أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

مجموعات قصصية / الكاتب: د. محمود موعد

سخريات الظلال

إلى صفحة الكاتب

لقراءة المجموعة القصصية

 

 

المجموعة القصصية

الصعود إلى الهاوية

قطط لا قطط

وأخيرا وصلت

فشة خلق

ومن الحب ما

اللعبة الخطرة

الحلم الأخير

ولم لا

ممنوعات

مسؤولية

رسالة إلى امرأة

اربطوا الأحزمة

ومع ذلك

هذه الزلزلة

فنجان قهوة

مقبرة الأربعين

الفجر الكاذب

رسالة تأخرت

الراعي الصغير

غبار السنين

 مدينة الأحلام

طيف من الماضي

  مصائر

درس الخامسة

 تلك الليلة

 

سخريات الظلال

 

سخريات الظلال  "قصص وحكايات" د. محمود موعد  سخريات الظلال  سخريات صغيرة  الاختبار قصص واقعية في عيد الحب ومن الحب ما... فشة خلق.. وأخيراً.. وصلت الرسالة قطط لا كالقطط الصعود إلى الهاوية مسؤولية ممنوعات ولمَ لا!الحلم الأخير اللعبة الخطرة رسالة إلى امرأة في خطر اربطوا الأحزمة.. رجاء ومع ذلك..! هذه الزلزلة فنجان قهوة  *غبار السنين  أحلام  الراعي الصغير  رسالة تأخرت أربعين عاماً الفجر الكاذب  مقبرة الأربعين  مدينة الأحلام  طيف من الماضي  مصائر درس الخامسة من يوم الخميس تلك الليلة الباريسية

 

سخريات صغيرة

 

 

الاختبار

 

مازلت أضحك. وسأضحك طويلاً مما حدث. وهل يمكن نسيان الذي حدث؟. لولا بقع الدّم على مُلاءة السرير البيضاء، ولولا الحقيبة السوداء، لقلت: إنه حلم.. كابوس من الكوابيس التي تعتادني.

دعوني أشرح لكم.كتمان السر يكاد يدفعني إلى الجنون، أو أن ما حدث هو الجنون عينه. ربما وجدتم تفسيراً يردني إلى وسادة الراحة. لقد استطعتُ إخفاء المُلاءة البيضاء والحقيبة السوداء في مكان أمين، لكنيّ لا أستطيع إخفاء ضحكاتي، التي تنطلق في صمت الليل، أو صخب النهار، فتظن بي زوجتي الظنون، ويقف أولادي حائرين قبل أن يتابعوا ما هم ماضون فيه، أو يستيقظوا من نومهم، والذعر الأخرس في عيونهم، يقلّبون نظراتهم فيما حولهم، قبل أن يعودوا إلى أشواك أحلامهم.

تلك الليلة! تلك الليلة كنتُ وحيداً في البيت، قبل أن أسمع الطرقات الملحّة على الباب. كنتُ أعيد قراءة إحدى روايات ديستويفسكي، استعرتها من مكتبة المدرسة حيث أعمل، وأنا أعاني مرضاً أعلم أنه غير حقيقي، أعداني به بطل الرواية بأوهامه ووساوسه. حين سمعتُ الطرقات اعتقدت، للوهلة الأولى، أنها زوجتي ، وقد أحست بذنبها، فعادت عن حردها في بيت أهلها. لكني تذكرّت أنها تحمل المفتاح، وأنها لا يمكن أن تعود في مثل هذا الوقت المتأخر، إذ يلفّ الليلَ مطر ثلجي وريح شرود. ولمع في رأسي خاطر خاطف: أوقع حادث لأحد الأولاد؟. فقفزت إلى الباب تسبقني دقات قلبي.

وعلى ضوء الممر الكابي لمحت شخصاً يسد الباب بقامته الطويلة النحيلة. يحمل بيده اليسرى حقيبة صغيرة، يستعملها رجال الأعمال عادة، ومن خلفه تلامعت ذرات الماء الثلجي المتأرجحة. داخلني إحساس بالخوف؛ إذ لم يسبق لي أن عرفتُ هذا الوجه المستطيل، والعينين الصغيرتين البراقتين. لكنه أثار لديّ شعوراً غامضاً منبعثاً من أزمنة بعيدة، وحارات عتيقة متداخلة. لاشك أنه يقصد منزلاً آخر، وقد ضلّ الطريق في متاهة الليل. وانتظرتُ منه بادرة ما تبدّد حراجة الموقف وغموضه. ولمحته، على ضوء ما تناثر على وجهه من ضوء، يمسح بكفّه قطرات المطر عن جبهته العريضة وشعره الرمادي، ويبتلع ريقه قبل أن يقول، وقد انبثق على شفتيه الدقيقتين خيط ابتسامة:

- عباس الأمين أنت؟ ألا تدعوني للدخول؟

ووجدت نفسي أفسح له الطريق، وأنا ذاهل عن نفسي، وكأني أتابع صفحات الرواية. وتهيأت لمئات التوقعات، وأصبح كل شيء ممكناً.

تابعته في الممر، ثم أشرت إليه أن ينعطف إلى اليسار، حيث غرفة الضيوف. وسبقته في الدخول، لأضيء المصباح. وتبدّت ثيابه، في النور، غارقة بالماء. خلع معطفه المبلل، وجلس على مقعد كنبة من الباب، تحت آية من القرآن الكريم معلقة على الجدار، ووضع بين رجليه حقيبته السوداء، بينما رحتُ ألقي عود ثقاب في المدفأة، ثم أجلسُ في مواجهته.

ومرّت ثوان حرجة، صعبة. كنت أريد أن أرّحب به. لكن كلماتي لم تطاوعني فبقيتُ صامتاً أنتظر. وتململ في جلسته، وعبّ نفساً طويلاً قبل أن يتكلم. ولم أشأ مقاطعته، وبتلقائية، لا أدري كيف. تقمصت دور المحلل النفسي، وكان هو المريض، أوكنتُ الكاهن وهو يجلس على كرسي الاعتراف!.

«- أنا محروس الصامت.. طبعاً أنت لا تعرفني.. أنا أعرفك.. أنا من قرّاء مقالاتك الأسبوعية في جريدة (اليقظة). أحببتك دون أن أراك.. أقول الحق: أنتم الجنود المجهولون.. المعروفون أيضاً.. أنتم الشموع.. أحببت تناولك للجوانب السلبية في حياتنا أحم.. أحم.. الرشوة.. المحسوبية..  التهريب.. الصفقات المشبوهة.. الثراء المفاجئ.. الاستهانة بأرواح الناس ودمائهم.. سقوط القيم.. احم.. احم.. احترمت جرأتك..  أثارني حس الصدق فيما تكتب. أتذكر مقالك من نحو شهرين عن ذاك الذي جمع ثروة دون وجه حق.. وقرر التوبة.. وجد الحل الأمثل - احم.. احم.. لا تؤاخذني يبدو أني بردت في طريقي إليك - وجد الحل في إعادة الأموال إلى أصحابها الحقيقيين.. واجهته عقبات وعقبات.. لقد أضحكتنا وأنت تصوره، وقد غدا في نظر بعضهم متهماً أو ربما مدفوعاً من جهات غريبة.. احم.. احم..»

وقفز إلى ذهني سؤال مفاجئ: كيف عرف الطريق إلى بيتي؟

ولكني تركته يمضي في حديثه:

«ـ أصارحك أني أحد هؤلاء الذين كتبتَ عنهم.. لقد جعلتني استيقظ على ما فعلته يداي.. يداي هاتان ملوثتان بالدماء.. أتسمع؟ بالدماء.. دماء حقيقية! جعلت ضميري «يرتجف أمام ضحاياه» أليس هذا تعبيرك ؟.. احم.. احم..  جئتكَ الليلة لهذا.. من ضحاياي من اختفى إلى الأبد.. والبقية لا أعرفهم.. أريد أن أتطهرّ.. أن أكفر عن ذنوبي.. هذه الحقيبة فيها الملايين.. سحبتُ كلّ أرصدتي.. بعت كلّ أملاكي، لم أُبق لي سوى غرفة واحدة تؤويني، وبعض المال أتبلّغ به في أيامي المقبلة، وجئت إليك..  احم.. احم.. مقالاتك كانت تعبث بأعماقي.. كنتُ أعجب بها بعقلي.. لم تكن تذهب أبعد..  مجرد عبث ودغدغة للأعماق.. لكن بعد أن وقع الذي وقع، عُدتُ إلى مقالاتك فأصابت مني مقتلاً..».

وفتحتُ عينيّ على وسعهما،  أتساءل عن هذا الذي وقع. ودون أن أفتح فمي تابع:

«- أصبحتُ ذات يوم..  فإذا أنا أفقد زوجتي وأولادي الأربعة.. كلهم في لحظة واحدة.. ويا ليتني كنتُ معهم إذاً لاسترحتُ.. سحقت سيارتهم شاحنةٌ ضخمةٌ.. فلم يخرج منهم مُخبّر.. تصور! عندك زوجة وأولاد.. هه؟.. حاولت الليلة النوم فلم أُفلح.. في رأسي ورشة مقلع للحجارة.. أنت تفهمني.. لم أستطع النوم.. فجئتُ إليك.. قلتُ: الليلة قبل الغد يا محروس! يجب أن تفعلَ شيئاً..   أعترف لك أني قررّت أن أهب كل هذه الأموال للدولة.. وتكون أنت شاهدي على ذلك..   ومُساعدي.. ما رأيك؟.. الحقيقة لم أشأ أن أحرمك المشاركة في هذا الأمر.. أليس هذا عظيماً؟!..   اسمع.. اسمع.. سأطلب في هبتي للمال أن ينفق على المحتاجين.. اليتامى.. الأرامل.. المعوقين..   المشردين.. سأوصي ببناء مدرسة.. وملجأ.. ومشفى.. هذا شرطي.. شرطي الوحيد.. ما رأيك؟..  قل شيئاً.. لماذا أنت صامت؟.. احم.. احم.. لهذا جئت الليلة إليك قبل أن أُخبر أحداً بهذا القرار..»

صمتَ.. وبقيتُ أنا صامتاً.. وكان الليل في الخارج صامتاً، إلاّ فحيح النار في المدفأة. كنت أقرأ، بلا صوت، الآية القرآنية على الجدار فوق الرجل. وغرقتُ في أحداث الرواية التي أقرؤها.

*      *      *

لن أطيل عليكم. بعد أن قدتهُ إلى غرفة النوم في سرير زوجتي الفارغ، وكان التعب قد نال منه؛ حتى إنه غرق في النوم قبل أن أغطيه بالُملاءة البيضاء واللحاف الثقيل، استيقظت في وعيي، زوجتي.. زوجتي الجميلة الرائعة.. زوجتي التي استطاعت أن تشدّني جيداً بالخيوط القزحية للأنثى الخالدة منحاً ومنعاً. استيقظ حبُّ زوجتي للفساتين الجديدة في الواجهات الأنيقة، تألقها في الحفلات التي تعشقها. استيقظت فيّ أحلامها بلا حدود، و«المرء يعيش مرّة واحدة» تكررها دائماً. استيقظ أولادي، طلباتهم التي لا تُلبىّ، شكاواهم التي لا تنتهي. استيقظتْ فيّ بيوت أصدقائي الفسيحة، وأثاثها الفاخر، وهم لم يتعبوا عُشر الذي قد تعبت. استيقظ وجه مؤجري العابس، والحاحه على التخمين لزيادة الأجرة.  استيقظ حرماني الطويل، وطفولتي القاسية الشقيّة.

صوت.. هاجس تغلغل في رعب الليل.. تغلغل في خلايا الكون، ولفّني: إنك تقتل القاتل، وتسرق السارق، والدولة ستدير مؤخرتها لشروطه المضحكة.

وبكلمة، نصّبتُ نفسي القاضي، والنيابة، والشهود، وحكمتُ عليه، ونفّذتُ.

كان يبحر في نومه وأحلامه، وغطيطُه هادئ منتظم. وكنتُ أراقبه من بعيد. فكرّت في أن أطبق على عنقه بيديّ الاثنتين، لكني خفتُ أن تخونني يداي، أو يصدر عنه صياح غير متوقّع، أو يبديَ مقاومة يائسة لا تقاوَم. سحبت عنه اللحاف بحذر، فبدرت عنه حركة منتفضة، جمدّت الدّم في عروقي. لكنه سرعان ماعاد إلى غطيطه المنتظم. وتنّبهتُ إلى رائحة غريبة، يعبق بها جو الغرفة، وكنتُ في شغل عنها. ولم أشأ سحب المُلاءة عن وجهه وصدره حتى لا أضعُف، وتحسستْ أصابعي المرتجفة مكان دقات قلبه. وغرقت في بحر ذهول أذهلني. ولم أدر كيف رفعت سكّين المطبخ الحادّة، وكيف اخترقته بضربة موفقة، كأني عبّاس آخر. أنّةٌ قصيرة، وحشرجة سريعة، وانطفأت أنفاسه. وعلى ضوء المصباح الضئيل رأيت الدم الداكن النافر يغرق بياض المُلاءة البيضاء.

وسبحتُ في بحر الذهول، فقادني إلى الحديقة الصغيرة تحت شجرة التفاح الوحيدة في البيت، لأحفر حفرة تضمه، وتضمّ كل معالم حضوره إليّ. وغداً تصبحُ حرّاً كالفراشة.

جلّلني عرق غزير بارد، وأنا أعود إلى الغرفة بخطوات مضطربة. واصطدمت نظراتي بالسرير، وثقل لساني في فمي، وصدر عني صوت سمعته غريباً في أذني: غير معقول!

كان السرير فارغاً. ولولا المُلاءة الغارقة بالدم لحسبتني في حلم.. في كابوس من الكوابيس التي تعتادني. أضأت المصباح القوي، وبحثت في زوايا الغرفة، وبحثت في أنحاء البيت الصغير عن جثة شاردة.. عبثاً بحثت، فأخذني رعب قاتل. وعدت أفتح الحقيبة السوداء، على الطاولة القصيرة، حيث تركها. فتحتها بلا تروّ، وسحبت الرزم منها، فتناثرت أوراق صحف مضموم بعضها إلى بعض بعناية، تحمل عناوين بعض مقالاتي.

لا بأس..! مضى وقت طويل قبل أن أدرك حقيقة أني وقعتُ في الشّرَك. عندها ضحكتُ..   ضحكتُ حتى كاد يغمى عليّ من الضحك، ومازلتُ حتى الآن، أضحك.

دفنتُ المُلاءة البيضاء المدماة، والحقيبة السوداء بما احتوت، في الحفرة التي أعددتها. ودفنتُ معها كلّ ما يمتُّ إلى ماحدث تلك الليلة، وسوّيتُ الأرض كما كانت.

مازالت ترعبني فكرة، بعد أن مضت أيام وأيام، وبعد أن عادت زوجتي وأولادي، وتابعنا حياة العتاب واللوم والشكوى والحرمان. مازالت ترعبني فكرة أن أحفر فلا أجد المُلاءة البيضاء المدماة ولا الحقيبة السوداء يما احتوت، ويكون آخر آثار تلك الليلة الرهيبة قد اختفى إلى الأبد.

أرجوكم.. إذا سمعتموني أضحك في صمت الليل أو صخب النهار فاعذروني!

أنا أرتجف من أعماقي.. أرجوكم.. قولوا لي كلمة.. كلمة واحدة.. تفسيراً يردني إلى وسادة الراحة.. فأنام كما كنتُ أنام من قبل.

 

 

قصص واقعيّة في عيد الحب(*)

 

(1)

مرّ سعدون، وهو عائد إلى منزله، على بائع الأزهار، ليشتري زهرة حمراء واحدة يهديها إلى سعدى، في عيد الحب. ففاجأه البائع:

- مئة ليرة فقط!

فانتفض سعدون كمن لدغته عقرب، وتابع طريقه. وحين قصّ القصّة على سعدى، ضربت صدرها، وقالت: مئة ليرة ابن الحرام؟ الأولاد أحق بها!

وداعبت سعدى شعر سعدون، وهي تقول ضاحكة:

- لابأس.. كأنك أهديت لي، ياحبيبي، مئة وردة.. كل عام ونحن بخير!

(2)

حين لم يجد في جيبه ثمن زهرة حمراء، أحضر بطاقة، ورسم عليها زهرة، وكتب تحتها: أنت أجمل زهرة تضيء كل الفصول جمالاً وبهاء وعطراً.

وحين قدمها لها صمتت، وبقي هو صامتاً، ومازال ينتظر جوابها!

(3)

قال لها:

- تخيلي أني أهديتك، اليوم في عيد الحب، وردة حمراء، نضرة، فوّاحة، وقدمتها إليك قائلاً: كل عام وأنتِ بخير يا حبيبتي!

- وإذا بها تصيح في دهشة: أوه.. إنني لم أر في حياتي أجمل من هذه الوردة الحمراء!

وألقت بنفسها في أحضانه، وهي تبكي!

(4)

ذكرّته زوجته، وهو الغافل دوماً، بأن اليوم هو عيد الحب.

فطاف على عدد من محلات بيع الزهور يبحث عن زهرة حمراء واحدة، يهديها لها. فوجد أن الأزهار الحمر، قد فقدت وقال له الباعة جميعاً: لقد جئت متأخراً!

تذكّر قصة قديمة قرأها لأوسكار وايلد عن فتى أحب صبية أكبر منه. وطلبت إليه، ذات يوم وردة حمراء وكم أسعده هذا الطلب! فبحث في كل الحدائق. وكم أحزنه ألا يجد فيها سوى ورود بيضاء. جلس على أحد المقاعد يبكي. فرآه عصفور صغير على هذه الحال فرقّ له. وكي يساعده وقف على وردة بيضاء وترك شوكها يخترق قلبه. وأخذ يغرّد للحب. للحياة، للفرح، للحزن، ودمه الأحمر ينساب في خلايا الوردة البيضاء. وحين أصبحت حمراء  فاضت روحه. وحمل العاشق الصغير الوردة الحمراء إلى محبوبته. وسرعان مازهدت فيها، وداستها بأقدامها!

حين تذكر هذه القصة اشترى وردة بيضاء، وجلس على مقعد في الطريق، وشك شوكتها في ذراعه. وحين سال دمه الأحمر على بياض الوردة لم يلوّنها. ولمّا أعيته المحاولة حملها إلى زوجته بيضاء من غير سوء. فتضاحكت قائلة بعد أن استمعت إلى قصته:

-  العصفور المحبّ لوّن الوردة البيضاء بدم قلبه، لا بدم ذراعه.. وشتان!

(5)

جاء عيد الحب في موعده، وحين علم بهذا الخبر تساءل: من أين يصدرون إلينا هذه الأعياد، ونحن نقلدهم كالببغاوات؟ حتى الحب أصبح له عيد؟! إن قلبه يعمر بالحب منذ سنين لم يخبُ أو ينطفىء لحظة واحدة. وقرر أن يدير لهذا العيد ظهره، وكأنه لم يكن!

(6)

منذ الصباح اشترى زهرة حمراء متفتحة. وأخذ يطوف في شوارع المدينة الطويلة، ليقدّمها لمن تبتسم في وجهه. طال طوافه، وتعبت قدماه، ومالت الشمس إلى المغيب، ولم يعثر على ضالته المنشودة. وبدأت الزهرة تذبل بين أصابعه. ورأى نفسه يتجرأ، ويوقف فتاة مستعجلة، ويدسّ الزهرة الحمراء في يدها قائلاً:

- كل عام وأنت بخير!

وأخذ يراقبها وهي تحمل كنزه. وماإن ابتعدت حتى رآها تميل عن خط سيرها، وتلقي بزهرته في وعاء القمامة، ثم تختفي في الزحام!

(7)

منذ الصباح قطفت الوردة الحمراء الوحيدة، التي تفتحت على الرغم  من البرد والمطر، انتظاراً لمن يطرق بابها، لتقدمها إليه. لقد انتظرت هذا الطارق سنوات وسنوات، ولم يأت. ولكن الأمل، اليوم، يراودها بقوّة. وانتظرت تطوي الثواني والدقائق والساعات. وسقط المساء، ولم يأت أحد، حملت الوردة الحمراء، وتقدمت إلى المرآة، وتأملت صورتها طويلاً وقالت:

- لاأحد سواك أنتِ يستحق هذه الوردة! كل عام وأنت بخير!

(8)

بقيت الأم تنتظر عودة أولادها واحداً واحداً! لعلّ أحدهم يتذكّر، ويحمل لها زهرة حمراء. وهاقد حلّ المساء، وعادوا جميعاً. ومامن زهرة واحدة. فطوت انتظارها ولهفتها، وقامت تحضر لهم طعام العشاء!

(9)

ناو لها الزهرة الحمراء الأخيرة من الباقة التي وزّعها، منذ الصباح، على من يحب، وهو يطوف عليهن واحدة واحدة. وقال لها، بصوتٍ حاول أن يلوّنه بمشاعر حقيقية: كل عام وأنت بخير.. يا حبي الوحيد!

(10)

جاءها الموت على حين غرّة، في يوم عيد الحب، وحين دفنت وانفض عنها المشيعون، وجدت نفسها وحيدة. وسرعان ماتوافد على قبرها المحبون واحداً واحداً، وفي يد كل منهم باقة حمراء. وفي صباح اليوم التالي فوجىء زوّار المقبرة الواسعة بقبرها أحمر من الرأس إلى القدمين. فأخذتهم الدهشة، ولم يصلوا إلى تفسير مقنع لهذه الظاهرة الخارقة!

(11)

اشترى لها في عيد الحب سيارة حمراء جديدة، دفع ثمنها، عداً ونقداً مليوني ليرة. ثم طاف على بائعي الألعاب، فاشترى من الدببة الصغيرة مئات ومئات حمراً وبيضاً، وفي عنق كل منها، قلب أحمر للدب الأبيض، وقلب أبيض للدب الأحمر. ثم طاف على محلات بيع الأزهار، فملأ السيارة بآلاف الآلاف من الورود الحمر، وغطّاها بقلائد وحبال من هذه الورود، وزينها بشرائط ملونة وحين سلّمها مفاتيح السيارة متمنياً لها عيد حب سعيد، تبسمت قليلاً، ثم انطفأت بسمتها، قبل أن تتمكن من شكره، وهي تذكّره بعيد ميلادها القادم بعد أيام!

وحين شاعت هذه القصة عرف بعضهم لماذا اختفت الورود الحمر، ولماذا ارتفعت اسعارها في عيد الحب!

 

 

ومن الحب ما..

 

عزيزي المحرر..

أرجو أن أوجه، عبر هذه الصفحة، هذه الرسالة إلى زوجتي. فلربما استطاعت أن تقرأها مع مئات القرّاء، فتكون لها مرآة ترى فيها نفسها على حقيقتها، فتكف عما تمضي فيه، وأنتهي من عذاب سنوات طويلات عشتها معها.

 لقد حاولتُ مرات ومرّات أن أناقش معها أمورنا المشتركة، وأحاورها بهدوء ورويّة وتعقّل. وكنتُ في كلّ مرّة آمل أن نصل إلى حلّ مرضٍ. ولكنّي كنتُ، في كل مرة، أخرج عن طوري، ويسمع الجيران كلهم تفصيلات نقاشنا. وننتهي إلى أن يلتزم كلّ واحدٍ منا زاوية من المنزل، لا يكلم أحدنا الآخر ثلاث ليالٍ سوياً. وأعترف أني ربما كنتُ،  المسؤول الأول عما يجري؛ فقد بُحتُ لها في مطلع زواجنا ببعض العلاقات البريئة، أو شبه البريئة، التي ربطتني بهذه أوتلك، لأعطيها درساً في الصراحة والثقة، ونبدأ معاً صفحة جديدة. فأصبحت هذه الاعترافات دليلاً فاضحاً على سوء سلوكي، ولازمة تتكررّ في كلّ «نقاش» بيننا لإدانتي.

وتشاء الأقدار ألا نرزق بطفل، يملأ على زوجتي حياتها، ووقتها، ويشغلها عني، فملأت قلبي قهراً، ورأسي ضجيجاً، وأعصابي توتّراً.

أعلم أنها بسلوكها ستقتلني إن لم تكن قد فعلتها بعد. هي تغار من النسيم، تغار من خيالي أن يكون أنثى فيتبعني. وأعلم أنّها لا تحبني ذلك الحب، الذي يعمي ويصمّ. ولكنها تفعل ذلك، كما صرحت مراراً، إشفاقاً على كرامتها. ولا تريد أحداً في العالم ـ ولا تعني أحداً سواي ـ أن «يستهبلها» وهذا يعني في قاموسها: يخدعها!.

إنها تراقب ثيابي وأشيائي: تفتّشها، تقلبها، تشمّها، لعلّ شبهة  نسائية تطلّ منها. ولا يمضي أسبوع دون أن تراجع، في دفتري الصغير، الأسماء والعناوين وأرقام الهواتف. والويل إن عثرتْ على رقم أمرأة بينها. إذ تتحوّل إلى مفرزة تحقيق كاملة، تطرح ما يخطر على البال، وما لا يخطر، من الأسئلة، وهي تحدّق في وجهي لترى صدق أقوالي. وإذا انتهى الأمر بسلام صرخت فجأة، وكأنها فطنت إلى أمر غاب عنها: وما أدراني أن فوزي هو فوزية، وعلي هو علياء، وخالد هو خلود؟!

فلا يكون منّي إلا أن أقول في استسلام:

ـ حاولي.. تكلّمي معهم إن لم تصدّقي.

ولا يكون منها إلا أن تبتعد عني وتقول مهددّة:

ـ سأعثر عليها.. مفكّرتك السرّية.. لا بد.

تصور..! إذا التقينا، في الطريق، صديقة قديمة، تعرّفت إليها من خلال ظروف عملي، وسلّمتُ عليها، وقدّمتها إلى زوجتي، ووقفنا دقيقة أو دقيقتين، فإنها تمطرني، بعد ذهابها، بوابل من الأسئلة: من هي؟ متى عرفتها؟ أين وكم مرة خرجت معها؟ هل بينك وبينها «إنّ»؟ و«إنّ» في قاموسها: علاقة. وتبقى حردة أسبوعاً كاملاً.

ذات مرّة تركتني واقفاً مع إحداهن، وانسحبت عنا دون أن أنتبه وحين بحثتُ عنها لم أجدها. واكتشفت، بعد عودتي إلى البيت، أنها ركبت « تاكسي» وسبقتني.

فاجأتني مرّة وأنا أرى نشرة الأخبار في التلفزيون:

- تريد الأخبار أم هذه المذيعة الوقحة؟ أنت معجب بها. قل لي: من عرّفك عليها، وأين تراها فرس النهر هذه؟ أنتم الرجال بلا عقول. يكفي أن تبتسم واحدة في وجوهكم لتتبعوها. لو غسلت فرس النهر وجهها لتساقطت الأصباغ والدهون. يجب أن تروها حين تستيقظ من نومها، لتروا وجهها الحقيقي.. هذه، كيف أصبحت مذيعة بربك؟ ألم تسمع كيف تلوك الحروف لوكاً كالجمل؟ بس أريد أن أعرف ما الذي يعجبك فيها؟

فاجأتني، مرّة أخرى، أقرأ رواية لمؤلفة محلية شابة، وعلى الغلاف صورتها. صارت تقلّب الأوراق بحثاً عن كلمة إهداء فيها. ولمّا لم تجد قذفتني:

ـ تدفع نقودك لهذه السفاسف؟ وماذا ستكتب هذه الجرباء سوى عن عشاقها، وربما تكون أنت واحداً منهم؟ هل هي عبقرية زمانها؟ يقال إن أحد الشعراء يكتب لها. وهذه الصورة التي تحدّقُ فيها قديمة ، مضى عليها أكثر من عشر سنوات!

واختفى الكتاب إلى الأبد.

تأملت مرّة، إحدى لوحاتي الأخيرة، وحين سألتها عن رأيها فيها لم تجب. وفي صباح اليوم التالي وجدتها عابسة،‏مقطّبة. وضعت أمامي فنجان القهوة وانسحبت إلى غرفتها. وحين عدتُ من عملي بعد الظهر، وسألتها عما في الأمر أجابت باكية:

ـ أليستْ صاحبة اللوحة صديقتك التي رأيناها في المطعم العام الماضي؟

قلتُ لها: ولكن هذه اللوحة عن أيام زنوبيا ملكة تدمر!

أجابت بحقد: وما الفرق؟ إنها تسكن تلافيف دماغك!

وحدثتها، ذات يوم، عن صديق يعمل في الطب النفسي عالج امرأة منحرفة قادمة من إحدى الدول العربية. وبعد يومين أو ثلاثة فاجأتني بقولها:

ـ لماذا تحدثني عن تلك المرأة الشاذة؟ أتقارنني بها؟

وصمتت قليلاً ثم تابعت:

ـ بربك! ألم تحضر لزيارتك في المعرض الذي أقمته الأسبوع الماضي، وعالجتها أنت لا صديقك كما زعمت؟!

واستسلمت لحردها.

وأيقظتني من نومي، ذات ليلة، وصرخت في وجهي:

ـ من هي التي تحلم بها. اعترف.. سمعتك وأنت تقول لها: تعالي!

وفاجأتني صباح يوم باكر، وهي تهزّني بيديها:

ـ لا تنكر.. لقد رأيتكما في المنام، أنت وهي. قل لي من تكون؟

وهمست في أذني، وهي تستقبلني، بعد عودتي من جولة قصيرة في أوروبة، وكنّا في طريق العودة من المطار:

ـ ما رأيك أن تجري فحصاً للآيدز؟!

هذا غيض من فيض. والمشكلة أنني أفاجأ في كلّ مرة، على الرغم من كل الاحتياطات التي تجنبني الثورة. وأجد نفسي، في كل مرة، وقد أعماني غضب جارف، لا يقف عند حدّ. وأيقنتُ أنني هالك لا محالة، فاتخذت سلسلة من الإجراءات:

أصبحتُ أتجاهل من أراه، في الطريق أو في الأماكن العامة، من النساء اللواتي أعرفهن.

أصبحت أتغيّب عن المحاضرات أو المعارض أو الأمسيات التي تقدمها كاتبات أو فنّانات.

غيبّتُ عن مكتبتي كلّ المؤلفات التي تحمل أسماء نساء.

أصبحت لا أرى من النشرات الأخبار إلا لمذيعين. ومن باب الاحتياط أختارهم مذيعين بشوارب!

أصبحت أتحاشى رؤية المسلسلات التي تمثلها بطلة جميلة جداً أو حتى جميلة.

اختفت من لوحاتي النساء، واقتصرت على الرجال.

اختفى من كلامي كل الأسماء التي فيها تاء التأنيث، فلم أعد أقول: «أريد تفاحة») أو «برتقالة»، بل أقول: أريد «تفاحاً» و«برتقالاً».

أصبحت أصرّح أنني أحب الليل والقمر والبحر، ويغيب من تصريحاتي أنني أحب الشمس والشجرة والزهرة!

وأخيراً صمتُّ عن كل شيء: لم أعد أقصّ حكايات أو فكاهات أو أخباراً . حلّ بي صمت يائس. واعتقدت أن الأمر انتهى عند هذا الحد.

لكني فوجئت بها من جديد، تهز رأسها، وهي تنحني نحوي وتقول:

ـ فلتهنأ تلك التي أخذت عقلك، وجعلتك تسكت من أيام لتفكر فيها!

عندها خطر لي أن أكتب إليها هذه الرسالة المفتوحة؛ فقد أقررت بالعجز، وأصبحت أرجو الخلاص بأي ثمن.

وقد يسألني أحد لماذا لا أطلقها، وأنهي كل هذه المشكلات، وأتفرغ لنفسي، ولفنّي فأقول: لقد نسيتُ، منذ البداية ،أن أذكر أني أحبها.. أحبها حباً ملك عليّ كل طريق، وأراها لأمر ما، أجمل نساء الأرض، ولا أستطيع أن أتصور الحياة دونها. وهذه هي مشكلتي الحقيقية. فاسمح لي، عزيزي المحرر، أن أخصّ زوجتي بهذا السطر: « زوجتي الحبيبة.. اعلمي أن كل نساء الأرض لا يستطعن تحويل قلب رجل محبّ عمن يحبّ.. وارحمي عزيز قوم، أحبّ، فتزوج، فذل!».

 

 

فشّة خُلق..

 

السيد المحرر المحترم:

استفزتني الرسالة التي نُشرت بعنوان ( ومن الحب ما..) على هذه الصفحة، تتهم المرأة بالغيرة العمياء، ومحاصرة الرجل دون وجه حق. ورأيت فيها ظلماً كبيراً لي ولبنات جنسي. إننا نعيش في مجتمع الرجل، ومتى كان الرجل أهلاً للثقة؟ دعني أتحدث بصراحة لا تقبل المهادنة، وأبدأ بنفسي، دون أن أدخل في المهاترات النظرية، عمّا خبرتُ ورأيتُ وسمعتُ.

كان لنا جارة لعوب، ترى أن الرجال لا أمان لهم، وأنهم مستعدون أن يلهثوا وراء أي عظمة تلوح في طريقهم (أعتذر عن هذا التعبير، جارتنا هي التي ترى هذا، لا أنا وهي، حتماً، لا تقصد كل الرجال) ولمّا عارضتها في رأيها وتحدّيتها، راهنتني أن توقع زوجي في أشراكها، وقبلتُ الرّهان.

وطلبتْ مني، ذات يوم، أن أحضر ، سرّاً، إلى بيتها. أخبرتُ زوجي أنني ذاهبة لأزور والدتي في الحي المجاور، ودخلت إلى العمارة المقابلة. واستقبلتني الجارة اللعوب، ورجتني أن أجلس وأسمع بنفسي. وبعد دقائق رنّ جرس الهاتف، فضغطتْ على زر في الجهاز، فأصبح الحديث مسموعاً للجميع. وفوجئت بصوت زوجي يدوّي في الغرفة المغلقة:

ـ مساء الخير ... حبيبتـي!

وكاد يغمى عليّ، لولا أن تماسكت، وضبطت أعصابي. وسمعتُ في ساعة كاملة، كلّ كلمات الغزل العذري والفاحش، التي أسمعني إياها زوجي في فترة الخطوبة، وبدايات الزواج، ثم انقطع، إلا في المناسبات، عن تكرارها. وفي آخر الحوار، حدّدت الجارة موعد لقاء معه في عزّ الظهيرة لليوم التالي، وأقفلت السمّاعة على أصوات قبلاته المفرقعة، وقالت:

ـ غداً سترين بنفسك!

واتصل بي زوجي، في اليوم الثاني من عمله، وأخبرني عن اجتماع طارىء هام في الدائرة، سيطول، ويتخلله غداء عمل.

وبعد مرور أكثر من ساعة على الموعد ذهبتُ إلى المكان المحدد، فوجدت زوجي يذهب ويجيء، في الظهيرة الحمراء، وهو يفرك يديه بقلق مقلق، يتلفتُ يميناً ويساراً، ويدور حول نفسه في حركات عصبية، وهو  ينتظر تلك المرأة التي لن تجيء.

وفوجئ بظهوري المفاجئ أمامه، ولما سألته عما يفعل هنا، ارتبك، واحمرَّ واصفرّ واخضرّ، وتلعثم في الكلام وهو يقول:

ـ أنزلني المدير العام، ابن الحرام، وطلب مني أن أنتظره قليلاً.

وأسفت لهذا الرّهان الذي كلفني زوجي!

أحياناً أقف في الشارع دقائق، لأنتظر صديقة أو قريبة، تأخرت عن موعدها، فتقف لي السيارات، وأتلقى دعوات كريمة، وعروضاً سخية، وأسمع عبارات غزل كنتُ أتمنى أن أسمعها من زوجي.

يا إلهي! أكلهم ينتظرون مثل هذه الفرصة لاقتناصها؟ كم من النساء اضطررن، لأمر ما، أن يقفن أو يسرن وحيدات! كم من أطنان الكلام والغزل يلقى على مسامعهن! كم من الدعوات! كم من الآمال تُعقد على وقوفهن أو سيرهن! كم من الأحلام توقد في خيالات الرجال الحمقى، الحمقى فقط!

كثيراً ما تحدثني بعض صديقاتي عن رجل، أغلق الباب عليهن معه مصادفة، فتنهال الإغراءات: المال، الجاه، القوة. هكذا دون خجل، ودون أن يخطر في بال الرجل، لحظة واحدة، أن يفكر في هذا المخلوق البشري أمامه، في حقها، في حدودها، في حريتها المهدورة، في رغبتها الحقيقية، في رأيها فيه. قد أغلقتْ نزواته منافذ التفكير في رأسه، وأيقظتْ فيه رجولته العطشى، فعمي عليه كل شيء.

وتحدثني بعض صديقاتي عن رجال، يقتنصون لحظات خلوة بهن، فيسردون بعضاً من حياتهم الخاصة، ومشكلاتهم مع زوجاتهم، وعن  الظلم الذي يلحق بهم معهن. ولا يخجلون من التعرّض إلى الكلام عن السرير صراحة ودون مواربة.

وتتحدث بعض المطلقات أو الأرامل من صديقاتي، اللواتي وقفن حياتهن على أولادهن، عن رجال من كل الأعمار والمستويات الاجتماعية، لا يرون فيهن سوى صيد سهل، فيعرضون خدماتهم، خدمات بلا حدود، دون مقابل! أحدهم تطوّع، يومياً، لغسل سيارة سهام، وآخر تعهد برعاية حديقة ليلى، وآخر تبرّع بمرافقة ولديْ منى إلى المدرسة صباحاً وإعادتهما ظهراً، وآخر ذو سلطة وعضلات تكفل بإبعاد كل الذئاب، على حدّ تعبيره، عن طريق سلمى، وآخر أرسل زوجته لخطبة أمينة، جارتهم الجميلة المطلّقة، لتصبح زوجته الثانية!

 

تتجاهل زينب تصرفات زوجها الطائشة، وهو لا يدري أنها تدري، حرصاً على بيتها وأولادها، آملة أن يستيقظ ضميره، فيكفّ عن نزواته، ويثوب إلى بيته، ويثوب معه الحب والأمان والثقة.

أميرة  لاحظت تعلق زوجها الكهل بسكرتيرته الشابة، فما كان منها إلاّ أن خطبتها له بنفسها، ووقفت على خدمته، ليموت في أحضان زوجته الشابة الجديدة، وقد أصابته «رهقة» شهر عسل قصير قاتل.

ووقعت إيمان، وقد اشتد عليها المرض، بعض الأوراق البيضاء لزوجها، لتسيير معاملاتها في الدوائر الرسمية. وفوجئت بورقة الطلاق، تبعها، بعد أيام، حكم بإخلاء المنزل الذي كانت تملكه بعد أن أصبح ملكاً لمطلقها. وعلمت أنه يجري وراء امرأة من الوسط الفني.

وعادت فتحية من رحلتها، بعد غياب شهرين، في زيارة أهلها خارج البلاد، وفتحية تحمل إجازة في الآداب، فوجدت زوجها قد تزوج من الخادمة الأميّة التي لا تحمل أية مؤهلات جمالية!

صديقتي الشاعرة هيفاء استمعت للكاتب الروائي الكبير، بعد قراءته ديوانها الأخير:

ـ أنت امرأة حرة، تروحين وتجيئين، تختارين، عليك أن تكتبي كما لو كنت في غرفة نومك، عرّي نفسك، عبري عما لا تجرؤ امرأة على البوح به، فتحققي القفزة المطلوبة!

وجدت هيفاء دموعها تسيل على خديها، وقالت للكاتب الكبير وهي تنهض خارجة:

ـ أستاذ.. أنا شاعرة ولست عا...!

قرأتُ مؤخراً أن ممثلة قديرة وكبيرة سُئلت، بعد هذه الرحلة الطويلة، ومعرفة أصناف من الرجال، عن رأيها فيهم، فأجابت بملء فمها، وهي في غاية الرضا:

ـ كلهم أوغاد!

سيدي المحرر: كنتُ أحتاج إلى مجلدات، لأسرد كل القصص التي أعرفها، وعلى الرغم من ذلك، وعلى الرغم من الغضب الذي يجتاحني فإن علينا أن نقبل الحياة كما هي، حتى نغيّر ما بأنفسنا، وأنا على استعداد لتكرار الزواج، إذا تقدّم لي أحدهم وأعجبني. وأرجو أن يكون هذا بمثابة «إعلان» غير مدفوع الثمن! ورحم الله الذي قال: الرجل شرّ لابدّ منه!

 

 

وأخيراً.. وصلت الرسالة

 

سيدي الكريم..

يخيّر الإنسان، أحياناً، بين السعادة والشقاء فيختار السعادة، حتماً، عندما يكون في كامل قواه العقلية. ويخيّر، كذلك بين الخير والشر فيختار الخير، ويخير بين الحياة والموت، فيختار الحياة. ولكن.. ما حيلة الذي يخيّر بين الموت والموت، وليس في استطاعته ألا يختار؟!

 

على كل حال، سأوجز قصتي ليتضح ما أقصد إليه:

أنا فتاة من هذا الوطن، أبلغ العشرين من عمري، وأعمل معلمة في مدرسة قريتي الوحيدة، وقريتي مرمية، مثل كثير من القرى، على أطراف البادية. تعلمت في دار المعلمين بإحدى المدن الكبرى، وأقمت في القسم الداخلي. كان التحاقي لمتابعة تعليمي بعد شهادة الكفاءة أشبه بمعجزة لن أخوض في تفصيلاتها. عرفت في هذه السنوات القليلة عن الحياة والمجتمع والناس ما يحتاج إلى قرون لمعرفته لو بقيت في القرية. والدي ووالدتي على قيد الحياة. لي أخت متزوجة وإخوة صغار أكبرهم في العاشرة. وكنت انتظر الغد، وأنا مسكونة بالآمال والأحلام وبما نفثته الكتبُ في أعماق روحي.

وتشاء الأقدار أن توقع والدي في «شباك الخطيئة» مع فتاة في القرية، الله وحده يعلم أين كان يلتقيها، وأين حصل الذي حصل، وقريتنا مبسوطة كالكفّ في وجه السماء. وفاتح والدي والدتي بالأمر، وأخبرها أنه عازم على خطبة الفتاة، درءاً للفضيحة، من أهلها الذين لا يعلمون عن الأمر شيئاً. وهم قوم قساة، غلاظ، لا يحلّون مشكلاتهم، غالباً، إلاّ بالدّم. ولم تجد والدتي ملاذاً سوى الرضوخ وتسليم أمرها لصاحب الأمر، الذي لا يرد له أمر. ولاذت بأحضاني تشكو بدموع لم تجد سبيلاً إليها في حضن آخر.

وتقدّم والدي إلى أصحاب الشأن طالباً التشرّف بالقرب منهم، بمصاهرتهم وفق ما يقتضيه الشرع. فوافقوا دون تردد، بشرط وحيد بسيط: أن يوافق والدي على تزويجي أنا من أخ للفتاة. وهو شاب متزوج، له أولاد، أُمّي، سكّير، عاطل عن العمل، لا يمكن أن يخطر في بالي أن يُغلق عليّ وعليه باب.

هنا وقعت أنا في الشرك. كنت أشفق على أمي، وأرثي لحال أبي، فصرت أشفق على نفسي وأرثي لحالي. كنت أبكي لمصيرها، فصرت أبكي لمصيري. لم أجد من حولي من أعوّل عليه في حلّ مشكلتي، فهداني تفكيري، أخيراً، إليك، وأنت القادر على مد يد العون لانتشالي مما أنا فيه، لهذا جئت أحمل قلقي وعطشي إلى جواب، إلى أية إشارة ترشدني.

أأرضى بهذا الإنسان، وبما ضُمّ عليه من خلائق، فأقتل نفسي في الحياة، وأقتل أمي مرتين مرّة من أجلها ومرّة من أجلي، أم ارفض فتكبر الفضيحة، فأقتل أبي وشريكته؟!

أأهرب وأدع أبي يواجه مصيره وحده، أم أتقدم وأصرخ فيهم: خذوني.. هاأنذا «الضحية» فاذبحوني؟!

أي الموتين أختار؟ أوليس من حلّ يجنبّني أحد الموتين؟!

سيدي..! أنا في انتظار كلمة منك تهديني سواء السبيل.. تضيء، ولو شمعة في ظلام أوقاتي، أمامي أيام معدودات لأختار، فلا تدع رسالتي تنتظر.

المعذبة م.ع.

قرية...

 

ملاحظة: أرجو ألا تذكر اسم القرية في جوابك إليّ

قرأتُ الرسالة مرّات ومرات، ذُهلت عن نفسي، وأخذني التعجب من وصولها إليّ بعد أن تركت هذا البرنامج الإذاعي منذ سنوات طويلة. وكيف لي أن أردّ على الرسالة، وليس عليها اسم محدد وعنوان؟ راودتني فكرة غريبة: أن أسافر إلى صاحبة الرسالة في قريتها ذات المدرسة الوحيدة لعليّ أقف إلى جانبها. ولكن هذه الفكرة الغريبة الجريئة سرعان ماتبددت حين انتبهت. فجأة انتبهت.. انتبهت إلى أن الرسالة مؤرخة في 25/10/1970 فدارت بي الدنيا، ولم تقعد حتى اللحظة.

إذاً.. فقد مرّت خمس وعشرون سنة على رسالة هذه المعذبة (م.ع)، ووصلت إلي اليوم. أين كانت؟ أين ضاعت كلَّ هاتيك السنين؟ وأي الدروب سلكت؟ وما الذي جرى لهذه المعذبة؟ أقبلتْ أن تكون «الضحية» وتزوجت من ذاك المتزوج الأمي الفظ السكير العاطل عن العمل، أم أن والدها لاقى وشريكته المصير المحتوم، أم أن حلاً آخر تدخل وغير المصائر؟!

أيتها المعذبة...! خمس وعشرون سنة مضت منذ أن جفّ حبر رسالتك. ولابد أن تكوني قد انتظرت، وانتظرت دون جدوى. ولابد أن تكوني قد اخترت. لم يعد ينفعك، الآن، رأيي، ولا رأي غيري.

لم أعد أستطيع أن أفعل شيئاً. وهاأنذا أنشر قصتك في الصحف، لعلك تقرئينها، بعد خمس وعشرين سنة. فإذا وقعت بين يديك، وارجو لها ذلك، فأخبريني. قولي لي ماالذي حدث؟ فأنا الآن، لاأنتِ، الذي ينتظر، ينتظر منك كلمة، إشارة لعليّ أعلم منك: كيف حلّ الزمان المشكلة، وأي موت من الموتين اختار؟!

أرجوك... أنا في الانتظار

 

 

قطط لا كالقطط!

 

كتب إليّ قريب شاب يدرس في أمريكا أن جاراً له جاء يطلب، بلطف زائد، أن يتفضّل، ويقبل استضافة قطته لأيام معدودات، لأنه مضطر إلى السفر في عمل ضروري. وأفهمه بطريقة غير مباشرة، أنه يمنحه شرفاً عظيماً حين يختاره لهذه المهمة دون غيره من الجيران. ولم يكن أمام قريبي وزوجته إلاّ القبول، على مضض لمثل هذا الشرف العظيم، فهما لم يألفا، من قبل، مثل هذه المهمة.

ولكن الأمر، على عكس ماكان متوقعاً، راق الزوجة، فهي تكاد تكون وحيدة في بلد غريب، وكانت قد أجلّت فكرة الحمل بالاتفاق مع زوجها لضيق ذات اليد. وجدتْ متعة غامرة، في يومها الطويل، وهي تعتني بالقطة وترعاها: طعامها وشرابها وحمّامها ونزهتها.. تنفيذاً لتعليمات الجار المتفضّل.

وأسرّت لزوجها ـ بعد عودة القطة إلى صاحبها ــ رغبتها في اقتناء قطّة تسليها خلال غيابه في الجامعة. وأشار عليه بعض معارفه بالاتصال بمكتب من المكاتب التي تبيع القطط. وفوجىء بأن ثمن بعض القطط يصل إلى آلاف الدولارات، وأن الحد الأدنى لقطّة متواضعة في حدود خمس مئة دولار. وجد أن هذا الحد الأدنى مبلغ كبير، وهو يتذكر القطط المجانية الشاردة في حارات مدينته البعيدة، دون أن يأبه أحد لهذه الثروات الخيالية! ونصحه أصحاب أحد المكاتب بالاتصال بالبوليس، فلديهم قطط لقيطة، تركها أصحابها في الطرقات لسبب أو آخر. وهي ارخص ثمناً من تلك القطط، ذات الاحساب والانساب والأصول. وفعلاً قام بالاتصال المطلوب. ووجد ضالته بسهولة. ولكنه فوجىء مرة أخرى بتحقيق لم يتوقعه:

- يبدو أنك غريب!

- نعم

- هل أنت واثق من رغبتك في اقتناء قطة؟

- أوه... نعم... أنا وزوجتي.

- وهل لديك الوقت للعناية بها؟

- أجل.. زوجتي متفرغة.. لاتعمل

- هل سبق لها أن اقتنت قطة؟

- لا..لا.. ولكن..

- لابأس هناك كتبٌ تعلّمها ذلك. هل أنت قادر على تحمّل نفقاتها المختلفة؟ وهل لديك فكرة عن هذه النفقات؟

- لا.. أعتقد أن الأمر بسيط.. كم يكلف ذلك؟

- القطة تكلّف مئة دولار أسبوعياً ما بين طعام وشراب ورعاية صحيّة، وتأمينات مختلفة.

وكتم ضحكة غالبته. ومع أنه قرر قمع هذه الفكرة عند زوجته، إلاّ أنه تابع الحديث من باب الفضول:

- لابأس.. مئة دولار أسبوعياً؟ لابأس

- ولكن ماهو عملك؟

- أنا طالب موفد أحصل على نصف منحة

- طالب ومتزوج ونصف منحة وتريد اقتناء قطة؟!

- نعم وماالمانع؟

- ليس عدلاً أن تموت القطة من الجوع والإهانة في بيتكم.

- في الحقيقة... أهلي يرسلون لي بعض النقود

- الأمر بسيط إذاَ.. ماعليك سوى أن تكتب لأهلك لتأمين كفالة رسمية لإعالة القطة، وترجمتها، وتصديقها من الدوائر المسؤولة ومن سفارة بلدنا في بلدكم.

- كل هذا من أجل تربية قطة؟!

- أجل.. وهل تظن الأمر مزاحاً... نريد ضمان كل شيء

ولم يستطع قريبي أن يتابع المكالمة عند هذا الحد، فانقطعت. وكفّ هو وزوجته عن التفكير في هذا الأمر. وعزما على الانتظار حتى تتحسن أحوالهما الماديّة، فينجبا طفلاً يشغل الزوجة في أوقات فراغها.

 

 

الصعود إلى الهاوية

 

أنا مدرّس للغة العربية عملت معاراً في اليمن أربع سنوات، وأتبعتها بسنتي استيداع. واشتريت بما وفّرت بيتاً في ( المزّة) وانتقلت إليه، وأجَرْتُ بيتي القديم.

فجأة، وبلا مقدمات، قفزت أسعار البيوت قفزاً مجنوناً. وأصبح محسوبكم من أصحاب الملايين، فلم يعد عقلي يحملني، نظرت من حولي، تْشمّمتُ الأسواق، واتجاه الرياح، وقلت لنفسي: ياولد! إذا جنّ قومك فجنّ معهم.

وبلا طول سيرة بعتُ البيت الجديد، واستأجرت بيتاً استئجاراً سياحياً، وتصرّفت بالأموال بحكمة وحمدت الله أني لم أنس المثل الانكليزي الذي يقول: لاتضع بيضك كله في سلة واحدة! فوظفت نصف المبلغ عند أحد جامعي الأموال في مشروعاته المختلفة، ولم أكن قد سمعتُ بغيره لقاء دخل شهري يساوي مجموع مرتّبي قبل استقالتي لمدة سنتين، واشتريت بربع المبلغ شقة (على العظم) على الخريطة، أتسلّمها بعد سنة واحدة. واشتريتُ «ميكرو باص» على المازوت بالربع الأخير، وسلّمته لأحد السائقين المأمونين جداً. وصنّفت نفسي من أصحاب الأملاك، وصرت أحلم بالسيارة والمزرعة وقضاء الصيف في مونت كارلو أو جزر الكناري، والشتاء في بانكوك أو هونولولو، وراودتني فكرة الزواج ثانية!

وأعترف، وليس لكم عليّ من يمين، أني عشت كأمير من أمراء النفط سنة كاملة تعادل عمري، الذي عشته وسأعيشه ولو عُمّرت مئة عام. وفجأة صحوتُ من الحلم وأظلني كابوس ثقيل، إذْ قُبض على جامعي الأموال بالعشرات. وجُمّدت أموالهم وأموال المودعين الذين يعدّون، ويا للعجب، بعشرات الآلاف، حتى إشعار آخر. وتطوعت الحكومة مشكورة، حفظها الله، أن تنصف المودعين، وها قد مضى أكثر من ثلاث سنوات، ولم تتخذ أي قرار في شأننا. واكتشفت حين ذهبت  لتسلُّم الشقة الموعودة ـ وياللهول، على لغة المغفور له يوسف وهبي ـ اكتشفت أنها مبيعة لعدة أشخاص، والمحكمة، التي ستقول كلمتها الفصل، قائمة، الآن، على قدم وساق، والخصوم يتكاثرون كالفطر وآمل أن يتم الفصل فيها خلال السنوات القادمات، وقد أخبرني أحد العارفين ببواطن الأمور، وهذا سرّ أرجو أن يظل بيني وبينكم، أن أمثال هذا التاجر سيحالون ، وفق قانون جديد، يُدرس حالياً، على محكمة الجنايات بصفتهم محتالين وسارقين ، لا على محكمة مدنية تستغرق سنوات وسنوات كما هي الحال الآن. وهبطت أسعار ( الميكروباصات) المازوتية إلى الثلث، وأصبح دخل ( ميكروباصي) يصرف بأكمله على الاصلاح، كما صرّح لي السائق المأمون جداً! وحين طالبت ببيتي القديم المؤجر أعلن المستأجر الكريم العصيان! وحين احتكمتُ إلى القضاء، وقدمت كلَّ المستندات التي تثبت أن المستأجر يملك بيتاً في (ببيلا) رُدّت دعوتي، لأن (ببيلا) من ريف دمشق، مع أنها لاتبعد إلا أمتاراً معدودات عن آخر حي في المدينة. كما اضطررت إلى ترك البيت المستأجر سياحياَ لانتهاء المدة المحددة، ولأسباب لم تعد تخفى عليكم. وأثاث بيتي، الآن، موزع عند بعض أقاربي. وأصبحت أنا في بيت أهلي، واصبحت زوجتي مع ابننا الصغير عند أمها في غرفتها الوحيدة، وأصبح قسم من أولادي عند عمّهم، وقسم عند خالهم. ونحن نلتقي جمعياً مرّة في الأسبوع في إحدى الحدائق العامة، في انتظار أن تحلّ مشكلاتنا جميعاً فنلتقي من جديد، تحت سقف واحد!

وأرجو ألا تظنوا أني حزين أو غاضب أو نادم، فقد تجاوزت ذلك كله، بل أرى أنه كان لابد أن يحدث ماحدث حتى أرى الأمور بهذا الوضوح، وأخرج بهذه الحكمة التي خرجت بها وأنا في غاية الرضا والتفاؤل. وكتابتي لقصتي ليست شكوى موجهة إلى أحد على الإطلاق؛ فأنا أعلم أن المسؤولين أكثر حرصاً مني على حل مشكلتنا، ولاشك أنهم يسهرون ليل نهار من أجلنا، ولااريد أن أضيّع أوقاتهم الثمينة بشكاوى لاتقدم ولاتؤخر. وكل ماهو آت قريب. ومهما يكن وضعي صعباً وقاسياً فلايمكن أن يقارن بأوضاع بعض ممن عرفتهم أو سمعتُ عنهم. فجارنا أصابته، بما حصل جلطة قاتلة، والأستاذ كامل، الذي وظّف كل تعويضاته بعد عمل ثلاثين عاماً في منظمة دولية، انتهى به الأمر إلى مستشفى الأمراض العقلية، أما تلك المرأة التي باعت بيتها لتجد دخلاً يطعم أولادها الخمسة فقد اضطرت إلى أن....

إذاً... هاأنذا أعترف أني المسؤول الأول والأخير عمّا حدث. أنا الجاني وأنا الضحيّة, ولاأتهم أحداً سواي. وإن كنت أكتب لكم فإني أفعل ذلك لتتسلوا بقصتي وتضحكوا قليلاً، وأنتم في حاجة إلى ذلك، فأنا أعلم أن حياتكم أصبحت صعبة أكثر مما ينبغي، أليس كذلك؟!

وأودّ أن أبوح لكم بسرّ: المصيبة التي وقعت على أمّ رأسي جعلتني أتلمس موهبة التأمل والكتابة عندي، فمنذ زمن بعيد وأنا أحس أن هذه الموهبة تتحرك في داخلي، وأنا أتجاهلها، وهاهي ذي تحاول التعبير عن نفسها.

لي رجاء بسيط بشقين: الشق الأول موجه إلى وزارة التربية لإعادتي إلى عملي في التدريس ولو كان تعييني الجديد في (ديرالزور)، والثاني موجه إلى اتحاد الكتاب العرب للموافقة على طبع روايتي الأولى التي كتبتها أخيراً من واقع معاناتي، فروايتي لاتقلّ، في رأيي، عما ينشر هذه الأيام!

واسمحوا لي أخيراً أن أودعكم من مقهى (أبو كمال) هذا المقهى الشعبي الذي أتردد إليه كثيراً هذه الأيام، فقد تأخرت على الصديق الذي دعاني للإفطار على حسابه عند بائع فول مشهور في السوق العتيق!

 

 

مسؤولية

 

كان واحداً من أقاربي الكثيرين. وكنتُ أراه في أوقات متباعدة. تتصافح أيدينا، وتلهج ألستنا بعبارات المجاملة، ويطول الحديث، فننتحي جانباً من الطريق. ويسألني عن أحوالي، فأرد عليه في اقتضاب:

- الحمد لله... مستورة!

وأسأله عن أحواله، فيطيل:

- أنا سعيد جداً... سعيد في بيتي، والفضل يعود إلى اختك أم محمد، ( وهو يقصد زوجته) وسعيد في عملي. عملنا، كما تعلم، في الطوارىء فحسب.  نُدعى مرة واحدة إلى العمل في العام، أو لانُدعى. طول النهار وربما في الليل أيضاً مع زملائي. نعيش كالإخوة: فطور في الصباح، وفي أوقات المناوبة: شاي... قهوة... شاي. ونقضي الوقت في لعب الورق، أو الطاولة. نروي آخر «النكات» أو أخبار الفضائح.. نضحك من كل شيء.. وكثيراً مانغرق في حديث السياسة الذي لاينتهي... المهم أنا سعيد... سعيد جداً!

ونفترق، يمضي كلّ في طريقه. وتمضي شهور وشهور، قبل أن نلتقي ثانية، فيعيد عليّ «الاسطوانة» ذاتها. ولاأخلو، في كل مرّة، من نوع من الغبطة وربما من الحسد إزاءه. وأسرّ لي ذات لقاء، وهو عاجز عن كتم فرحته، أنه قد رُفّع وأصبح مسؤولاً عمن كانوا زملاءه بالأمس، واستقلّ بغرفة خاصة. وانتبهت إلى تغيّر في حركاته، وفي طريقة حديثه، وفي ملابسه كذلك، مما دفعني إلى الابتسام، وأنا أودّعه، وأستعيد صورته في خيالي.

وفي اللقاء التالي، بعد شهور، كان مقطباً، متأففاً، زاهداً في الكلام. فاضطررت أن أحثّه فانفجر:

- ياأخي..! هؤلاء الموظفون! إنهم لايُعطون وجهاً ولاقفاً. تعوّدوا البطالة! طول النهار: فطور، شاي، قهوة، ورق، طاولة، قصص. يتهامسون ويضحكون كالـ... استغفر الله العظيم. أولاد الحرام لايمكن ضبطهم. وكتمتُ ضحكة غالبتني، وقلت له مستغرباً:

- وماذا في ذلك مادمتم بلا عمل؟

قال صارخاً:

- عليهم بدلاً من تضييع أوقاتهم في السفاسف أن يكونوا على استعداد للطوارىء.

قلت:

- ولكن أنت.. أنت ماذا تفعل؟

قال وكأن هموم العالم على كتفيه:

- أنا..؟ أنا وحدي في غرفتي طول الوقت. أسمع أحاديثهم السخيفة، وضجتهم، وأنا أغلي من القهر.

وقلت ألتمس له الفرج من هذا المأزق:

- ولكن لماذا لاتشاركهم أنت، كما كنتَ تفعل من قبل؟!

قال مذعوراً، وكأني أهنتُ كلّ مقدّساته:

- أنا؟! هل أنت مجنون؟ كيف أشاركهم؟ هل تريد منّي أن أتنازل لهم؟ ألم أقل لك: إنّي أصبحت مسؤولاً عنهم؟ مسؤول..ياأخي.. ألا تفهم؟!

 

 

ممنوعات

 

نفخ الطبيب دخان «سيجارته» في وجه مريضه، وهو يعيد فنجان القهوة إلى موضعه على الطاولة، وقال بلهجة طبيبية حازمة:

- قلبك لم يعد يحتمل «السيجارة» سمٌّ قاتل، وقد ثبت مسؤوليتها عن السرطان، والأزمات القلبيّة، والآفات الرئوية، وأمراض أخرى.. عليك أن تنساها تماماً... عليك أن تتتذكر:

السيجارة : ممنوع

القـهــوة : ممنوع

الانفعال: ممنوع

الســـهر: ممنوع

القراءة: ممنوع

وهمس في أذنه، على الرغم من عدم وجود أحد في العيادة، بكلمة، ثم رفع صوته متابعاً:

....ممنوع ذلك!

وكتب له قائمة طويلة.. طويلة.. بما يجب، وبما لايجب، وقائمة أطول بالأدوية، التي عليه أن يتناولها في مواعيدها وإلاّ.. فقد أعذر من أنذر.

وابتسم الطبيب ابتسامة مصنوعة بدبلوماسية إعلاناً عن انتهاء الزيارة. فما كان من المريض إلاّ أن أخرج (الكشفية) المعلنة على الباب، ودسّها في يد الطبيب الناعمة كالحرير. وخرج يبحث عن نسمة هواء في هذا الجو الرصاصيّ الثقيل، وعن مسرّات جديدة في رحاب الموت القادم!

 

 

ولمَ لا!

 

انفجر الخبر في الحي كالقنبلة: السيدة عفت تزوّجت رجلاً يكبرها بسبع سنوات! كان هذا الخبر آخر ما يمكن أن يصدّق؛ فالسيدة عفت في الخامسة والسبعين من عمرها. وقد أحيلت على التقاعد من أكثر من عشر سنوات. ومضى على رحيل زوجها أكثر من ثلاثين عاماً. وكبر أولادها، وتزوجوا، وانفضّوا من حولها بعد أن رفضت أية زوجة السكنى معها، فعاشت السنوات الأخيرة وحيدة. وأقنعت نفسها ألا تنتظر زيارة أحد من أولادها إلا في الأعياد والمناسبات.

وفوجئت السيدة عفت، في عصر اليوم الثالث لزواجها بسرب من نساء الحي يطرقن عليها الباب للمباركة، تعرف اثنتين أو ثلاثاً منهن فحسب. فترحب بهن، وتدعوهن إلى صالة الضيوف، ويدخلن متدافعات، وهن يخفين ضحكات تكاد تنفلت في الممر الضيق. وتغيب السيدة عفت دقائق، وتعود إليهن بثوب بنفسجي فيه عروق أزهار كبيرة، متعددة الألوان، وقد زينت شعرها بربطة صفراء، وانتعلت خفاً أبيض كجلد الأرانب. وجلست في مواجهتهن، وهي ترد على التهاني، التي انصبت على التوالي من أفواه متعجلة. ثم حلّ الصمت، وكبر حجم الحرج. مما دفع السيدة عفت، التي كانت تستعرض وجوه المهنئات، إلى تجاوز ذاتها، لتتجاوز هذا الصمت وذاك الحرج، فانبثق في عينيها شيء من التصميم، وعلى شفتيها ابتسامة لا مبالية، وارتفع صوتها، وأخذت تتحدث بلهجة واثقة وعاتبة مؤنبة:

ـ أنتن مثل بناتي، فلا تؤاخذنني إذا كنت صريحة. أنا أعلم أن هذه الزيارة ليست للتهنئة، أو ليست كلها للتهنئة. الفضول هو ما دفعكن للحضور؛ لترين هذه العروس، التي كان الأولى بها أن تهيئ كفنها استعداداً للموت القادم، أليس كذلك؟! لقد فعلت ذلك زمناً طويلاً، لكنه لم يأت. كنت أقضي الأيام والليالي دون أن أتحدث إلى أحد. فوجئت ذات يوم أنني أكلم نفسي. عندها خفت وقلت: يا بنت لا تلومي أحداً كل واحد عنده هم يكفيه، الله يسامح الجميع. يا بنت أخرجي أحسن لك، وإلا أصبحت قريبة إلى الجنون. صرت أتردد إلى الحديقة العامة في الحي المجاور. وكنت أجد فيها ما يسلي. ولا يخلو يوم من حديث مع شخص ألتقيه. وصادفته هناك، وتكرر اللقاء، ومع التكرار كنا نتبادل تحية الصباح أو المساء. وأصبح جزءاً من الحديقة. ولم أعجب من القلق الذي ينتابني إذا لم يحضر. وجمعنا ذات يوم مقعد واحد، فلم نعد نفترق. وعلمت منه أن حاله مثل حالي، وحيد في مدينة كبيرة، يأرق طويلاً في الليالي الطويلة؛ ولا يجد من يناوله حبة دواء، أو كأس ماء إذا كان مريضاً. وشيئاً فشيئاً عرفت عنه كل شيء، أصبح بيننا أشخاص وأمكنة، بل وذكريات مشتركة. وذات يوم وكأننا على موعد انبثقت رغبتنا أن نكون معاً، ولم نفعل سوى تلبية هذه الرغبة، فهل في هذا ما يعيب؟!

ذات ليلة فكرت طويلاً في الأمر: لدي شقة ولديه شقة، نؤجر شقته لنستعين بأجرتها على حياتنا مع هذا الغلاء، ويأتي ليسكن معي. ما أطبخه لي وحدي يكفينا نحن الاثنين. بدلاً من أن يشتري من السوق ما يحتاج إليه وحده، يشتري لنا نحن الاثنين، فأرتاح من الذهاب والإياب للبحث عما أحتاج إليه. بدلاً من أن أشرب قهوة الصباح والعصر على الشرفة وحدي صامتة، فإننا نشربها معاً ونحن نتحدث. بدلاً من أن أنام في السرير العريض البارد وحدي فإني سأجد أنفاسه تدفئني.  إذا خفت في الليل وأنا أسمع صوتاً هنا أو هناك وجدته بجانبي. إذا أرقت في الليل وجدت من أتحدث إليه قربي. وإذا جاء الموت يطلبني لم أكن وحدي!.

وبعد هذا وذاك أنا بشر من لحم ودم و... يكفي أن تكون في البيت رائحة رجل! وأنا قد اعتدته فلم لا نكون معاً في النهار والليل؟ أحرام أن تكون المرأة مستورة في آخر حياتها، وتجد من يواريها التراب إذا جاء صاحب الأمانة يطلب أمانته؟!

فكرت في هذا وفي أشياء أخرى. وقلت: يا بنت، وافقي! وهذا ما كان.

لا تؤاخذنني «العريس» نائم ولا يستطيع الحضور للسلام عليكن، ظهره يؤلمه، يبدو أن برداً أصابه، وقد وضعت له «لزقة» ونام.

ويبدو أن دمعة تحيّرت في مقلتيها، وهي تنقل نظرها في الضيفات واحدة واحدة، وخشيت أن تنحدر الدمعة على خدها، فقامت، معتذرة إلى المطبخ، لتحضر لهن ما يشربنه.

 

 

الحلم الأخير

 

حين عُرض على ليلى موضوع الزواج بأبي ماجد، الذي تجاوز الثمانين من عمره، جافاها النوم لليالٍ متوالية. واجهت نفسها في المرآة بصراحة لاحدود لها. تأملت جمالها الطاغي، الذي أصبح مضرب المثل في الحيّ كله، هذا الجمال الذي صدّت عنه عشرات الطامعين وبينهم خطّاب ذوو مكانة وشباب. ولكن قلبها لم يتفتح لواحد فيهم. كانت تريد شيئاً آخر. كانت تريد إنساناً يملأ عليها حياتها، تحبّه وتطمئن إليه، ينسيها زوجها الراحل. ولم تجد بين الذين تعرّضوا لها أو تقدموا لخطبتها من يحرك قلبها. وانتظرت طويلاً ترعى ولديها، وتجد سلوتها في خدمتهما ومتابعتهما في كل صغيرة وكبيرة. وعاشت معهما حياة قاسية في البيت الصغير، وبالمورد الشحيح. وهاهي ذي تقترب من الأربعين، يتآكلها خوف دائم من هذا الزمن المتسارع الذي لايتوقف وهي في وحدة قاتلة، وحرمان من متع ترى أنها من حقها وحق أولادها. فكثيرات من حولها ممن هنّ أقل جمالاً منها بمالا يقاس وجدن أزواجاً، وحباً، ومالاً كثيراً دون أدنى جهد. وهن يعشن، كما تراهن، سعيدات في البيوت الواسعة، والسيارات الفارهة، ومنهن من تقضي العطل في الساحل، أو في المصايف، أو حتى في أوربا. بينما تزورّ عنها الحياة وهي الجميلة الذكية بكل ما تحمل من مباهج وراحة بال. وانتظرت طويلاً ولم يسق لها الحظ ماتنتظر: الحبّ والمال!

واستعادت ليلى كلّ ماقالته المرأة الوسيطة عن أبي ماجد، الذي ماتت زوجته، إلى عهد قريب، دون أن يرزق منها ولداً، ويحتاج إلى إمرأة تعنى بشؤونه، فليس له من أحد في هذه الدنيا وهو صاحب العقارات والمخازن والمزارع والأموال التي لاتأكلها النيران.

وتذكر ليلى كيف اقتربت منها المرأة تهمس في أذنها على الرغم من أنهما كانتا وحيدتين ولا ثالث لهما: «اسمعي مني، هذه فرصة لاتعوض، أمواله كلها ستصبح تحت قدميك، وأقدام أولادك، سنة أو سنتان على الأكثر ويأخذ صاحب الأمانة أمانته، وعندها تعيشين ملكة. لقد تسرب إلى علمي أنه يعاني من قلبه، وأنه لن يعيش طويلاً. عشرات من النساء يقبلن به ممن هنّ أصغر منك. فلا تترددي. اسمعي مني تري ليلة القدر والسعد. أمامك مدّة أسبوع للتفكير لاأكثر».

وفكرت ليلى طويلاً، فكرت في ليالي الأرق حتى أتعبها التفكير ودائماً كان يداعب خيالها مستقبل ولديها اللذين سيكف عنهما الحرمان إلى الأبد، وتنفتح أمامهما مجالات للسفر والتعلم في أرقى جامعات العالم. داعب خيالها البيت الفسيح، تدخله الشمس من كل جانب، ويلعب فيه الهواء طَوال النهار، والفيلا الرائعة في المصايف. داعبت خيالها السيارة الفارهة التي حلمت بها منذ كانت تلميذة في المدرسة. داعبت خيالها الفساتين المستوردة من كل الألوان و«الموضات» ومعاطف الفراء، واشهر الحلاقين في البلد، وحياة الصالونات الباذخة والسهرات في الأماكن الراقية، ومخالطة عليّة القوم. داعبت خيالها الرحلات إلى بلدان العالم الجميلة، والعودة منها بأجمل الهدايا وأغلاها ثمناً. وطاف في خيالها كل النساء اللواتي تعرفهن واللواتي سيقتلهن الحسد والغيرة منها.

ولكن ما كان يعكّر عليها صفو هذه الأحلام هو الغرفة التي ستنغلق عليها وعليه، والسرير الواحد الذي سيضمهما معاً، وأنفاسه وروائحه وشخيره و... فتنتفض وتقرر الرفض، ويأخذها نوم متقطع قصير على هذا القرار. وما إن يطلع عليها الصباح حتى يعود الصراع إلى أعماقها من جديد، وتبدأ معركة لاهوادة فيها.

وفوجئت ليلى بنفسها، حين عادت المرأة الوسيطة بعد اسبوع، تقول بتسليم ذليل: موافقة!

مع أنها كانت اتخذت في ليلة الأرق الأخيرة قرارها الحاسم بالرفض.

واحسّت ليلى حين نطقت بهذه الكلمة، أن ليلى أخرى هي التي نطقت بها وليست هي، فانساقت وراء هذه المرأة، وليكن مايكون.

ولم تشعر ليلى حين أعلن زواجها بأبي ماجد بما كانت تنتظره من سعادة وأحلام قزحيّة، فكاد يقتلها الندم، وتمنّت أن تعود على أعقابها، ولكن هيهات! ولاتدري كيف جاءتها الفكرة بعد السكرة أن كل ماتنتظره، من سعادة وأحلام مؤجل حتى إشعار آخر، حتى يقبل الموت، وينجز فعلته، ويصبح كل شيء لها، فتصبح حرّة كالفراشة، وعندها تعانق الآفاق الطليقة؛ فتنهل من المتع بكلّ ألوانها كما تشاء.

وحين أقبل الموت، وأنجز فعلته مع أبي ماجد، وبعد انقضاء أيّام العدة، وجدت ليلى أن ليلى التي تعرفها قد ماتت منذ أن نطقت بكلمة: موافقة.

وجدت أن العقارات والمزارع والسيارات والأموال والفساتين والرحلات لم تعد تعني لها شيئاً. ولم يعد لها من همّ في السنين التاليات سوى رعاية ولديها فلعلهما يحققّان بعض الذي أخفقت هي في تحقيقه!.

 

 

اللعبة الخطرة

 

الآن، وبعد هذه المناقشة الصريحة الجريئة، في قاعة الدرس، تكتشف رفاه حقيقة الأمر. تفهم الآن كل ما لم تستطع فهمه خلال الأشهر الطويلة التي مرت على خطبتها من جمال: هي لاتحبه، وهو ليس الشاب الذي كانت تحلم به.

 

ولكن كيف بدأ الأمر؟ الأستاذة المتخصصة في القضايا الاجتماعية والنفسية هي التي قادت، بمهارة، هذه اللعبة. إذ جعلت لحلقات بحثها الميدانية مع  طلابها شعار  «تعالوا نفهم أنفسنا» وشرحت لهم بمحبة شروط «اللعبة»:

ـ نحن نعيش في المجتمع مسوقين بآراء وأفكار وقيم وسلوك نتقبلها دون مناقشة، ونتعايش معها، وتصبح جزءاً منّا وإن لم نقبلها في أعماقنا. تعالوا إلى مغامرة نكتشف فيها ذواتنا، ونهز قناعاتنا. هذه القاعة الصغيرة ستتحوّل بأسئلتكم الصريحة والجريئة إلى غرفة للمرايا، مرايا ترون فيها أنفسكم، وتكتشفون بعض خفاياكم، وعليكم ألا تخجلوا من طرح أي سؤال يخطر في أذهانكم، ماسيقال هنا سيبقى هنا. وكل واحد سيكون موضعاً للبحث والسؤال وأنا واحدة منكم، وسيأتي دوري. مارأيكم في أن نبدأ؟ وأقترح أن نبدأ برفاه زميلتكم الجميلة الأنيقة، الخجول. اطرحوا عليها ماشئتم من أسئلة، وهي بدورها ستجيب بكل صراحة. وبعد ذلك يأتي دور المناقشة والفهم والتحليل، وربما نخرج ببعض الملاحظات والتوصيات. تذكروا أننا الآن، والباب مغلق علينا، أحرار بكل مافي الكلمة من معنى، نمارس حريتنا بكل مسؤولية. هيّا نبدأ!

وتتابعت الأسئلة والأجوبة، بدا الأمر في البداية نوعاً من المزاح والتسلية، لكن سرعان مادخل الجميع في طقوس اللعبة، وغادرهم ماكانوا يحملونه من خوف وحذر وخجل و أقنعة، وقرروا أن يلعبوا هذه اللعبة حتى نهايتها، وليكن مايكون.

لم يتركوا زاوية من حياة رفاه إلا خاضوا فيها: طفولتها، ذكرياتها، ماتحب وماتكره، قراءاتها، آراءها فيمن حولها، أحلامها. وحين وصلوا إلى علاقتها بخطيبها كانت رفاه قد أوغلت في اللعبة وقررت أن تقول كل شيء.

الآن وبعد أن انتهى هذا اللقاء العاصف، هذا الحلم الغريب، تدرك رفاه كثيراً مالم تكن تدركه من قبل: أثر طفولتها المبكرة على شخصيتها وسلوكها، النزهات القصيرة في القرى والبراري القريبة، الأزهار والنباتات البرية التي كانت تقطفها لتزين بها غرفتها وغرفة أختيها، والألوان والروائح والطعوم، الأسماء الغريبة لأماكن لم تعرفها، الصمت الذي كان يلفّ «مشاويرهم»، الحاجز الذي يفصلها عن أمها وأبيها، الكتب التي كانت تقرؤها، الصور التي كانت تحتفظ بها سراً، الموسيقا والأغاني التي تحبها، برامج الإذاعة والتلفزيون التي تفضّلها، وجوه الزوار التي تحبها او تنفر منها، ألوان الحرمان التي عانتها في مأكلها وملبسها ومسكنها.

تدرك الآن أن هذا الحاجز الذي يفصلها عن خطيبها جمال، وعدم قدرتها على الرد على أسئلته، أو عدم مبادرتها بالحديث إليه أو عجزها عن مجاراته في سرد مشاهداتها اليومية، أو في رواية طرائف كما يفعل هو، وسلبيتها التي يتذمر منها على الدوام. تدرك الآن أن كلّ هذا ليس بسبب خجلها وانطوائيتها، كما كانت تتهم نفسها، وليس لنقص في شخصيتها وعدم ثقة في نفسها، كما كانت تعتقد، وليس في غبائها وثقل دمها كما كانت تتوهم. بل الأمر بكل بساطة أنها لاتحبه، ولم يكن في أي يوم من الأيام، فتى أحلامها الذي ترقبت مقدمه. تدرك الآن أن قلبها لم يخفق له حين جاء لخطبتها مع أهله، مع أنه وسيم وأنيق وجريء. تدرك الآن أنها قبلت به لأنه سيحقق لها كثيراً مما كانت محرومة منه: حريتها واستقلالها، الثياب الجميلة الرائعة التي تراها في الواجهات الأنيقة، المجوهرات والحلي، السيارة الفارهة التي ستحملها إلى كل مكان، الرحلات الطويلة والبعيدة التي كانت تحلم بها. تدرك الآن، الآن فحسب الحقيقة العارية، أنها أوهمت نفسها بحبه لتخفي رغباتها الدفينة في الثراء والجاه والرفاه، والتي كانت تخجل من مجرد التفكير فيها.

وتدرك الآن أيضاً أنه لم يأت إليها لحسبها أو نسبها أو علمها أو مركزها أو أي شيء من ذلك، تدرك أنه أتى إليها لجمالها، لتكون زينة لبيته ولرحلاته ولجلساته مع الأصدقاء، ليتباهى أمام الجميع بأنه امتلك « جوهرة» نادرة، وأنه عقد «صفقة» العمر بخطبتها.

كيف كان كل هذا غائباً عنها؟ وأي إحساس بالخزي والهوان ينتابها؟

 

وأية خيانة للذات وللقيم ترتكبها؟

ومع ذلك، فقد تجاوزت ذاتها، أمام زملائها وزميلاتها وأستاذتها القديرة، فأعلنت بعد المناقشة والفهم والتحليل قرارها: لن تفسخ الخطبة، وستمضي في ترتيب شؤون زواجها، ولن يقف شيء في طريقها، وستحاول تغيير نفسها حتى يكون خطيبها عنها راضياً. أمَّا الحب فليس مهماً على الاطلاق. ولا بأس ان يأتي أولا يأتي في الأيام المقبلة!

وراح الجميع يترقبون الدور القادم لمن يكون موضوع السؤال والجواب، في القاعة المغلقة ذات المرايا الكاشفة، ليمارسوا هذه اللعبة الخطرة !

 

 

رسالة إلى امرأة في خطر

 

كان الأمر في غاية البساطة، أيتها المرأة التي لم تقرأ جيداً تاريخ الرجال. كان الصّياد وكنتِ أنتِ الفريسة؛  إذ سخّر لك كل ميراث الرجولة، وجولاته الرابحة والخاسرة في حدائق النساء، فجرّك بمهارة فائقة إلى الشرك. كان التاجر المحنك المداور، وكنتِ أنتِ الصفقة المغرية بما تملكين من جمال وأنوثة وحياء، يتمسكن وهو القويّ العارف بأنك الأضعف، والأكثر حاجة إلى رجل يحميك، حتى يتمكن، والويل لك إن تمكن!. ينتقي لك من أشراك الكلمات، التي أتقنها، أعذبها وأكذبها وأقدرها على التغلغل في خلاياك، ودغدغة الأنثى فيك.

وهو لا يبتغي لديك سوى سحر المغامرة، فاستنفر لديه حسّ الامتلاك الذي لا يقف عند حد. وأنت لا تبتغين سوى القوة والأمان والظل الاجتماعي لديه. يدفعه إليكِ الشبع والملل، وتندفعين إليه بالحرمان والشباب. يشهر في وجهك كلّ الأسلحة: الوسامة والجاه والمال وقشرة الثقافة، وأنتِ تواجهين عزلاء، ومنكِ البراءة والغرام الأنثوي بالجمال والأضواء والأحلام. وهو ليس  على عجلة من أمره، ينسج ناعماً ناعماً على ريث، وقد مرن على الصبر والانتظار؛  حتى جاءه المال طارئاً، وسقط عليه الشبع بعد الجوع والحرمان، واستيقظت فيه القوة من ضعف وخوف. وأنت نافدة الصبر من خوف الأيام القادمة، وعاتيات الزمن!. هو لا يريد أن تقاوم فتنته امرأة، ‏أو تصد عن محراب رجولته امرأة. يؤذيه، بل يقتله أن يرى امرأة رائعة الجمال لم تمّر في سريره، هذا الشهريار الذي لم تؤدبه بعدُ حكايات الشهرزاد!

نعتك، وهو يهمس في أذنيك، ويذوّب قلبه في صوته المدرّب، بالأجمل بين نساء الأرض، والأرق والأذكى والأشرف وتصدقين. توّجك مليكة على البشر، وعلى قلبه. ألبسك من الأوهام حللاً ولآلئ. أسكنك منازل فوق القمر حتى غارت النجوم منك. باهى بك الشمس حتّى حلّ بها الكسوف، وتصدقين. منّاك بأنهار من ذهب وفضة وماس، وبقصور الأحلام في جنان الخلد، وتصدقين. تغزّل  بعينيك النافذتين إلى قلبك اللتين لم يُخلق مثلهما في البلاد. داعب بأنفاس كلماته شلاّل السنابل في شعرك. سوّى من شفتيك كرزتين من ثمرات الجنة، ومن صدرك الناهض مستقر الأماني، وتصدقين. قطّر من إهابك كل العبير الأنثوي الخالد، واستنفر السحر المذاب المشعّ من تموجات صوتك، وتصدقين. وسباك في شِباك الكلمات!

وها أنتذي تسيّجك الأسلاك الشائكة، وتعبرين فوق صواعق الألغام، وترتديك الظلمة والبرد والضباب من قمة الرأس  حتى رؤوس أصابع القدمين. ومع ذلك فأنتِ تنشدين للربيع القادم، وعرائس الأزهار القزحية، والروائح المسكرة،  وتستحمين في موج الدفء والطيب والخيال. فأية امرأة أنت! أية مفارقة تعيشين؟ كيف يعشق المقتول قاتله؟ كيف يعبد السجين سجّانه؟ كيف يقبل الحمل ذئبه امتناناً؟!

لم يفعل بكلماته سوى أن جرّدك من أسلحة المقاومة، إن كان ثمة أسلحة، وجرك، على قدميك ، إلى الشباك التي أعدها. وها أنتذي تقتربين مسحورة نحو الوكر، والضبع الصّياد في انتظارك، يسيل لعابه من بين أنيابه للوليمة المقبلة.

لم يبق إلا خطوات معدودات، ويتفجّر الدم القاني من اللحم الطري المعطّر. لم يبق إلا لحظات، وتغوص الأظفار المسنونات الزرق في الجسد الحار، وتمزق الأنياب الخلايا والأنسجة. لم يبق إلا خفقات قلب، وتصبحين كومة عظام تذروها رياح العدم!

ومع ذلك .. لم يبق إلا أن تستيقظ فيكِ الحاراتُ الموحلة وتفتح الطفلة، الشقيّة البريئة، ذات الجديلتين، عينيها الرائعتين، وهي تصنع ألعابها بيديها، وتخيط للعبتها الحلوة ثوب الزفاف!

لم يبق إلا أن تتذكري ذلك الكتاب الذي نسيتِ عنوانه، ولم تنسي تلك الفتاة، التي ألقت بنفسها إلى الهاويات السفلى، حتى لا يأخذها الأعداء سبيّة!

لم يبق إلا أن تستعيدي رائحة الشهيد الراحل، الذي لم يكن له خيار آخر غير الموت غيرة على الأرض والشجر والبحر والسماء والأهل والأصحاب. غاب، ولم ينس أن يغرس في أحشائك بذرة نمت، وخرجت للشمس والهواء!

لم يبق ـ أيتها المضبوعة ـ إلا أن يرتطم رأسك الصغير الجميل بصخرة المغارة، ليتفجّر دمك الحيّ، فتفيقي من خدركِ، وتصحي على نفسك عارية في البرية، وتلملمي بقاياك، وتستري عريك بما وصلتْ إليه يداك من أوراق وأزهار وأشواك وتعودي من حيث أتيت! فهل تفعلين؟!

 

 

اربطوا الأحزمة... رجاء

 

(1)

سأعترف أني قتلتُ، أنا الذي لم أؤذ، في حياتي، نملة على عمد. أنا الذي ما كنت أتصور أني قادر على قتل ذبابة.

كنت يومها أنهب الطريق في اتجاه السويداء، لألتقي الربيع المبكر الذي طال انتظاري لقدومه، بفرح اختزنته مع كل مطرة من أمطار الشتاء الراحل. كنت أطوي الطريق لألتقي أزهار شقائق النعمان وقد طرّزها آذار حمراء، بيضاء، بنفسجية. وأعديت أطفالي بلهفتي فصاروا هم أيضاً يتلهفون، ويرجون أن يُطوى الطريق في غمضة عين. فجأة... فوجئت برف عصافير ينفلت من أمام السيارة باحثاُ عن النجاة في هبّة واحدة. لكن عصفوراً واحداً قصّرت به همتّه عن اللحاق بأترابه، فضرب بزجاج السيارة، وتهاوى غير بعيد على إسفلت الشارع. وصرّت المكابح بضغطة مفاجئة قوّية توقفت السيارة على أثرها. عدوتُ إليه وحملته. كان خيط دم رفيع، لا يكاد يُرى، ينسرب من منقاره الصغير. فتح عينيه، ونظر إليّ في عتب، ثم أغمضهما إلى الأبد.

يومها لم تمض الرحلة كما كانت رحلاتنا تمضي. بقي شبح العصفور الهامد، وهو ينتقل من يد ليد، يخيّم على حركاتنا، وكلماتنا وحتى على ألوان شقائق النعمان التي زهدنا في قطفها.

من يومها، تأخذني الحيطة والحذر، فأتخيل في طريقي، وفي كل منعطف، رفاً من العصافير، يهمّ بالطيران نحو الفضاء الأزرق، وأبقى في يقظة حتى لا تداهم  سيارتي عصفوراً قصّرت به همته عن اللحاق بأترابه.

ستقولون لي: تكتب عن عصفور صغير نفق بغير قصد، وتنسى آلاف الأطفال يموتون جوعاً ومرضاً وبرداً وصبراً، وتنسى دماء الضحايا تسيل هنا وهناك في المجازر والأوبئة والأحقاد؟ أقول لكم: لا.. لا أنسى، ولكنه الشجى يبعث الشجى، وطعم الموت واحد في كل الأحوال..

(2)

لقد كان الشاب، ذو النعمة والجاه، على عجل من أمره. وكان لا يريد أن يفوته الموعد الأخضر مع فتاته على باب الحديقة في الحي الراقي، فترك العنان لسيارته الحمراء الأنيقة تنهب ما تبقى له من شوارع تفصله عن مكان اللقاء. لم يكن آبهاً بالمارين يهربون كالفئران من أمام سيارته الأنيقة، ولا سلاح لديهم سوى خطواتهم المذعورة، وبعض الشتائم التي لاتصل إلى أبعد من أفواههم. ولم يكن عابئاً بإشارات المرور الحمراء، ولا بصفارات الشرطة الغاضبة.

ومن أحد الأزقّة الفرعية خرجت عبير الصغيرة ذات الأعوام الأربعة، راكضة. لم تكن تريد اجتياز الشارع العريض، لكنها أرادت أن تتوقف على طرفه تنادى أباها الذي يجتازه بهمة.

كانت تريده أن يعود إليها، لتهمس في أذنه ألا ينسى هدية عيد ميلادها إذا عاد هذا المساء. لا تذكر عبير هل نادت: با...با، أو أنها كانت ما تزال تحاول إحاطة فمها الصغير بكفيّها الصغيرين ليكون  صوتها مسموعاً؟ فالسيارة الحمراء الأنيقة، ذات الشاب المستفزّ إلى موعده الأخضر، طرحتها بعيداً على الرصيف، وخيط رفيع من دم يسيل من أنفها الصغير.

لم يتأخر الشاب المستفزّ إلى موعده عن فتاته ولم يقدّر له أن يرى عبير الصغيرة ملقاة على رصيف الشارع، أو يقرأ ملامح والدها المذعور، وهو يلقي بنفسه عليها. ولعله لم يدر، حتى اليوم، أن عبير الصغيرة، التي كادت أن تؤخره عن موعده، قد غدت مشلولة، قعيدة البيت، ولم يعد فيها سوى عينين برّاقتين تنظران، ولسان ضعيف يتردد، وساقين ماتت فيهما الحركة، ويدين تلوحان بما تريد.

وما يزال البحث جارياً عن سيارة حمراء أنيقة شاردة!

(3)

أما ازدهار، الصبية الرقيقة الرائعة، ذات العشرين فصلاً من الورد، المستحمة في نهر الشعر المقدس، فقد كانت على موعد مع البحر في شهر العسل الموعود. كانت تسابق « البولمان» الطائر نحو الساحل، لتغسل عينيها وروحها بزرقة البحر اللانهائية. وكانت يدها الصغيرة تنام مطمئنة في يدي «جلال» وكأنه كان يخاف أن يفلتها، فتفرّ منه بلا رجعة. وسمع ركاب « البولمان» الخمسون جميعاً العجوز وهي تتوسل إلى السائق:« ارحمنا يابني... على مهلك». وكأنما استفزته هذه الكلمات، فاستفزت في داخله شهوة السرعة الطاغية، فضغط دوّاسة البنزين، وطار « البولمان» لا يلوي على شيء وطارت قلوب الركاب الخمسين.

حين وقع الحادث، ودخل «البولمان» في الشاحنة التي خرجت فجأة من طريق جانبي، لم يعد أحد من الركاب الخمسين يتذكر الذي حدث بالضبط. لم تتطابق شهادة مع شهادة أخرى من شهادات هؤلاء الذين قدّر لهم أن يبقوا على قيد الحياة.

طارت روح ازدهار، وحلقت بعيداً فوق الزرقة الأبدية وما تزال يدها الصغيرة التي بردت في يدي جلال، الذي دخل في غيبوبة، لم يصح منها حتى إعداد هذه السطور.

رحلت ازدهار ورحل معها الزهر والشعر والحبُّ والأحلام، إذ كانت على موعدٍ آخر، دون أن تدري، مع الموت.

(4)

هاأنذا، والعام يوشك على الرحيل، أجيئكم راجياً أن تقودوا سياراتكم على ريث، على نبض قلوبكم، ولا تتعجلوا الوصول، حتى لا تضيع، تحت عجلاتكم، طفلة كعبير، أو عروس كازدهار، أو عصفور صغير، وحتى لا يُكتب عليكم أنكم أصبحتم في قائمة الذين أطفؤوا حياة بريئة.

أرجوكم ألا تنسوا كلماتي، حتى لا تضيع في زحمة الكلام الذي تسمعونه أو تقرؤونه، وتبتلعها مشواغل الحياة التي لا تنتهي. اقرؤوها إذا استطعتم، على هؤلاء الذين لا يقرؤون، فلعلكم تساهمون في حفظ حياة إنسان واحد فحسب... وكل عام وأنتم بخير‍‍‍!

 

 

ومع ذلك..!

 

ـ لا يا أخي! أنت على خطأ كبير: الدنيا ما تزال بألف خير، وستبقى. القصص التي أوردتها صحيحة كلها، وأنا أستطيع أن أروي لك منها العشرات، يكفي أن تراقب الأمور منذ خروجك، من البيت إلى العمل، وحتى تغمض عينيك استعداداً لنوم قد لا يأتي، لترى كم من الأمور تجري على غير ما ينبغي؛ في الشارع، في الحافلات، في الدوائر في المقاهي والمطاعم، في وسائل الإعلام، وحتى في بيتك. أنا أعرف هذا، وألمسه ولكني أقول لك: الدنيا ما تزال بألف خير، وستبقى. المشكلة أننا نرى الأخطاء لأنها ناتجة من فعل يُمارس أمامنا، فنتحدث عنها، ونضخّمها، ونستنكرها ونتلذذ بإشاعتها بين الناس، وكأننا ننتقم من شيء ما خارج أنفسنا أو داخلها لا فرق. ولكننا نسكت عن الصواب، وكأننا إزاء مؤامرة صمت، أو لأن الصواب هو الشيء الطبيعي الذي يجب أن يكون فلا نأبه به، أو لأن الصواب نية لا تبدو في فعل أحياناً، أو هو امتناع عن فعل الخطأ فوراً أو بعد تردد فلا يظهر أثره بين الناس.

تعال لأروي لك بعض القصص من آلاف أعرفها وربما يعرفها الآخرون، تعال لأضرب لك بعض الأمثال وما أكثرها! هل تسمعني؟

حين انفرط عقد ربطة العنق للسيد بشير، وهو في دائرته. وكان مضطراً لأخذ دبوس من مكتبه لتثبيتها مؤقتاً. التفت إلى زملائه في الغرفة وقال لهم:

ـ اشهدوا يا إخوان أنني استعرت هذا الدبوس، وسأعيده غداً.

الذين يعرفون السيد بشير حقاً لم يجدوا في سلوكه ما يريب، والذين لا يعرفونه ربما كتموا ضحكات ساخرة وهزوا برؤوسهم هزّات لها أكثر من معنى.

وحين استقالت الآنسة فاطمة من وظيفتها بعد خدمة ثلاثين عاماً، وانقطعت عن العمل، فتحوا درج طاولتها، فأخذتهم الدهشة، إذ وجدوا فيه كل الدفاتر التي استلمتها، وكل الأقلام، وكل المحايات، وكل الأدوات الأخرى كبيرة كانت أم صغيرة، وجدوها كما هي لم تمسّ. تركتها الآنسة فاطمة لمن يأتي بعدها!

وحين وجد سعيد محفظة ملأى بالنقود، من عملة محلية ودولارات وفرنكات وجنيهات، لم يعرف عددها حتى اليوم، شعر بالانزعاج، فقد فكر بحال صاحبها في هذه اللحظة. ولم يجد فيها ما يشير إليه. ما وجده أرقام هواتف دون أسماء فحسب. وسرعان ما أخذ يجرّبها حتى لاح له بصيص قاده إلى صاحب المحفظة، الذي حضر واستلمها كاملة غير منقوصة. ومن لهفته، ومن فرحته، ومن دهشته، التي لم يستطع أن يداريها، نسي أن يشكر سعيداً على عمله. وبقي سعيد يراقبه وهو ينصرف، ويغالب دمعة لا يدري دمعة فرح هي أم دمعة حزن، وهو يفكر في أحد يقرضه مبلغاً بسيطاً حتى آخر الشهر‍‍‍‍‍!

وحين قابلت أريج الطبيب  الغني القادم من أمريكا، الذي تقدم لخطبتها، في مكان عام، كانت قد توصلت إلى قرار رفضه، بعد استشارة ابنتيها الصغيرتين، ولما أبلغته قرارها، لم يفاجأ، وابتسم. ومد يده إلى جيبه وأخرج مظروفاً محشواً بالدولارات الخضراء، وقال لها وهو يحاول وضعه في يدها:

ـ أترك لك هذا ليساعدك في تربية ابنتيك، أنا أعرف وضعك الحقيقي. فما كان منها إلا أن انتفضت مذعورة، ودفعت المظروف عنها، وكأنه أفعى، وقامت لتنصرف وهي تقول:

ـ أشكرك! أنا لست  في حاجة!

وكانت تحدث نفسها: «لن أسامح نفسي لو أخذته» وحين تستعيد هذا الموقف تكاد الدموع تطفر من عينيها امتناناً، وتهتف أعماقها: «الحمدلله».

وحين أبلغوا الكاتب المسرحي المعروف عزمهم على تغيير بعض العبارات في مسرحيته، لقاء «شيك» مفتوح يضع فيه الرقم الذي يريد، تناول «الشيك» الممدود من اليد الواثقة ومزقه وتناول مخطوطته، وانصرف. وعلى مسمع من العينين الضيقتين المفتوحتين على آخرهما بصق.

وحين لفت ساقاً على ساق، وأصبح جمالها الخارق بين يديه، وسكبت نظراتها الحارقة في دمه، وهي تقول له:

ـ من أجل خاطري مشيها، المعاملة!

وكأنها تقول له: هيت لك!

ترك المدير مكتبه، وفتح الباب، وخرج. ولم يعد حتى تأكد أن هذه «البلوى» قد انصرفت!

وحين نقلوا إلى الدكتور أمين الرغبة في أن يحتل المنصب الكبير، اعتذر بلطف شديد: هذا الكرسي أكبر مني، وثمنه غالٍ، وليس في استطاعتي أداء أقساطه!

وحين خُيّر عليّ بين القصور أو القبور، فقد اختار الـ...

وحين... وحين.. وحين.. وحين..

ألم أقل لك يا صديقي إن الدنيا ما تزال بألف خير؟ وإنني أستطيع أن أروي لك حتى مطلع الفجر؟!

 

 

هذه الزلزلة

 

الشاعر الكبير، الذي احتفل أمس بعيد ميلاده الخامس والستين، تؤرقه مشكلة منذ وقت غير قصير. إنه يجلس إلى طاولته في غرفته الصومعة، يستفزه بياض الورق إلى الكتابة، فيخط خطوطاً قلقة هنا وهناك. ويستعصي عليه ما يريد أن يقوله حقاً، وهو الذي لم يستعص عليه أمر يود كتابته في يوم من الأيام.

أكثر من أربعين عاماً طوالاً تفيأ الشاعر الكبير ظل الكلمات منذ بدايات الخمسينيات، كانت تتراءى له، على قرب، مدينة فاضلة، مدينة سياجها العدل، وفي قلبها توزّع الثروات على الجميع. ويجد مواطنها، فيها سقفاً وطعاماً وأمناً. كانت قريبة، بل في متناول أحلامه، وما عليه إلاّ أن يهزّ شجرتها، بكلماته الكبيرة، المحبة، الصادقة حتى تتساقط ثمراً شهياً. كان يشيد بناءها حجراً فحجراً، بمواجد روحه، وغنى أفكاره، وتألق صوره، فتصل كلماته إلى قلوب الناس، وتهزّ أعماق الجماهير.

كتب عن الفقراء، البائسين، المشردين، الحالمين برغيف الخبز والحب. كتب عن الوطن وعبق ترابه، وعن ضريبة الدم يدفعها العشاق في سبيله عن طيب خاطر. كتب عن الغزو الخارجي والنزف الداخلي. كتب عن فلسطين الجرح الفاغر فاه في خاصرة الوطن. كتب عن حلم الوحدة. كتب عن الجماهير صانعة المعجزات في كل مكان.

أغلق عليه السجن مرات، وتشرد خارج الحدود سنوات لم يكلّ ولم يملّ. بقيت الشعلة تتأجج فيه سنين طويلة. لم ينس مع ذلك، أن يكتب عن الحب بكل ألوانه، وعن الطبيعة في شتى تجلياتها. وشيئاً فشيئاً اتسعت رؤيته، وتعمقت تجربته، فانساب قلمه ليناً يتشبث بمدينته التي أحبها، حاراتها، روائحها، بيوتها، شخصياتها، مواقف ضُمت عليها. وداعب هذا القلم: الأمل المطلّ من وراء اليأس، وألم الشعارات التي تغنى بها يوماً ورآها تستنفد أغراضها، والحلم المتشبث بنسغ الحياة تحت كوابيس الحياة اليومية اللاهثة.

لم يكلّ ولم يملّ ولم يسقط القلم من يده...

فما الذي يجري، اليوم، داخل الشاعر الكبير؟ وما الذي يجعله يتردد في الكتابة، ويخط عبارات لا تستقيم؟ وعم يحاول أن يكتب؟

بدا له، وكأن الأمر قد حدث فجأة، أنه أسرف في النظر خارج ذاته، وأنه أسرف في رفع صوته، وأن القادة السياسيين الذين آمن بهم، وشحن نفسه بأفكارهم ووعودهم، خدعوه، وأن الأدب ليس له الدور الذي كان يظن. فجأة يدرك الشاعر الكبير أنه أغرق نفسه فيما ليس جوهرياً في الحياة، أو أنه، بالأحرى، وهبه، أكثر مما يستحق، جهده وأعصابه ووقته، وأنه كان يجب أن يلتفت إلى جوانب أخرى. أدرك الآن، ربما بسبب السن واقتراب الرحيل، أن ما هو جوهري ينبثق، فجأة في كيانه، وأن الوقت يطارده وهو يحاول أن يكتب عنه، ليقول آخر كلماته التي لم يقلها بعد.

ما يشغل الشاعر الكبير الآن هو معجزة الحياة ذاتها، فعلى الرغم من الظلم، والقهر، والمجازر، والأوبئة، والموت، فهو ما يزال يعيش، وتجري في عروقه دماء الحياة، أليس هذا رائعاً؟‍

إنه ينظر، يسمع ، يحس، تستمر فيه الحياة. هذه الحياة التي يمكن أن تنطفئ في أية لحظة، ونتيجة أي خطأ، كأن يكفّ القلب، فجأة ولأمر ما، عن خفقانه. هذه الحياة، التي كان يمكن أن يهبها عن طيب خاطر فيما مضى، تبدو رائعة وجديرة أن تعاش. إنه ينام، يحلم، يستيقظ، يشمّ، يأكل، يحب، يفكر، يتخيل، أليست هذه الحياة، في ذاتها، معجزة؟ أليست جديرة بأن يكتب عنها؟

ومعجزة الحياة في الطبيعة والكون؟

هذه الأرض التي يعتريها الموات، فيجردها من كل حياة في ظاهر الأمر، فتخفي في أعماقها حياة جديدة، تحتضن في رحمها العشب والزهر والثمر شهوراً في انتظار أن تتفجّر في اللحظة الآتية ألواناً وروائح وأشكالاً وطعوماً لاحد لجمالها وروعتها. وهذه البحار المدوّية وما تنطوي عليه، هذه الصحارى الشاسعة، هذه الكواكب والأفلاك، هذا الفراغ الهائل، هذه الحركة السرّية في الأنساغ وفي خلايا كل شيء، هذه الأحاسيس التي تتفلتُ، فلا يُقبض عليها.

مما لاشك فيه أنه كان قد أغفل أشياء كثيرة، وهاهو ذا يقف على حافة هاوية سحيقة، تنادي أعماقه، تشدّها نحو لجج من الأحاسيس لم يعرفها من قبلُ أو لم يولها الاهتمام الذي تستحقه، وتجعله يترنحّ تحت وطأة دُواركوني.

هل أصابته لعنة عصيّة على الفهم؟ هل هي دورة الحياة الطبيعية؟ هل هو الاستثناء من بين آلاف البشر؟ مهما يكن من أمر فإنه لن يعود كما كان. لن يجد، بعد الآن، في جوانحه ثقته المعهودة، ولن يعرف قلمه، بعد اليوم، لغته المطمئنة. إنه يقف على حافات الكلمات، لا يدري ما يختار منها، لتعبّر عن هذه الزلزلة. ما ستكون النتيجة؟ أإلى هذا الحد تستعصي عليه الكلمات لتبوح بهذه الأفكار والمشاعر التي لا تحدّ؟

لايهم، يكفيه أنه، الآن، يقوم بآخر مغامرة له قبل فوات الأوان، وليكن ما يكون!

وهاهو ذا، وقد نامت زوجته وولداه، وحيد مع الليل يجلس إلى مكتبه، وأمامه ورق أبيض يستفزه، وبيده القلم يرتعش بانفعالات وعوالم لا يتسع لها الكون!

 

 

فنجان قهوة

 

بالأمس التقيت صديقاً من إحدى المحافظات الشمالية، لم أره منذ سنوات، في الحي الجديد من العاصمة، وكنت خارجاً من إحدى الأمسيات الأدبية التي لم يزد الحاضرون فيها على ثلاثين شخصاً. فدعوته متحمساً بعد السلام، إن كان لديه بعض الوقت، إلى فنجان قهوة في مكان قريب. أسعدني قبوله، إذ ستكون فرصة نتبادل فيها بعض الحديث الذي انقطع فترة بيننا. ولم أكن قد دخلت هذا المكان الأنيق الواسع الملحق بالفندق، والذي جعل بترتيبه وكراسيه و«أراكيله» مقهى ومطعماً «شعبياً». لذا فوجئت، قبل أن يستقر بنا المقام، بنادل يبادرنا بعلبة صغيرة من المناديل التي أغرقت السوق بعشرات وعشرات من الأسماء، وبزجاجة ماء «بقين» مبردة، لم نطلبها، ولن نكون في حاجة إليهما في جلستنا القصيرة. ثم حضرت القهوة فعطرت حديثنا الذي سرعان ما استعاد ألفته وكأننا لم نفترق. وأخبرني أنه جاء يلاحق موضوع استقالته من العمل بعد خدمة ثلاثين سنة، وأن رجليه «تكسرتا» وقدميه تورّمتا من كثرة المشي من هنا إلى هناك، وصعود الدرج مرات ومرات في الدائرة الواحدة، وهو في سبيل البحث عن عمل في إحدى المصالح الخاصة لأن مرتبه، بعد هذه الخدمة، لن يزيد على  ثلاثة آلاف ليرة، وفي أحسن الأحوال أربعة آلاف، وكيف يستطيع مع هذا الغلاء أن «يدبّر» الأمر وقد كبر الأولاد وزاد مصروفهم..

وإذ كان على موعد قريب هذا المساء، فقد سارعت بطلب الحساب، وأنا أتحسس للاطمئنان في جيبي ثلاث مئة ليرة لا أملك سواها، وأحاول، دون قلق، أن أحدس المبلغ المطلوب. وبعد أن طال انتظارنا حضر كبير الخدم في المقهى، ببزته السوداء الأنيقة، وعلى ذراعه «بشكير» لم أدر ما فائدته، وفي يده صحن خزفي فاخر فيه شيء كألبوم الصور، وضعه أمامي، وتراجع خطوتين أو ثلاثاً. وسحبت الورقة البيضاء التي كانت تطل من الألبوم المزخرف، وقد بدأ قلبي يرتجف، بعد هذه المظاهر، توقعا لرقم يفوق حسابي، وفعلاً ما إن قرأت المبلغ المطلوب حتى فرّ الدم من عروقي. فقط مئتان وخمسون ليرة لا غير، ومع ذلك تماسكت. وتم بعد ذلك كل شيء بسرعة. وضعت المبلغ الذي كان معي كله في الصحن، فتقدم كبير الخدم بخطوات منتظمة وثابتة، وتناول الصحن ومضى. وغاب دقائق ثم عاد بالصحن نفسه وبالألبوم نفسه تطل منه ورقتان من فئة الخمس والعشرين ليرة. وتحت نظرات صديقي الذي أصابه الحرج، ونظرات نادلين لا أدري من أين انبثقا فجأة، تركت قطعة واحدة في الألبوم، وسحبت واحدة أودعتها، بأمان، في جيبي، وخرجنا.

وبعد أن ودّعت صديقي، أخذت أتمشى قليلاً قبل أن أستقل «الميكرو باص»، لأجري بعض العمليات الحسابية، وكم كانت دهشتي عظيمة حين وصلت إلى نتيجة بسيطة وهي أن أمثالي من الموظفين الحاصلين على إجازة من الجامعة يستطيعون بمرتبهم الشهري كله، أن يشربوا أربعين فنجاناً من القهوة لا غير في مثل هذا المقهى «الشعبي» أي بمعدل فنجان وثلث في اليوم الواحد مع المناديل الورقية وماء «بقين» ودون «بخشيش». ويستطيع صديقي بمرتبه التقاعدي أن يشرب فنجاناً واحداً لا غير.

وبعملية تداع حر قمت بحساب مماثل لفناجين القهوة لموظف من أمثالنا في بلد متقدم، وفي مقهى متقدم أيضاً وليس شعبياً كهذا، فكان في حدود ثماني مئة فنجان بالتمام والكمال أي عشرين ضعفاً، فأصابني مس من اكتئاب خانق، وأنا أتذكر المطاعم الفاخرة، والفنادق الممتازة الغاصّة بالرواد في كل الأوقات، والإكراميات التي ترش، بعشرات الأوراق النقدية من فئة خمس مئة ليرة، فوق رؤوس راقصات أو مطربات من الدرجة العاشرة.

ولكن اكتئابي بدأ يتلاشى، وأنا أحمد الله على ضيق وقت صديقي، فلم أكن مضطراً إلى دعوته إلى العشاء. وتلاشى اكتئابي تماماً حين استقبلتني زوجتي «بغلاية» كاملة من القهوة، شربتها كلها نكاية بالمقهى «الشعبي» فأطارت النوم من عينيّ!

 

 

غبار السنين

 

أحلام

 

وكان الطفل الصغير فيّ، في الصباحات البعيدة، يسوق، بقضيب رمان طريّ رفيع، قطيع الماعز، من الحارات العتيقة ذات البيوت الطينية المتواضعة، والتي تحتوي في داخلها على ما يدهش. يقوده عبر الدروب الترابية الطويلة إلى الحقول والمراعي، تماماً حيث سيتربع، بعد سنوات معدودات، «مخيم اليرموك» ليبني أسماره، ويساور أحزانه، وينتظر دروب الرجوع إلى القرى والمدن الغافية هناك. وسيرفع جدران بيوته القصيرة، ذات الأبواب التنكية أو الخشبية، والنوافذ الضيّقة الواطئة، ويشق شوارعه وأزقته الموحلة في الشتاء، المثيرة للغبار في الصيف، ويطلق أطفاله فيها بلا قيود. وحين يمضّه الانتظار ينتفض غابات إسمنتية شيطانية، وشوارع زفتية واسعة، وأزقة طويلة، ضيقة، رطبة، لا ترى وجه الشمس، ثم سيتمدد كارهاً أو راضياً إلى «الحجر الأسود» و«التضامن» و«دف الشوك» و«التقدم».

كنتُ وحيداً مع القطيع، في أغلب الأحيان، إلاّ فسحاً قصيرة ألتقي فيها رعاة الماعز أو الغنم، وكلهم أكبر مني، بل لقد تجاوز بعضهم سن الشباب، وحين أغمض عينيّ الآن، ينبثق في وعيي صور حللها الزمن فتكاد لا تبين: أبو جاسم المعيدي، محمود الأشكي، محمد العودة، عزو الشربجي، أبو الموت، حدّو حوا الكهل وطفلته الصغيرة الجميلة بشيرة التي أفلتت مني ملامحها تماماً، ولا بد أن أسنانها قد تساقطت وأصبحت جدّة إن كانت ما تزال من الأحياء.

وفي الأوقات التي يقيل فيه القطيع تحت الأشجار العالية، كنت أجلس على حافة ساقية معشوشبة، أو أستند إلى شجرة جوز أو مشمش وارفة الظلال، أتأمل هذه المخلوقات الوديعة، الجميلة، وهي تجترّ، وأحاول حواراً صامتاً مع كل واحدة منها؛ إذ أسبغ عليها صفات إنسانية، وأطلق عليها اسماً يميزها. وكان بصري يمتد إلى الآفاق البعيدة، في الخضرة الأرضية المتموجة، الحشائش والأوراق المهتزة المرتعشة، فيهتز قلبي ويرتعش بحنين غامض، أو في الزرقة السماوية والمنبسطة اللانهائية، أو في الظلال المتراقصة وهي تتشكل  بأشكال عجيبة لا يمكن الإمساك بها، ويرحل خيالي بعيداً... بعيداً.

ولم أزل أذكر ذلك الحلم، الذي كان يردني، ولم يكن قد مضى على خروجنا من فلسطين أكثر من أشهر معدودات. ولقد اضطر معظمنا إلى العمل ، لأن العيش آنذاك، لم يترك لنا خياراً آخر نأوي إليه.

في لحظات القيلولة تلك، ينفتح على بعد خطوات مني، في الخيال، سرداب عميق طويل، له باب دائري سحري، لا يراه أحد سواي، أرفعه، وأنزل على درج أو سلمّ، يوصلني إلى بداية السرداب. ولا أنسى إغلاق الباب السري خلفي، أو أنه كان يغلق تلقائياً بعد نزولي.

وكان السرداب مُضاء بمصابيح كهربائية لا تطفئها الريح، ولا تسودُّ زجاجتها كقناديلنا الزيتية، ويمتدّ السرداب، أمشي فيه مسافات تحت الأرض، أتجول بحرية. وتصادفني على الجوانب غرف أو قاعات أو ملاعب، غرف ذات حُصرٍ وبسطٍ ساحرة الألوان، وفرش وثيرة، كنت أغرق في صوفها الناعم. أقفز عليها أنا وعبد السلام، ابن جارنا وصديق الطفولة هناك في القرية، ومن سمحتُ له بمرافقتنا من الأطفال في هذه الرحلة السحرية تحت الأرض. كنا نقفز ونتدحرج ونتصارع، ونحن في غاية من النشوة، لا يردّنا شيء عن لعبنا ولهونا. ونخرج إلى الملعب المضاء كذلك، فنعثر على مانشاء من كرات جميلة ذات ألوان خلاّبة، نأخذ منها بغير حساب، ونتابع لعبنا من الصباح حتى المساء. وإذا رجعنا وجدنا طعاماً لذيذاً، في اللحظة التي نريد، مهيأً في الصحون بطريقة سحرية، لا تحتاج إلى طبخ أو نفخ نار أو إشعال «بابور كاز» حرون يخنقنا بدخانه، ولا إلى تنظيف وغسيل وجلي، مما يتعب أميّ جلّ النهار وطرفاً من الليل. كان كل شيء حاضراً أو يحضر للتو بمجرد الرغبة منّا.

كنت أحياناً أصطحب أسرتي وبعضاً من أقاربي إلى هذا الملجأ السرّي، فأدخلهم، في خيالي، فينزلون بخفّة واحداً وراء الآخر. وكنت لا أخفي، بيني وبين نفسي، الإحساس بأني أنا صاحب كل هذا.

وإذا احتاج الأمر إلى نقود لرحلتنا القصيرة في المدينة، وجدناها ذهباً أو فضة، كما هي الحال في الحكاية التي تقص على مسامعنا. وإذا رغبنا في تسلية تحققت لنا وسائلها: ورق لعب غريب الأشكال والألوان، دحاحل كعيون القطط، عصيّ، مربعات، خذاريف، أراجيح. إحساس كامل بالأمان، تحت الأرض، بعيداً عن دويّ الطائرات الصهيونية السوداء المغيرة، ولمعان قذائفها الخاطفة للأبصار، وأصواتها المتفجرة. بعيداً عن طلقات مدافع دباباتهم، وأزيز رصاصهم، تلك الليلة التي لا تنسى. عالم من الأمان. لا أحد يطولنا، لا أعداء، لا ضباع، لا أفاعي، أمان دائم، بلا مرض أو موت في هذا الجو المسحور.

وكنت أغيب عن القطيع في هذا الحلم الجميل الذي لا ينتهي، واضطر أن أصحو منه حين يتوقف القطيع عن الاجترار، وتكون حدة الشمس قد انكسرت وحان وقت الأصيل، فأمضي به نحو بقعة خضراء، عشبها طري لذيذ، وأقوده في المساء نحو حارات الميدان العتيقة، وفي الخاطر خيالات من السرداب السحري.

وحين فتحت المدارس أبوابها أمامنا أصبحنا تلاميذ، نرتدي الصدارات السود، ونتهجّى الحروف والكلمات، ننشد الأناشيد، التي توقظ ما ليس نائماً فينا تجلّلنا بالعزة والقوة والأمل بالعودة القريبة. ونقف في الصف الطويل، لنأخذ حصتنا من الحليب المجفف أو حب زيت السمك، ونتناول غداءنا المتقشف في المطعم الذي ارتجلوه لنا، وله، على الدوام، رائحة زنخة خاصة لا تغادر أنفي. ويطلّ عليّ من وراء السنين وجه أم صالح الحنون، بنقابها الأسود الذي لا يتغير، وقد  علمت أنها ماتت قبل أكثر من ثلاثين عاماً، وجه أم فهمي المشرق الجميل الضاحك وصوتها المغرد، وقد أخبرني ابنها، الذي غدا، كهلاً، وكنت التقيه، أن أمه ماتت قبل عشر سنوات عن سبعة وستين عاماً، وجه امرأة أخرى بدينة بنقابها الأبيض كانت تلثغ بحرف الراء، وقد نسيت اسمها. وكنا نعالج، بوسائلنا المحدودة، ورم أصابع أيدينا وأقدامنا من شدة برد الصباح. ونرتجل ـ بدورنا ـ ألعابنا التي لا تكلفنا قرشاً واحداً. كنا نصنع من الخرق كرة صغيرة أو كبيرة نتخاطفها بأيدينا أو نسوقها بأقدامنا أو نضربها بالعصا.

وحين تضمّني الأزقة العتيقة وحيداً، أو يغرقني الفراش، بعد أن ينام أخي الأصغر، ويجافيني النوم، كنت أرى منظراً عجباً، ينفتح عليه خيالي. أرى نفسي في ساحة واسعة منبسطة. وفجأة تمطر السماء الزرقاء فوقي كراتٍ، ذات ألوان رائعة، لامعة، ساحرة الملمس، كرات من كل الأحجام والأشكال، كرات لا أستطيع لها عدّاً، تتقافز من أمامي وورائي ومن حولي. كرات تتبعها كرات، تبهرني، تغمر قلبي بفيض من البهجة لا ينتهي، فأقفز معها، أرتطم بالأرض بخفة، أرتفع بين هذا الحشد الهائل منها. أرتفع، أرتفع، لا أرجع مثلها إلى الأرض، فأطير، وأطير، وأبقى معلقاً بين السماء والأرض وقلبي ينتفض بشدة. أذكر أن أحداً من أقربائي قدّم لي في طفولتي كرة جميلة ملونة كهذه الكرات، ما لبثت أن أضعتها، فنامت في مخيلتي طويلاً.. طويلاً حتى انهمرت عليّ من السماء طوفاناّ من الكرات السحرية العجيبة.

ولقد احتجنا إلى وقت حتى نغادر مثل هذه الأحلام، دون أن يغادرنا سحرها وإغراؤها، إلى أحلام جديدة، نلبس فيها ثوب البطولة، وطاقية الإخفاء، لنتسلّل إلى الوطن المحتّل، نعانق القرى والبيوت، ونحقّق انتصارات عجز عنها الكبار!.

وثمّ حلم ما يزال ماثلاً في مخيلتي. وهو حلم رأيته في النوم، وليس من أحلام اليقظة. رأيت نفسي أمام بيتنا القديم شرق القرية تماماً في المكان، الذي كنّا نسمر فيه، في ليالي الربيع، أو الصيف، المقمرة، قرب اللوح الواسع لحصادة القمح، ذات الشفرات الحادة. لم يكن الوقت ليلاً بل نهاية الضحى على الأغلب؛ فالجو لم يكن ينبئ بالوقت.

كنتُ مستلقياً على الأرض المعشبة، ورأسي على حجر أمي، وكانت تلبس ثوبها الأزرق، المنقط بالأبيض وتلفّ رأسها بنقابها الأبيض كالعادة. كان النور واضحاً في تدرّجاته، ولكن المشهد كلّه ملفّع بضباب شفيف، يوحي ببعده عنك، على الرغم من كونك داخلاً فيه،  وبأنك غير قادر على الإمساك به، وكأنه مشهد وهمي.

كل تداعيات القرية وصورها وألوانها تكثّفت في الحلم، تقطّرت في إحساسي بالأشياء من حولي. كانت أميّ تداعب شعري بأصابعها الرقيقة، وقلبها الحاني. نظراتها غائمة، شاردة، دموعها تنساب على خديها، وتصدر آههٌ عميقة بين الحين والآخر. هزّتني دموعها، وحانت منيّ التفاتة إلى بيتنا، كان هيكلاً خرباً، اختفت أبوابه ونوافذه، وبقي مكانها فراغ معتم مثل سؤال غامضٍ معلّق في الفضاء.

وكانت عائشة الصغيرة، عائشة الطفولة، ذات الجديلتين، عينين تنظران دون أن ترى. هي في مكان ما، لا أستطيع أن أحدّده. ولكنها كانت هناك، دون ريب، تطلّ عليّ. تطلّ على المشهد من وراء الطفولة، من وراء شقائق النعمان والنرجس. تطلّ من وراء الموت؛ لأن عائشة احترفت الموت على دروب المخيمات، وذابت في ضباب الذكريات. مالذي بعثها في هذا الحلم؟!.

كل هذا المشهد قذف قلبي بفيضٍ من الحنين الموجع إلى المكان الذي أنا فيه، وكأني بعيد عنه مسافات شاسعة. حين إلى زمان الطفولة، وإلى أميّ، وإلى عائشة، وإلى البيت الواقع في فم الفضاء الوهمي. حنين أخذ بمجامع قلبي، وعصره بيدين صخريتين حتى بعد استيقاظي من النوم، حيث رحت في حالة غريبة، وكأن الحلم مستمرّ في اليقظة. بماذا كانت تفكر أمي؟ لم كانت ساهمة شاردة؟ إلام كانت تنظر عيناها؟ وما الذي يبكيها؟ وما السؤال الغامض المعلقّ على الفراغ المعتم لأبواب البيت ونوافذه؟.

كلمّا تذكرت هذا الحلم تكثف فيّ إحساس بأمكنة، وأزمنة، وأشخاص أحباء، وحوادث عمرها عمر منفانا، تتأرجح بين الحضور والغياب.

وحين امتد بنا الزمن وكبرنا، ولمستنا لعنة حزيران بشيء من الوعي الشقي، وأوغلنا في الغربة، حتى أصبحت أعماقنا مرتعاً لها، وأوغلت فينا المجازر وخيانات الذات، دخلتْ أحلامي مرحلة جديدة: كوابيس في الليل، كوابيس في النهار، يقودك الواقع إلى كابوس، ويخرجك الكابوس إلى الواقع.

وأخيراً، أود البوح بالحلم الذي غدا وسواساً لي، بعد مرور هذا الزمن الطويل، بعد الخيبات، والانكسارات، ما قد مضى منها، وما قد يجيء: أرى نفسي في حلم فردوسي أخضر، أشجار، حشائش، أزهار من كل الألوان، ترنيمات سماوية، فرح، فرح لاحدود له، يمنحني اليقين والرضا، يهمس لي، وأنا مطلّ، عبر هذا الحلم الفردوسي، على قريتي، فتشرب خلاياي الظمأى هذا الهمس المطمئن: أنتَ، من جديد، في فلسطين! وأغفو على هذا الحلم الكبير!

 

 

الراعي الصغير

 

في السابعة من عمري كنت أسوق قطيع الماعز من الحارات العتيقة في حي الميدان، كغيري من الرعاة، إلى الحقول والمراعي القريبة، من غوطة دمشق، في المناطق التي أصبحت، هذه الأيام، أحياء واسعة تدعى اليرموك، والحجر الأسود، والتضامن، والزاهرة، ودف الشوك، بعد أن قُطعت الأشجار، وأتلفت المزروعات، وبنيت، بدلاً منها بلا هوادة، غابات من الإسمنت المسلح.

كنت أعرف عن ظهر قلب هذه الأراضي الشاسعة، وأعرف أسماء حقولها، وكان في كل ناحية منها قناة ماء صافية، يقصدها بعض الصبية للسباحة، أذكر منها: المشرع، الحجر الأسود، العصرونية، الخنّاقة، قناة رانِس وغيرها، أرتادها في أوقات معينة من النهار. كنت أخرج في الصباح الباكر، ولا أعود إلا مع المساء، مع الرعاة الآخرين، بعد أن تكون هذه الحيوانات الأليفة قد أخذت حقها من العشب والماء، وأصوات الأجراس الشجية تخفق في أعناق الكباش وسط سحابة من الغبار، والروائح المميزة للقطعان.

كان القطيع نشيطاً في الصباح. ينتقل، بخفة ورشاقة، من مكان إلى آخر، بحثاً عن الحشائش الطرية فيقضمها في شهية. وأحرص كل الحرص ألا يقترب من المساحات المزروعة بالقمح أو الشعير أو البرسيم، وألايطول الشجيرات  حتى لا أثير غضب النواطير وأصحاب الحقول.

وما إن تقترب الظهيرة حتى يخفّ نشاطه، وتفتر همته، فأنتقي له مكاناً مناسباً للقيلولة، في ظل أشجار الجوز العالية أو المشمش. وتختار كل دابة بقعة لها، فتستلقي على مهل، وتبدأ في اجترار ما أكلته من العشب على عجل. وأختار لي مكاناً، إلى جذع شجرة أسند إليه ظهري. وأتناول من زوادتي ما وضعته أمي. ثم أستسلم إلى تأمل رائع في ما حولي، فتبدو الطبيعة لي في كل تفصيلاتها وأسرارها الغامضة، وألوانها، وروائحها، وأشكالها. وأنتشي لهذه العلاقة الحميمة السرية التي تربطني بكل عنزة من القطيع. وأُخرج، أحياناً، من صدري العاري، إلا من قميص خفيف، جزءاً من القرآن، كنت أشتريه بخمسة قروش، وأقلب صفحاته دون أن أفقه شيئاً منها، فقد كنت أجهل القراءة والكتابة. ولكنني كنت أحسّ بالخشوع لكلام الله الذي كنت أسمعه يرتل من المذياع في الحوانيت التي أمرّ بها، وأنا خارج للحقول في الأصباح الباكرة. وأصل إلى صفحة معينة من الجزء أعرفها، وأقرأ في سري الآية الكريمة الوحيدة التي أحفظها: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً». وأرددها مرات ومرات، فتأخذني ألفاظها السحرية ومعانيها الغامضة، وتحملني إلى عوالم بعيدة قبل أن يُخلق الإنسان. ويسرح خيالي في حقول من الأحاسيس والأفكار الرائعة، ولا أعود حتى يبرد الجو وقت العصر، وينشط القطيع، من جديد، لجولة ثانية بحثاً عما يأكله، قبل أن يعود، في المساءات العذبة، إلى حظيرته في الحي القديم.

وكان المطر الغزير، أحياناً، يفاجئني، وفي لحظات معدودات يبللني من الرأس إلى القدمين، قبل أن أجد ملجأ آوي إليه. ويتفتت في صدري العاري جزء القرآن، فيداخلني إحساس بالإثم، وأدفن مِزقه المبللة في أصل شجرة تحت التراب، لأشتري، في الغد، نسخة أخرى. وأتحامل على نفسي، والماء يقطر من ثيابي، حتى المساء، لأصل إلى البيت، فأجد أسرتي تلتفّ حول كانون النار، العابق بالدخان في أغلب الأحيان، فأبدل ثيابي، أو ألتفّ ببطانية، وأصطلي بدفء النار والأمان.

وكان الليل يفاجئني أحياناً، حين يطلب مني صاحب القطيع انتظاره حتى يعود، فأضطر كارهاً إلى الانتظار الصعب، حين يتأخر في عودته أو لا يعود. وأفزع إذ يفزع القطيع، فيمتنع عن الأكل، ويأخذ في التلفّت في كل الاتجاهات، قد أوحشته العتمة المريبة، التي قد تتمخض عن ذئب جائع مفترس. ولا أقوى، بعد ذلك، على ضبطه، فيستلم، على الرغم مني، طريق العودة، التي يعرفها جيداً، فأتبعه مستسلماً خائفاً. وتتراءى لي الأشجار أشباحاً رهيبة، أو يخيل إلي أن خلفها آلاف العيون تتربّص بي. وتبدو الآبار المشقوقة على طول الدرب التَّرِب أفواهاً أسطورية تهمّ بابتلاعي مع القطيع، ومياهها المالحة القذرة تدوّي في الأعماق السحيقة، فيسقط قلبي رعباً. وتتبدد مني أحلام النهار، ولا تعود إليّ نفسي المطمئنة، إلا حين أدخل في أزقة الحي القديم.

ولا أدري كم دام عملي راعياً، بصحبة قطيع الماعز، حتى التحقت متأخراً بالمدرسة، ودخلت عالماً جديداً. ولكني لا أستطيع مهما مرّ من زمن، أن أنسى تلك الأيام الرائعة، ولا صور هاتيك المخلوقات الوديعة، التي مازلت أراها في القطعان العابرة، ولا لحظات التأمل الطفولي في عالم الطبيعة الواسع وأسراره العجيبة، ولا هبّات الخوف والفزع.

وأتساءل، الآن، في لهفة وشفقة: أيستطيع أولادنا الصغار، اليوم، أن يعيشوا ولو جزءاً يسيراً من «المغامرة» التي عشناها؟!.

 

 

رسالة تأخرت أربعين عاماً

 

الآن، الآن فحسب، يستحيل عليّ أن أصم أذني عن نداءاتك، بعد أن بلغ الصوت منكم مشارق الأرض ومغاربها. دوّى فدخل، بلا استئذان، كل بيت. واقتحم كلّ ضمير فهزّه من غفوته. ومزقت حجارتكم حُجب الصمت واللامبالاة.

اليوم، يا بن عميّ، تعيد حجارتكم العاشقة رسم خريطة فلسطين على كلّ الصدور، تحفرها في كلّ قلب، تكتبها قصيدة، موجة على بحر عكا، قمراً في سماء بيسان، زهرة على بيارات يافا، ‏قبلة على جبين مريم الناصرة. تكشف القناع عن وجه يهوذا، يتربّص بدم صاحبه، ليبيعه، قبل صياح الديك، بثلاثين من الفضة. اليوم، ‏يابن عميّ، يضبط العالم زمنه على دقّات ساعاتكم، يفتتح شهوته للحقيقة، فتخفق في المدى الكوفية التي تجللّ رؤوس أطفالكم. يتلمس قلبه الحبّ، فتزغرد شوارع غزّة ونابلس ورام الله، تزف شهيداً أو شهيدة. يفتقد الوفاء، فإذا أنتم نخلة يهزها الحب فتسّاقط أطفالاً أبابيل، ترميهم بحجارة من سجّيل. يدلهمّ عليه الليل، فتشتعل بدروب المخيّمات الحرائق. يقبل النهار فيرتفع الدخان ليلاً يلفح وجه الشمس في الخليل وفي الجليل.

أجل يابن عميّ! ها أنا ذا أصل، بعد أربعين سنة، مالم ينقطع بيننا من حديث؛ فقد كان الحديث متصلاً على شكل أو على آخر. أعود إلى حديث بدأناه حين كنّا في السادسة. نجري مع الأولاد في حقول شقائق النعمان، نجمع الباقات، نبدع منها أحزمة وتيجاناً وقلائد. نجري، والأفق رحب، نحو ما لا ندري، لا نلوي على شيء. نغفو عائديْن من الحقول الشماليّة، والعربة تهدهدنا فوق أكوام السمسم الأخضر. نختبئ بين القش على البيادر قبل أن يقبل الليل، فينثر على الأشياء الندى.

الآن يابن عمي، الآن فحسب، أصل ما لم ينقطع منا. أذكرك،‏ حين أجبرنا على الرحيل من قريتنا، في اليوم الثالث، أو الرابع بعد ليلة القصف الوحشيّ، عند الضحى،‏ أو في العصر، لم أعد أذكر تماماً، كنتَ ممسكاً بإصرار -وأنت الشعر الطويل المشعّث، والقدم الحافية، والعين الكسيرة- كنت متشبثاً بثوب أمك السابغ. وأبوك قد ركب رأسه،‏ وهو يجادل إخوته الثلاثة، ويقرر العودة إلى القرية المحتلّة، وتابعنا نحن الرحيل نحو مجهولنا، الذي أصبح معلوماً، فارتفع بيننا حاجز. ارتفع حتى بلغ، اليوم، أربعين عاماً. أنا لم أستطع تجاوزه، لا في الإذاعة، وهي تنقل رسائل اللاجئين إلى ذويهم، ولا في الرسائل، ‏التي يحملها الصليب الأحمر، منا إليكم. كنتُ أحسُّ، بعد أن بلغني شيء من الوعي،‏ أن رسائل الإذاعة لن تقول إلا ما يقوله كل الناس:«نحن بخير طمئنونا واطمئنوا»، وأن رسائل الصليب الأحمر مباحة، تقرؤها مئات العيون المتفحصة، ‏الجارحة، المنتهكة أسرارها.

وحين كنتُ في باريس، كان لدي عنوانك، حصلت عليه من أختك التي اختارها الرحيل وزوجها معنا. كنت أستطيع أن أكتب إليك من هناك. راودتني الفكرة، لكني لم أحاول. ففي أعماقي، في كل كياني، يرتفع ذلك الجدار العالي، فآثرت حوار صمتنا الطويل. أشهد أني كنت أغالب فيكم شوقاً سريّاً، فأنتم من رائحة قريتنا التي لا تفارقني أينما حللت. كانت تتآكلني رغبة جارفة؛ لأقف على صورتك بعد أربعين سنة، لأسمع صوتك، لأعرف أخبارك: من تزوجت، ومن أنجبتَ، لأرى إخوتك: أولاد عميّ، لأتعرّف إلى أختيك الصغيرتين اللتين ولدتا في أسر الاحتلال، لأعزيك بموت عمي: أبيك، وبموت أّمك: زوجة عميّ، ولو بعد سنين طويلة، وأقول لك: سلامة رأسك يابن عمي! لأعبّر لك عن «حسدي» لأنك تستطيع أن تزور، مشياً على الأقدام، قريتنا، فردوسنا، وإن أصبحت أطلالاً، كما قيل لي، واستطالت فيها الغابات، وتتجوّل في أماكن لعبنا، ولهونا، وركضنا، وأحلامنا، ولعل صوراً من الماضي البعيد، القريب، تهمي على روحك فتدمع منك العينان. كانت رغبتي جامحة أن أطلب صورتك،  وصورة زوجتك، وأولادك، لأتملاك، وأتملاّهم، فأنت مازلت تتفلت من بين أصابعي وذكرياتي فلا يتبقى منك سوى ابن السادسة، ذي الشعر الكستنائي الناعم الطويل، والملامح الدقيقة، والقنباز المخطط الضافي. وأما هم فمن أين لي أن ابتعث في نفسي لهم صوراً؟. ولكنيّ لم أفعل. كان لدي رفض صريح،  قاطع، للكتابة إليك؛ لأن هذه الأشواق الحارقة،ذات الأربعين سنة، كانت تصطدم بشيء كبير، هائل، عصيّ على الذوبان. كانت تشدني سنوات التشرد، والبحث عن قرار. تشدني دماء فهد ابن جارنا هل تذكره؟ـ فهد الذي قتلته شظيّة طائراتهم على أبواب القرية. تشدني سبحة جدّي، المعلقة على الجدار، جدّي الذي مات قهراً في العام الأول للمنفى. يشدني الشهداء، والمجازر،  ومنع التجول،  والتفتيش عند الحدود، وفي المطارات والموانىء. تشدّني لهفة أولادي للوطن الحاضر الغائب. أشياء أخرى كثيرة تشدني ألا أفعل،  حتى لا أكتب على غلاف الرسالة اسماً آخر لفلسطين. كان ذلك فوق طاقتي، فوق حياتي وحياتكم.

الآن.. الآن فحسب،  أستطيع أن أكتب إليك على رؤوس الأشهاد، فمئات سيحملون إليك صوتي،  وإن جاء متأخراً أربعين سنة.

تقبل يابن عميّ، إذاً، أشواق ابن عمك التي عتقّها الزمن فاختلطت بالبيوت والدروب والوجوه، وسلامي إلى كلّ زهرة ونبتة وشجرة ورائحة بقيت حيّة تشتعل في الذاكرة، ولم يغيّرها كرّ السنين وإن طالت!.

ملحوظة: أخشى ياابن عميّ أن نكون قد التقينا في شارع من شوارع مدينة ما قذفتنا إليها أقدارنا، فلم يعرف أحدنا الآخر. فهل فكرت أنت أيضاً في هذا؟!

 

 

الفجر الكاذب

 

وهكذا يا سادة.. يا كرام، وبعد ثمانية وأربعين عاماً، منذ أن خرجتُ من داري إلى موعدكم هذا، أتيح لي أخيراً أن ألتقي أبناء عمي الأربعة. جاءوا يتراكضون من الناصرة، ليروا ابن عمهم في عاصمة عربية، شرعت أبوابها، بعد اتفاقيات «السلام» المزعوم لوفود السائحين.

حين سمعتُ أصواتهم، في الهاتف في بيت قريبي، تلهج بعبارة: «يابن عميّ» لم أصدق. انقطعت أنفاسي، كاد قلبي يتوقف عن الخفقان: اسمع يا بن عميّ سنكون بطرفكم غداً! ولكم أن تتصوروا، يا سادة.. يا كرام.. كيف استنقذتُ فجأة، من شبه العدم، ثلاثة من أولاد عميّ كنا أطفالاً، في القرية، نلعب في البساتين والبراري، وكذلك ابنة عمي الصبية الجميلة. وكان لأبناء عمي أسماء، وما يزالون يحملونها، منذ ثمانية وأربعين عاماً: فهد، محمد، أحمد، ألمازة!

حين وقعت الواقعة، واقتاتت أشواك دروب المنافي أقدامنا وقلوبنا، عادوا هم، مع والدهم عمي، من منتصف الطريق، من عرّابة إلى القرية المحتلة، وأوغلوا في المنفى، في وطنهم، ورفضوا إلاّ أن يكونوا حراس حقولهم وبيوتهم، حتى نعود، فأقاموا ينتظرون غير بعيد على تل بأطراف الناصرة، ينظرون إلى قريتهم من عل، ولعلهم نسوا أو تناسوا، حين طال عليهم الأمد، أن لهم أولاد عم، لا يبعدون عنهم أكثر من مدى الصوت، ولكن قطاف النجوم أقرب إليهم من الوصول إلينا، فأرقدونا على أرفف النسيان، وأرقدناهم، بعد حين، في منطقة محايدة من قلوبنا.

حين جاءني الهاتف من بيت قريبي، إلى الفندق، ينبئني بوصولهم، دخلت في عالم مسحور، أو في حلم مستحيل؛ إذاً أولاد عمي يشاركونني هواء هذه المدينة، وشمسها، وروائحها. وصرت أبعثر، وأنا في طريقي إليهم، صورهم لأعيد تشكيلها فلا أعثر إلا على صورة أطفال بين الرابعة والتاسعة، في الحقول، وعلى الدروب الطويلة ذات المنحنيات، وفوق البيادر.

وحين حانت لحظة اللقاء انفصلتُ عن ذاتي وغدوت مراقباً، ودخل شخص، خرج مني، ودخلوا في موجة بكاء لا تقاوم، هزت الأعماق، وتغلغلت في لعبة الزمن، ولا تريد أن تنحسر، وكان الذي انفصل عني يتساءل عن جدوى ذلك كله.

وحين جلست في حضرتهم، وعاد بعضي إلى بعضي، أخذت أتأمل الأطفال الثلاثة الذين كبروا، وغدوا كهولاً، فابيضّ شعر رؤوسهم، وبرزت تجاعيد وجوههم، وخشن الصوت منهم، وانبعثت من أجسادهم روائح التبغ. يا للدهشة! إنهم لم يتوقفوا، إذاً، خلال السنين الخاليات، عن النمو، فصاروا شباباً، وتزوجوا، وأنجبوا، وكبر أولادهم، وتزوجوا، وغدا أولاد عمي أجداداً لأحفادهم. كل ذلك في ظل الاحتلال، وفي غفلة عنا. كيف حدث ذلك؟ وأما ألمازة ذات الخمسة عشر ربيعاً، المثال الحي للجمال الذي كان يأخذ بلبي الطفولي، الثوب الفلسطيني للصبايا، الجمال القروي، العيون المكحولة، الحطة التقليدية ذات الحمرة الغامقة، والأهداب الفضية أو الذهبية تحيط بالوجه الأسمر المدور. ألمازة يا إلهي! أهي هذه العجوز التي تكاد لا تقف أو تمشي كما يقف أو يمشي البشر، والتجاعيد المتهدلة على العينين والفم والعنق، والنظرات وقد خبا بريقها، أم اثني عشر ولداً وبنتاً، جدة خمسة وثلاثين حفيداً وحفيدة، ومن حفيداتها من تزوجن وأنجبن.

ألمازة..! ما فعل بك الزمن؟!

 

وهل أنت.. أنت التي عرفتها؟ وبأي المشاعر أعانقك وتعانقينني؟.

إن عقلي لا يصدق. وحملتني أمواج عاتية إلى اللج فاختلط علي كل شيء.

في الأيام الثلاثة التي قضيناها جميعاً، نهضت فوق أحاديثنا «صفورية» القرية البعيدة، القريبة: بيوتها الطينية، أزقتها الضيقة، ساحاتها الواسعة، وشجرة التوت تظللها، حيث يصطف الرجال عصراً وفي الليالي المقمرة، قلعتها الشامخة، روائحها. هذه القرية التي لم يبق فيها حجر على حجر؛ هدموها، طمسوا فيها القلوب والذكريات والأجداد، وتحولت إلى غابة موحشة فوق أنقاض المنازل.

نهض رجالها ونساؤها بملامحهم التي لاتغيب ، ببعض ماقالوا أوفعلوا، بمصائرهم وبمصارعهم، هنا، أو هناك، وبمن بقي منهم حيّاً يسعى.

نهضت أشجار الزيتون والرمان والتين والصبّار من حولها، تلك الأشجار التي قطعوها وأطعموها وقوداً للنيران.

نهضت حقول شقائق النعمان والنرجس والزعتر البرّي، التي استقرت في الذاكرة، وبقيت تشتعل بالألوان والروائح والطعوم، وأسعدني أن مهرجان الربيع، الذي كان، ما يزال ينتظر.

نهضت تلك الليلة الرمضانية التي وزّعت مصائرنا وحظوظنا، من قتل في القرية، أو على أطرافها، إثر الغارات الجويّة وهجوم الدبابات من الجهات الثلاث، ومن عاش ونجا بنفسه واستلم دروب الرحيل.

وإذا اختصرتُ، يا سادة... يا كرام، قلتُ: إن سعادتي بلقائهم كبيرة، وأنا أعانق فيهم طفلاً أثقلته ثمانية وأربعون عاماً من الأحلام والذكريات والدموع. والغريب أننا كنا نتحدث، وكأننا نتابع حديثاً بدأناه في الأمس. وكنتُ أختزن كلمات ومواقف ومشاعر أحملها إليكم وأنا في طريقي إلى موعدكم هذا.

ولكني مع ذلك كلّه، سأعترف..

لقد كان لقائي بهم، كذلك شوكة في حلقي، ومرارة في لساني؛ فهم قد جاءوا في زمن الهزائم والتراجعات، وجاءوا بجواز سفر هجين.

سأعترف، إذاً، أن هذا اللقاء كان ناقصاً، وليس هو ذلك اللقاء الذي انتظرته كل هاتيك السنين، وينتظره أولادي منذ أن أدركوا أن المخيّم مكان إقامة عابرة ليس إلا، وليس هو اللقاء الذي حلم به أبي، وحلمت به أميّ، وماتا قبل أن يتحقق لهما الحلم، وحلم به عميّ هناك وراء الحدود، عمي الذي حين بلغه خبر موت أبي، كما أخبروني، في برنامج «رسائل اللاجئين إلى ذويهم» ضرب كفاً بكفّ، وصاح: باطل! ولم يتوقف عن أغاني أيام زمان الحزينة، أغاني السفر والحج والوداع، وبقي يغنيّ، وينادي إخوته وأهله الذين اقتلعوا من أرضهم، وتفرّقوا في البلاد، حتى فاضت روحه بعد سنة واحدة من رحيل والدي.

واقترب فهد، ابن عمي الأكبر، وهو يودّعني، وقال على مسمع من الجميع: إننا مانزال نحتفظ بكلّ الوثائق بأرضنا بأسماء والدي وجميع أعمامي.

وبكينا، وتعانقنا، وشخص انفصل عني كان يراقبنا في حياد. وفجأة، كحجر قذفته يد قوية في الموج العاتي فغاب، انقضت هاتيك الأيام الثلاثة، وانغلقت على أبناء عمي القضبان الحديدية، وابتلعهم، من جديد، الصمت المدوّي. لقد خرجوا من السجن، وإلى السجن يعودون.

وهكذا، ياسادة.. يا كرام، خرجت من بيتي على موعد معكم، وأنا طفل في السادسة، فضعتُ في الطريق، عثرتُ، نهضتُ، أملت ويئست مرة، يئست مرات. وها أنذا أجيئكم.. أجيء أخيراً،إلى موعدي، وقد أزهرت أشواك التجاعيد في وجهي،واشتعل العمر والرأس مني شيباً، فاعذروني إن تأخرت عليكم، فأنا لم أتأخر سوى ثمانية وأربعين عاماً.. وطار الطير.. والله يمسيكم بالخير!.

 

 

مقبرة الأربعين

 

لم نكن ندري، حين كنا صغاراً، أو لم نسأل أنفسنا: لم حملت مقبرة الأربعين هذا الاسم؟ وعرفنا، حين كبرنا، أن أربعين شهيداً يرقدون فيها رقدتهم الأخيرة.

لقد  احتلت المقبرة حيزاً كبيراً من عالما الطفولي. كانت مرتعنا في النهار؛ نمارس بين قبورها كل ما يخطر على بال الأطفال: نلعب «بالدحاحل» الصغيرة، وكانت تسحرنا ألوانها الخلابة، وفنون ألعابها. نلعب لعبة المربعات، وكنا نسميّها «الحجلة». نلعب «طوح شبار». نلعب «الزقطة» بمكعبات الحصى. نلعب «عسكر وحرامية». نلعب «حَضَر» . نلعب الغميضة. نلعب جمال ياجمال. نلعب طاق...طاق ...طاقية. ونتخذ من القبور، أحياناً، أحصنة، تحملنا إلى آفاق بعيدة. كنا نجري، نقفز، نتدحرج، نتسابق، نتصارع، نحفر أوكاراً وقنوات، ‏نقيم مباريات كرة قدم. لا يصدّنا عن ذلك برد الشتاء ولا مطره، ولا وهج الصيف ولا غباره. ولكل فصل ألعابه المفضلة.

وكنا لا نكاد نذكر علاقة القبور بالموت، حتى يُحمل إليها نازل جديد. فنشارك، بحماسة، في طقوس الدفن. ننضم إلى الموكب المهيب. نحمل حزم الآس الخضر الطويلة. نرحل مع المؤذن الذي يقود الموكب بصوته الحنون، إلى عالم غريب. نتنشق رائحة عطر غريب حاد مُسكر. نرى حين نصل إلى المقبرة، بقلوب واجفة، الكفن الأبيض اللامع الذي يُلفّ به الميت، ينقل من التابوت الخشبي إلى القبر وسط أصوات التهليل والتكبير. نشارك في إحضار الحجارة لسدّ الثغرات التي تتركها الصخرة البيضاوية من جوانب القبر، وفي نقل الطين وإهالة التراب. وأخيراً نجلس خاشعين مع الجالسين، على عتبة عالم مجهول، نصغي إلى الشيخ يلقن الميت ما يجب ألا ينساه إذا زاره الملكان أنكر ونكير بعد انفضاض الناس.

ولكن المقبرة، ومن عجب، قد حفرت في أعماقي دروباً من الهول والرعب حين كان يجن الليل. فإذا اضطررتُ، وقلّما أُضطر، إلى المرور من طريقها ليلاً، فقد كنت أجري كالريح، قبل الوصول إليها، لا ألوي على شيء، لا ألتفت ناحية القبور، ولا ألتقط أنفاسي حتى أكون قد دخلت في الزقاق الجانبي، وغابت القبور عني. كانت تستيقظ في كياني كل الحكايات عن عالم الجن والعفاريت والأشباح، وتصحو لديّ كل هاتيك القصص التي سمعتها عن الأموات الذين ماتوا ظلماً، يقومون ليلاً بين القبور، يحدثون عن الظلم الذي لحق بهم، وعن الأولياء الصالحين، طوال القامة دائماً، مكتنزي الجسم، يرتدون الأبيض من قمة الرأس إلى القدمين، يخرجون من القبور، يطوفون بينها، يسبحون بحمد الله، ثم يعودون آخر الليل إلى قبورهم الكبيرة المتميزة، التي أحيطت بجدران طينية ذات نوافذ حديدية خضر ، يرتعش فيها دائماً نور شموع، لا يدري أحد متى وضعت، ومتى أضيئت.

كنّا قد انتقلنا إلى حيٍّ جديد مجاور حين توفي والدي. لأول مرة أعاني الموت والفقد حقاً لإنسان، كل ما فيّ مرتبط به: القرية البعيدة.. الطفولة.. الحب.. الحنان.. النجاح.. كل شيء فيه غدا جزءاً منا ومن حياتنا اليومية.. الغرفة التي كانت تضمنا معه.. رائحته.. تنفسه.. تبغه.. سعاله.. كان من الصعب التخلي عن أي شيء منه. كان فقده مفاجئاً.. ضربة قاصمة.. موجهة لي بالذات.. لا أدري لم.. ربما لأنه كان يحبني أكثر من نفسه.. كنت أشعر أني، بمعنى ما، رأس ماله الوحيد.. ربما لأنه انتظر كل أيام الغربة والفقر والشدة والمرض ، ليأكل من تعبي، بعد أن بذل كل شيء من أجل تعليمي. كان قاب قوسين أو أدنى من قطف ثمرة تضحيته. مات قبل أن أقبض قرشاً من عملي. أية حسرة حملها وحده؟.

لم أستطع أن أبكيه حين مات.. أياماً وأياماًً أحاول أن أقنع نفسي أن أبي قد مات، ومن حقه عليّ أن أبكيه.. لم أستطع.. تحجّر دمع عيني. وحين مرّ على موته بضعة أسابيع.. وحين أيقن كائن في داخلي أنه قد مات حقاً.. عدت إلى بكائه بدموع سخيّة سخينة.

أصبح والدي من نزلاء مقبرة الأربعين بعد أن أوصى أمي أن يدفن في قبر جدّي. وكنت قد دخلت مرحلة من العمر جديدة وغادرت عالم الطفولة. ولكني مع ذلك لم أتعلم المشي في الليل قرب المقبرة دون إحساس الرهبة والتحفز والخوف؛ إذ كانت تستيقظ، في نفسي، الأصداء البعيدة العميقة. وكنت أنحرف عن طريقي إلى الحي الجديد لأسلك الطريق القديم إلى المقبرة، وأعرج باحثاً بين القبور الطينية المتشابهة عن قبر والدي، لأقرأ ذاهلاً الفاتحة على روحه وروح جدّي. كنت في هذه اللحظات أقتحم عالماً مسحوراً غريباً لا أخرج منه حتى أستأنف طريقي، وتأخذني، من جديد، أمور الحياة اليومية المستعجلة دوماً.

غبتُ عن المدينة سنوات ثلاثاً، حملت معي فيها، إلى بلاد البرد والثلج والضباب، مدينتي: شوارعها.. حاراتها القديمة.. روائحها.. همومها.. كل ماحفرته الطفولة على جدران روحي.

وذات يوم عدت إليها، وكان لابد لي أن أعود. وقادني طريقي إلى درب مقبرة الأربعين. قلت في نفسي: لأقرأ الفاتحة على روح والدي وجدي بعد هذا الغياب الطويل. وقفت مصعوقاً خيّل إليّ في بداية الأمر أنني أخطأت الطريق. فقد ارتفع مكان المقبرة ثلاث عمارات هائلة، متماثلة، شاهقة، تناطح السماء، وتجثم ثقيلة ـ كما تخيلتُ ـ على صدور الموتى، وبينهم والدي وجدي والأربعون شهيداً والمظلومون والأولياء الصالحون. ولما صحوت من هول المفاجأة. بسطتُ كفّي، دون أن أدري ما أفعل، وقرأت الفاتحة وانسللت هارباً. كان عالم كامل يتهاوى في داخلي بلا رحمة.

وانقطعت هذه الأيام عن سلوك الطريق القديم إلى المقبرة؛ فمن بعيد أرى سواء أكنت ماشياً أم راكباً، العمارات المتماثلة، الشاهقة، الثقيلة، فأبسط كفيّ، وأقرأ الفاتحة على روح والدي وجدي والأموات جميعاً وعالم طفولتي الذي كان يوما!.

 

 

مدينة الأحلام

 

من بين الأحلام الكثيرة، التي  كانت تعتادني في صغري، حلم لاأنساه. كنت أرى نفسي بين مسافرين لا تنكشف لي وجوههم، على زورق كبير يتجه ليلاً في الشمال الإفريقي نحو الغرب. وتلوح من بعيد مدينة لااسم لها، لكنها المدينة التي تختصر كل المدن المغربية: الدار البيضاء، الرباط، فاس، طنجة، مراكش، المدينة المشتهاة، المدينة الأجمل، المدينة التي تتحقق فيها كل الرغبات، المدينة التي ينتهي عندها العالم، فما وراءها إلاّ محيط لاآخر له، كانوا يُطلقون عليه: بحر الظلمات. وقف عنده يوماً، عقبة بن نافع في فتوحاته، كما كان يحدثنا، بأسلوبه الطلي الشائق، أستاذ التاريخ منير الملقي رحمه الله.

المدينة مغربية ونحن نتجه إليها. وتلوح لنا تطفو على الماء والأضواء. تنعكس الأضواء التي لاندري من أين تنبعث في الماء، فيرتعش الماء. أو يكسر الماء المرتعش الأضواء، فتتوالد خطوطاً وخيوطاً ومثلثات ذات رؤوس حادة متطاولة في كل الاتجاهات.

فجأة... تتلاشى المسافة، فإذا أنا وحدي، لاأدري كيف ولاأين اختفى الآخرون في المدينة البحرية الليلية. ويسبقني قلبي، مرتعشاً، يركض في شوراعها الضيقة الملتوية النظيفة ذات الدور البيضاء الكلسية، التي تحولت بفعل الليل والأضواء والأخيلة إلى رمادية ناعسة. وكان عليّ أن أطرق كل الأبواب المغلقة، لينفتح أحدها عن الأميرة الجميلة التي تختصر كل نساء العالم، والتي اختفت ذات يوم طوعاً أو كُرهاً، واستوطنت هذه المدينة. وعلى الرغم من أنني لاأعرف الأميرة التي ابحث عنها، إلاّ أنني كنت أعلم أنها سمراء، رشيقة القدّ، بيضاوية الوجه، وطفاء العينين، مكتنزة الشفتين، يتأرجح شعرها الأسود الطويل، إذا مامشت، على ظهرها، وتتضوّع ثيابها القزحية السابغة بكل عبق البخُور. وكنتٌ على ثقة، على الرغم من أن أحد الأبواب لم ينفتح بعدُ عن الأميرة الجميلة، أنني سأعثر عليها مادمتُ قد عثرت على هذه المدينة الرائعة. وعلى هذا الأمل أصحو ومايزال قلبي يرتعش بفرح لاحدود له.

ويتكرر الحلم ليلة بعد ليلة، وماتزال المدينة المشتهاة تخفي خلف باب دار من دورها ما أبحث عنه.

وتمضي الأيام، وتقودني طريقي، مراتٍ ومرات إلى مدن المغرب الحقيقة:« الدار البيضاء» بأبنيتها الشاهقات، وشوارعها العريضة، وشاطئها البعيد مع الغروب، «الرباط» بحاراتها العتيقة ومنازلها ذات النقوش العربية الرائعة التي تتكرر بلانهاية، وأسوارها وبواباتها، «فاس» وأسواقها الشاميَّة، وروائحها في الدروب الضيّقة وجامعة القرويين العتيدة، «مراكش» الحمراء، وبيوتها القرميدية، وشوراعها الزرقاء، بزهور الجكرندا ومساجدها، وساحة «الفناء» الشاسعة فيها،«طنجة» وهي ترنو من الأزل إلى مضيق جبل طارق، حيث يلتقي البحر بالمحيط، وإلى الأضواء البعيدة المهتزة في العدوة الأخرى من الأرض، القرى الجنوبية على حدود الصحراء، بشجر صبّارها وزيتونها المسمّى (أرغان)، وبيوتها الطينية الواطئة، التي قادتني إلى رحلة في التاريخ والجغرافية معاً، فأعادتني طفلاً على أعتاب قريتي من فلسطين، وفي أطراف دمشق الشام.

رأيت في المغرب أشياء واشياء، عرفتُ أناساً كثيرين، تحدثت إليهم وسمعتُ إلى لهجتهم الغريبة المميّزة، أكلت طعامهم المحلّي الشهيّ، أنصتُّ إلى موسيقاهم الأصيلة وغنائهم الشجيّ، قرأت بعض شعرهم ونثرهم، اجتزت الشواطىء من الشمال إلى الجنوب، تفرجت في ساحة «الفناء» علىألعابهم، وأصغيت إلى حكاياتهم ونوادرهم.

ومن عجب فإن هذه التفصيلات التي رأيتها في الواقع، مراراً، تضيع: تضيع المعالم والوجوه والأحاديث والأطعمة والروائح يضيع كل شيء، ولايبقى لي في المنام، حين أحلم بالمغرب، سوى الحلم القديم الذي يعتادني، بين حين وحين، حلم الزورق المتجه غرباً، بين وجوه لاأعرفها، نحو المدينة المغربية المشتهاة، الطافية على الماء والأضواء المتوالدة أطيافاً وأشكالاً لاتنتهي، وقلبي يرتعش في شوارعها الملتوية بحثاً عن الأميرة الجميلة السمراء، الهاربة أو الأسيرة، التي تختصر نساء العالم، يملؤني فرح طاغ أن أطرق باباً فيفتح عنها وأعود من رحلتي، أو حلمي بصحبتها.

وأتساءل، بلهفة أتساءل، أيهما الحقيقة: مدن المغرب الحقيقية التي رأيتها وخبرتها أم مدينة الحلم والخيال؟ لماذا لم يتلّوّن حلمي بما رأيت وخبرتُ؟ ولماذا يبقى، على الرغم من مرور الزمن، عصيّاً على الاختراق والتغيّر؟ إنه يبقى أقوى من أيّ واقع عرفته وشاهدته وخبرته. أفي المسألة سر لاأدريه؟

ومازال يعاودني حلم الزورق، والمدينة المشتهاة، والأميرة الأسيرة ومازال قلبي يرتعش بشوق لا حدود له!.

 

 

طيف من الماضي

 

سطّام النحس (والنحس لقبه) صاحب الشخصية الرهيبة، التي أفزعتنا ليل نهار، في النوم واليقظة، عرفناه في الخمسينيات، ونحن أطفال في المدرسة الابتدائية، في الأزقة العتيقة المتعرجة الضيقة المسكونة بالأسرار، من حي «الميدان». وكان مجرد ذكر اسمه يجعل وجوهنا تصفر، وعيوننا تزوغ، وأرجلنا تشل عن الحركة، وقلوبنا تخفق كالعصافير التي وقعت في الشباك. كان يفاجئنا في منعطف زقاق ونحن عائدون من المدرسة، أو في حارة مسدودة نلعب، بلباسه الشعبي: السروال الأسود الواسع حتى يكاد يمس الأرض لطوله من الخلف، الضيق عند الساقين، المشدود بنطاق  عريض عند الخاصرة، والقميص الذي لا نعرف له لوناً وفوقه الصّدار المخطط ذو الأزرار القماشية الكثيرة، والمفتوح دائماً، والطاقية البيضاء المتسخة فوق الرأس الضخم الحليق، والوجه المشطب بضربات سكاكين في أكثر من موضع، والعينين اللتين تقدحان مثل الشرر، والصوت العميق ذي البحة المميزة. يقف كالمارد وسط الطريق، منفرج الساقين، ويداه تزنران وسطه، فلا نستطيع الهرب عن يمين أو يسار، فنتسمر في أماكننا، ونحن نرتجف كغصن فاجأته ريح عاصفة، ننتظر، بلا حول، ما سينطق به، أو يفعله. ويصيح بنا صيحته المشروخة المعهودة: ولاه!.. اضرب سلام انت وهو..!

فما يكون منا إلا أن نرفع أيدينا الصغيرة بالتحية، ونثبتها عند الجبين، حتى يأمرنا بالانصراف. والانصراف يعني عنده المرور من بين رجليه المنفرجتين، فيصفعنا واحداً واحداً، أو يشد ساقيه القويتين على رؤوسنا الصغيرة حين المرور.

وقد قدر لنا أن نشهد لقاء سطّام (قبضاي حارة القاعة) مع (قبضاي حارة الساحة) وهو من بيت الشربجي. وقد ترامى إلى اسماعنا أن في عنقه قتيلين. كنا خارجين من مطعم (وكالة الغوث) حيث نتناول غداءنا  بعد انتهاء دوامنا في المدرسة، في الظهيرة، ويقع بين القاعة والساحة. هناك تماماً كان لقاء سطّام بابن الشربجي. ومن حسن حظنا أن المعركة لم تبدأ حين خرجنا من المطعم، كان مجموعة من الصبية يتحلقون حولهما، وسرعان ما يتراجعون لدى نظرة نارية من أحدهما. فانضممنا إلى الحلقة، وأقبل بعض الرجال من الحيين، ولم يشأ أحدهم التدخل لفضّ الشجار. كانا يقفان مواجهة، وقد شمر كل منهما عن ذراعيه وساقيه. وكان كل منهما يعدد محاسن حارته ومساوئ حارة الخصم. وعلى الرغم من إحساسنا بالخوف الشديد، إلا أن رغبتنا بالفرجة كانت أقوى. وعلى الرغم مما كان يفعله بنا سطّام إلا أن هوانا كان لمصلحته، فهو ابن حارتنا على كل حال، والآخر قتّال قتلى.

وفجأة وبعد الملاسنة القصيرة، سحب كل من جيب سرواله، في وقت واحد (موسى كباس بست طقات) وفتحه بحركة سريعة، فلمع النصلان في الشمس، ووضع كل منهما الموسى في فمه، وكأنهما يؤديان دوراً على المسرح. ثم خلع كل حذاءيه المكسورين من الخلف، فأصبحا حافيين. وانحنى كل في مواجهة الآخر، وأخذا يدوران في حلقة، وهما منحنيان، حتى إذا تمكن ابن الشربجي من سطّام أنشب أصابعه حول عينيه وضغطه، فاندفع الدم في وجه سطّام، وسقطت طاقيته البيضاء المتسخة. وأيقنا بهلاكه، ولكنه بحركة سريعة قبض على ابن الشربجي من وسطه وألاحه عدة مرات، فصدرت عنه (أخ) قوية، وتراخت يداه عن وجه سطّام، وتهاوى على الأرض منبطحاً وفوقه سطّام يغالب لهاثه محتفظاً بالموسى في فمه، بينما سقط موسى ابن الشربجي على الأرض. عند ذلك أمسك سطّام بالموسى من قبضته ولوّح به في وجه خصمه، وأخذنا ذعر شديد، وظننا أنه سيطعنه في صدره. ولكنه نهض من فوقه وابتعد عنه قليلاً وهو يصيح به:

ـ قوم ولاه... خذ موسك وامش، ولا تعمل من حالك قبضاي!

وفعلاً نهض ابن الشربجي واسترد موساه، وأخذ ينفض الغبار عن ثيابه، تحت تهديد موسى سطّام في يده المرفوعة. واسترد كذلك طاقيته البيضاء التي تدحرجت بعيداً، ونفضها بقوة، وأعادها إلى رأسه، وانسحب دون أن ينظر إلى أحد، واتجه نحو مدخل حارته، واخترق سطّام الحلقة الملتفة حوله، بكبرياء، وأعاد الموسى، بعد أن طواه، إلى جيبه.

وظننا يومها؛ أن لا أحد في العالم يستطيع أن يغلب سطّام ، واستعدنا خوفنا منه، فتفرقنا مذعورين قبل أن ينتبه إلأى وجودنا خلفه.

ولاحقنا سطّام النحس بألوان من الرعب والخوف، وانضافت شخصيته إلى شخصيات أخرى حقيقية أو خرافية عرفناها، وارتبطت بالمشاجرات، وضرب السكاكين والعصي، ونطح الرؤوس، وبالقمار والمشروب في الأزقة أو البراري المحيطة بالحي. وصرنا نتبادل قصصه التي نسمعها ونضيف إليها قصصاً لم تحصل. وبقي سطّام جزءاً أصيلاً من الذاكرة الشقية لأيام البراءة والدهشة والفقر والأحلام. وتباعدت صورته والأيام تتقدم بنا، وننتقل إلى حيّ آخر، وغدت نوعاً من الذكرى الجميلة قد نستعيدها، حين نعود إلى تلك الفترة من حياتنا، وأغرقتنا الحياة والأولاد والمسؤوليات والهموم السياسية والثقافية والمعيشية. وغاص سطّام في شبه غياب من الحافظة المتعبة المثقلة.

ومنذ فترة قريبة، تم انتشال سطّام من شبه العدم إلى حضور مختلف. إذ فوجئت وأنا أمر من أحد شوارع المدينة الحديثة بعبارة واضحة، وبخط عريض (أفران الحاج سطّام... وأولاده). وصدرت عني من الأعماق: يا إلهي!. وعرفت بعد السؤال أن صاحب الفرن هو سطّام ذاته، وليس ثمة تشابه في الأسماء. ولما حاولت زيارته في الفرن قال لي العمال: الحاج لا يداوم وهو في منزله. وصرت أتخيل شخصية سطّام الجديدة بعد أن كبر وتاب، وتزوج، وحج البيت الحرام، فتقفز صورة الشقي سطّام وتختلط بها، فأعجز عن تخيل هذه الصورة الجديدة. وبقيت متلهفاً إلى لقائه ولو لم يبق من عمري سوى يوم واحد.

وكنت سهران، ذات ليلة، عند قريبي وصديقي القاضي، وأوغلنا معاً في ذكريات الماضي المشتركة. وفجأة بادرني بقوله:

ـ أتعرف من حضر إلي بالأمس في المحكمة؟

ولم يمهلني، فتابع كلامه:

ـ لقد حضر عندي الابن الأكبر لسطّام... يحمل لي سلاماً من والده ويذكرني بالحارة العتيقة ويرجوني أن أساعد ولده في الدعوى التي أنظر فيها، ويدعوني لزيارته.

وسرعان ما قررنا زيارة الحاج سطّام معاً في أقرب وقت. واقترح قريبي أن يكون ذلك في اليوم الأول من عطلته القضائية.

ودخلنا معاً في المساء المحدد في حارات الميدان، وكأننا ندخل مكاناً مقدساً، تسبح فيه أطياف الماضي وأصداؤه. وفوجئنا ، حين أطل علينا البيت، الذي نعرفه جيداً، بأضواء باهرة، وأناس يروحون ويجيئون، وصوت مقرئ القرآن يردد: «كل من عليها فان، ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام، فبأي آلاء ربكما تكذبان».

لا أريد أن أتحدث عن المشاعر الغريبة المتباينة التي انتابتنا. لقد دخلنا إلى الساحة الواسعة، ذات البحرة، التي جفت، وأشباح أشجار النارنج والليمون وبقايا شجيرة ياسمين ذابلة والجدران المتشققة. وجلسنا صامتين في السرداب المقام، نترحم على الحاج سطّام، الذي أبى إلا أن يبقي صورته (الشقية) القديمة في ذاكرتنا، فرحل قبل يوم واحد فقط من زيارتنا له!

 

 

مصائر

 

كانا مدرسين للغة الإنكليزية. جاءا إلى اليمن معارين من مدينة واحدة، صديقين لايفترقان، ربطتهما روح تكاد تكون روحاً واحدة، فأحدهما مقامر والآخر مغامر. يتفجران شباباً وصحة وقوة، ويقبلان على الحياة بنهم من يفارقها غداً، وينهلان من متعها الصغيرة والكبيرة بظمأ من لايرتوي من ظما. وعمّقت قراءتهما للكتب من رؤيتهما للعالم، فجعلت لحياتهما فلسفة نظرية كانت خلفية لحواراتهما وسلوكهما اليومي.

مازلت أذكرهما حتى الآن على الرغم من ربع قرن ويزيد يفصلني عن هاتيك الأيام: حسن المقامر، ربعة قصير، شعره مفلفل، تشع عيناه الصغيرتان حياة داخلية موّارة وراء نظرات كسلى، لامبالية، صامت في أغلب الأحيان، عابس إلاّ إذا استفزته مفارقة، فإنه يدفن رأسه في صدره ليأخذ حظه من الضحك. أما عبد الرحمن، المغامر، فطويل جسيم، شعره الأشقر خفيف يتكشف عن صلعة لامعة، يتفجّر وجهه دماً وحيوية دافقة، يتحدث في حماسة ويضحك بصخب، ويهتز جسده كله مستجيباً لحديثه وضحكه وسخرياته، وحين يشرب لايوقفه شيء عند حد، وكأنه ينتقم من شخص آخر في داخله، يشرب حتى تدمع عيناه، فيرق حديثه، وينساب الشعر في ثنايا كلماته.

وكنتُ على الرغم من تحفظي وخجلي معجباً بهما، بما لديهما من جرأة على الناس، والقيود الاجتماعية، وعلى الإقبال على الحياة، وإن كنت لاأقرّهما على ذلك، ولا أجرؤ على التفكير، مجرد التفكير، في أن أحاول ما يحاولانه. وكنت حين أجلس إليهما أشعر أن شخصيات روائية عرفتها عبر قراءاتي تخرج من الكتب، وتتحرك أمامي، شخصيات من لحم ودم، تمارس حياتها، وتكتب مصائرها بنفسها.

مازلت أذكرهما وهما يتعاوران سرد قصتهما المؤثرة مع المطرب المشهور محمد عبد المطلب، هذه القصة التي حفرت في أعماقي وتركت في نفسي أثراً لايُمحى إذ لامست، ولاأدري لماذا، شغاف قلبي، وهزّتني من الأعماق.

كانت رحلتهما إلى صنعاء عن طريق القاهرة، وكان عليهما أن يقضيا فيها ليلة واحدة، ليتابعا في الغد الرحلة إلى اليمن وليلتحقا بعملهما في المساء. ارتديا أفخر مالديهما من ثياب، وفاحت منها عطور باريسية ابتاعاها من المنطقة الحرة بالمطار، وغادرا الفندق إلى هدفهما المرسوم. واستقلا سيارة أجرة إلى  «العتبة» حيث يُحيي محمد عبد المطلب لياليه الساهرة لعشاق الطرب الأصيل. وتوجها مباشرة إلى مدير«الكازينو» وطلبا منه، بهدوء وحزم، مقابلة الفنان الكبير. فقادهما إلى غرفة أنيقة، ورجاهما أن يجلسا دقائق، فموعد حضور الأستاذ قد اقترب. ولمّا أطلّ عليهما محمد عبد المطلب مرحبّاً، قاما لعناقه فاحتضناه طويلاً، وهما يطلقان عليه عبارات: أبو الطرب، شيخ المطربين، عملاق الفن، نشوة الماضي. وحين التقط أنفاسه بعد هذه المفاجأة، التي كانت في انتظاره، سألهما عما يريدان. فنكّسا رأسيهما قليلاً وكأنهما يفكّران ثم تكلّم حسن، المقامر، بهدوئه ورزانته وجدّيته:

ـ أستاذ محمد! نحن من عشاقك في سورية. ولم نستطع أن نداري عشقنا طويلاً، فحضرنا إليك بأنفسنا. وبما أننا رجال أعمال، وليس لدينا وقت كافٍ، فقد ركبنا الطائرة من دمشق، وسنعود عليها غداً إلى دمشق! كل مانرجوه، وماجئنا إليك خصيصاً بسببه، هو أن نسمع أغنيتك المشهورة الرائعة:«بتسأليني بحبك ليه»، ونرجو ألاّ تخّيب رجاءنا! .

وتهلل وجه المطرب الكبير، ولم يشكّ لحظة واحدة في صدقهما، وأخذ يردد:

ـ من عينيّ الاثنتين، يامرحب.. أهلاً وسهلاً من عينيّ

وحين اعتلى منصة الغناء، ارتجف صوته تأثراً، وامتناناً وهو يرحب أمام الجمهور، بالقادمين الضيوف من الشام الحبيبة، الذين حضروا قاصدين سماعه، على الرغم من مشاغلهم وضيق أوقاتهم. ووعد أنه سيلبيّ لهم الرغبة التي جاؤوا من أجلها.

وغنّى محمد عبد المطلب لهما وللجمهور أغنيته الذائعة الصيت «بتسأليني بحبك ليه». غنّاها بأشواقه وذكرياته وأمجاده التي أطلقها هذان المغامران العابثان، غنّاها «متسلطناً» متربعاَ، تلك الليلة التي لاتنسى، واستشرف آفاقاً لاحدود لها، وغدا روحاً هائمة تسمو على الإنس في ملكوت الإبداع، غنى فأطال، وردّد، وأعاد، وأطرب، وأهاج في النفوس الأشواق والآهات والتنهدات وصرخات الإعجاب والاستحسان. واختصر عمره وفنّه وخياله وأحلامه في ليلة واحدة امتدت.. وطالت حتى قصرت وانفضت في لحظات من الزمن الذي لايعود.

هل أحسّ حسن وعبد الرحمن، تلك الليلة، بنجاح مغامرتهما؟ هل أشفقا على هذا الفنان والإنسان الطيب؟ هل ساورهما الإحساس بالخديعة فندما على فعلتهما؟ لاأدري تماماً. فهما لم يفصحا في روايتهما القصة عن ذلك، ولم أشأ أن أصل منهما إلى جواب ولعل ماعصر قلبي آنئذ هو هذا الوهم  الكبير الذي أطلق الرجل من عقاله فأبدع.

كل ما فعلاه في اليوم التالي أنهما ركبا الطائرة وتابعا رحلتهما إلى صنعاء اليمن، وليس إلى دمشق الشام كما زعما.

وعادت بي الذكرى إلى ليلة جزائرية في أعقاب الاستقلال، وكنت مع زملاء لي نعمل في تعليم اللغة العربية في المدارس الابتدائية. كنا تلك الليلة على موعد مع محمد عبد المطلب وفنانين آخرين جاءوا من القاهرة لإحياء ليلة فنية، بينهم فريد شوقي وإسماعيل ياسين وشريفة فاضل ومحمد قنديل كما أذكر.

وكنت أمني نفسي تلك الليلة بأغنية «أجمل من الذكرى في الدنيا إيه تاني» التي كنا نرددها في رحلاتنا حين كنا صغاراً في المدرسة الثانوية، حول النار في الليالي الطويلة أمام الخيمة وفي أماكن كثيرة.

وحين جاء دور محمد عبد المطلب، قدّمه عريف الحفل، وبدأت الموسيقى تعزف إحدى أغنياته، وفجأة طلع على الجمهور في الساحة الواسعة بقامته الطويلة، بكامل أناقته، وأخذ، من منتصف المسرح، يتأمل الجمهور الذي استقبله بفتور إلى حد ما. وبقي لحظات ينقل نظراته بين الصفوف. ويبدو أنه لم ير لدى الناس الاستعداد الذي ألفه لسماع لونه الخاص في الغناء، فأعطى إشارة من يده فبدأ صوت الموسيقى يتراخى شيئاً فشيئاً حتى توقف تماماً، عندها أدار محمد عبد المطلب ظهره للجمهور، ومضى بخطوات ثابتة وراء الكواليس، وغاب عن عينيّ إلى الأبد.

التقيت (حسن) من عشر سنوات تقريباً في شارع الحمراء بدمشق، عرفته من بعيد. كان يمشي، وكأنه يفتش، بين قدميه، عن شيء فقده. استوقفته، وعانقته، وذكرته بأيام اليمن البعيدة القريبة. سألته عن أحواله وأحوال عبد الرحمن. فهز رأسه أسفاً، وفاجأني بصوت أبحّ:

ـ عبد الرحمن مات! أصيب كبده. سافر إلى كل مكان ليجد علاجاً، فما نفعه شيء.. مات!

وتهاوى في خيالي جبل أشم إذ دك دكة واحدة! وعلى استحياء عرفت منه أنه حصل على إجازة بلا راتب لمدة سنة ليطوف على بيوت القمار السرية في مدينته؛ فحظه مقبل هذه الأيام. وزهد في دعوتي له. وغاب في الزحام كما ظهر. ولا أدري ما المصير الذي لاقاه أو يلاقيه اليوم، بعد أن ابيض شعره، وتهدّلت ملامحه، وتساقط معظم أسنانه.

ولم يطل الأمر بمحمد عبد المطلب، بعد تلك الليلة الاستثنائية، فودع هذا العالم، ليطوله النسيان الذي يطول كل شيء! وأضحت أيام الجزائر واليمن بعيدة لا تطولها إلا الظنون!

 

 

درس الخامسة من يوم الخميس

 

الخامسة تماماً، وأنا أجري في ممرات (المترو) بمحطة ( سانسييه) واقفز لاهثاً الدرجات الباقية، وأخرج من جهة مقهى ( ميرابل)، وأحثّ الخطا في درب الجامعة. لم أكن أدري أن الطريق ستستغرق  كل هذا الوقت. لقد تأخرت ولابد أن أستاذتنا الدقيقة في ميعاد دخولها إلى الفصل، أخذت موضعها خلف الطاولة تنتظر، وأمامها، على شكل حلقة واسعة، ستون طالباً وطالبة تقريباً من أنحاء العالم كله ينتظرون معها، طلاب من فرنسا وأمريكا اللاتينية وكندا وأفريقيا واليمن وتونس وفيتنام وإيران. سينتظرون خمس دقائق ثم يتجاوزونني ويبدؤون عرض موضوع «العنصرية» حسب المخطط المرسوم. وسيتناول كل واحد من الفريق الذي اختار هذا الموضوع عنصراً يتحدث عنه. حين سألوني عما أختار لم أتردد. قلت لهم: سأكون أنا الحالة التي تمثل الضحية للعنصرية، وتحت إلحاح نظراتهم المتسائلة قلت: نعم، فأنا عربي.. فلسطيني.. اسمر.. لم أتقن اللغة الفرنسية، ولم تتحدد الجنسية على بطاقة إقامتي بعد.

قالوا:

- إذاً ستكون أول المتحدثين

رأيت على باب مقهى (كاروس) فهد السعودي النحيف الوسيم الأنيق كعادته. وكان يعمل مراسلاً لمجلة (اليمامة السعودية) يقف وكأنه ينتظر أحداً على قلق، فسلمت عليه من بعيد. ولمحت من وراء الزجاج عبد الرحمن، الذي يقوم بإعداد معجم اللغة الكردية، يجالس فتاة فرنسية، وهو ماض في حديثه وهي تصغي.

وبخطوات سريعة اجتزت ساحة الجامعة وصعدت الدرجات اثنتين اثنتين حتى وصلت إلى الطابق الثاني، وهرعت في الممر الطويل المعتم، إلى القاعة (69). وبهدوء شديد فتحت الباب يداخلني إحساس بالخجل والحرج فتوجهت إليّ الأنظار وانفرج ثغر استاذتنا الشقراء المهيبة عن ابتسامة ساخرة وهي تقول:

- وأخيراً.. وصل! هيا لنبدأ

ومع أنني قرأت النص، الذي كتبته وصححته لي الصديقة (مارتين) عشرات المرات حتى لاأخطىء، فقد ارتجفت في البداية، في الأسطر الأولى، وتهدج صوتي. وحين استغرقتني الحالة التي حاولت أن أعبر عنها، تجاوزت نفسي، وأنا أحس بالعيون الكثيرة المحدقة بي تتحول من الفضول إلى الدهشة والترقب، وكان صوتي المنفعل بما يقرأ، وحده، الذي  يهز الصمت المهيب الذي لفّ قاعة الدرس فجأة بعد الأسطر الأولى.

«أود أن أقول لكم، في البدء، ياأصدقائي: إنني لا أعاني الوحدة والعزلة بالمعنى الذي قد تفهمونه، فلي في هذا البلد أصدقاء أكثر مما يحتاج طالبٌ يريد أن يكتب بحثه الجامعي، ويعمل في صمت. ولاترهقني مشكلة مادّية كآلاف الطلاب هاهنا، فقلمي صديق وفيّ، وبفضله أجد في باريس مكاناً آوي إليه، وأعثر في غرفتي حين أعود في الليل، على شيء من الخبز والجبن يسدّ جوعي حتى يوم آخر. وليس بي وجع عاطفي تحمله المرأة إلى قلبي الذي يسكن صدري، فقلبي قد شاخ وعمّر مئات السنين، ولابدّ أن الصدأ قد تراكم عليه إلى حد مخيف. ولاتثقلني وحشة البعد عن وطني، منذ أن أصبح وطني مرتعاً للغرباء القادمين من كلّ فجاج الأرض، منذ أن أجبرنا، هرباً من جحيم الحديد والنار، على الرحيل إلى المنفى، فأصبح كل مكان لي، غير فلسطين، منفى. وقد ألفت الوقوف على عتبة الحلم، إذا ماجنّ الليل، لأتجول في ربوع قريتي التي كبرت معي في المنافي، وبقيتُ طفلاً على أعتابها.

مااكتبه بعيد إذا أن يكون أمراً شخصياً عابراً إنما هو تعبير عمّا يحسّه إنسان لم يستطع أن يقاوم أحاسيسه أن تعبر عن نفسها. ماأكتبه بعيد أن يكون، كذلك، بحثاً موضوعياً، يضاف إلى آلاف المقالات والكتب التي عالجت بعقل بارد، موضوع «العنصرية». مثل هذا كثير تجدونه في المكتبات معروضاً للراغبين وبمبلغ زهيد يمكن أن تعودوا بمعلومات وفيرة عن هذا الموضوع.

لم نأت هنا لنتعلم، فمجال هذا بقية الدروس والمحاضرات. نحن هنا لنتواصل، ولقاؤنا، الذي يتجدّد كلّ أسبوع، فرصة تواصل إنساني على مستوى اللغة المكتوبة والمحكيّة بين إنسان وإنسان، لاكلمات عن إنسان من حبر وورق. هذا هو اللون من التواصل الذي يهمنا: هذا الإنسان أمامي بشكله ولونه وعوالمه وهمومه الساخنة وليس الإنسان المجرد، أي إنسان إنها فرصة لتتعرفوا إليه عن قرب، وتفهموه وتتعمقوا ظروفه، وتطرحوا عليه ماشئتم من اسئلة، فتتجولوا في رأسه، وتكونوا نبضة في دم قلبه، فربّما لايجمعكم به دربكم مرّة أخرى وإلى الأبد.

ربما كان دافعي إلى الكتابة ماكان من أصدقائي، الذين قرّروا أخيراً أن يلجؤوا إلى أحد المعاجم، يستشيرونه لتحديد معنى«العنصرية» كحقيقة موضوعية باردة، قابلة للقبض عليها. أمّا أنا فلا أستطيع، آسفاً، أن أوافقهم على رأيهم هذا، أو أحذو حذوهم. فأنا لستُ في حاجة إلى تعبيرات ميّتّة، دفنت في بطون المعاجم، مادمتُ أعيش هذا «المعنى» في حياتي اليومية. أراه بعينيّ هاتين. اقرؤه على الوجوه. أسمعه عبر تموجات الصوت. أواجهه مع قهوة الصباح على بطاقة إقامتي «الجنسية: غير محددة»، ألقاه كلما وجدتُ نفسي ألهثُ في الممرات الطويلة، المعتمة، الموحشة، أطرق الأبواب العالية، الموصدة، أطلب إليهم تأشيرة خروج. نلتقي معاً في السفارات الفخمة، في الأحياء الراقية هنا وهناك، على الوجوه المتوردّة صحّة ورضاً وراحة أعصاب، حين أقبل عليهم متوسلاً تأشيرة دخول إلى بلادهم الهادئة العامرة، التي يمكن أن يعكر صفوها، أو يقلبها خراباً دخولي إليها! أحسه في دمي يجري في العروق، وأنا أحترق أياماً، شهوراً في انتظار جوابهم يأمرني: تفضّل بالدخول! أو يُقفل الباب في وجهي صارخاً: قفْ مكانك! أراه، ألمسه، أشمّه، أسمعه، حين أطلب فنجان القهوة، أوجريدة الصباح، أو رغيف الخبز. أحسّه حذراً، شكاً، اتهاماً، عبر النظرات والكلمات، والحركات، عبر ما يُقال ومالايقال، يرفضني، يدفعني بعيداً، يعدّ وجودي غير مرغوب فيه، تطفّلاً، جريمة ارتكبتها الطبيعة على عمد.

اسمي الوحيد الذي يرنّ، بلا انقطاع في المحطات والمطارات والحدود، فأستدعى إلى السؤال والجواب. وبصمات أصابعي تمثل أمام لجان متخصصة، وجواز سفري يُنادى عليه، لتستعرضه العقول الإلكترونية، لعلّ شبهة ماتعلن عن نفسها، وحقائبي تقاد إلى التفتيش والتدقيق مع  أنها لاتحتوي، واأسفاه، إلاّ على الكلمات. ولطالما تمنيت أن تستحيل إلى صواعق تكفيني الجواب عن كلّ الأسئلة.

اعذروني ياأصدقائي! فربما لم تواجهوا وحشية العيون. العيون التي تفحصك من كل جانب، تخترقك، تعريك بلا رحمة، تمزّقك، تدفعك، تعيدك إلى التراب الذي منه خرجت، تحرقك بأسئلتها: من أنت؟ ولماذا جئت؟ وكيف؟ وإلى متى؟ وإلى أين؟ وأنت حائر، يسكنك رعب صلد، لاتعرف أن تجيب، أو لايتركون لك الفرصة لتجيب، لأنهم لايسمعون، وإن سمعوا لم يفهموا، وإن فهموا لم يغفروا، وإن غفروا لم يرحموا، وإن رحموا  تركوك في شأنك ومضوا إلى شؤونهم، فأمامهم «مشوار» طويل، وقضايا أهمّ منك ومن وجودك كلّه، فانصرف بسلام، أو بغير سلام فانصرف!

لايا أصدقائي! لاتذهبوا إلى معجم «روبير» ولاإلى «لاروس» ولاإلى الموسوعة البريطانية! تعالوا إليّ!»

وعلى غير انتظار انفجر الصمت بعد صمتي، بالتصفيق وبأصوات متباعدة: برافو..برافو

واحتاج الأمر إلى دقائق لألتقط أنفاسي، وأعود إلى مكاني، ويعود الهدوء إلى القاعة، ويعود الطلاب إلى مألوف سلوكهم بعد أن هزّهم صوت الصدق في صوتي وكلماتي، فقليل ما يخرجهم عن مألوفهم، كنت أعلم أنهم لم يصفقوا لي ولم يعجبوا بي بقدر ما صفقوا وأعجبوا بهذه الحالة الفريدة التي يعيشها الفلسطيني في العالم.

وجاءت إلى المنصة، من بعدي، الشابة التونسية الصغيرة (نزار), جاءت على ريث وتردد. كان عليها أن تتحدث عن معنى (العنصرية) في المعاجم. كان موقفها صعباً بعد كلامي. أشفقت عليها، أشفقت على رقتها، وتمنيت أن تعفيها الأستاذة من هذه المهمة الصعبة. حاولت نزار أن تتكلم فلم يخرج صوتها. ولعلها أدركت تفاهة ماستقول. وبقيت تحدق في الفراغ ولايجرؤ صوتها على الانطلاق ووجدت الأستاذة في صمتها دافعاً لتعلق ضاحكة:

ـ ليس كل إنسان قادراً أن يكتب الشعر!

إذاً أنا كتبت شيئاً قريباً إلى الشعر، دون أن أدري. وضاعف هذا التعليق من حرج نزار، فطال صمتها. وكان لابد أن يخرج صوتها أخيراً لتبدأ مداخلتها، فخرج ضعيفاً متقطعاً مجرّحاً.. ثم انطلقت في قراءة حرفية دون روح، وكأنها لم تسمع كلّ ماقلته، أو بالأحرى تجاهلت كلّ ماسمعت، إذ كان لا بد أن تمضي الأمور في الفصل كما تمضي عادة وكأن شيئاً لم يكن. 

 

 

تلك الليلة الباريسية

 

مازلتُ أذكر تلك الليلة الباريسية بكل تفصيلاتها، ليلة الثالث من كانون الثاني (يناير) 1979. وكانت آخر الليالي التي أقضيها في باريس بعد إقامة طويلة أنهيت خلالها دراستي العليا.

ولم يكن لي في تلك الأيام الأخيرة من السنة، والأيام الأولى من السنة الجديدة سوى الطواف على أصدقائي، الذين حاورتهم وأحببتهم، من الفرنسيين وغير الفرنسيين، من الأرجنتين وتشيلي والبيرو وبولونيا والأفارقة والعرب، لأودعهم، وأودع الشوارع والساحات والمقاهي في الأحياء المختلفة. وقد خصصتُ الليلة الأخيرة لصديقي علي القادم من دمشق للدراسة، لأقدم له وجوه باريس التي أحبها، وأتركها في الغد، أمانة بين يديه. التقيته عصراً فطفنا في أزقة الحي اللاتيني، زقاقاً زقاقاً، ومقهىً مقهىً، وقطعنا ذهاباً وإياباً زقاق « موفتار» وتجولنا في حديقة « اللوكسمبرغ» ووقفنا أمام مكتبات «السان ميشيل»، وشربنا القهوة في أحد مقاهي ساحة «السوربون». ثم اخترنا مطعماً فيتنامياً لتناول عشائنا، فتذوقنا اللفائف الملكية المحشوة، وأكلنا الأرز واللحم المطبوخ مع الخضار بالقصبتين الصغيرتين الأنيقتين كأهالي فيتنام، واحتسينا الشاي الأصفر بالياسمين. وانطلقنا نكمل جولتنا الليلية في الأزقة العتيقة وهو يحدثني عن دمشق. ودعوته، أخيراً، لحضور فيلم «أورفيوس الأسود» لمارسيل كامو، والذي تدور أحداثه في «ريو..» عاصمة البرازيل السابقة. واستمتعنا بالقصة البسيطة الشفافة لأورفيوس الجديد من هذا العصر يحب فتاته السمراء «أوريديس»، ويطوفان معاً في شوارع «ريو» أثناء الكرنفال والموسيقى الرائعة والأغاني والثياب الملونة والأقنعة، ورحلته الرمزية المعبرة للبحث عنها واستنقاذها من الموت، والنهاية الجميلة لصبي وطفلة يعزف لها، وترقص له، وقد طلعت عليهما شمس الصباح، لتوحي بقصة جديدة «لأورفيوس  واوريديس» جديدين.

وقلت لصديقي علي وأنا أودعه في محطة «المترو»:

- هذه بعض وجوه باريس الرائعة، وعليك أن تكتشف الوجوه الأخرى التي لاتسرّ، وخاصة الوحدة للمسنين في الطوابق العليا ولبعض الناس حتى الشباب منهم، الذين يتحدثون إلى أنفسهم وهم محاطون بالناس.

وتعانقنا، ونزل كل منا في اتجاه: هو نحو الشمال، وأنا نحو الجنوب، وكانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل.

وعند المدخل المباشر إلى الرصيف، حيث يتوقف «المترو» التقيت إفريقياً أسود يخرج، وهو يلتفت وراءه، وسرعان ماأدركتُ أنه قد فرَّ من شتائم مقذعة يطلقها شبان مراهقون يقفون على الرصيف المقابل، ستة أو سبعة شبان طوال القامة، حليقو شعر الرأس، رياضيو الأجسام، سمعتُ أن أمثالهم ينتمون إلى تيار يميني عنصري متطرف، لكنهم ــ بحمد الله ــ قلة قليلة. واستطاع الافريقي أن ينجو بذكاء من مرمى كلامهم وشتائمهم، ووقعتُ أنا. فحين دخلتُ، كان الرصيف خالياً إلا من فتاة شابّة فرنسية متعبة، غارقة في تأملاتها، تجلس على أحد المقاعد الفارغة، وجلستُ إلى مقعد مجاور قريب منها.

ورايتُ صديقي علي يصل أيضاً إلى رصيفه، ولكن شكله وملامحه لم تثر هؤلاء الشبان، فهو قريب إلى شكل الفرنسيين وملامحهم، فلم يأبهوا به. وانصبّت شتائهم المقذعة عليّ أنا، على الرصيف المقابل:

ـ وأنت أسود، حشرة حقيرة، إرجع من حيث أتيت، لانريدكم بيننا،... أمك...

أحسست فجأة أنني وقعتُ، دون أن أدري، في الشرك، وصعب عليّ الهروب أمام عيني صديقي الذي لم يكن يفقه مايقولون، ولا إلى من يتوجهون بكلامهم، على الرصيف المواجه، وأمام عيني الفرنسية الشابة التي أخذت، من بعيد، تحدثني، حتى لاأسمع مايقولون. وكانت تنصحني بألا ارد عليهم. ووضعتُ رأسي بين يديّ، وأخذتُ أحدّق فيهم، دون أن تصدر عني كلمة واحدة، ورحتُ افكر بهذه المصادفة التي وضعتني في هذا الموقف الصعب، في هذه الليلة الأخيرة، إذ مرّت إقامتي ودراستي بسلام، وهاأنذا أواجه هذا المصير بهدوء أعصاب، لاأدري من أين أتاني. ودخل إلى الرصيف رجل جزائري تجاوز قليلاً مرحلة الشباب، قصير القامة، مربوع الجسم، قلت له حين مرّ من أمامي بالعربية:

أرجوك.. لاتردّ عليهم.

وجلس على المقعد المجاور لي. وبقيتُ أنا أحدق فيهم بدهشة. ولما يئسوا من ردّ فعلي، انتقلوا إلى الجزائري، وصبوا عليه شظايا شتائمهم. فلّما طال عليه الأمر تلفظ بكلمة واحدة، كلمة لاغير: شكراً..! قالها بالفرنسية وكأن القيامة قامت بهذه الكلمة، وكأنهم ينتظرونها، فقفزوا نازلين واحداً واحداً على سكة الحديد، التي كنت أعتقد أنها مكهربة، وأقبلوا نحونا، قاصدين هذا الرجل الجزائري. وتمنيتُ في هذه اللحظة أن يقبل القطار الذي تأخر من هذا الاتجاه أو من الاتجاه الآخر ليفسد عليهم أمرهم. ونهض الجزائري، وأخرج من جيبه بسرعة سكيناً صغيراً جداً، ولم أتحرك أنا من مكاني، ولم أغير جلستي، ورأيت صديقي علي ذاهلاً، على الرصيف المقابل بما يرى. وقلتُ في نفسي: إنه سيدافع عن نفسه، على الأقل، بهذا السكين الصغير! وهو خير من لاشيء، وعليّ ألا أتدخل حتى لاأعطيهم مسوغاً لسحقنا معاً. وانتبهتُ للأحذية المطاطية الرياضية التي ينتعلونها. ورأيت زعيمهم الأطول والأقوى يسبقهم. وقبل أن يصعد إلى الرصيف شبّ شبة قوية، وتناول عنق الجزائري ورماه أرضاً، ولم ينفعه السكين الصغير، ثم صعد وأخذ يدوسه، بقوة يدوس ظهره، بطنه، رأسه. ولم أتحرك من مكاني، ورأيت الشابة الفرنسية وهي تقترب من العملاق، وتشده من كتفه وترجوه أن يكفّ عن ضرب الرجل، فدفعها بيده دون أن يلتفت إليها فسقطت على الأرض. وكان أصحابه قد قفزوا من الأسفل إلى الرصيف وتجمعوا حول الضحيّة، وزعيمهم يمعن في ضربه. ولما أيقنوا أنه أدّبه، ولم يتدخل أحد، سحبوا الضارب بعيداً عن ضحيته، وقفزوا عائدين من حيث أتوا، تاركين ضحيتهم مكوماً على الرصيف، مدمىً في أكثر من موضع. عند ذاك تحركتُ من مكاني، واقتربتُ أنا والفتاة الفرنسية من الرجل، ورفعناه وقدناه بصعوبة نحو الخارج، ولم انتبه إلى صديقي علي، ونحن نغادر الرصيف، لنخرج إلى البرد الشديد الذي لايقاوم. وطلبتُ أنا والفتاة من الجزائري أن نأخذه إلى المستشفى لإسعافه، ولكنه رفض بشدة، فعرفنا أنه لايملك إقامة نظامية، فأوقفنا له «تاكسي» يحمله إلى حيث يعالج جروحه بنفسه. وعدنا، من جديد، نتتظر (المترو) وكان الرصيف المقابل خالياً.

وتلك ليلة لم أنسها، كان الاحساس بالذل والخجل والقهر يتآكلني حتى الصباح، وكنت افكر بصديقي علي الذي رأى في يومه الأول وجوهاً مختلفة من باريس، وتنتظره وجوه سيكتشفها شيئاً فشيئاً.

هذا الكتاب

تضم هذه المجموعة قصصاً قصيرة وأخرى قصيرة جداً وهي تمتاز بالروح الساخرة التي عذبتها مرارة المواقف والأحداث.

والشخصيات في هذه القصص واقعية، ومتخيلة، وذات علاقة حميمية بأحلامنا، وذلك يأتي عبر أسلوب أدبي رفيع وبناءات قصصية على درجة كبيرة من الاتقان والرفعة.

 

أضيفت في 05/01/2008/ خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية