتاحاً قديماً، من نحاس، لبيتك المحتل، كنت تخبئه في عبّك، إلى جانب
دقات قلبك...
تعرض عليهم ذلك، وكأنك تعرض جواهر لا تقدر بثمن...
ولم تكتف بذلك، بل كنت تذهب كثيراً إلى عين التينة.
تقف هناك، وتنظر نحو مجد الشمس، وتسقط دموعك، وفي عينيك غضب دفين..
وذات مرة، أرسلت عن طرق الصليب الأحمر -رسالة إلى مَنْ تعرفهم هناك،
تطلب منهم أسماء الذين مازالوا على قيد الحياة، وأسماء الذين ماتوا، كنت تسأل
عن مجدل شمس بيتاً بيتاً، وحجراً حجراً، وشخصاً شخصاً، كنت تسأل عن حرارتها
ورطوبتها، عن شجرها وثمرها، عن حيواناتها، عن مائها، وعن ترابها...
كنت تسأل عن المواويل والدبكة...
كنت تشعر أنك ميت وأنت حي، وكنت تقول دائماً:
-ليتني ما عشت لأتذكر!.
ولم تدرِ أنك كنت تحيي الزمن الميت، تمنحه اكسير الحياة، وتقدمه
لولديك وابنتك، فأرى ذكرياتك تعيش من خلالهم، كأنهم عاشوا فيها قبل ولادتهم،
صاروا امتداداً لذكرياتك....
وبعد أن قضيت..
مازال أولادك يتحدثون بلسانك.. بعقلك، بعاطفتك، يصفعون بلدتهم
المحتلة التي لم يولدوا فيها، ولم يروها إلا على شاشة التلفاز...
وها هو أخي كمال الذي توفي فجر هذا اليوم.. حيث تصوَّف في معبد
ذكرياتك، يوصي، أن يدفن في قبرك، ولم يكن بالإمكان إلا أن تحترم وصية محتضر...
وأذكر أنني قرأت ما كتبته أواخر حياتك. كانت رسالة طويلة إلى مجهول،
تتحدث فيها عن كل دقيقة عشتها في بلدتك، كما يعيش الرجل البدائي في مكان لا
يستطيع أن يبرحه، في كل سطر تتفجر الكلمات، في كل جملة أرى العذاب يطل بين
الحروف. وفي كل كلمة أرى رجلاً يبني عالماً من ذكريات لا تموت..
قرأت رسالتك مرات ومرات. فكرت في كلماتها وجُملها وأفكارها، انتزعت
من رأسي ذلك الرجل العابث الضاحك أمام طفل، وبدت صورتك في ذهني رجلاً مهيباً،
طاغياً، حقيقياً وإنساناً...
رفعت رأسي، فرأيتهم مازالوا ينتظرون إشارتي بإنزال جثة أخي كمال، لم
أكن أريد إنهاء لقائي مع عمي، بعد غيبة طويلة، حيث سعدت به كما لم أسعد مع شخص
آخر على قيد الحياة.
تأملت عمي، شعره، وجهه، أسنانه، تذكرت ما قرأته عن التحنيط عند
الفراعنة، حفظ الجسد من الرطوبة والجفاف، ورش مواد معنية ليحافظ الجسد على
بقائه...
استعملت أنفي لأشم رائحة معينة، فلم أشم إلا رائحة السكون والتراب..
سألت عمي، وكأنني أسأل رجلاً كامل الحياة:
-هل كنت قديساً أم...
لا أدري.. لِمَ سألت هذا السؤال..
سألته ليجيبني، ليخرجني من لحظة الفراغ الممتدة بين عالم الأحياء
وعالم الأموات...
تلك اللحظة، الفراغ، صنعت الانفصال عن عالم الأحياء. هزته بقوة.
دفعت الهدوء بعيداً، وأحلت محلهما رجفة البداية، رجفة الخوف..
كنت نائماً فاستيقظت..
بدأت أعي ما حولي... كان صمت عمي قد أتلف أعصابي، ورائحة التراب
والعرق المتصبب من جميع أنحاء جسمي..
وضعت كيس الخيش جانباً، وخرجت الكلمات من فمي مبتورة:
-هاتوا جثة كمال!.
أنزلوا الجثة..
مددتها إلى جانب عمي..
نظرت إليهما طويلاً. نظرة فيها ألم وخوف وانتظار وارتجاف ودهشة...
خرجت إلى فوق..
أعماني ضوء الشمس الغاربة...
خرجت إنساناً آخر..
فقط..
تذكرت شيئين....
وجه عمي الذي لم يعد يُمحى من ذاكرتي
وذكرياته عن مجدل شمس، مجد الشمس.. التي أحيته بعد موت..
الدرس
-أخيراً سأصبح معلمة أصيلة!.
قالت لينا لأمها، وهي تكاد تطير من الفرح..
قبلتها أمها... لم يكن لها في الدنيا غيرها. ثم رفعت الأم يديها إلى
السماء تدعو لوحيدتها..
-حضّري الغداء يا أمي.. سأحضّر درساً لن يعطيه أحد قبلي ولن يعطيه
أحد بعدي..
-الله يكون معك!..
تقف لينا أمام طالباتها. زهرات من كل لون، تؤدي الدرس بثقة وفرح.
تصول وتجول على المنصة، تستشف نظرة رضىً في عيني موجه المادة.. و....
-مابك يا لينا!.... لِمَ لا تأكلين؟!.
تأكل بضع لقيمات، ثم تطير إلى غرفتها كالفراشة..
كتاب القراءة أمامها.. النص أمامها.. تتراقص الكلمات أمامها مثل
شموع مضاءة في ليلة عيد الميلاد..
عصفور في قفص، هرم وهو محبوس، وفجأة قرر صاحب العصفور أن يمنحه
حريته...
نظر العصفور إلى صاحبه وتساءل:
-" لماذا أعطيتني حريتي وأنا عجوز.. ومنعتها عني وأنا عصفور صغير
قوي الجناحين أتنقل من شجرة إلى أخرى؟!.. تضع لينا أهداف الدرس..
تسطّر.. كل سطر بلون، ترسم. تكتب، تعتصر معلوماتها التربوية التي
قرأتها والتي سمعتها...
كأنها تركب الآن صهوة جواد أبيض، يسبح بها في سهل فسيح، ينتظرها
سمير وسط السهل مرحباً، ضاحكاً، يتلقفها بيديه القويتين، وتشم رائحته
المميزة...
هذا الصيف موعد الزفاف..
-العرس، بعد أن أصبح معلمة أصيلة!.
ينظر سمير إليها. في نظرته عتب، وفي عينيه هيام..
-أمري لله!.
تدخل أمها..
لم تنتبه إليها إلا حين وضعت كأس الشاي أمامها..
-يكفيك سهراً يا لينا!.
-هذا الدرس هو حياتي يا أمي!.
حين تخرج أمها تغوص في حياة العصفور العجوز....
غداً، تخرج من القفص، يصبح لها كيان خاص، غداً.. تفتح باب القفص،
فتطل الشمس، يطل سمير في بذلة عرسه ماداً لها يديه..
تفكر في كل كلمة تكتبها. تتمثل كلامها أمام تلميذاتها الصغيرات.
ستتوقف في اللحظة المناسبة، وستسير حين يتوجب ذلك، ستضع لوحة أبرية هناك،
وجيبية هنا، وقفصاً وصورة عصفور و....
تستقرئ في وجوه تلميذاتها الفهم والتجاوب..
تنظر إلى موجه المادة، ترى أباها يبتسم لها..
تتنهد..
مات أبوها وهي صغيرة، لم تعرف صورته إلا عبر غبار وغيوم..
دائماً، تراه ينظر إليها بصمت وحنان، في منامها، وفي يقظتها،
أحياناً...
احتضنتها أمها.. ونذرت نفسها لها.. عملت خادمة في المنازل، وعملت في
المعامل.. حتى كبرت ودخلت الوظيفة المؤقتة بعد الشهادة الثانوية..
صوت المنبه يعلن منتصف الليل..
تمسح غرفتها بنظرة سريعة.. الخزانة مغلقة!
ماذا ستلبس غداً؟!... أجمل ثوب عندها.. وحذاءَها الجديد.
لن تركب "الميكرو"، حتى لايدوس الناس على حذائها، ستأخذ سيارة أجرة،
وتصل المدرسة في أبهى حلتها...
تسمع دقات قلبها، أهو الخوف أم الفرح؟!..
هكذا كان يدق قلبها قبل كل امتحان، وهكذا دق حين التقت سمير..
عادت إلى مكانها بعد أن حددت الثوب والحذاء.. أنصتت..
لابدَّ أن أمها الآن في سابع نومة...
طنين سكوت الليل جعل لينا تقف متأملة يومها وغدها..
راجعت مواد الدرس، والبطاقات الملونة، حاولت أن تزيد، لكن التعب غزا
جسدها دفعة واحدة..
أخبرها المنبه أن الساعة هي الثانية صباحاً..
حينئذٍ، ربطت المنبه على السادسة صباحاً..
وما إن وضعت رأسها على الوسادة حتى غرقت في بئر النوم..
صباحاً..
قامت لينا بالخطوات نفسها التي رسمتها البارحة..
وصلت المدرسة، وكأنها تدخلها للمرة الأولى، الصف يرقص فرحاً، وجوه
التلميذات ناضرة ناظرة..
تدخل، ترتب لينا أشياءها، وتنتظر بفارغ الصبر قرع الباب لتستقبل
الموجه، وتعطي درساً ناجحاً مائة في المائة..
وفجأة..
يُقرع الباب، تسرع دقات قلبها، وهي تخف نحو الباب بكامل أناقتها..
تفتح الباب..
تقف المديرة بوجهها الصارم..
-أجّل الموجه حضوره!.
-لماذا؟!...
-لا أدري.. سيأتي في وقت آخر!..
وتختفي المديرة في الردهة..
تعود لينا، متراخية الأوصال.. تجلس على كرسيها منهكة، وتدخل قفص
العصفور العجوز..
فسيفساء
1- القط
الليل زجاج أسود..
القمر غائب..
والجنود مثقلون بالسلاح..
السكوت قبر خلف بيت قريب.
عينان فضيتان لهرة، وشابان، أحدهما يمسّد شعر الهرة الناعم. ويتأبط
أوراقاً باليد الأخرى، أما الآخر فمشغول بربط علبة سردين فارغة، بقطعة حبل
قصيرة. وإلى جانبه كيس ينتفخ بالمؤن...
الصمت غول...
الجندي (إيال):
-متى يطلع الفجر؟!..
-حين تطلع الشمس!..
يتمسك الجندي إيال بالبندقية، كأنها طوق النجاة..
يتابع عميرام:
-اذهب ونم في السيارة مع الآخرين!.
-اللعنة على منع التجول.. هؤلاء العرب لا تعرف من أين يأتون ولا كيف
يختفون!.
حين أضاءت العينان زجاج الليل، ربط الشاب طرف الحبل بذنب الهرة. مسح
على شعرها الناعم. سمع صوت رضاها. ثم همس في أذنها. وهو يضرب على ظهرها ضربة
خفيفة:
-هيا.. يا عنبر!.
فجأة..
انكسر زجاج الليل. وتحول الصمت إلى عفاريت تقفز هنا وهناك.
نهض الجنود النائمون. وقفز قلب (إيال) من صدره وكأنه خرج من فمه.
وسقطت بندقيته المحشوة، فزاد خوفه خوفاً..
تشنجت أصابع عميرام، ولم يستطع حراكاً..
حشرج إيال:
-الملثمون!.
وجرَّ نفسه نحو السيارة. واستعمل عميرام بندقيته عكازاً ليصل
السيارة.
في لمح البصر. اختفت السيارة، وفي لمح البصر اختفى منع التجول..
العينان المضيئتان لعنبر تزرعان الحارة جيئة وذهاباً، وتقهقه الأرض
تحت علبة سردين فارغة على الجنود الهاربين.
قال الشاب الأول لرفيقه:
-هيا!...
نشر الشاب الأول رزمة الأوراق في الحارات المحيطة.
تندد بالاحتلال. ووزع الشاب الثاني المؤن على بيوت الحارة
المحاصرة..
حينئذٍ ، عاد القمر الغائب خلف السحاب، وغطى الأرض بلون فضي. هازماً
زجاج الليل الأسود.
***
2-المسامير
عاد محمد أبو زريعة من حقل البطاطا، حيث يعمل في مزرعة (ميرون).
كانت الشمس قد غطست خلف مخيم (قلنديا). شمال القدس مثل كرة ملتهبة
انطفأت بالماء.
وفي حارات المخيم وأزقته انتشرت الحجارة مثلما تنتشر النجوم في
السماء..
كان أبو زريعة يحمل كيساً من البطاطا على كتفه، ويتجه صوب بيته.
حلقه صحراء، ورجلاه قطعتا حديد، أوقفه أحد الجنود، وطلب منه أن يفتح الكيس...
قال أبو زريعة بلهجة ساخرة:
-هذه بطاطا وليست حجارة!.
حين وضع أبو زريعة كيس البطاطا في صحن الدار.
خرجت زوجته من الغرفة الوحيدة التي ينامان فيها مع أربعة أطفال،
ناتفة خصلات شعرها وهي تصيح:
-حسين يا محمد.. حسين!.
-ماله ابني حسين؟!..
-دخل الجنود الدار وأخذوه!.
جلس محمد أبو زريعة على كيس البطاطا مهدوداً. وعصر رأسه بيديه
المتربتين...
لم ينم تلك الليلة...
ظلَّت عيناه تحدقان في سقف (الزينكو)، ومثل لمعة برق عادت إليه
جملته التي قالها ساخراً للجندي: -هذه بطاطا وليست حجارة!.
ثم قال لنفسه:
-سأترك العمل عند (ميرون)، وأعود إلى مهنتي السابقة، النجارة،
وعاد حنينه إلى المسامير، يضربها بشاكوشه. بقوة. بقوة أكثر. رأس
المسمار ينغرس أيضاً في البطاطا. كما ينغرس في الخشب... آه.. نعم..
في البطاطا. مسامير في البطاطا، أوجع من الحجارة.. نهض صباحاً..
ابتسم في وجه زوجته.. استغربت عدم اهتمامه بما حدث لابنه...
قال لها وكأنه يقرأ أفكارها:
-ابنك حسين واحد من آلاف الشباب في السجن.. لكل واحد منهم أب وأم
وأخوة، نحن مثلهم..
ثم أشار إلى كيس البطاطا:
-لا تطبخي لنا بطاطا هذا اليوم!.. خبئي هذا الكيس تحت السرير. لن
نطبخ بطاطا بعد اليوم!..
حين تكدست أكياس البطاطا حول السرير، ووصلت حتى السقف، اشترى محمد
أبو زريعة كيساً من المسامير الحادة الرؤوس، وبدأ العمل عند آذان العشاء.. عند
الفجر، كانت أكياس البطاطا مكدسة أمام بيت محمد أبو زريعة، الذي أخذ يصرخ
بحاملي الحجارة:
-خذوا يا أخوان.. هذه حجارة جديدة.. هذه حجارة محمد أبو زريعة،
جربوها، ولن تندموا... لن تندموا أبداً!.
هذه المرة..
لم تكن الشمس قد غطست مطفأة بالماء، بل مرَّت. إلى جانبها سحابة
بيضاء شفافة مثل كيس من النايلون. فتشكلت مع أشعتها حبة بطاطا نبتت لها رؤوس
حادة.
***
3- الخوف
الخوف قط له عينان تضيئان الظلام..
الخوف.. غطاء أسود..
الخوف.. قطران يذيب القلب..
الخوف.. عمود في مقدمة سيارة مدججة بالجنود والسلاح.
دخل (يرهميئل) الضابط، مع صديقته المجنده (نوريت) على أحد المختصين
لمواجهة الحجارة والقطط والمسامير.. و.. الخوف..
قال يرهميئل:
-سيدي.. عمود أمام كل سيارة ينقذنا من الحجارة!.
صرخ المختص:
-لعنة الله على الحجارة!.
-سيدي.. الحجر ليس له شكل.. ولا تعرف من أين يأتيك!.
-قل.. ما قصة العمود؟!..
تحدثت (نوريت) التي تعيش في ضاحية (بات رام) جنوب تل أبيب في فيلا
أنيقة...
-نثبت عموداً ثبتت فيه كراسٍ في مقدمة سياراتنا.. ونربط المعتقلين
بهذا العمود.. عندئذٍ..
خبط المختص الطاولة بقبضته، ونهض. وخلع نظارته السوداء، وبرقت
عيناه:
-فكرة جميلة و.. مبدعه!.
كانت الشمس مازالت باردة حين اقتيد المعتقلون ورُبطوا على أعمدة في
مقدمة سيارات الجنود، ودارت السيارات شوارع عين مريك. كفرعين، سلفيت. كفر جمال.
بيت تعمر، الطيبة، قلقيلية، كفر مالك، حي الثوري في القدس، أم التينة، بثير، تل
صرة، عزموط، برقة. حادث، ومخيمات الشويكة، الشاطئ، البريج، الدهيشة، المغازي،
مخيم جنين، طولكرم، الأمعري، قدورة...
أخذ المعتقلون يرسمون بأصابعهم علامة النصر، في مقدمة سيارات
الجنود، وبثت عدسات الصحفيين الصور إلى الوكالات العالمية مرفقة بكلمة واحدة..
الخوف..
وزع الناس المسامير على الطرقات، فأخذت العجلات تنفجر. وينفجر معها
غضب الجنود..
انزوى الضابط (يرهميئل) مع صديقته المجندة (نوريت) . في فيلتها
الأنقية في ضاحية (بات رام) جنوب تل أبيب.
كانا يقضمان أظافرهما. وهما ينامان عاريين إلى جانب بعضهما في سرير
واحد، لأن فكرتهما نشلت خوف (الدولة) من الأعماق إلى السطح...
البحث عن أنثى
هاهو الحظ يبتسم لي....
يبدو لي كالقمر، كشربة ماء في صحراء، كابتسامة في بحر الدموع.. حظي
هذه الليلة قمر بدر مكتمل، مسح ليالي الحرمان الطويلة المظلمة في حياتي.
ليلة معجونة بسحر ابتسامة تلك الفتاة التي تقف في زاوية الملهى.
يلفني الحياء والخجل..
أنظر حولي، حتى لاتكون تلك الابتسامة لغيري، أشير إلى نفسي، فتبتسم
أكثر.
لحظة في مساحة العمر كله، تضعها تلك الأنثى الفالتة دائماً وأبداً
صحراء حياتي..
في الشركة التي أعمل فيه كاتباً في الديوان، أسجل الصادر والوارد،
لم أسجل نظرة إعجاب من فتاة واحدة، رغم أنني أراهُن بالمئات. بل بالآلاف..
أعود إلى البيت.. وأنظر في المرآة.. ما العيب فيَّ؟!.. بشرتي
الخشنة من أثر الجدري، أم أنفي الكبير قليلاً،
أم عيناي الغائرتان...
أدير وجهي عن المرآة، ويقف التساؤل جافاً في حلقي..
أبادل فتاة الملهى ابتسامة، أصوغها غاية في الرقة والنعومة والوله
حتى لا تنفر مني مثل الأخريات. في العمل. أو في ملاهي المدينة، التي أدخلها
بداية كل فصل بعد أن أجمع مبلغاً محترماً يؤهلني دخول بوابات علب الليل...
نعم يا حسن..
ها هي تبتسم لك..
اقتنص هذه الفرصة، وإلا ستبقى شهوراً بل وسنوات، قبل أن تحظى بمثل
هذا الاهتمام من فتاة على ظهر الأرض..
لا أعرف مَن الذي اقترب من الآخر.. أنا أم هي!..
نظرت إليها، نظرت إليَّ..
للمرة الأولى في حياتي يقترب وجهي من وجه فتاة..
صحيح أنها ليست الفتاة، التي كونها خيالي، لكن ابتسامتها ناعمة،
وأسنانها بيضاء..
-أنا حسن الحلو!.
-وأنا سميرة.. يكفي اسمي الأول!.
-تفضلي!.
جلست قبالي على الطاولة..
-نريد أن نخرج أنا.. وأنت!.
قالت بدلال:
-بقي على دوامي ساعة أو أقل قليلاً!..
حين تحدثت إليها طرت فوق السحاب بجناحين من السعادة...
أخيراً ابتسم الحظ يا حسن..
ها هي أنثى حية، تنتظرها غرفتي..
نسيت شكل وجهي وأنفي وعينيَّ..
لست بشعاً، أنا شاب جميل، ولو لم أكن كذلك لما جلست معي..
بدأت الحياة تدب في نفسي بعد أن تراكم عليها غبار الإهمال..
كنت أشعر أنني ميت من الداخل، بارد وعقيم، مجرد حشرة تدب على
الأرض...
الآن..
انتفض المارد داخلي، أنا رجل له كيانه، أطاول السحاب، وأرى الأشياء
بمنظار جديد.
لم تفارق عيناي ساعة يدي.. الساعة التي تفصلني عن مرافقة المرأة هي
الدهر بأكمله..
نصف ساعة..
نصف ساعة إلا خمس دقائق..
ثلث ساعة..
عشر دقائق..
لم أشعر بما حولي..
توقفت أمامي، انتشلتني من بئر عميقة.
-هيا بنا!..
لم أدر كيف أمسكت يدها في ظلام الليل..
جفف هواء الليل عرقي..
حاولت أن أشير لسيارة أجرة..
قالت:
-دعنا نمشِ!.
-المشوار بعيد!.
-ليكن!.
ذات مرة، واعدت إحدى المراجعات التي استجابت لضحكاتي، وبعد أن أنهيت
لها معاملتها، صاعداً هابطاً عدة مرات خمسة طوابق، وهي تلف رجلاً على رجل في
غرفتي. كان مكان الموعد آخر خط المهاجرين، ظللت هناك طوال الليل، يلسعني زمهرير
يقص المسمار، ولم تأتِ، وحين عدت إلى غرفتي. نمت في الفراش أسبوعاً كاملاً،
أعاني من نزلة برد شديدة.
انتشلتني من أفكاري بسؤالها:
-هل تسكن مع أهلك؟!.
-أسكن وحدي.. غرفتي وحيدة مثلي!.
لم أتصور أنني أتحدث إلى امرأة، أسير معها، تكون لي، تشعر برجولتي،
حارقة في لحظات سنين الحرمان الطويلة. بنظرة، أولمسة يد، أو همسة تداعب سكون
الليل.
كانت فتاة سمراء، ذات فم كبير تقريباً، وأنف يميل إلى التفلطح، لكن
جسدها شجرة نخيل عذراء.. كنت أريد سؤالها، عن سبب عملها، لكنني فرملت سؤالي،
لأنها لو لم تكن كذلك لما التقيتها، ولأن البيت ذي الباب المنخفض أطلَّ عليَّ
بوجهه الرمادي.
سبقتها، فتحت باب غرفتي بهدوء. نظرت إلى الغرف المسكونة حول باحة
الدار. كانت الأضواء مطفأة، فغمرتني سعادة سرت في أعصابي.. قلت لها بصوت خفيض:
-ادخلي!.
حين دخلت سمعت وجيب قلبي يعلو في سكون الليل..
قبل ساعات خرجت وأنا على يقين أنن سأعود وحيداً. أرتمي على سريري
غير المرتّب، وأنام حتى ينهق حمار جاري العربجي،
بينما الآن..
تقف أنثى أمامي بلحمها وشحمها، قرب السرير. وأنا على بُعد خطوات
منها..أقترب منها، تمد يديها، وجهها أميرة أحلامي.
وجسدها ينبوع حرماني، قبل أن تمس يداي يديها، أسمع طرقاً خفيفاً على
بابي، تزداد قوة الطرقات، لابدَّ أن القادم يعرف وجودي من الضوء، فتحت الباب،
أطل وجه جاري، دخل دون أن أدعوه..
ودون أن أسأله. قال:
-تقلبت في الفراش.. عبثاً.. جئت أتسّلى معك!.
حين جلس رآها، نظر إليَّ بوجه متسائل، غمزتها..
-هذه، أختي، جاءت من القرية تسجّل في الجامعة!..
ابتسم ببلهٍ قائلاً:
-أين (الشدَّه)؟!.
أردت أن أصرخ في وجهه:
-انهض.. عِفّ عني بقى!..
لكن تعبيرات وجهي تؤيد أعماقي..
-الشِلّة ستأتي بعد قليل.. قلت لهم.. تعال..
اجلس إلى جانبي.. أختك ستصنع لنا الشاي!..
توالوا واحداً إثر الآخر، اصطفوا في صدر الغرفة، نظرت إليهم
كالضائع، ثم أخذ الدم يصعد إلى رأسي وهو يفور، أشارت إليَّ، خرجت، قالت:
-سأذهب!.
-بل هم الذين سيذهبون..
-أرجوك!..
تركتهم ينتظرون الشاي والورق. قلت لها:
-هيا بنا !.
-أين؟!.
-إلى أي مكان!.
أخذ الهواء البارد يلفح وجهي المصاب بالحمى... ثم بدأت قطرات المطر
تلفُّ نفسي فتصنع جدولاً من مياه آسنة، نظرت إليها، كان وجهها متعباً..
تائهاً..
-سأحملك!.
فخذاها الطريان، أو قدا شعلة الحياة من جديد.
وجرت مياه الجدول داخلي نقية صافية...
الشوارع ممطرة وفارغة..
وبداخلي تعجُّ آلاف الكلمات الغاضبة. بئر عميقة تحفر أخاديدها،
تلتهمني الكلمات والأخاديد. فأصحوا على قواي تخور.
أمام عينيَّ شخص يحدق في وجهي في الظلام، استمددت قوة لم أعرف
مصدرها، ركضت بها،، وفي ركن بعيد، أنزلتها، ووقفت، وقلت:
-أليس لك بيت؟!.
-أسكن مع أمي المريضة وأخوتي.. في غرفة واحدة!..
اختلط المطر بهواء صقيعي، أحسست أن المرأة عبء علي، بعد أن كنت
أتصيد السبل كافة من أجل نظرة، ضحكة. لقاء...
مر شريط في ذاكرتي...
إلى أين أذهب؟!...
لا يمكن أن أضيع الفرصة الأولى، وقد تكون الأخيرة في حياتي، مع
امرأة.
عشت في هذه المدينة، سنوات طويلة دون أصدقاء، الأصدقاء يحتاجون إلى
المال، وأنا ليس لي غير راتبي الضئيل، وما أوفره فصلياً. من أجل ساعات، تنقضي
سريعاً في إحدى علب الليل.
هذا الليل الذي لا أعرفه سوى أربع مرات، في العام، ثلاثمائة وواحد
وستون يوماً أنام بعد أن تغطس الشمس في الأفق بساعة أو ساعتين. وأحياناً ألعب
الورق مع جيراني، دون أن أرى قطعة سماء صغيرة أو نجمة، أو إن كان القمر بدراً
أو هلالاً.. ما أبشع الليل!..
اللعنة على مطر المدينة..
في قريتنا كان الناس ينتظرون المطر، يقيمون له صلاة الاستسقاء، أما
هنا فالمطر مياه سوداء في الشوارع والأرصفة، وفي حفائر البلدية.
استندت على جدار حديقة..
خطرت لي فكرة..
شددت سميرة من يدها الباردة.. لم يكن من صوت في الحديقة إلا الليل
والأشجار وصوت المطر..
دخلنا غرفة الحارس..
هدأ وجيب قلبي..
جسدان مبللان..
أنفاسها الحارة القريبة أوقدت الدفء في أوصالي..
مددت يديَّ لأضمها..
كانت غرفة الحارس دافئة. حسبت أنه تركها وذهب لينام في بيته، في هذه
الليلة المطيرة.
حين اقتربت العينان.. انفتح الباب..
فوجئ الحارس بنا، بهت صامتاً..
ملصنا من تحت جسده، حين ابتعدنا عن الحديقة، انهالت لعناته بعد أن
انحلت عقدة لسانه من هول الصدمة..
وقفنا نلهث أمام بناية مهجورة..
قالت سميرة:
-خذ نقودك.. دعني أعد إلى بيتي!.
-هذه البناية مهجورة.. تعالي!..
-والبرد!..
شددتها من يدها..
حين هممنا بالدخول، برز لنا كلب، كأن الأرض انشقت عنه، نبح وهمر بعد
أن تفاجأ، واستعد للوثوب، ولم ندر كيف قطعنا الشارع وأختبأنا خلف إحدى
الجدران...
للحقيقة...
لم أعد أشعر بشيء تجاه المرأة التي كنت أمني النفس بها وكأنها نهر
من عسل..
أمسكتها من يدها..
-تعالي!..
قالت بمرارة وتعب:
-إلى أين؟!..
-سأوصلك إلى بيتك!..
حين غيَّبها باب بيتها، غابت أحلام الفصول الأربعة، ازداد المطر
انهماراً..
ركضت مبللاً بالعرق والماء البارد..
لا لأبحث عن أنثى هذه المرة، بل لأبحث عن نفسي من جديد..
ستالايت
ظهراً.. تفتت الراتب إلى شظايا. كنت قد عزمت منذ بداية الشهر على
شراء حذاء شعبي، لكنني لم أمشِ خطوة خارج البيت، إلا وتبخرت أحلامي في حذاء
يقي قدميَّ تراب الشوارع ومياهها الآسنة.
نظرت إلى زوجتي ضئيلة الجمال والجسم، والتي لم أستطع أن أحوز غيرها،
لضيق ذات اليد، وإلى أولادي الخمسة الذين يقفزون على الأثاث القديم مثل قرود
إفريقية.
فهمت نظرتي، تحركت شفتاها الغليظتان:
-معلش يا علي... ستشتري حذاءك الشهر القادم!....
أدرت وجهي...
تناولت سترتي القديمة عن المشجب الكالح، وألقيت نظرة بانورامية على
الغرفة الوحيدة المستأجرة. والتي دخلت بسببها مع مالكها إلى مخفر الشرطة أكثر
من عشر مرات...
مسحت نظرتي زوجتي وأولادي، وابتلعت رضابي المر.
طالعتني الصورة المتآكلة لأبي، احترت ماذا أفعل... الآن، وفي
المستقبل، توقفت، جلست، ثم نهضت.
سرت نحو الباب، ودون أن أتكلم بكلمة، مشيت دون هدف، فارغ الجيوب كما
خلقتني أمي..
قبل ساعتين كنت أمشي لهدف، بعد أن سكن الراتب الكسيح جيبي مسافة
الطريق، فقط. بين المدرسة والبيت..
-علي.. يا علي!.
صحوت من حلم مزعج على صوت أعرفه..
نظرت خلفي..
كان الأستاذ (رياض) أستاذ الرياضيات، في المدرسة التي أعمل فيها...
توقفت..
اقترب مني بكرشه، ودفتره الباهت الذي لا يفارق إبطه، وياقة قميصه
المتسخة...
-ماذا تفعل هنا؟!..
-سألني لا هثاً!..
-أتمشى.. دون هدف.. وأنت؟!..
-عندي طالب وطالبة بكالوريا في تلك البناية!..
وأشار إلى بناية مدّت طولها في الفضاء الباهت. ومن سطحها أطلت صحون
بيضاء تفتح فمها للفضاء.
توقف الأستاذ رياض، ينظر إليَّ تارة، وإلى البناية المرتفعة تارة
أخرى.. ثم مشى مبتعداً، بعد أن رفع يده محيياً..
قطعت الشارع ببطء، لم أكن أعرف أن هناك شارعاً جانبياً، ستطل منه
سيارة (دايو) بيضاء جديدة، بدت لي عزرائيل يلبس عباءة بيضاء.
جاء ليستل روحي ويخلصني من تعاستي..
عندئذ..
توقفت وسط الشارع مستسلماً لقدري، بدت اللحظات عمراً كاملاً، اقتربت
السيارة واقتربت. أغمضت عينيَّ كي لا أرى موتي..
وبعنف، توقفت السيارة مصدرة عجلاتها صوتاً كالعويل.. على بعد خطوة
واحدة مني..
سمعت الباب يفتح..
وقع خطوات حذاء جديد على بلاط الرصيف. تقترب مني. قبل أن أفتح
عَيْنيَّ، وأنظر إلى عينيَّ الرجل المحدق بي..
كان وجهاً مألوفاً، لفحتني حرارة أنفاسه، وهو يسألني:
-هل أصابك مكروه؟!.
-يا ليت!.
خرج التمني مني بيأس..
-انهض!...
ولم أكن أنهض إلا وبدت دهشة تمثلت بلفظ لم يكلمه...
-أنت!...
سبقته..
-أسامة.. أنت أسامة!..
بلا مقدمات، احتضني كأنني طفله الصغير..
-تعال.. تعال!..
وساقني إلى الحمامة البيضاء، وحين دخلتها انتقلت إلى عالم رخي
ومخملي..
جلس صديقي القديم خلف عجلة القيادة، وانطلق كالريح..
-لابدَّ أنك وجدت كنزاً!.
ضحك أسامة عن أسنان بيضاء، قائلاً:
-عهد الكنوز ولَّى. سافرت. وجمعت ثروة، ومنذ شهرين عدت!..
قلت:
-اختصار الحياة!..
أذكر الغرفة التي سكنّاها سوياً، بعد خروجنا من قريتنا الخضراء، إلى
المدينة الإسمنتية، بعد نيلنا الثانوية العامة..
كانت أسامة يتحرَّق شوقاً للسفر، ويحثني عليه.. أما أنا فلم أعرا
لأمر بالاً!..
-مدة طويلة لم أرك فيها!..
-عشرون سنة!..
-كأنها أيام!..
-هذه هي الحياة!..
توقفت السيارة أمام فيلا من حجر أبيض. على سطحها صحن أبيض مقعَّر
يفغر فاه نحو الفضاء..
-انزل.. وصلنا!..
حين دخلت الصالون الفسيح، تلمست أثاثاً وبلاطاً وكريستالاً من عالم
آخر. تلمست حُلماً، تلمست خيالاً محموماً..
انفردت أعضاء جسم أسامة على أريكة واسعة. قطعة قطعة... بعد أن وضع
مفاتيح الحمامة البيضاء على طرابيزة مذهبة..
قال:
-هه... أين أنت يا رجل؟!..
-أنا تحت.. تحت بكثير!..
-ماذا؟!.
-أنت فوق.. وأنا تحت!..
-أنا سافرت!.
-وأنا لم أتجاوز حدود مدينتي!..
نهض أسامة، غاب خلف ستارة حريرية. ظهر خادم يحمل صحون الطعام الفضية
والمذهبة، وضعها على طاولة طعام تتسع لحارة بأكملها..
-تفضل!.
أكلت دسماً لم أتناوله منذ أشهر.. وشربت شاياً وعصيراً وقهوة..
-ماذا تعمل هناك؟!.
-أعمل هناك كما تعمل أنت هنا.... موظف بسيط.. أعلّم الأطفال اللغة
والأخلاق!..
رددت الكلمة الأخيرة..
-أخلاق..
-لم أصدقه..
نظرت إلى عينيه. كانتا باهتتين، لا تحملان أي معنى..
-ألم تنسني؟!..
-ماذا لو صدمتك ومت!..
-سيان... أنا ميت!..
نهض أسامة.. أمسك بعلبة سوداء تشبه علبة كبريت كبيرة، ضغط على زر
فيها، وهو يقول:
-أتريد أن ترى أمريكا.. إنها أمامك!..
رأيت نساءً كالحليب بالمايوهات. شطآن من أحلام، رمال من ذهب، بدلات،
ربطات عنق فاخرة، أيدز، عطور، دماء، شعور مصقولة، وجوه حليقة. ومبان من زجاج
ورخام، وأحذية لمّاعة..
تذكرت حذائي الشعبي الذي لم أستطع شراءه..
-إيطاليا على الخطّ!
زلزال آخر من الأحلام..
ضغط على زر آخر...
ظهر (هنتر) في مسلسله البوليسي وهو يصطاد، ببرودة أعصاب، رجلاً من
أعلى بناية، ليسقط مصطدماً رأسه الأرض.. في أخبار أوروبا، عجوز من البوسنة،
وعجوز من فلسطين. يأكل الحزن وجهيهما، ينظران إلى بيتهما المحترق والمتهدم،
ورجل آخر يعانق ابنه الذي غاب عنه طويلاً، عمر بأكمله، عبر حائط أو سلك شائك
كأنه نهاية الدنيا...
عروض أزياء لنساء صُبَّت من بلاستيك..
دبابات تقصف القرى، طائرات أمريكية تصعد وتهبط من حافلات طائرات على
شكل الغول...
فوضى من الأشكال والألوان والأجساد واللغات.. فوضى العالم المرتّب،
وترتيب العالم الفوضوي.. دماء وشرور، ودمار وقوة وجنس... و...
أظلمت الشاشة الفضائية فجأة، اختفى العالم كما ظهر. وضع أسامة جهاز
علبة الكبريت على ظهر التلفاز، ونظر إلى ساعته متثائباً.
-الساعة الثانية ليلاً.
-سرقنا الوقت!.
-بل قل سرقتك أجساد النساء!..
خطوت نحو الباب، شعرت أنه سيتناول عن الطرابيزة المذهبة الزجاجية
مفاتيح الحمامة البيضاء، ويقول لي:
-سأوصلك!..
لكنني بالمقابل سمعته يقول:
-علي.. أغلق الباب خلفك.. سأراك!..
وتمطّى متثائباً مرة أخرى على كرسيه الوثير.
بدا هواء الفجر المبكّر ندياً، لم أكن أدري أين أنا..
لم أنم تلك الليلة..
تمرغت نساء العالم الجميلات بالطين، داس الأطفال على الدبابات،
تحركت الجثث، في شوارع المدينة بعد أن دبَّت الأرواح فيها، وتعلقت طائرات
كالوطاويط على أغصان الأشجار..
صباحاً..
أخذت النار تأكل داخلي، سقط كأس الشاي من يدي في غرفة المعلمين،
وبخني المدير على التلكؤ للدخول إلى الحصة، سقطت على الأرض حين دفعني أحد
الطلاب، جلست، أخذت الصور تتالى أمامي..
نساء، حاملات، طائرات، جثث، قصور، جواسيس، فنادق، سباقات، كرة قدم،
مصانع، شطآن، موائد عامرة...
أخبرت المدير بمرضي، أعطاني، إذناً إدارياً، خرجت إلى الشمس، واتجهت
أبحث عن الشارع الذي وجدني فيه صديقي أسامة، مشيت تحت الشمس، بحثت عن الصحن
المستدير، الفاغر الفم النحو الفضاء...
قال لي: "محطات العالم تفتح ليلاً نهاراً.."..
لايكلون ولا يملون.. دائماً متهيؤون، أنيقون، متحفزون، جميلون...
بحثت وبحثت، أخذت حرارة الشمس أيار تصدع رأسي، وقفت أسترد أنفاسي،
وإذا بصحن أبيض يطل من فوق بناية. ركضت كالمجنون، طرقت أبوابها، لم يعرفني أحد.
ولم أتعرّف على أحد...
خرجت..
لم أشعر بالجوع، جوعي كان أن أرى مالم أره في حياتي كلها. وقد رأيته
بلحظات. تلك اللحظات هي كل شيء. أرى وأحلم. وأنا على كرسي وثير.. غربت الشمس
وأنا أسير..
تمطى القمر في السماء وأنا أبحث...
أخذت الشوارع تخلو. وأنا أترنح من رصيف إلى آخر..
صرخت في شارع فارغ:
-ستالايت!
وعاد الصدى باهتاً.. أجوف...
تمددت على كرسي في حديقة عامة، نمت قليلاً، رأيت في الحُلم أنني
أرقص مع النساء، البارعات الجمال. ألبس أرقى الأزياء، أدخن أفخر التبوغ، آكل
أشهى الأطعمة. ثم أدخل قصري المتلألئ بالأضواء، كملك الحكايا، تستقبلني زوجة
شقراء، أتجه معها إلى فراش واسع وثير....
نهضت...
مخدر الجسم، حين لسعتني برودة المساء..
كررت المحاولة. في اليوم التالي....
سرت في شارع طويل. فإذا أنا خارج المدينة. على الطريق الدولي، أمامي
فضاء واسع، أبحث فيه عن الأقمار الصناعية...
توت شامي ... يا توت
-القصة الفائزة بجائزة تشجيعية في مسابقة البعث للقصة القصيرة
صعد الأخوان مجد وخالد على إحدى أشجار التوت الشامي اليابسة في
الحقل المجاور لفناء البيت، أحدهما في الجهة الشرقية، والآخر في الجهة الغربية:
ثم بدأ حديثهما:
-أترى ما أرى؟!...
-أبوك يجلس تحت الشجرة مثل مشلول!..
-وشاهر يتأمل سكينه الصدئة!..
-والسماء ابتلعت غيومها!..
-والأرض تشققت!.
-جارنا الجندي يحمل سلاحه!..
-وجارنا صاحب الكتاب يحمل كتابه بحرص!..
-أمك تغسل كعادتها!..
-من أين جلبت الماء؟!
-كالعادة، من الساقية قرب البيت المهجور، على أطراف البلدة!...
-تحت الشجرة تسكب الماء!.
-!!!.
الشمس حصان جامح في سماء شاحبة، السكون برعم ينمو، والعيون وميض
مترقب... تقول الأم:
-انزلا!.
قال خالد متعجباً:
-سنأكل!.
قال مجد:
- سنأكل ونشرب!..
لم يتحرك الأب الضخم الجثة، الشائب الشعر، الواسع العينين...
تقول الأم بتأفف:
-انهض يا رجل.. اتسخت بماء الغسيل!.
ينهض الأب بتثاقل. يرفع عينيه نحو السماء. السماء صحراء. والشجرة
هيكل عظمي..
-حلَّت علينا اللعنة.. حلَّت علينا اللعنة!..
-اذهب وفتِّش عن حل!.
-ألا تكفين عن سكب الماء القذر؟!..
-هذه قذارتك!.
قال خالد:
- أنصعد ريثما تنتهيان من الشتائم؟!..
-اخرس يا ولد!..
يصيح مجد مثلما كان يفعل أبوه:
- توت شامي.. أطفئ عطشك يا عطشان!.
ينظر الأب بعينيه الواسعتين. إلى أشجار التوت اليابسة، مصدر رزقه.
التي جفّت ليلةَ قسمت صاعقة راعي البلدة إلى نصفين، وهو عائد بغنمه. ومنذ ذلك
الوقت، صار أبو مجد يجلس تحت أشجاره ليل نهار. عدَّ النجوم. رأى القمر هلالاً
وبدراً.
والشمس صفراء وحمراء ومتوهجة، وعلى أغصان أشجار التوت، عدّ ولداه
الطيور المهاجرة والقادمة، وأضواء البيوت على سفح قاسيون بيتاً بيتاً.
قالت الأم بنزق:
- عجّلاً لأغسل الصحون!
- ألا تكفين عن الغسيل؟!.
- النظافة من الإيمان!
- لماذا رائحة ثيابك عفنة؟!
- ياعيب الشوم!!.
ويرحل خياله..
توت شامي.. توت لخدود الصبايا الوردية... توت للفقراء.. توت
للمتعبين.. توت للمحبين.. توت للأطفال.. توت للناس البسطاء..
يتعب تفكيره..
يغفو بعد الطعام..
يرى رجلاً شعره أغصان، عيناه عينا صقر. جلده توتة حمراء، يقوده رجال
مسلحون إلى ساحة الإعدام، يسير الرجل بهدوء، بنادق الرجال قصيرة وطويلة، وجوههم
صارمة، المقصلة مصنوعة من حديد بارد، شفرتها صدئة، وثمة عليها ندبٌ مليئة
بالدم..
- سنقتلك.. تكلم!..
- ستموتون أنتم!..
أوراق التوت لامعة خضراء، الرأس يسقط، يتدحرج التوت الدامي، التوتة
الواحدة تنمو، تصبح شجرة، غابة من الأشجار، الأغصان تلتف حول الرجال المسلّحين.
وأسلحتهم، ومع المدى، يضيع صوت الرجال وقعقعة السلاح..
ينهض..
يستند إلى جذع إحدى الأشجار خائر القوى...
يقول مجد بلهفة:
- أبي. هاهو جارنا المهندس صاحب الكتاب يعود إلى بيته!..
ثمة كتاب، غلافه بنفسجي، يحمله جارهم المهندس، حين يذهب صباحاً إلى
عمله، ويعود ظهراً، وعادة يزورهم مساءً، يتحدث بصوت منخفض، يسأل باهتمام كبير
عن أشجار التوت، ثم يقترب منها، واحدة واحدة، يتفحّص ترابها، يفركه براحته،
يهزُّ رأسه، ثم يلقي تحية المساء ويذهب..
بعد هنيهة، قال مجد:
- أبي.. جارنا الجندي يدخل بيته، نصل سلاحه يلمح تحت الشمس، وجهة
توتة طازجة، جسده قوي كجذع شجرة...
- والشمس!!.
-!!....
- الشمس كرة شاحبة، تفكّر بأغصان الأشجار اليابسة، تستحي من لهيب
أشعتها، أراها مغمضة عينيها، وتسير متثاقلة..
صراخ ممطوط في الشارع، ينغرز غصن جاف في خاصرة مجد..
الوجع سكين حادة، والصراخ مطاردة في الأزقة..
يسأل الاب:
- أما يزال شاهر يطارد ولده المشلول؟!
يرد خالد بينما مجد يتوجَّع:
- السكين الصدئة في كفه، ابنه المشلول يزحف مسرعاً، شاهر يشتم
اليوم الذي رأى ابنه فيه. هاهو يصل إليه، يرفسه، يبصق عليه، السكين الصدئة تسقط
من يده، تضيع في التراب، يزحف ابنه نحو البيت، بينما يبحث أبوه عن سكينه..
يقول الأب يتأفف:
- اتركنا من سيرته!.
أشجار التوت باقات من أغصان جافة، القمر يسقط خلالها، يتشقق مثل
الأرض العطشى.. يدخل صاحب الكتاب:
- مساء الخير يا أبا محمد!.
- أستاذنا الكريم.. تعال إلى جانبي.. انظر إلى القمر المكسور!.
- كل شيء سيكون على مايرام!.
يتجول بين أشجار التوت الشامي، يقلّب التراب، كعادته، بين يديه،
يدخل الجندي، يلقي تحية المساء، تدب القوة في الأب، يتجهان صوب صاحب الكتاب،
حربة البندقية يلمع نصلها تحت ضوء القمر، كما لمع نهاراً تحت أشعة الشمس.
يقول الجندي، بينما يشد على بندقيته:
- تحسُّ أن أشجار العالم تموت حين تموت أشجار أبي مجد!..
يتابع المهندس، صاحب الكتاب في الاتجاه نفسه:
- نحس في شراب توت أبي مجد الذي لم نشربه منذ سنوات، أن الأرض
تسقينا كما سقيناها في معاركنا الكثيرة...
ثم يضيف وكأنه يلفظ كلماته الأخيرة:
- إذا لم تخضر أوراق التوت في شهر آذار القادم فلن تخضر أبداً..
يجف ريق أبي محمد، كما جفَّ ترابه. يلمع النصل تحت الضوء الفضي..
- لماذا؟!.
- إذا لم تبرعم الأشجار في شهر آذار، فإنها لن تبرعم أبداً..
أبداً..
يقول الجندي:
- لن يهددك شاهر مرة أخرى..
ويخرجان...
يبقى الأب تائهاً.. يفترش تراب أشجاره، الذي كثيراً ماسقطت قطرات
عرقه فوقه. وينام مجد وخالد على الأغصان اليابسة، مثل عصفورين تعبا بعد أن بحثا
كثيراً عن عشيهما..
ودون مقدمات..
نساء يركضن، وفي عيونهن خوف.. العرق على جباههن، الشمس فوق رؤوسهن،
لحاء شفاههن مشقق، رجال يبرزون من مغائر معتمة، في أيديهم مُدىً صدئة. من بينهم
شاهر، عيناه محارتا حقد، فمه مغارة قاتمة، ولسانه شراع صدئ، أنفاس الرجال عاصفة
سوداء، وأنفاس النساء رائحة الأرض حين تشرب ماء المطر...
في أيدي الرجال أقمشة سوداء سميكة.. تقترب من وجوه النسوة، تغيب
الشمس والسماء الزرقاء والهواء..
الشهيق والزفير حياة وموت، الأنف والفم ديك ذبيح، أذرع وأرجل فوق
الأنوف والأفواه، وفوق هذا وذاك الهواء والشمس والقمر الشاحب، والطيور المهاجرة
والآيبة.
يصحو،
امرأته تغسل وتسكب الماء تحت أشجار التوت، يقول بتأفف:
- أوه... في الليل أيضاً تسكبين الماء الوسخ!.
- وسخك!.
- وقحة!.
- ستوقظ الولدين!
- القمر المكسور اختفى!..
تقول امرأته:
- انهض ونم في فراشك!.
- حين ماتت أشجاري مات نومي.. الفراش وسخ!.
- غسلته البارحة!.
- اتسخ من يديك!.
تغسل يديها المليئتين بالصابون، عيناها تبرقان، في أعلى الشجرة
بومة، عيناها مستديرتان.. تقول الزوجة:
- كفانا الله شرك!.
- أنا!.
- بل البومة!.
- ألا تكفين عن هذيانك؟!.
- ألا تكف عن مصاحبة صاحب الكتاب والجندي؟!.
- أفضل من ابن عمك شاهر الخامل!.
- الإنسان العاطل عن العمل لابدّ له من أن يصطاد العصافير!.
- لم يبحث عن عمل!.
- بل بحث!..
- متى؟! والناس نيام!.
- أف.. منك!.
- لاشيء عندكِ!..
- لماذا تزوجتني؟!.
-لأنك امرأة!.
- ادخل ونم.. فراشك دافئ! .
- منذ زمن لم تبرعم الأغصان!.
- مجد.. خالد.. انزلا!.
تمتد امرأته غصناً جافاً، ضوءاً خافتاً، بقايا رماد نار اتقدت ثم
خمدت فجأة..
- لم تعد تنفع!.
- أنت شجرة جافة!.
وضم الأب راحة يده وبسطها، أمامه سهول تسيل فيها الدماء، دماء مثل
شراب التوت. دم الأرض، شراب الدم، دم الشراب، توت شامي ياتوت. تنهمر دموعه،
جدولان يُغرقان الخدين، النساء عجائز كلهن، الأرض صحراء، الأطفال غرقى في
الرمال، الأضرحة تلفظ موتاها، التوت مسامير حادة الرؤوس، السماء وجه شاحب،
الهواء بلا هواء، يضم راحته ويغفو قبل أن تجف دموعه..
صباحاً.. طرق الباب، الملح في فمه، الجندي وصاحب الكتاب وجهان من
ياسمين، ابتدرهما!
- لا تؤاخذاني.. كنت نائماً!.
الجندي يقف أمام الباب، تعانق أشعة الشمس الصباحية، سبطانة
البندقية، تشع السبطانة خطوطاً من نور تذهب في الفضاء، تغوص في الأرض، تلتقي مع
بريق العيون..
يقول صاحب الكتاب بحسرة:
- رغم أنني مهندس زراعي فما أزال أجلس خلف مكتب، ثم أضاف:
- قضية شجرات التوت الشامي هي امتحان لمهنتي وشرفي!.
يفرك التراب، زوجة أبي مجد تقف أمام الباب.. في التراب رائحة
عفونة، أنا أعرف رائحة التراب.. التراب مطر، شمس، خبز..
- متى؟!..
- قَرُبَ الفَرج، فقط تعاون معنا..
يرى شاهر حين عاد من قريته، بعد أن باع أرضه، أشجار من رمان وجوز
وتين وسهل أخضر من قمح، تحولت إلى نقود قليلة في يد شاهر..
يسأله:
- لماذا بعت أرضك؟!.
- لا دخل لك!.
- لا فائدة منك!.
ثم طلق امرأته، فأصيب ابنه بشلل الأطفال، وتزوج من فتاة هربت منه في
اليوم التالي، بعد أن لحق بها بسكينه الصدئة...
قرب الباب فأس مثلومة، ألقى عليها صاحب الكتاب نظرة استغراب، وسأل:
- لماذا؟!.
- مثلومة.. تركتها منذ زمن!.
- اسقها عند الحداد أبي علي.. حيث نسقي سيوف مجاهدينا!.
- لم أخرج منذ زمن!.
- بل ستخرج من أجل أشجارك وشرابك!..
حين أخذ الفأس بيده، أحسَّ أن ضرباتها قد عادت، والأرض غرّدت،
والسماء أمطرت، تحركت شفاه الأرض مبتسمة حين شربت..
تسأله زوجه بتوسل، حين رأته يحمل الفأس، ووجهه متوهج..
- أرجوك لا دخل لك بشاهر.. اتركه.. لا تقتله!..
- أنا لا أقتل أحداً.. سأسقي الفأس لتعيش أشجاري!.
الحديد جمر؛ احمراره مثل شراب التوت. ضربات المطرقة نبضات قلب
الأرض العطشى، عينا أبي مجد تصوران المشهد بحماسة شديدة..
الفأس الجديدة صديق قديم، عاد بعد غيبة طويلة، فتجددت العلاقة،
فأرضت حرارة اللقاء المشاعر، فضحكت السماء..
غيمة بعيدة في الأفق، تشبه وجه شيخ أو فأس أو كتاب أو بندقية، غيمة
مُزنة، تستطيع أن تفترش السماء، وأن تبلغ مياهها أعماق الأرض.. يركن الفأس قرب
أشجار التوت، يهرول مجد، ويلمس نصلها الحاد، أبو مجد يسمع الأرض تقول..
- "أهلاً بالفأس!!"!.
صراخ حاد في الشارع، صراخ المشلول ابن شاهر:
- أبي نهر دم.. أبي نهر دم!!..
تهرول الأقدام صوب البيت، السكين الصدئة قطعت شرايين اليد، بركة
دماء سوداء تحت شاهر، غرق في الموت، العينان جامدتان، الشفتان تنفرجان عن
ابتسامة باهتة، يتوقف الدم، يتجمد، تدخل أشعة الشمس من النافذة المفتوحة، يغيب
صوت المشلول في الحارات حين تنقل السيارة جثة شاهر إلى المستشفى..
يعود صاحب الكتاب مبكراً على غير عادته، ينظر إلى السماء تارة، وإلى
الأرض تارة أخرى، ثم يقول بلهفة لأبي مجد:
- الأرض تنتظر الفأس.. السماء ستمطر!..
- وآذار!.
- لن يخذلنا!..
- لم تنهض امرأتي من فراشها اليوم.. مرضت على أخيها شاهر.. هل رأيت
الغيمة؟!..
- رأيتها!!..
- انتحر شاهر!..
- كبرت الغيمة!.
الفأس تقلّب التراب، سيارة الإسعاف تغيب مثل طاعون، العرق يتصبب من
جبهة أبي مجد لأول مرة منذ فترة طويلة، الشمس تلعب مع العصافير، خالد ومجد
يقلبان التراب، صاحب الكتاب يقرأ في كتابه. وينظر إلى السماء مرة، وإلى الأرض
مرة أخرى..
دود الأرض يتلوى، يموت حين تلمسه أشعة الشمس..
- توت شامي..ياتوت!..
ويضرب الأرض.. تهتز الأغصان، ترقص، أشعة آذار دفء، مطر، عمل، ثقافة،
انبعاث..
تنبعث الأرض، تتجدد،
تنبعث الغيوم، تتجدد..
والفأس تحرث الأرض يوماً وليلة دون كلل..
تخلّى القمر عن تشققه، وغاب خلف الغيمة، وتعطر الهواء برائحة الأرض
التي تنفست..
يوم جاء شاهر ليقتل أبا مجد بسكينه الصدئة، حين شهرّ به بعد أن باع
أرضه، لمع نصل سلاح الجندي، فهرب شاهر. وهو يسبّ ويلعن، وبقي ثلاثة أيام يدخّن
دون أن يخرج من بيته..
- اغسلي، منذ الآن، في الحمّام.. أفهمت؟!..
أمر أبو مجد زوجه بصوت جديد صارم..
- حاضر!..
- الأرض تعفنت من ماء غسيلك!.
- كنت أسقي الأشجار!..
- التوت الشامي لا يشرب سوى الماء النقي!.
بعد الغداء ، يغفو أبو مجد..
امرأة جميلة، شعرها أحمر كالتوت، عيناها سوداوان، غيمة من السماء
تسقيها، وساقية في الأرض تغسل قدميها..
نظرتها ورقة خضراء، شفتاها دم التوت. وضحكتها سماء زرقاء، في رقبتها
سلسلة في نهايتها فأس صغيرة، الغيمة تضحك، المرأة تضحك، الساقية تصبح نهراً
وسمكاً..
ينهض أبو مجد على صوت صاحب الكتاب..
- الأشجار برعمت..
صوت كفرح المطر...
- آذار برعم!..
- توت شامي.. ياتوت!..
توت للمتعبين، لخدود الصبايا، للعطشانين، للفقراء، توت لكل الناس..
لكل الناس.. توت شامي ياتوت..
وتقترب الغيمة..
ويسقط مطر آذار...
المطعم
(كلوا
من طيبات ما رزقناكم)
قرآن كريم
ترجّل الرجل الضخم الأنيق من سيارة الشبح، برفقة تمثال شمعي ساحر
على شكل امرأة، فتح الباب الخلفي لسيارته، نزل منه كلب رمادي ضخم، هزّ ذيله،
وتدلّى لسانه، وهو ينظر نحو صاحبه، كمجرفة حمراء.. تقاطر نُدُلُ المطعم نحو
السيارة، فتحوا الباب على مصراعيه، وتهيأ صاحبه لاستقبال زبونه الدسم.. توجهت
الأعين نحو المكان المعتاد إلى جانب النافذة، حيث يجلس الرجل الضخم الأنيق مع
تمثاله..
مسح الرجل على رأس كلبه، وتركه خارجاً، فتوجه الكلب مقعياً تحت
النافذة..
سحبت الأيدي كرسي الزبون المدسم، وكرسي المرأة الساحرة، لتحظى
بإكرامية سخية.
بدايةً، وكالعادة، حمل نادل أنيق طبقاً فضياً، ملآن بقطع لحم الضأن
مع العظام، الواحدة منها بحجم قبضة اليد.
ألقى الرجل الضخم الأنيق، نظرة على مافي الطبق من لحم شهي وعظام،
ونظر النادل نظرة ذات معنى، فابتسم النادل ابتسامة دبلوماسية وعاد وهو يخفض
رأسه، ثم خرج من باب المطعم، ووضع الطبق الأنيق الفضي أمام الكلب، ثم بدت أسنان
الرجل المزروعة، وهو يبتسم لتمثاله، بينما يفكر بكلبه، يلتهم، باطمئنان، لحم
الضأن مع عظامها، وصوت تنفسه الذي اعتقد أنه يسمعه، كالعادة، ليشير إلى راحة
نفسية تتضافر مع شبعه.
تبادل الرجل مع صديقته كلمات شاعرية رومانسية، على صوت موسيقا هادئة
خفيفة، تصدر من أرجاء المطعم، وبدا وجهه حينذاك، يفيض حيوية واطمئناناً.
لم يسمع همهمة كلبه كالعادة، حين يشبع، فعزا ذلك إلى أصوات
السيارات، خارج المطعم ذي النجوم الستة.
بعد الطعام، بعد الأصناف بألوان، والألوان بروائح تثير الشهية، نهض
الرجل، أمسك بيد صديقته، ركض نُدل المطعم فسحبوا الكرسيين بهدوء زائد..
جميعُ ندل المطعم فتحو الباب، وكأنهم يفتحون باب قفص وحش هائج..
هجم الكلب نحو بطة رِجْل صديقة الرجل الناعمة الطرية.
سحبه الرجل بقوة حصان. من جنزيره المذهَّب.. بوجه غاضب كقرصان،
وتوقف ندل المطعم بوجه الكلب الهائج، وقلوبهم تتسرّع خوفاً..
استكان الكلب لوجه القرصان الغاضب، وعاد هادئاً في المقعد الخلفي،
والشبح تنهب الأرض نحو عيادة الطبيب الخاص..
قال الطبيب للرجل:
- لو لم تحضرها بهذه السرعة، لسرى فيها داء الكَلَب!..
- كلبي لا يعض وهو شبعان!..
نظرت الساحرة، بعد إبرة الطبيب إلى الغرفة الأخرى بخوف شديد،
والتصقت بصديقها الضخم.. سأل الطبيب بوجه خجول:
- أليس لديه كلبة؟!..
دهش الرجل لهذا السؤال، لكنه أجاب:
- عنده كلبة سمينة هجينة، شعرها ناعم. اشتريتها له بألف دولار!
لكنه.. لكنه لا يحبها!..
انفرد الطبيب بالكلب في الغرفة الأخرى، ثم خرج قائلاً:
- الكلب جائع!..
دهش الرجل وهو يقول:
- كلبي لا يجوع!..
بعد أيام، وبعد أن اتبع الرجل أساليب الاقناع كافة، وبعد أن وضع
لجاماً على فم كلبه، قبلت الصديقة الرقيقة، وجود الكلب داخل السيارة معها...
حين وقفت السيارة أمام باب المطعم، ركض صاحبه ببذلته السوداء
الغالية الثمن وياقته البيضاء و(بابيونه)، خافض الرأس أمام زبونه السخي، واستمع
إلى بضعة كلمات قصيرة، ومشدّده ونهائية..
هزَّ صاحب المطعم رأسه باحترام، وأشار بيده، فركض النُدُلُ، وأحاطوا
به، هزوا رؤوسهم، ونظروا إلى الخارج حيث يقف الكلب تحت النافذة.
بدت الدهشة على زُبُن المطعم،وقد فقدوا الخدمة بدخول الرجل. مع
تمثاله الأشقر الساحر..
حين خرج النادل بطبقه الفضي. ووضعه أمام الكلب، وعاد إلى الداخل،
راقبت عينا نادل كالصقر، من نافذة عليا، كيف يتناول الكلب طعامه..
قبل أن يضع الكلب فمه على الطبق الفضي، تقدم أشباح بأجسام هزيلة،
لاذوا بالجدران خلسةً، ترافقهم كلبة عظامها بارزة، لحق الكلب الرمادي الضخم
بالكلبة الهزيلة، وقد تدلّى لسانه كالمجرفة، وخرجت أنفاسه حارّة كهواء فُرن..
تناولت الأيدي المعروقة الطبق الفضي، وكأنه مائدة من السماء، وسكبت
مافيه في قصعة مقشرة الحواف..
استمع صاحب المطعم باهتمام إلى تقرير من عيني الصقر الذي راقب
الحدث..
لمعت عينا صاحب المطعم بخبث ذئب، وكأنه اكتشف كنزاً دفيناً، وأشار
بيده للنُدُلُ، حيث أحاطوا الأشباح، بلمح البصر، من أمامهم وخلفهم...
ترك الأشباح قطع اللحم والعظام، وكأنهم تركوا أرواحهم، وانسحبوا
يائسين، مع كلبتهم الهزيلة، وكأنهم انسحبوا من معركة الحياة، ولم تتابعهم في
هزيمتهم سوى عيني الكلب الضخم بلهفة وحزن..
رُمي مافي القصعة المقشرة الحواف في حاوية المطعم الداخلية، ورميت
فارغة إلى جانب الرصيف، خلف الأشباح. فأصدرت صوتاً محتجاً. ثم سكنت على فمها.
أما الكلب الحزين، فقد قُدّمت له قطع أخرى مع العظام، لم يأكل منها شيئاً،
واستكان مقعياً على يديه على الرصيف...
اتخذت ترتيبات أمام المطعم، بالاتفاق مع البلدية، سُوّر الرصيف أمام
النافذة، بسلاسل مذهبة، وفَرَزَ صاحب المطعم نادلاً أنيقاً بملابس المطعم
الرسمية.
نظر الرجل الضخم الأنيق نظرة ذات معنى، نظرة رضىً واطمئنان، إلى
النادل الذي يقف باحترام أمام كلبه، وتبادل ابتسامة لها معنى، مع صديقته
التمثال. بينما أخذ روّاد المطعم، ينظرون باشمئزاز لما يجري، أو بدهشة بسبب
غرابة الموقف..
راقب الأشباح ببطون جائعة، مع كلبتهم الهزيلة، مايجري من بعيد، كانت
عيونهم محمّرة غاضبة، كجمرٍ تحت الرماد..
السر
لن أروي لكم قصة.. بل سأفشي لكم سِرَّاً..
أعتقد أنكم انتبهتم، انفتحت عيونكم، وتلهفت قلوبكم، وتحفزت حواسكم،
ونما فيكم إنسان متطفل، يلهث وراء الأسرار...
عذراً.. لكنه الواقع..
هل أبدأ؟!..
إذن استمعوا لما أقول..
ولكن.. أنت هناك، لِمَ تنظر إليَّ هكذا وكأنّكَ لا تصدقني، أقسم أن
عندي سِرّاً، بل أسراراً. ستتحدث فيه الألسنة الحمراء والجافة، الثرثارة وغير
الثرثارة.
لاشكَّ أنكم تؤمنون معي، أن السر صندوق مخبوء في خفايا النفس. في
وديانها وشعابها، حيث آبار البترول التي لم تجعلني راغد العيش، مع أنني أملك
صكاً بملكيتها..
إذن.. دعوني أُخرج هذا السر من صناديق الأعماق، حيث أرّقني وقتاً
وزماناً، وفكّرت طويلاً. قبل البوح به..
قررت أن أكون كتاباً مفتوحاً، عارضتني زوجتي، ولم يفهم أولادي
مايجري، لكنني قررتُ الانشطار..
لا.. لا.. لا أستطيع إفضاء سري إذا كانت تلك الفتاتان تتهامسان
عليَّ، وكأنني أسمعهما تقولان، وماذا يهمنا سرُّك الشخصي، الأسرار الشخصية، لا
تهمنا بشيء، تدغدغ شعورنا للحظات، ثم تنطفئ الدغدغة، بانتهاء آخر كلمة تفشيها
من سرك.
صحيح أن سري هو سِرٌّ شخصي، لكنه يهم الأحياء والأموات، ليس أحياء
عالمنا العربي، المليء بالأسرار والخفايا والخفافيش، بل الأحياء الذين يدبون
على استدارة الكرة الأرضية، أما الأموات، فأنا أراهم وقد اجتمع معهم، في مكتبي،
وأمام بيتي ، ومابين سطور صحيفتي...
لنعد إلى السر.. اسمعوا وعُوا..
تمنيت يوماً مالو لم يكن لي رأس، نعم.. هذه الفكرة الصبيانية
راودتني، ضحكت لها، وعليها في سرّي وتساءلت، إذا كنت بلا رأس، كيف أرى وأسمع؟!.
كيف أشم وأتذوق؟!....
صدقاً، فرحت لهذه الفكرة، لكي لا يبرد رأسي من برودة الأفكار
والمشاعر حولي.. ولكي لا ترى عيناي شقاءنا وترفهم على الشاشات الفضائية، ولكي
لا أسمع خبر استنساخي بلا روح..
عذراً.. أثقلت عليكم، وشغلتكم بأمور لا علاقة لها بالسر..
قد يكون مَنْ تحدثه نفسه بالخروج، بحثاً عن هواء منعش، خارج هذه
القاعة، ولكن ليبق لأكمل مابدأته..
قالت لي زوجتي، ذات يوم، أنت بلا قلب، قلت لها:
- وأنت بلا عقل..
وطوال تلك الليلة، فكرت في العقل والقلب، وتوصلت إلى أن أغلى
مايملكه الإنسان هو سِر شقائه وعذابه..
أنت هناك..
يبدو أنك لست معي في هذا.. الأذن تعشق قبل العين أحياناً.. من وجهة
نظر بشّار، هذه حقيقة. لكنني تعلمت أن العين وماتراه قد صمّت الأذن عن كل
حقيقة..
عفواً.. نتحدث عن العشق ونترك الأسرار النازفة دماً في آبار النفس..
أنت هناك.. ألا تصدق أنها نازفة؟!..
صدّق أن حمّالة ثدي بيعت بثلاث ملايين دولار، وهنالك شعوب بأكملها
تموت جوعاً..
سأقول لك أمراً لا تقله لأحد.. قد تضحك من الألم.. وقد نعشق لأننا
نكره، وقد نموت لأننا نحب الحياة..
أسمع همسات بأنني أضيع وقتكم، أتلاعب بالألفاظـ، وأدّعي الأسرار،
وكل ما أقوله مجرد رصف كلمات جوفاء، لا معنى لها، مثل بشر فقدوا الأمل
بالحياة..
أقول..
تمددت يوماً تحت الشمس، كانت الشمس قريبة من وجهي، تحولت إلى مارد
مسلوب الإرادة، لم يحقق لنفسه الأمنيات التي حققها لعلاء الدين.. حطَّ الذباب
كالغربان، عيناه تحدّت قوتي المسلوبة، وأجنحته الضعيفة، غطّت وجه الشمس، وأرجله
بدت لي كأشجار سنديان..
أكنت أحلم؟!..
وحتى لا تفهمون الأمور على غير ماهي عليه. فإن الأحلام ليست
أسراراً..
أنتَ هناك، وأنتِ أيضاً..
للحق أشعر أنني أثرثر، ولكن، حين تعرفون السر، تصيبكم صعقة
المفاجأة، تتمنون عندها لو انتبهتم لما أقول..
وأرجو أن تحبوا كلماتي.. كما أحببت أن أودعكم سرّي..
أتعرفون.. أنني نهضت ذات يوم، ليس ببعيد، فوجدتُ طائرة تحوم في
غرفتي، كان بيتي مغلقاً تماماً..
ظننت في البداية، أنني أحلم، كما أحلم كل يوم، لكنني نهضتُ، ورأيتُ
نفسي في المرآة، وأمسكتُ النافذة المغلقة، فوجدتُ الشمس حبيسة غيمة مخططة، لها
إحدى وخمسون عيناً كعيون الضباع في ليلة باردة
زنّ محرك الطائرة أمام وجهي، حاولت إمساك الطائرة، لكنها كانت تفلتُ
من بين أصابعي، صالت الطائرة، وجالت في غرفتي، ألقت قنابلها على فراش الزوجية،
بعد أن التقطت له آلاف الصور. ثم قصفت طعامي وخبزي، وشوَّهت أولادي النائمين.
ثم ألقت ماتبقى معها على كتبي ودفاتري ولفافة تبغي، على صورة بلدي،
على صورة زواجي المعلقة على الجدار، ثم طارت فوق رأسي وشطرتني إلى نصفين.
في الصباح، صنع ابني طائرة ورقية، لم تقوَ على الطيران، فكوَّرها
ورماها في زاوية الغرفة. نعم.. كما تفكرون الآن تماماً.. نحن نصنع الأسرار ونحن
نصدقها..
تمنيتُ ألا أجلب لكم سِرّاً يؤرق نفوسكم الصافية..
تمنيتُ أن أجلب لكم شجرة، قمحاً، كتاباً في الحب.. كلمات من شعر
المتبني، أحلام الذين دفنت أسرارهم معهم، أولئك الذين ماتوا في الحرب، وأولئك
الذين ماتوا قهراً..
لكنني، حملتُ سري معي، وجئت إليكم، قد أكون قلته وقد لا أكون..
لهذا...
لستم الآن بحاجة إليه، لم يعد سرّي يفيدكم، ... أويُرضى فضولكم..
اعتمدتُ على فهمكم وانتباهكم..
وبعدماقلت ماقلت.. أصبحتُ رجلاً بلا أسرار..
سوزان التي رحلت
- الراحل محمد فتحي جنيد
قبل حلول الصيف بأيام، جاء علماء الآثار إلى منطقتنا. جاؤوا بسيارات
لاندروفر ورانج روفر، يحملون أدواتهم الاستكشافية في حقائب صنعت من البلاستيك
أو الحديد اللامع، ليبحثوا في التلة المشرفة على قريتنا..
تداخلت الحارات السكنية بعضها ببعض، وكانت الطرقات قد شقّت حديثاً،
ورصفت بالحصى، وغطيت بالزفت الحار، كانت الأرض لا تعطي رائحة الأرض المميزة.
ولكنها كانت تسبب ضجراً مفاجئاً في القلوب. طوال أيام عديدة..
وكنتُ. إذ تمايلت الأغصان، في أصيل الأيام الحارة، وقت أن كانت
الطرقات تراباً، أتسلق حائط دارنا سماوية الباحة، عن طريق أزدرخرت قديمة،
وأنطلق في ذلك الممر الذي نمت فيه بأعداد كبيرة أشجار الزيتون وأعواد القصب.
كان ذلك في طفولتي، ثم انحدر في الممر، على مافي الأرض من أشواق، إلى البئر
التي تروي الأراضي ماحولها..
كنتُ أنظر إلى مرآة الماء، إلى الجمع الذي يطلق أغنياته الطويلة
المملوءة بالآهات، أما في أيام الشتاء، عندما أكون مختبئاً في تجويف شجرة ميتة،
عندما تغلف الغيوم الأرضية الليل الأسود. وينتشر الضباب القادم من الجبال فوق
الهضاب، كنت أصغي كالمأخوذ، إلى غناء المطر المنطلق من آلاف الضفادع المنتشرة
في الحقول وعلى حواف البئر، كان الغناء متواصلاً، كأنه فرد واحد يجدد صوته آلاف
المرات في نفسٍ واحدٍ...
وبعد سنوات، افتتحت مدرسة، وحضر جمع غفير من مناطق مختلفة، من
بُصرى وتدمر وأوغاريت وايبلا.. يحملون فؤوسهم، وذات يوم، فتحت عيني مدهوشاً،
على تلك الأرض التي استحالت ركاماً لأغصان الزيتون، وأعواد الغار، ولم يبق من
الحياة في الحقل، من جهة الممر إلى البئر، وإلى الجنوب، إلا الأعشاب الصفراء
التي كانت تعاني سكرات الموت وغصاتها، وعلى الرغم من أن الحشرات والضفادع لم
تهاجر كلياً إلى أرض ثانية، إلا أن نشاطها قلَّ، وساد الهواء المثقل بالزفرات..
نشيد المعارك القديم المنطلق من فم المذياع..
وجاورتنا عائلة، كأن رجلها قصيراً ملفوح الوجه، هاجر من الناصرة
وطنه الأول. إلى دمشق ومعه كيس نقود كبير. ومع أنه حمل الفأس وحطم أشجار
الزيتون، ليبنى بيته، وقضى على أغنيات الشتاء، إلا أنه كان رجلاً مهيباً، رغم
اختلافه عنا بالدين، وكانت له ابنة تسمّى سوزان..
وفي الحقيقة، فإن صداقتي بسوزان، لم تقتصر فقط على تبادل القبل
خِلْسَةً، وراء صخور وأحجار البناء، بل تعدّت كذلك إلى المشاجرات والضرب
المبرّح أحياناً، وإلى تأنيب الضمير، كل ذلك كان في الطفولة.
أما في أيام الشباب، فقد حدثت المعجزة في الصيف. وكان ثمن بيض
الدجاج منخفض القيمة، وكل أنفاسنا ملوثة بالطعام، حينما هبط رجلان من عربة لا
ندروفر وذهبا إلى أقصى الحي، فتبعهم أطفال الحي الصغار، والشيوخ المسنين، بسط
الرجلان متراً من القماش على عرض الشارع، وقاسا مساحة تعادل خمسين متراً
مربعاً، إن ماحدث بعد ذلك، لم يكن بحسبان أحد، كما أنه لم تشيّد الأعمدة في
مكانها، ولم تُزَل البيوت المحيطة بذلك البناء، حتى الصيف المتأخر الثاني، من
ذلك الصيف، حتى ظهر الأفق..
لقد استمرت أعمال الحفر طوال الصيف، وطوال الشتاء، ثم حَلّت مواسم
الأعياد للطائفتين، وجاء ميخائيل مع سوزان وأنطوانيت لزيارة منزلنا في العيد..
- اسمعي ياسوزان.. أريدك مساء اليوم!
همستُ في أذنها أثناء دخولها، كانت الكهرباء مطفأة، جلسنا أمام
المائدة، كانت أمي في المطبخ، تعد شطائر الحلوى والشاي.
قال ميخائيل:
- عيد مبارك، سوف يكون العام القادم، أجمل الأعوام..
قالت أنطوانيت:
- تلك الأعمدة والنقوش التي ظهرت!..
قال ميخائيل:
- لا تنسي المعبد الذي سوف يتم نقله إلى المتحف!
يقولون إن القدماء كانوا يقدمون فيه الأضاحي في مواسم القحط التي
تحل بالبلاد، كانت النذور من أولاد الفلاحين..
تجشأ أبي الملتف بعباءه صوفية، وراح ينفث الدخان فوق القنديل، نقل
بصره بين أمي وأنطوانيت:
قالت أمي:
- كانوا عندنا يقطعون آذان المجرمين في الأعياد، حتى يستطيع الناس
العيش بسلام..
قال أبي:
- قصي علينا واقعة من تلك الوقائع!..
تحوّل ميخائيل ببصره نحوي، ثم وضع أصبعيه على ذقنه، قالت أنطوانيت:
- إنكم تحرقون البخور، فالليلة مباركة!..
قالت أمي:
- عاشت جدتي مائة وعشرين عاماً وشاهدت الملائكة!..
بسطت سوزان ذراعيها وبدأت تضحك، أطلق أبي صفيراً طويلاً، ابتسم
ميخائيل، قالت أمي:
- ذات ليلة، نمت إلى جانبها، فشاهدتها تغطي عينيها بكفيها، وتصرخ
قائلة: ياملائكة الله، هذا نوركم، ياملائكة الله، هذا ضياؤكم.. فصحوت مفزوعة
وأنا أرتعش. وزحفت لصق الجدار مبتعدة عنها، وسمعت تحرك اللعاب داخل بلعومها.
كأنها تزدرد الطعام، وبعد قليل، قالت في همس خافت: الشكر لله والحمد لله، شبعت
والله...
وزعت أمي قطع الكعك الدسم، وكانت كؤوس الشاي على المائدة، نهضت وسرت
خارج الحجرة، وأجلت بصري في السماء السوداء المثقلة بالنجوم، كانت أصوات
الأطفال، تتلاشى مع آخر يوم في العيد، ولم يبق من الليل إلا السمر البطيء
والضجر والملل..
قالت أنطوانيت:
- تعال وتناول حصتك يابني!.
قلت:
- سأقابل صديقاً في الطريق!.
كانت سوزان تتكلم هي الأخرى، عما حققه علماء الآثار، وعلّق أبي
قائلاً بأن الدنيا جميلة، دون الآثار.
صعدت الطريق الترابية التي هشمتها مطارق الرجال، كانت الأرض لينة
طرية، مشبعة بالماء، ووصلت الفجوة التي انبعث منها الضياء إلى الأعلى، حيث
يأكل الرجال والمهندسون. كان الأطفال يركضون خلال الحفر المظلمة، يلعبون لعبة
الاستخفاء، تقدمت من الأطلال التي أعادوها إلى الوجود، في شغف كالأسطورة، ورحت
أتكلم مغمض العينين، لم أمنع شعوراً كالجنس بالسيطرة على مشاعري. فالعيد في
ذهني، عيد غرائز تحترق..
سرت إلى الجهة المقابلة، وهناك انضممت إلى الرفاق، الذين قدموا لي
أسماء الغرباء، وأشعلنا اللفافات، ورحنا نضحك بصوت مرتفع، جلس قاسم على عتبة
البيت المهشمة، وقال:
- الجميع يحبون الحصان الأبيض.. مابكم؟!.. إني أتكلم بجد!..
مرت فتاتان مضمختان بالعطر، قدموا إليهن السجائر، وانزوينا قربَ
الحائط، نرقبهما، قالت إحداهن:
- غريبتان.. ماذا هنالك!؟..
قال عادل:
- إنهما ذاهبتان إلى المعبد، لتساعدا الرجال في أعمالهم الحسابية...
قالت الأخرى:
ويتطلب الأمر إحياء حفلة راقصة!..
قال عوض:
- ومن يكون الموسيقي غيري؟!..
قالت الفتاة ضاحكة:
- لا موسيقى ياعزيزي!.
انطلقنا بعد حين، فانفرط العقد، عدت أدراجي إلى المنزل، كان أبي
يسعل في منديل طويل جداً يصل حتى الأرض...
وأنطوانيت منهمكة بالحديث مع أمي: بينما جلست سوزان تقلّب الجرائد
على ضوء الكهرباء، حين عاد التيار..
جلستُ في ركن بعيد صامتاً، سألت أنطوانيت:
- كيف حال توفيق؟!.. إنه لا يتجسس مثلك على أخبارنا!..
قالت أمي:
- ألا تصدقين ماقلته؟!..
قالت أنطوانيت موجهة الحديث إلي:
- سمعتُ رجلاً يقول إن توفيق باع بضاعته، وسوف يعود بين الحين
والآخر، تاجر ناجح مجيد.
قالت سوزان:
- تاجر جوّال يسلك كل الطرق ليبيع بضاعته!..
قالت أنطوانيت:
- تجارة مجيدة، أما كلام الكتب فإنه لطيف المعشر، نيء النتيجة، هل
حضرت زوجه لزيارتكم؟!..
قالت أمي:
- لم تزرنا منذ سافر المرة الأخيرة..
ذهب أبو توفيق وأحضر الصبيّ ساعة من الزمن، أثناء انصرافهم، أعدت
على أذن سوزان الجملة نفسها، وكنتُ عند الباب فلمست مؤخرتها بإصبعين مرتعشين،
مازال ملمس الطراوة أشعر به، ثم انكببت أكتب:
في رنة صدرها قفاز...
جلد يشبه الفضة..
لأن قلبي كان يهوي
في أعماق صدري..
ليس بمقدور أحد أن يرى..
أو يسمع عن حبّي..
أما الحقيقة فإننا نكذب
على أنفسنا..
لأن المرج، عبر الشارع
أوفي المسرح ليس رقصاً،
إنه ألم يشبه الرحيل..
كما هو الحال في الانتقال
من الربيع إلى الصيف
ومن الصيف إلى الخريف...
طوال الليل، كنتُ أعبث بسوزان، ألمس عينيها بالإبهام، تلك العين
الكبيرة ذات الحجر الأسود، أشد أسفل ذقنها، أقّبِل شفتيها، صحوت في منتصف
الليل، على صوت مزمار، أعقبته سلسلة من الضحكات، ثم اختفى الصوت، نهضت من
الفراش مبللاً بالعرق، واندفعت خارج الحجرة، إلى الحمّام، صحا أبي فأيقظ أمي من
نومها، حضرت تلمس براحتها وجهي متسائلة:
- ماهذه الرائحة النتنة؟!.
- اذهبي بعيداً!.
صرخت غاضباً أبتلع الماء وأصبه فوق المغسلة، دثرتني بمعطفها الصوفي،
وقادتني إلى السرير حيث أوصتني بالجلوس قليلاً قبل النوم، ثم عادت بعد أن غسلت
الحمام، تحمل أعواد البعثران. قالت:
- مصها!.
قرأت آيات من القرآن فوق رأسي.. ونفخت أنفاساً باردة قائلة:
- والآن.. كيف حالك؟!..
- بخير حال.. أذهبي للنوم!.
***
تبعث سوزان حتى مشارف السوق، أمسكت ذراعها صاحت:
- أتركني.. ماذا تريد مني؟!.. إنك شرير!
- سوزان.. أنا أريدك.. هذا كل مافي الأمر.!.
- وقح!.
- لم نبدأ بعد.. سوف نذهب للسينما!..
- أبي يمنعني من صحبتك!..
- لن يعرف أين تذهبين.. وحتى لو عرف فلن يهتم!.
- قل.. ماذا تريد؟!.
- ألم تعرفي بعد؟!.. سوف أعصرك كالإسفنجة!.
-.. ياقليل الحياء!.
انفلتت مبتعدة، خارجة من السوق، فوجدت يدي في الهواء تتعقبها، عدت
أدراجي فجلست أعزف المزيكا في باحة الدار، ونظرتُ في المرآة متفرساً في ملامحي،
عصر الألم خلجات نفسي، في اليوم نفسه زرت زوج أخي، جلست على المقعد الذي كان
يحتلُّه توفيق، منتظراً مجيء دلال، جاء الصبي وراح يلاعبني بالكرات الزجاجية
على سجاد الغرفة.
قالت دلال أثناء دخولها:
- كل عيد وأنت سالم!.. كيف حال أمك؟!.
نهضتُ عن السجادة، ورجعتُ إلى مقعدي، وجلستُ دقيقة حائراً، حتى
قالت:
- لقد أوصاني توفيق ألا أستقبل أحداً حتى يعود!.
قلت:
- إنني أخوهُ وأنت زوج أخي وأنا عم هذا الصبي!.
أسبلت جفنيها وقالت:
- هذا قول زوجي لا قولي! .
انطلقتُ عبر الشوارع، ركبتُ "الأتوبيس" إلى الجسر، حدقت إلى النهر
الأخضر، ابتعتُ تذكرة سينما، ثم حضرتُ فيلم الحصان الأبيض، عدتُ في ساعة
متأخرة، كان الظلام والسكون يلف الشوارع، كانت سوزان في مدخل الحارة تقف في
الظلام، تنتظرني.
نهضت قائلة بصوت منخفض:
- انتظرت طويلاً يانوّار!
- سوزان!.
- أعتذر عما بدر مني.. سامحني يانوّار!.
- سوزان.. تعالي هناك..
استسلمت لعناقي، وأنا أجذبها من ساعديها إلى الحفرة، كانت ترتعش
هامسة في أذني:
- يجب أن أعود يانُوّار!..
لففت يدي حول سوزان وجذبتها إلى صدري، وخطونا إلى الأمام، إلى
الأعمدة الطويلة القديمة، نلمس الكتابات الأبجدية الأولى، على نبضات القلب...
قالت سوزان:
- يكفي الآن!.
- ذهبت لمشاهدة الحصان الأبيض!.
- نعم.. إني أفهمك.. ساعدني بالله عليك!..
- ولكننا لم نذهب بعيداً ياسوزان!.
- انظر.. إنك تأخذني بعيداً.. أنا أرجوك.. لن أذهب معك.. إنك..
- سوزان.. توقفي نتحدث قليلاً.. إنني أحبكِ ياسوزان.. أحبك
ياسوزان!..
قالت سوزان:
- أنت تحبني!!.. ماذا؟!.. تحبني!..
وانطلقت هاربة تبكي فوق التراب..
التصقت بالجدار القريب، وأشعلت لفافة، ثم سرت عائداً...
قال صوت رجل:
- إنك لم تزر سوق العبادة حتى الآن!..
كان يتكلم في الظلام، يدخّن غليوناً، لم تُظهر منه غير عينيه اللتين
كانتا تلمعان كشهابين في سماء مظلمة:
- بل زرته أثناء النهار.. عندما استخرجوا تابوت الملك الأول!..
نهض الرجل من مقعده وقال:
- إنك لم تزر المعبد أبداً في الليل!
- لا أحد يزور المعابد في الليل!
حك الرجل عكازه في الأرض، وقال:
- تعال معي نزور المعبد!
- إنني متعب، وليس بمقدوري فعل أي شيء إلا النوم!..
- ستشعر بالنشاط في المعبد.. لأن الأرواح التي مارست فيه الموعظة
تتكلم عالياً!..
شعرتُ بالخوف يهز بدني هزاً عنيفاً، جذبني الرجل من معطفي، وجرّني
خلفه إلى الفجوة مشعلاً بيلاً، وقادني إلى الأدراج التي تنحدر إلى باطن الأرض.
كانت رائحة العفونة ممزوجة برواسب الماضي. كانت الأدراج عريضة ملساء تنحدر بلطف
إلى الداخل، مبنية من صخور الغرانيت، كانت الأعمدة التي تقيم المكان مستديرة
الشكل. وكانت الأبواب من خشب قديم بقوة الحديد، وفي منتصف الأبواب مزالج قوية.
قال الرجل:
- الجو منعش في الداخل.. أشم رائحة بخور!..
- أشعر ببرد قارص!..
- هاك معطفي.. تدثر به!..
قلت:
- مَنْ أنت؟!.. أظن أنني شاهدتك من قبل!.
خلع نظارته وقال:
- نعم.. ذات مرة في حديقة عامة!.
- إنك المهندس!.
وضع أصبعه على شفتيه:
- الأرواح تسمعنا بوضوح.. أخفض صوتك احتراماً لها!..
نزلنا الدرج قبل أن نصل إلى قاعة كراحة الكف، قام في ركن قصي هيكل
الرب، وعلى الجانب الآخر، كانت النسوة يجلس في حلقة مفتوحة، دامعات العيون،
ينشدن بصوت خافت، سار بي المهندس إلى ركن منعزل، ثم اعتلينا الحاجز، حتى أشرفنا
على الفناء الآخر، حيث يقوم المذبح، تقدمني المهندس حتى صعدنا القمة، وهناك
شاهدتُ أطفالاً صغاراً، تنهش الكلاب أوصالهم المقطعة، الكلاب التي كانت تسير في
خندق صغير.
استدرت مذعوراً:
- ويلاه.. ماهذه الدماء المراقة والأوصال المقطعة؟!..
جذبني من يدي، حتى وقفنا أمام كاهن أصلع، يرتدي وزرة صغيرة، يساعده
رجلان على قتل طفل صغير.
قلت للمهندس:
- لماذا يقتلون الأطفال؟!
قال المهندس:
- تقدم واسأل الكاهن!
وقبل أن أخطو، أتت من ركن بعيد، صيحة غليظة يتفطر لها الفؤاد، من أم
يخلّص حراس المعبد طفلها من بين يديها.
قلت للمهندس:
- مَنْ تكون المرأة؟!.
قال المهندس:
- اسأل الكاهن!..
قلت:
- لماذا يذبحون الطفل أمام عيني أمه؟!..
قال:
- اسأل الكاهن!..
قال الكاهن:
- ابتعدوا جميعاً، أيها السادة، إلى الخلف، هذا طعام الجنس تأكله
الكلاب، عظوا بقولي، وهذا رأس الطفل، طعام العقل تأكله الكلاب، وهذا ذراع
الطفل، زند العمل طعام الكلاب..
قلت للمهندس:
- خذني بعيداً..
عدنا أدراجنا، وأثناء اجتيازنا النسوة اللاتي ينشدن تعويذات، قال
المهندس:
- إنهن ثكلن أولادهن قبل قليل، وهن ينشدن لعودة الخصب إلى أرحامهن،
حتى يقدمن النذور..
قلت:
- عجيب!..
صعدنا الأدراج من جديد، وسمعنا الأرواح، التي تنادي، عند سطح الأرض.
صافحني المهندس، وقال:
- هذا هو المعبد في الليل!..
انطلقت إلى البيت، على ضوء النجوم، وعندما بلغته كنت أنفخ كالثور،
وتقطعت أنفاسي، جلست على السرير وأخلدتُ للنوم بعد أرق طويل، صحوت فجأة، وأنرت
المصباح، كتبت لسوزان رسالة قلت فيها:
عيناها سوداوان، ملاحظاتها النقية
جعلتني في حيرة!..
لا نستطيع مساندة العقل..
لأن قلوبنا سكرت بالحب..
فلا أحد رأى
ولا أحد سمع..
بمَنْ أحببت...
في الربيع، خطبت سوزان لابن عمها الذي عاد من بلد الهجرة، وفي اليوم
التالي رأيتها تسير برفقته، كانت الأرض حول الفجوة تراباً، وأعمدة المعبد، ظهرت
على الحوامل الخشبية، من خلال الفجوة، مستديرة مهشمة، وكان رجال كثيرون يهدمون
البيوت المحيطة بالمكان، كي يظهروا الآثار القديمة، آثار المعبد، في أوائل
الصيف، ظهر الأفق من وراء الأعمدة حيث هدمت المنازل، ظهرت الجبال الزمردية
تكسوها الطحالب الخضراء، وعلى قممها تقبع تيجان الثلج الناصعة التي لن تذوب حتى
الآن، ويالها من أعمدة سامقة، تضرب طولاً في الجو لتنطح السحاب المرتفع، وذات
يوم عشش السنونو على سطح كتلة أثرية، وكان يسقط فوق سطح المطبخ ليلتقط فتات
الخبز اليابس.
نصحتني أمي بالسفر إلى البلد، حيث أخي التاجر المتجول، فحزمت أمري
إبّان الإجازة، وانطلقت أُنشد عنده السلوان، وهناك عشتُ في نزل صغير، تديره
امراة عجوز، لها من العمر سبعون، كفيفة البصر، تحمل قنديلاً، كلما طرق الباب
طارق في الليل.
وكانت القرية كبيرة على صغر حجمها، جبالها مليئة بالكهوف، حيث يأوي
الرعاة وقت اشتداد الحرارة صيفاً، مخلفين قطعانهم الكسولة ترعى العشب اليابس
والشيبيات الملتصقة على صخور الملح، وحين تخف وقدة الشمس، وتلمس النسائم الطرية
المعطرة، براعم الأشجار ونهاياتها، يخرج الرعاة،
وذات صباح، صحبني أخي إلى حقل بطيخ، وأسلمني إلى صديقه الذي أعطاني
تعليماته حول الكيفية التي يتم فيها جمع البطيخ، وعند منتصف النهار، توقف العمل
واتجه العمال إلى عريشة نصبت وسط الحقل، يحملون حقائبهم وزواداتهم، وهناك جلست
بين امرأتين. كانتا أثناء العمل تقرصان خدي وتلمسان وجهي وتضحكان، قدمت لي
السمراء بيضة مسلوقة، أما الثانية فأعطتني قرص حلوى طيب الطعم، وراحت تراقبني
لاهثة الأنفاس.
في المساء، حينما عدت، أخبرت أخي عن المرأتين، فجعل يقهقه حتى انقلب
على قفاه، فانفجرت حانقاً أنهره ألا يفعل ذلك أمامي، فجفف دموعه المتناثرة على
خديه، واعتدل على السرير قائلاً:
- هل عرفت النساء من قبل؟!
-لا.. لا أريد أن أعرف!.
- هل تحضر معي الليلة؟!.
قال ذلك وحدّق في وجهي، ثم مدَّ أصابعه فلمس ذقني وشدها إليه، أزحت
يده وذهبت بعيداً..
- إنك أجمل مَنْ رأيت من الفتيان يانوّار!..
صحبني في المساء إلى منزل صغير، على جانب الوادي، ارتكبتُ فيه الإثم
مع امرأة تكبرني بالعمر، وبعد يومين، ودعت أخي توفيق، وعدت إلى الحي من جديد،
كان ذلك في أيام الشباب، بعد انحدار شمس الصيف إلى الخريف.
عانقتني أمي طويلاً عند الباب، وقادتني إلى حجرة أبي المريض، جلست
عند قدميه، ناظراً إلى وجهه الأصفر، وقد شحب، وجفت الدماء الحارة من وجنتيه.
كانت أمي تتحدث عن مرض أبي مبتسمة:
استيقظت الدجاج في السادسة صباحاً، على أصوات قوقوات الدجاج في
الحديقة الصغيرة. مرتفعاً من القن المشبَّك بالأسلاك، دفعت يدي وأخرجتُ بيضة
حارّة، ولم أسلم من شجار الديك.
قالت أمي ضاحكة:
- كان لابدَّ من شرائه.. فعندنا أربع دجاجات!.
- نعم.. هذا عدل.. ديك مقابل أربع إناث!..
قالت:
- هيا ياولدي.. لا تحزن!.
ربطت أصبعي بخرقة، وبعد تناول الإفطار، تحسنت حال أبي، استمعت إلى
الأخبار من المذياع، نهضت ورحت أسير قاطعاً فناء الدار، مغنياً...
قالت أمي:
- لمَنْ تغني ياولدي؟!.
- لنفسي!.
- نعم.. شيء لطيف.. آه.. كنت مثلك أغني، هناك عند بحر يافا، وفي
الأحراش المظللة بالبرتقال. وتحت عناقيد العنب، كنت أغني طويلاً، وكانت
الملائكة تسمع صوتي، فتسبّح بحمد ربها، مثلما أسمعها الآن، وكنتُ آكل من
أطباق نظيفة بيضاء.. كما آكل الآن.. وكنتُ..
- دعينا من أخبار الملائكة.. لا نريد ملائكة بعد اليوم!..
- وكيف؟!.
قالت أمي:
- وكيف ياولدي؟!.. وهم يجيئون كل ليلة من كوى الجدران، ثم يطيرون
كالفراش الوديع، ويضيئون الظلام.. يصلّون، يسبحون، ويباركون الحُبلى ويشدون من
عزم الرجال ويغردون للأطفال النا.....
- اسكتي يا أمي!.. لا أريد سماع أي شيء عنهم.. إنك لم تذهبي إلى
المعابد ليلاً.. ولم تحضري جناز الأطفال الذين يموتون كل يوم على أيدي الكهنة.
لم تشاهدي الموتى الذين تأكلهم الكلاب الضالّة المجنونة، لم تشاهدي الدماء
الحمراء التي تسيل من أجسادهم، ومن ذقون الكهنة، لم تشاهدي دموع الثكالى اللاتي
يصرخن عالياً.. عالياً على أيدي ملائكتك والكهنة..
- ولدي!. ياويلي!.
صرخت أمي وأضافت:
- ولدي نوّار!... لا تقل ذلك.. أبوك شاهد الملائكة!...
- متى؟!. عندما دنا أجله.. عندما.. عندما حان أوان رحيله.. أين
شاهدهم؟!.
- اسكت يانوَّار.. أنت مجنون.. أنت لا تعرف ماتقول!..
- اسكتي يا أمي.. فلم يبق سوى ملاكٍ واحد لا يشاهده أحد سواكِ.. أما
أنا.. فلم أشاهد إلا أبالسة يوقدون النار.. وشياطين متعطشة أجسادهم وعقولهم
للفتك والدمار!..
اسكتي يا أمي.. فلم يبقَ سوى ملاك واحد في الدنيا... هو أنت.. أنت
فقط!..
- نوّار.. أنت الشيطان الوحيد في الدنيا.. الذي ورث مملكة الأبالسة
المغضوبين!..
- هناك أغنياتك يا أمي.. فما عادت وشوشات الشاطئ تشنّف أذنيك..
ماعادت همسات النجوم المطفأة، تحرّك أوتار بدّنك البدين إلى الرقص.. مضى أوان
الفرح وجاءت الأحزان ملقيه أمامها الماضي الساطع والحاضر الأسود!..
- اذهب بعيداً يانوّار.. ياولدي.. واغسل وجهك!.. نظرت في المرآة،
وشاهدت سوزان المبتسمة، ثم وضعت كفي على وجهي، وخاطبت سوزان بهمس عن كل ما
أحسُّه نحوها.. ثم طبعت قبلة حارة على وجهها، وصحت بيأس:
- آه ياسوزان.. يا مَنْ لا تشعري بي.. آه ياسوزان!..
سأل أبي عما حدث فوق السقف، رحنا نشتم الأغبياء الذين يؤثرون
الأنانية على مصلحة الجميع..
قال أبي:
- هل تعرف ياولدي ماهو الإثم؟!..
- لا يا أبي.. إنني سعيد ولا أشعر بأي ألم في عذابي!..
- إن عظامي تسحق سحقاً من شدة الألم!.
قالت أمي:
- إنك متوعك الصحة... وسيزول الألم قريباً.. أمرتني أمي أن أهتم
بشؤوني، وأترك أبي لهذيانه، ارتديت ثيابي وخرجت إلى الشارع، والتفتَّ إلى
الأعمدة السامقة نحو السماء، مهيبة، مجللة بالاحترام، وعند أطراف الفجوة، قام
الخبراء بترميم بعض القطع الأثرية، ولم يخف ذلك عن عين الشرطة الذين يجوبون
المنطقة خوفاً من حدوث السرقات.
كان التراب يغطي الشاعر المرصوف، لقد عاد التراب، عادت الطفولة،
عادت الأغنيات، عادت الأناشيد، أشجار الزيتون، وأعواد القصب، عادت أنفاس البعوض
وأغنيات الضفادع.. ياله من أمر جميل..
ياله من أفق متّسع، وراءه الحقل المجدب، والسماء البعيدة والجبال،
لا منازل، لا نساء، لا أعمال، لا ضجة، سكون رائع جميل، مشيت حتى تجاوزتُ
الأعمدة، ونظرت في الفجوة، فلم أجد إلا حفرة صغيرة يعمل فيها الرجال، سألت عمّا
حدث، قيل بأن انهياراً أدى إلى قتل بعض العمال وأحد المهندسين، وطمر الآثار
التي كانت قد ظهرت.
تراجعت ضاحكاً، ورحت أركض إلى الهضاب التي ظهرت من جديد، ركام
المنازل، جثث الناس، الأطفال الذين تمزقت أوصالهم الدقيقة، أطفال الموت، شيوخ
أموات، نساء أموات، رحت أختبئ خلف التلال البعيدة وأضحك عالياً، عالياً،
عالياً، عالياً... عالياً.. كنت أضحك عالياً حتى تركتُ طيور الحجل، حيلتها
وفرّت طائرة إلى أعالي الجو، حتى تنادت الجنادب وقالت كلمة السر، ووصلت الهضاب
البعيدة، حيث الجبال تليها، حيث الجبال الشاهقة العظيمة، الجبال الخالدة..
عدت أدراجي في الواحدة ظهراً، لأنال قسطاً من الراحة، وأثناء مروري
بالرفاق، شاهدت زنودهم القوية مكشوفة، وأفواههم الواسعة، وأصابعهم القوية، خلعت
الحذاء عند المدخل، كان الدجاج يبقبق خلف أسلاكه، نظرت إلى الداخل، إلى التي
كانت تجلس، ثم سألت أمي:
- أليست تلك سوزان؟!.
قالت أمي ضاحكة:
- إنها دلال ياولدي!.
أضافت ضاحكة:
- أم تراك نسيت أن سوزان قد رحلت منذ أيام مع زوجها؟..
- هل رحلت سوزان حقاً مع زوجها؟!..
- لقد تزوجت سوزان ياولدي.. ولك عندي كيس حلوى من أنطوانيت.. نسيته
في المطبخ!..
- ألم تترك سوزان شيئاً.. رسالة صغيرة مثلاً؟!..
سألت أمي مندهشة:
- لماذا ياولدي؟!..
قلت:
- إنني صديقها كماتعرفين!.
تبعتني أمي ضاحكة، وأمسكت رقبتي،ونظرت إلى عيني قائلة:
- الملائكة تبتسم ياولدي.. الملائكة لا تبكي ياولدي.. الملائكة
تبتسم!.
جلستُ تحت شجرة الأزدرخت، وقدمت في خطوط كفي، ثلاثة خطوط طويلة،
خطان يلتقيان في خط واحد، ليخرج إلى الجهة الخارجية، وخط مفرد يتجه إلى
الأصابع..
لا..
كنت وحيداً الآن.. تحت الشجرة العقيمة الوارفة الظلال..
لم أفكّر بأي شيء إلا بابتسامة سوزان، سعادتها الكبرى، بعدما فارقت
الحي، إلى بعيد.. بعيد.. بعيداً عن الأشباح التي كانت تصرخ في الفجوة، وتتكلم
وتغني..
ولكن.
هل كنتُ أستطيع نسيانها؟!..
كنت أستطيع إسقاط إي شيء في هاوية النسيان، إلا العواطف القوية التي
تغلغلت في أعماق صدري..
هذا الكتاب
قصص تتناول حياة الناس وقضاياهم، وتناصر القيم الإنسانية
النبيلة التي تكافح ضد شيوع الاستهلاكية ومظاهر التشيؤ، كما أنها مهمومة بالوطن
وقضاياه، والإنسان وطموحاته، والمرأة ومحاولاتها الدائبة للخلاص من الأشراك
الاجتماعية والاقتصادية التي تعيق تقدمها وانطلاقاتها البناءة.
|