أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

روايات الكاتبة: د. ناديا خوست

2 أعاصير في بلاد الشام

إلى صفحة الكاتبة

لقراءة الرواية

 

الرواية

أعاصير في بلاد الشام 16

أعاصير في بلاد الشام 15

أعاصير في بلاد الشام 14

أعاصير في بلاد الشام 13

أعاصير في بلاد الشام 17

أعاصير في بلاد الشام 18

أعاصير في بلاد الشام 19

أعاصير في بلاد الشام 20

أعاصير في بلاد الشام 21

أعاصير في بلاد الشام 22

أعاصير في بلاد الشام 23

أعاصير في بلاد الشام 24

 

- 13 -

 

بعد عودة قيس من صفد، ألح على أبيه: أريد أن تشتري لي "ستن"! يتسلح الشباب في صفد، ويلزمنا هنا أيضا سلاح! اشترى له أبوه "ستن" وقنابل يدوية أيضا! لكنه لم يجد تجمعا للشباب ينتظم فيه. لم يتخيل كيف سيكون الهجوم على بلده وكيف سيكون الدفاع عنها. هل تصور أنه يحميها بحقه فيها؟ بعد عقود من السنوات قرأ قيس شهادة شاب في منظمة الشباب في الهاغاناه، قتل في معارك أبو كبير في 1948، ففهم الجيش المنظم الذي احتل بلده. "بعد حلول الظلام توجهنا إلى مكان إجراء الطقس داخل غابة هيرتسل. إلى جانب قبر الحارسين الذي كان مغطى بالأعلام الزرقاء - البيضاء ومحاطا بالمشاعل، انتصبت وحدة حرس من ستة شبان، ثلاثة من كل جانب وبنادقهم في أيديهم.. وانتظمنا في مربع مواجه للقبر. وبعد أن جاءت القيادة وبعد شرح قصير تلي القسم ورددناه كلمة، كلمة.. أقسم أن أكون مخلصا للمنظمة .. حتى مماتي.. وأن أكون مستعدا لكل خدمة فعلية في أي وقت أدعى  إلى ذلك. كانت تلك لحظة لن أنساها: الغابة الموحشة وفي مواجهك قمر باهت يظهر أحيانا وتحجبه الغيوم الداكنة أحيانا أخرى، وأمامك ستة شبان يختفون أحيانا وراء لهب المشاعل، وبنادقهم في أيديهم. ملأني المشهد ذو الروعة والجلال، في تلك اللحظة، بإحساس عظيم. في لحظة ترديد القسم، شعرت بأنني مفعم بالقوة والعزيمة، ومستعد لأداء كل مايطلب مني حتى آخر يوم في حياتي." تساءل قيس هل خطر لذلك الشاب أن المهمة التي اندفع إليها قد تكون نسف بيت شاب في مثل عمره اسمه قيس، قتل سكان قرى، وسحب بلاد من أهلها؟! كان ذلك الشاب مدربا ومستعدا لكل مايؤمر به! 

قرر قيس أن يقصد شفا عمرو لأنه سمع أن الشباب هناك ينظمون مجموعة مسلحة. فقال لأبيه: سأمشي إلى شفا عمرو! غضب أبوه: ياقيس، بماذا وسوس لك الشيطان؟ تمشي إلى شفا عمرو اليوم، والبلاد تسقط واحدة بعد واحدة؟ افهم، يقصف اليهود بالمدافع شفا عمرو منذ نهاية الهدنة الاولى في 7 تموز حتى اليوم! لم يفسر قيس لأبيه أنه لذلك يقصد شفا عمرو! بل تحدث عن رغبة في السفر إلى القرى التي مر بها أو زارها مع أبيه، أو قصد فيها رفاقه في المدرسة. تساءل أبو قيس: يريد أن يودعها؟ أن يطمئن عليها؟ شفا عمرو جارة تلال الناصرة وجبل الكرمل وسهول عكا والبطوف ومرج ابن عامر تستحق الزيارة! فيها روافد نهر النعامين، ووادي الملك، أكبر روافد نهر المقطع. شفا عمرو بين عكا وحيفا والناصرة. تمتد أراضيها من الشرق حتى طريق صفورية والناصرة. وتتمطى حتى وادي الملك، ووادي الحلزون، وسهل البطوّف، والسهل الساحلي، ومرج ابن عامر! نعم، يستحق هذا البلد من الجليل الأعلى الزيارة! لتتخيل القائد الروماني أبيتيوس وهو يطارد من تلاله الغربية ثوار يوسيفوس في القرن الأول الميلادي. وترى على الخروبية صلاح الدين الأيوبي مواجه ريشار قلب الأسد. وتتذكر كلمة نابليون: لابد من احتلال شفا عمرو للتحكم في وسط فلسطين! تريد أن ترى شفا عمرو الهاجعة تحت قلعتها، وتمشي في أزقتها الكورسيكية! لكني أعرف أنك لاتقصدها لذلك! بل لأن أحد أصحابك همس في أذنك منذ أيام تعال مع سلاحك! تريد أن توهمني بأن حدسك كالشوق إليها؟! هنا أيضا يمكنك أن تدافع عن بلدك! ابق! لو غاب قيس عن أبيه في ذلك اليوم لسار إلى شفا عمرو. لكن أباه أبقاه قربه. وكان حدس كل منهما صحيحا فمصير شفا عمرو اتصل في اليوم التالي بمصير صفورية. في فجر 14 تموز دخل رتل طويل شفا عمرو من غربها، دبابات ومصفحات وسيارات تحمل جنودا. سبقه قصف بالمدافع ورش بالرصاص. وسقطت شفا عمرو!

في ليلة الخامس عشر من تموز كان القاوقجي قد وصل إلى صفورية لتنظيم الدفاع عنها. رآه قيس في صفورية في مضافة رئيس البلدية صالح السليم. فجأة دخل رجل لاهث إلى المضافة وقال: تتحرك دبابات يهودية من شفا عمرو في اتجاه صفورية! تعرفون أن المسافة بينهما كيلومترات فقط! خرج القاوقجي من المضافة وانصرف! هل يشعر الآن أيضا بأن القوات اليهودية نظامية لاتصدها إلا قوات نظامية مسلحة مثلها؟ هل يصرخ أين السلاح والرجال، ويردد ماقاله يوسف العظمة على بوابة ميسلون: أريد الزمن؟

في الساعة السابعة من صباح 16/7/1948 وصلت برقية إلى فوزي القاوقجي: مهم ومستعجل جدا من مساعد حطين إلى فوزي. صفورية مطوقة، على وشك السقوط، أنقذوا الموقف.

في الساعة الثامنة والنصف مساء قصفت طائرة يهودية صفورية. رمت أربع قنابل، قتلت الشيخ الأعمى عبد المجيد الذي درس في الأزهر، قتلته  مع زوجته وأولاده، وهدمت بيته قرب الجامع الكبير. بعد القصف خرج الناس من بيوتهم إلى وادي النصارى. بقوا في حقول الزيتون الواسعة. وتركوا المقاتلين في صفورية ليدافعوا عنها. ظنوا أنهم سيعودون إلى بيوتهم في الصباح، فلم يتناولوا منها إلا مايحتاجون إليه ليلة.

قال قيس لأبيه: سأبقى مع المقاتلين. رد أبوه: لست منهم بعد! أمسكه بالقوة أعمامه، وجروه إلى وادي النصارى. وأخذوا منه "الستن". قبل أن يوصلوه إلى وادي النصارى أفلت منهم وعاد إلى صفورية. جرى وحده راجعا عكس اتجاه الناس السائرين إلى وادي النصارى، وهو يصرخ: ارجعوا، دافعوا عن قريتكم.. ارجعوا!

رجع قيس إلى بيته في السدر. قربه في المدرسة مركز قيادة المدافعين عن البلد. أطل، فلم يجد في المدرسة إلا محمد سعيد الشيخ ابراهيم السعدي. الشيخ مسؤول عن السلاح الموجود في المركز. رفع رأسه فرأى قيسا: ماذا جئت تعمل؟ أجابه قيس: أخذوني فتركتهم وعدت. قال له: يابنيّي الناس انهزمت فشو تعمل وحدك؟ رد قيس: أنا لم أنهزم! فجأة دخل شاب آخر في عمر قيس. هذا محمود أحد زملائه في مدرسة صفورية! كان إطلاق النار يسمع من جهات متنوعة. قال الشيخ: في غرب البلد خنادق، خذ ياقيس احمل هاتين القفتين من الرصاص للمدافعين فيها! وخذ يامحمود احمل رشاش برن! خرج الشابان. صوت رصاص. عتمة. لم يصادفا إنسانا في طريقهما. لاأحد! نادى أحدهما الرجال. صاح الآخر. لاأحد! ياللخيبة! ماالعمل؟ رجعا بعد ساعات إلى الشيخ السعدي وقالا له: لاأحد! وضع قيس قفة الرصاص على الأرض والتفت إلى محمود. أين اختفى؟ معه البرن! سيقاتل وحده؟ أين؟ استغرق بحث الشابين عن الرجال والخنادق ثلاث ساعات تقريبا. المدرسة المركز في خلة الوتد تطل على طريق المطلّة، على الدرب من المطلّة إلى القسطل. بدأ إطلاق النار كثيفا من طريق المطلّة. قال الشيخ: معناها دخلوا! إلحق أهلك ياقيس! الهجوم إذن من طريق المطلّة. من شفا عمر إلى الناصرة يتفرع طريق معبد إلى صفورية. قال قيس للشيخ السعدي: ياعمي مع من أقاتل؟! رد الشيخ: يابنيّي، قلت لك اطلع لعند أهلك. اسرع! سأله قيس: وأنت ياعمي؟ قال: عندي أمانة لاأتركها. الحق أهلك! تركه قيس ونزل إلى صفورية. من السدر عبر الحارة الغربية كلها كي يصل إلى وادي النصارى حيث الناس تحت الزيتون. بدأ الفجر وقيس يمشي إلى هناك. وصل. سأل الناس المتجمعين تحت الزيتون عائلة، عائلة: أين أبي؟ دلوه إلى أهله. جلس الناس في انتظار النهار وانتهاء المعارك للعودة إلى بيوتهم! وادي النصارى تحت القلعة. طلع الضوء! رفعوا رؤوسهم فرأوا اليهود في القلعة فوقهم. قاموا واتجهوا إلى الشمال.

في يوم 16/7/1948 في الساعة 9,30 صباحا وصلت برقية من اسماعيل الصفوري إلى  فوزي القاوقجي: دخل اليهود صفورية.. على أبواب الناصرة.. أنقذوا..

حاول فوزي القاوقجي إقامة خط دفاع على محور يشرف على سهل البطوف شمال صفورية ليحفظ قلب الجليل. لكن الهاغاناه اخترقته في يوم 18/7 وأعلنت الهدنة الثانية في 18 تموز.

أول قرية وصلها أهل صفورية عرّابة البطّوف. ناموا في عرّابة تلك الليلة. أطعم أهل عرّابة الناس. بدأ بعض الناس يبيعون أسلحتهم ليشتروا مايحتاجون إليه.. مد عدس وكيس طحين. أكمل أكثر أهل صفورية طريقهم. الرامة ثم شعب. شعب بلد زميل قيس في المدرسة. بعد شعب، دير القاسي بلد زميل قيس الآخر في المدرسة، صبري الحمود. نزل مع أسرته ضيوفا عنده. دير القاسي على الحدود اللبنانية. مع قيس ستن ومع أبيه مسدس  ومع عمه روسية تسمى أم فشكة، ومع عمه الآخر بارودة. قال لهم أبو صبري الحمود: لاتأخذوا السلاح معكم لأن العسكر اللبنانيين يصادرون من الفلسطينيين أسلحتهم. فتركوا السلاح عنده! في اليوم التالي ترك قيس وأهله دير القاسي إلى الرميش اللبنانية. ومنها انتقلوا إلى بنت جبيل. بقي الناس هناك تحت زيتون بنت جبيل. مايزالون يتوهمون أنهم سيعودون. يجلسون حلقات تحت الزيتون ويتناقلون الأخبار التي تأتيهم من فلسطين. عرفوا من تلك الأخبار أن اليهود دخلوا إلى صفورية ونسفوها بيتا، بيتا. أول بيت نسف بيت  قيس في صفورية الجديدة في السدر.

وزعت بلدية بنت جبيل على الفلسطينيين يوميا خبزا وحلاوة وجبنا وزيتونا أسود. وقف قيس في الصف. في الصف أيضا محمد الموعد الغني، زعيم حمولة كبيرة، ضخم الجسم. أمامه وقف الشيخ حسن الذي كان خطيبا في الجامع. ينتظر كلاهما حصته من المعونة! كان الشيخ يدعو في خطبه خلال الاشتباكات بين اليهود والعرب: اللهم رمّل نساءهم، اللهم يتّم أطفالهم، اللهم اجعل أموالهم غنيمة للمسلمين! أمسك محمد الموعد برقبة الشيخ حسن وصرخ: كنت إذن تدعو الله علينا، كي ييتّم أولادنا ويرمّل نساءنا ويجعل أموالنا غنيمة لهم! في اليوم التالي وقف قيس في الصف أيضا ينتظر حصة أهله من الخبز والجبن والزيتون والحلاوة، فأعلن أن مايأخذونه هبة من المطران مبارك. كان المطران مبارك قد بقي في حيفا واتهم بالتعاون مع اليهود. محمد الموعد واقف أيضا في الصف! صرخ: يطعمنا الآن المطران مبارك؟! أين الحاج أمين الحسيني الذي كنا نقول فيه "سيف الدين الحاج أمين"؟! أيجب أن نقول الآن سيف الدين المطران مبارك؟!

في بنت جبيل أدرك الناس أنهم لن يعودوا خلال أيام إلى بيوتهم! لذلك تسللوا إليها ليأتوا بما يحتاجونه. خلال ذلك كان اليهود يصيدونهم. فقتل منهم في التسلل إلى بيوتهم أكثر مما قتل منهم في الدفاع عنها.

قرر أهل قيس السفر إلى سورية بانتظار الفرج. البقاء تحت زيتون بنت جبيل مستحيل! ذهبوا إلى رياق، وأخذوا القطار من رياق إلى الشام. وصلوا إلى دمشق مع مجموعة من أهل صفورية. وجدوا مخيما جاهزا لهم قرب التجهيز فنزلوا فيه أسبوعا. ثم استأجر أبو قيس وإخوته بيتا عربيا في المزة، فيه خمس غرف، نزلوا فيه.

راحت صفد، ولكن هل تروح البلاد كلها؟ هل تضيع أيضا صفورية؟ تذكر أبو قيس كلام صاحبه التاجر اليهودي الذي كان يشتري منه الغنم ويبيعه للجيش البريطاني: ياأبا قيس، بع كل شيء وارحل! صفورية ستكون لنا!

تجمع وفد من رجال العرب بينهم أبو قيس وقابلوا الملك عبد الله. شكوا؟ طلبوا؟ توجه العرب كلهم إلى قياداتهم وهم يعرفون أن القيادات لاتستطيع أن تخرج "الزير من البير". قال لهم الملك عبد الله: اخرجوا من بلدكم وستعودون إليه بعد أن يهدأ القتال! كلها أيام!

 

من نشر في تلك الأيام الدعوة إلى الخروج؟ اليهود الذين أذاعوا أخبار المذابح ونادوا: اهربوا! والعرب الذين قالوا يومذاك: الأرض ولاالعرض! عكس ماستقوله فاطمة البرناوي فيما بعد: لايوجد شرف شخصي في وطن مغتصب! والسياسيون العرب الذين همسوا: اخرجوا، كلها أسبوع أو أسبوعان.. ستدخل الجيوش العربية في 15 أيار وتحرر فلسطين من اليهود! وسترجعون إلى بيوتكم بعد التحرير. ومع ذلك رجع أهل القرى متسللين إليها وبقوا حتى طردوا منها. ولم ينس أحد من أهل فلسطين الذين تركوها مفتاح بيته! أقفلوا الأبواب جيدا وحملوا المفاتيح معهم!

كتب رابين قائد القوات التي احتلت اللد والرملة في مذكراته عن تهجير أهل اللد والرملة اللتين لاتوجد فيهما أية قوات مسلحة عربية. قال إن بن غوريون أمره ويغال ألون بطرد سكانهما الخمسين ألفا، فاستعمل الإرهاب. لذلك كانت العملية مأساوية واضطرت القيادة فيما بعد إلى دعاية تشرح فيها الأسباب التي "أجبرتنا على القيام بمثل هذا العمل القاسي الوحشي". لكن السلطة الإسرائيلية لم تسمح بنشر هذا المقطع من مذكرات رابين.       

 

 

في المزة التقى أبو قيس بملحم الذي يزوده بدخان فلسطين. يهرّب ملحم الدخان من ترشيحا وشعب وشمال فلسطين المشهورة بتبغها إلى لبنان ودمشق. ويعيش بذلك من بقي في تلك القرى. ملحم من قرية جبّ جنين في البقاع. حكى له أبو قيس عن السلاح الذي تركه في دير القاسي في فلسطين. فقال له ملحم: آتيك به بأجر. عظيم! قال قيس لأبيه: لن يعطيه أبو صبري الحمود السلاح إذا لم يرافقه واحد منا! سأذهب معه! ألح قيس على أبيه حتى وافق: رافقه. لكن افهم أن الفوضى أخطر من الحرب!

ركب قيس وملحم الباص المسافر من الشام إلى بيروت. من بيروت أخذا باصا إلى جبّ جنين. بقي قيس في القرية عند ملحم أسبوعا حتى اكتملت مجموعة المهربين وجهزت المهربات. في النهار كان قيس يخرج إلى البساتين. هناك رأى فتاة على شجرة جوز ضخمة. رفع رأسه إليها. ابتسمت له. بين يديها شيء تأكله. جوز؟ قالت له: أرمي لك؟ ماذا ترمي له؟ تذكر شجرة التوت في كرم ابن عم أبيه وغزالة على الشجرة. سألته غزالة: أرمي لك التوت؟ فنشر ذراعيه. فضحكت. فهمت أنه يريد أن ترمي  نفسها عليه. نادته: أنت اصعد! من يرى الآن، غزالة أم هذه الفتاة التي لايعرفها؟ أين أنت الآن ياغزالة؟

وقت اكتمل التحضير خرج قيس وملحم وأخواه وآخران من جبّ جنين ظهرا باتجاه فلسطين، مروا في المساء من الرميش على الحدود اللبنانية. عينهم على دير القاسي الفلسطينية. يفصل بين القريتين طريق معبد للسيارات. هناك تعلم قيس كلمة كروسّه. قال ملحم هامسا: لبنانيون.. بس تقطع الكروسّه.. سأله قيس: عمي ماهي الكروسّه؟ ظن قيس أن ملحم قال له: الطريق. وسيظل يحتفظ بذلك الخطأ في ذاكرته. ماالفرق على كل حال بين الطريق وبين العربة التي تقطعه؟ لامرور للمهربين إلا عندما يخلو الطريق من العربات والناس! احتموا بشجيرات شوكية وهم يراقبون الطريق. مرت دوريات، ومرت سيارات. خوفهم من الدوريات اللبنانية، فإسرائيل ليست لها بعد دوريات تجوب ذلك الطريق. لاتزال مشغولة بما احتلته من فلسطين! قطعوا الطريق مسرعين. وفي الساعة الثامنة مساء تقريبا وصلوا إلى دير القاسي. تركوا قيسا في بيت زميله صبري الحمود، وذهبوا ليبيعوا ويشتروا في شعب. "في عودتنا نأخذك معنا". بقي قيس أربعة أيام في دير القاسي. في اليوم الخامس مساء أتى ملحم وقال له: اليوم! فودع صبري الحمود، وتناول من أبيه الأسلحة: مسدس أبو نقطة حمراء، عيار 8 مم، حمله قيس. ستن حمله ملحم. بندقية حملها أخوه محمد، وبندقية حملها أخوه الثاني. طلعوا من شعب في الثامنة مساء تقريبا. للمهربين وقت دقيق يحسبون فيه زمن الوصول وزمن العبور وزمن الدوريات المحتملة! على الحدود الفلسطينية اللبنانية ربضوا يراقبون الطريق من الجهتين. كانوا في منخفض يمكن أن يلاحظوا منه أية سيارة. عبروا الطريق الفاصل ركضا. ودخلوا لبنان. بعد مئة متر تقريبا  دوى صوت: قف! ودوت عدة طلقات. فركض كل منهم في اتجاه. ركض قيس خمسين مترا إلى الوراء. عائدا إلى فلسطين؟! لايشعر أنها لم تعد بلده؟ ركض في اتجاه فلسطين! ثم قبع وانطوى على نفسه جالسا قرب بلاّنة. في السماء قمر ضعيف أقرب إلى الهلال، لكن الرؤية ممكنة. سحب المسدس من جيبه وجهزه. تقتل من ياقيس؟ لا! لم يفكر إلا في الهرب! مرت عشر دقائق كعشر ساعات.. ثم، هاهو دركي يمر قرب قيس تماما. يكاد يدعس قدمه! حبس قيس نفسه. خيل إليه أن صوت تنفسه يمكن أن يسمع. غطته البلاّنة. مر الدركي اللبناني! أف! سمعه قيس بعد فترة يقول لزملائه: ركضوا إلى الأمام! الكلاب! هربوا! تركوا المهربات والبغلين! بقي قيس مكانه حتى ابتعدوا مئتي متر تقريبا. عندئذ وقف وركض باتجاه فلسطين. أطلقوا النار. ركض، لم يتوقف. وجد نفسه في كرم تين. كان متعبا وجائعا. أفطر تينا! وفي ضوء الفجر شعر بأنه في فلسطين. لم يعرف ماحدث له إلا بعد أن وصل إلى دير القاسي. قال له صبري الحمود في لهفة: تعال! وقال أبوه: عرفنا أن "الإخبارية" راحت إلى الرميش عن المهربين وهم مايزالون هنا يشترون مهرباتهم. انتظروهم وحضروا لهم مصيدة! عرفوا الوقت المتوقع لوصولكم. لم يبق في جسم قيس مكان مكشوف دون جروح. جرحته البلاّنة التي لطي قربها! قال له أبو صبري الحمود: تريد أن تعود إلى أهلك الآن؟ جروحك تفضحك. ستبقى حتى تشفى جروح وجهك على الأقل! البيت بيتك وأنت مثل صبري!

وقت شفيت جروح قيس رافق أهل الضيعة إلى الرميش في النهار. ماتزال بعض القرى في فلسطين غير محتلة، والناس يشترون حاجاتهم من لبنان فيذهبون من دير القاسي إلى الرميش. ذهب قيس مع الناس إلى الرميش، ومنها قصد بيروت. ومن ساحة البرج ركب باصا إلى جبّ جنين.

عندما رآه ملحم ومحمد هتفا: حي؟ راحت البغال ومااشتروه من مواد، ونجا السلاح لأنه على أكتاف الرجال. قال له ملحم: لم أعد بعد إلى الشام. ماذا أقول لأبيك؟ كان ملحم يبعث يوميا إلى المخفر من يشم  الأخبار: "حدا انمسك، حدا انقتل؟" لم يأته خبر يقين. قال: اختفى الصبي! ولم يجرؤ على السفر إلى الشام. فرح ملحم ومحمد: رغم الخسارة، أنت حي! بقي قيس أربعة أيام في جب جنين. في الساعة الثالثة بعد الظهر، بعد الغداء قال له ملحم: هيا! وحمّله السلاح. خرج المهربون من جبّ جنين التي تطل على البقاع، ومشوا، مشوا.. عندما طلعت الشمس كان سجن المزة خلفهم. عبروا حتى المزة الحدود السرية للمهربين، الذين لاتوقفهم بعد الحدود بين بلاد الشام!

أعطى أبو قيس ملحم أجره، وتعويضا عما خسره. وكتب قيس في سجل حياته: هذه أول مرة رجعت فيها إلى فلسطين! 

 

 

 

- 14 -

 

عجت دمشق بالفلسطينيين. انتقل من حمل بعض ماله معه إلى بيوت استأجرها. ودبر المتعلمون عملا. تحتاج سورية إلى مدرسين. كانت تطلبهم من مصر، وهاهم الفلسطينيون، متعلمون ومختصون بالتدريس. سيعاملون كالسوري. وسيساعد الهلال الأحمر وأغنياء دمشق الفلسطينيين الذين خرجوا بملابسهم فقط. صار العرب أصحاب البيوت والمدن والأراضي والأعمال لاجئين يحتاجون مساعدة. تصل إليهم مساعدات غذائية، ولكن لن تأتي أبدا مساعدة عالمية تفرض عودتهم إلى بيوتهم التي خطفتها منهم إسرائيل! 

وصلت أميرة مع أسرتها من بيروت إلى دمشق. كانت أسرة محظوظة فلم تنزل في المدارس والجوامع، بل تنقلت بين بيوت لم تعجبها ثم استأجرت بيتا في شارع بغداد. يخترق الشارع البساتين حتى القصاع، تعبره عربات الخيل بالمتنزهين في الليالي المقمرة. في أوله بساتين كانت تسمى "وراء الدور"، خصّ بها خالد آغا أولاد زوجته الثانية رابية خانم فبعثروها بالقمار كما بعثر أولاد عبد الرحمن باشا اليوسف أراضي أبيهم وبيوته. تمتد البساتين حتى قاسيون وسوقساروجا والقصاع، مسيجة بالبيلسان والزيزفون والورد الجوري، مزروعة بالخضار وأشجار الفواكه. على جانب شارع بغداد أبنية متفرقة من الحجر من ثلاثة طوابق. استأجر أحدها أبو أميرة وأهله. إلى جانبه بيت ديبو أحد رجال الثورة السورية. ومقابله بيت بهاء، ابن خالد آغا. في الأمسيات يعبر ديبو الشارع إلى بيت بهاء ليلعبا "دق" طاولة زهر. بينهما مباراة أخرى في زراعة الزهور. يوم وصلت أسرة أميرة كانت حديقة بهاء مزروعة بالمارغريت، فيها أقفاص عصافير الكنار معلقة على شجرة فراسكين، والسمك الأحمر يسبح في البحرة، والبط في الساقية التي تمر غزيرة وسط الحديقة. في تلك الجنة جلس بهاء مع ديبو قبل أن يتطوع في حرب فلسطين، وضحكا من زوجة ديبو: خرجت إلى الشرفة و"غسّلت" المؤذن الذي مر داعيا أصحاب البيوت القليلة إلى صلاة الفجر. صرخت، تلحقنا إلى طرف البلد؟! من قال لك إن الصلاة خير من النوم! روى ديبو لصاحبه أن زوجته الأولى كانت عكس هذه تماما. فسرقت منها بنتها في الباخرة وهي راجعة من استنبول! كانت تلك آخر قطرة في الكأس! أم تسرق منها ابنتها وهي في باخرة تستطيع أن تنبشها وتفتش كل من ينزل منها؟! لكن هل كنت أتصور أنني سأقع في النقيض؟ لامأخذ على هذه المرأة إلا المنصب! يناسبها أن تكون حاكما عاما لازوجة في بيت! بعد تلك الجلسة غاب بهاء في حرب فلسطين، ولم تفتح طاولة الزهر. وصارت ليلى هي التي تطعم السمك والبط، ومعتصم هو الذي يسقي الحديقة كابحا ضيقه بالممرات التي نثر فيها أبوه البحص.

بيت أميرة في شرق دمشق وبيت قيس في غربها. لكن  ماأسهل أن يعرف قيس مكان أميرة وإخوتها! يتناقل الفلسطينيون العناوين فكل منهم يبحث عن الآخر! التقى الأصدقاء قيس ويسار ويحيى، وتحدثوا ساعات، عابرين المدينة مشيا من بساتين شارع بغداد إلى بيوت ومخازن شارع العابد إلى بساتين الربوة والمزة. واستمتعوا بطريق الربوة الظليل، وسحر صداقة  الفتيان. تتنظر أميرة زيارة قيس واقفة في الشرفة. تطل من الطابق الثالث على البساتين المزروعة بالأرضي شوكي. وتراه من بعد على الرصيف العريض. يرفع نظرته إلى الطابق الثالث مستطلعا منذ يقترب من بيتها. يراها واقفة في الشرفة، فيبتسم لها، ويتبادل معها من بعد الإشارات. يبطئ في مشيته قدر مايستطيع، ويتمنى أن يبقى ثابتا على الرصيف العريض. ثم يدخل إلى البناء الأبيض، فتدخل أميرة منتظرة أن يدق الباب لتفتحه له كأنها لاتعرف من الطارق. هل تنقل له كفها المسترخية في كفه فرحها بزيارته؟ هل تنقل لها نظرة عينيه شوقه إليها؟ يترك أحيانا في كفها ورقة مطوية عدة طيات، فتسرع إلى غرفتها وتقرأ قصيدته. لاشيء غير ذلك! لاكلمة عزيزتي ولاكلمة حبيبتي! تقرأها مرات وتحاول أن تستخرج منها أكثر مما تعني. ينصرف قيس إلى أخيها حتى تدخل حاملة لهما القهوة. قال لها: تلبس نساء المزة الملاءة الصفدية. ماأحلى اللون البرتقالي! كأن الدنيا دائما في الربيع! يذكّرها بأنها كانت تكشف له ملاءتها أمام الدكان في صفد؟ ابتسمت: لكني هنا لاألبس العباءة الصفدية. أخرج كما تراني! هل أميرة حب قيس الأول! لعله شعر بالحب أول مرة يوم أحبها! ولعل أول قصائده كانت لها!   

 عندما تحمل أميرة له ولأخيها القهوة تبقى قليلا معهما. يتشاغل عنهما يسار قليلا. فيحمّل كل منهما نظرته قدر مايستطيع من الوجد. يرفّ القلب الفتي،  وتمر السعادة كالبرق متوهجة ومسرعة. ثم يأتي يحيى وأصدقاؤه أبناء صفد، فتعود أميرة إلى الشرفة. وتتابع قيسا وهو بينهم يمشي نحو المدينة.

نزلت ليلى خمس درجات إلى الساقية وأطعمت البط. واستمتعت بتزاحمه قربها. ماأرشق سباحته وماأقبح مشيته! يجب أن يعرف الإنسان المكان المناسب له كي يسبح كالبط ولايمشي مثله! فكيف ستعرف ليلى مكانها في هذه الحياة الواسعة؟ أطعمت العصافير ثم جلست قرب المارغريت. مقابلها أميرة. نظرت كل منهما إلى الأخرى وابتسمتا. جارة جديدة؟ قطفت ليلى زهرة مارغريت ومدتها نحو أميرة. نعم سآتي! بعد دقائق عبرت أميرة الشارع إلى ليلى، فأطعمت ليلى البط مرة أخرى مع أميرة، ووقفت معها قرب أقفاص الكنار، ثم قطفت لها باقة من زهر المارغريت. ماأخف الصبا! ماأسهل التعارف والصداقة والزيارات والحديث فيه! من يسبق الآخر، هي أم أميرة؟! أميرة أكبر منها؟ لابأس! كل منهما معجبة بالأخرى! ليلى مسحورة بضوء الرضا في وجه أميرة. وأميرة معجبة بما سيعجب قيس في ليلى. تجمعهما العوالم التي تفصلهما. حياتان إحداهما في صفد والأخرى في دمشق. في إحداهما شابة تلتف بعباءة صفدية، وفي الأخرى فتاة تلبس الجوارب القصيرة! هل قالت لها ليلى في اعتداد أم في أسى: أبي من المتطوعين، كان حول صفد، وقتل في الجليل! وصفت لها أميرة وقتذاك المدينة والقرى التي تحيط بصفد، وحكت لها عن الليلة الأخيرة فيها. فرصفت ليلى الصور التي رسمتها بحديث أميرة إلى جانب الصور التي رسمتها من حديث أبيها. لكنها لن تستطيع أبدا أن ترى تلك البلاد. 

تستمتع ليلى بنقر حوافر عربات الخيل التي تنقل المتنزهين في شارع بغداد! تحب الرطوبة التي تهب من البساتين في الصيف. تصعد إلى السطح لتطل على الأشجار والنهر وتتابع أسراب الحمام التي تدور في السماء، ويخيل إليها من السعادة أن للقمر عبقا كعبق زهر الليمون. يوم صرخت زوجة ديبو غاضبة على المؤذن كانت ليلى تستمتع بصوته الحلو الذي تسرب بين الصحو والنوم. لكن كم هي حزينة اليوم! صعدت إلى السطح كي تبكي في حرية. عرفت أن إحسان كم ألماظ قتل في سمخ. قتل الشاب الوسيم الذي تناولها من أمها وحملها على ذراعيه من محطة الترام في البارلمان إلى البيت! قال لأمها يومذاك: ياخالتي لاتقلقي علي! لن نضيع الوقت في انتظار سيارة أو عربة. لو عرفت أن ليلى مريضة لدبرت سيارة انتظرتنا أمام الطبيب! مازح ليلى طول الطريق: مريضة وخداك كالوردتين؟! تتمارضين لتذكرينا بقصيدة ليلى المريضة في العراق! ليلى استمتعي بالسماء والشجر! ياخالتي، مدي يدك إلى جيبي، فيه قطعة شوكولا ضعيها في فم ليلى! ألذلك استمتعت ليلى بمرضها يومذاك؟ مع أن الطبيب قال لأمها، انتبهي! التهاب قصبات، قد يصبح ذات الجنب!   

أخفت ليلى حزنها عن أميرة. كما أخفت أميرة حبها عن ليلى. تسعدهما الصداقة الجديدة. يسعدهما اختلاف لهجة إحداهما عن لهجة الأخرى والفرق في العمر بينهما. لماذا لم تبح لها أميرة بحب قيس؟ ماالفائدة؟ ذلك الحب مثل ربيع قصير فقد مروجه!

قال أبو قيس: ليست العودة إلى فلسطين مسألة أيام كما وعد الأمير عبد الله وفدنا! لم تعد فلسطين بدخول الجيوش العربية إليها، كما توهم العرب! احتلها اليهود قبيل دخول الجيوش العربية. وجهزوا أنفسهم لاستقبال تلك الجيوش. وحاربوها مجزأة، مرة هذه ومرة تلك! وهرع العالم كي يفرض الهدنة على العرب كلما لمح هزيمة اليهود! لن تعود فلسطين قريبا! قرر أبو قيس أن يلحق علاقاته التجارية التي نسجها منذ السنوات الثلاثين في شرق الأردن. سيفتح مخزنا للتجارة بالقمح والحبوب في إربد. وسيكون قريبا من نسيم بلاده. قال: كان اليهود مشتتين في البلاد؟ لسنا نحن الذين فرقناهم، لكنهم قدّروا علينا أن نكون مشتتين في الأرض! ودّع ياقيس أصحابك الذين درست معهم في صفورية وفي صفد ثم رحلت معهم إلى دمشق! 

في أواخر أيلول 1949 ودع أبو قيس إخوته، وودع قيس أصدقاءه وأميرة. لن يراها أبدا! ستتزوج أميرة فيما بعد ممن يستطيع أن يتزوج. وستقول ليلى لنفسها وهي تبكي على إحسان كم ألماظ على السطح: تغري الدنيا بما هو أوسع من الحب!

بعد عقود من السنوات التقت أميرة بليلى في حي لاتوجد فيه بساتين. كانت ليلى قد فقدت زوجها في آخر الحروب بين العرب وإسرائيل.  ولم يكن لها منه أولاد. وكانت أميرة قد اشتغلت مع زوجها في الخليج، وتفرق أولادها في البلاد التي قبلت أن يدرسوا أو يشتغلوا فيها. دفعت كل منهما بطريقتها ثمن فلسطين. لم يكن عندهما وقت للحديث. لكن نسيم البساتين القديمة هب عليهما. تجولت أميرة مرة أخرى في صفد كأنها في تلك البرهة تركتها. وتخيلت ليلى البلاد التي بقي فيها أبوها.

 

 

في إربد، استأجر أبو قيس دكانا بدأ فيها تجارة بالحبوب. واستأجر شقة في بيت عربي مفتوح على باحة. يشترك بالباحة جيران آخرون. كان ذلك البيت معبرا إلى بيت آخر سيستقر فيه. لكن قيسا وجد  في ذلك المعبر حبا رائعا. كان قد بدأ يصبح هاوي كتب، كأنه يبحث فيها عن جوهر الحياة، ويطلب الجواب على لماذا وكيف! قطع عليه قراءة كتاب في يده صوت نجيبة بنت الجيران. رفع رأسه ورآها في الباحة أمام الطابون تخبز الخبز. كانت جالسة على كرسي منخفض متباعدة الساقين، ترقّ العجين وتدوّره وتضعه على الطراحة المستديرة، ثم تلصقه على جدار الفرن وهي تغني: يابو الحلق، ياعود ريحاني، يبلاك بصربة عرب، والكل عزباني، وتكون ليلة عتمة، والسرج مطفية!

استمع قيس ذاهلا إليها. ياللشعر الجميل! وياللأمنية! انتبه وقتذاك فقط إلى الفتاة. كانت حلوة! ظل يستمع إليها حتى سكتت وتكوم الخبز الساخن قربها. فعبر الباحة إليها: يانجيبة، مارأيك في واحد بدلا من "صربة" عرب؟ جفلت. كان وجهها متوهجا من حرارة الجمر. تناول قيس قطعة من رغيف ساخن! ومن هناك بدأ بينه وبينها حب رقيق. صارا يلتقيان بين سنابل القمح على بعد خطوات من البيت. ذات يوم علا صراخها. رأى قيس أخاها يضربها، وهي تصرخ: أحبه! أحبه! هب قيس نحو الصوت، وأمسك بيد أخيها. التفت إليه أخوها وقال: سافلة! ففهم قيس أن الشتيمة له!

انتقل أبو قيس بأسرته إلى بيت آخر. وصار يصعب على قيس أن يقصد نجيبة! ذهبت مرات إلى الحقل فلم تجده، وذهب مرات إلى الحقل فلم يجدها. كانت نجيبة أنعم من الحرير، وأطرى من الخسّ. ثم شغلت المدرسة قيسا، وشغلته فتاة أخرى، محطة أخرى في بحثه القلق عن محور حياته.

يوم عاد إلى لبنان بعد عقود من الزمن سأل عن غزالة التي كان يلتقي بها في الكرم ويراها من شرفته قادمة من العين ويسمعها أغنية أسمهان. عرف أنها في مخيم النهر البارد. فتساءل هل يزورها؟ ليعرف هل بقيت تلك القطعة من العمر كما تركها؟ خشي من اللقاء. ويوم رجع إلى بلده  استبعد البحث عن نجيبة، كي يستبقي نجيبة القديمة التي كان يلقاها في حقول القمح. هي التي طلبت أن تراه فأرسلت زوجها إليه. زارها فرأى امرأة حلوة مرحة سمينة. نادت أولادها وقالت لهم أمام زوجها: هذا هو الرجل الذي أحببته لكن الله حرمني منه! قال زوجها مداعبا: لانعرف يانجيبة، هل ذلك من حظي أم من رضا الله عليه؟ 

تذكر قيس قصة قرأها مرة. أولاد يلتمون بعضهم على بعض وهم يسمعون أباهم يضرب أمهم في الغرفة الأخرى. يدينها بحبها القديم ويحاكمها عليه. يتحلقون حولها عندما يبتعد أبوهم ويسألونها من ذلك الرجل الذي أحبته؟ تقول: فان لودفيغ.. ويكملون هم في فرح: بيتهوفن! كان الرجل الشرقي، زوج نجيبة أكثر حضارة من زوج تلك المرأة. ولعله أيضا أكثر رحابة من قيس الذي ماكان ليتحمل رجلا أحبته زوجته قبله!

سيسرح قيس فيما بعد في ذكرياته. لماذا سيتمنى أن يعرف مصير من عبر حياته! ليطمئن عليه؟ أم ليسوق الصور إلى آخرها ويضعها في مكانها الملائم منه؟ ليرتب سنوات عمره في رفوفها ودروجها، ويتركها منظمة مثل خزانة ملابسه؟

يوم أحب نجيبة لم يكن قد اعتمد مقاييس ليلى معيارا يقرّب منه النساء أو يبعدهن عنه. فيحسب المسافة بين رسغ القدم وبين الركبة، واستدارة الوجه، وينتقي بمقياسها.

 

 

- 15 -

 

في تشرين الثاني سنة 1949 مر قيس بدكان أبيه. من أرى؟! شاكر سليمان من دبورية، وحمد الصبيح من قبيلة الصبيح في سفح جبل طابور! زيارة؟ بل تجارة ياقيس! شاكر، من دبورية المحتلة. يتسلل العرب، يشترون من إربد الطحين والرز والسكر، يحمّلونهاعلى البغال ويهرّبونها إلى بلادهم المحتلة. ماتزال الدوريات اليهودية التي تحرس الحدود قليلة. لم يخنق الإسرائيليون بعد الحدود!

من أين ستسيرون ياشاكر؟ لماذا تسألني ياقيس؟ لأرافقك! واجب الأهل! لاتمزح ياقيس! ستكون مع شاكر قافلة من أحد عشر شخصا تنطلق في المساء من قرب "بيت راس"، تمر قرب "أم قيس"، تنزل في اتجاه الغور، وتعبر المخاضة على الشريعة جنوبي الباقورة. لنمش معا قليلا! مشى قيس مع شاكر. قال له: خذني معك! معي؟! ياشاكر، أريد أن أرى صفورية! لاآخذك معي دون إذن أبيك! بل سـتأخذني معك ياشاكر! ماذا سيقول أبوك؟ سأدعي أني لحقتك رغما عنك! وهو الواقع تقريبا! كان قيس قد سمع أن لأبيه دينا في الناصرة عند شريكه عبد الله فقال لنفسه في طريقي سأساعد أبي فأستعيد له الدين! 

التقى قيس بالقافلة في "بيت راس" في الساعة الرابعة والنصف بعد الظهر. مشى مع الرجال. انزلقوا قرب "أم قيس" نازلين إلى الباقورة في الغور. اتجهوا إلى مخاضة الشريعة. هنا قبيلة الغزاوية. تحرس المخاضة وتأخذ من المهربين خوّة! هل يتجاوزونها دون أن تنتبه إليهم؟ مشى قيس مع شاكر وحمد. كان المهربون يمشون مجموعات صغيرة كيلا يلتقطوا معا. يتقدمهم اثنان. قرب المخاضة سمعوا صيحة: قف! لامفر إذن من قبيلة الغزاوية! أخذ الرجل حصته وترك قافلة المهربين تتابع طريقها. لكن من هذا معها؟! قف ياقيس، قف! هم يهرّبون التموين، وأنت إلى أين؟ هل يعرف أبوك إلى أين تمشي؟ قال قيس: أمشي إلى صفورية! قال الرجل: تعال ياقيس، نم عندنا وفي الصباح نوصلك إلى أبيك! رد قيس: لاياعمي، سأذهب إلى صفورية! إذن، انتبه! والله معك!

قطعت القافلة المخاضة. طريقهم: سولم إلى جانب مرهافيا، أندور، جبل طابور حيث عرب الصبيح، دبورية بلدة شاكر، الناصرة، الرينة، صفورية التي كانت من قضاء الناصرة! مازال اثنان يتقدمان المجموعة. بدأ الليل! أية عتمة واسعة في الفلاة! تحاول عينا قيس أن تخترقا الظلام. يحاول أن يقرأ في العتمة خطوط الأشياء الخارجية. يلتقط حفيف الأوراق ويسبره. الريح أم حركة إنسان؟ همس لشاكر: هناك على الصخرة رجل! نظر شاكر إلى حيث أشار قيس. لم يتبين أحدا. ولاحركة. رغم المسافة بين المجموعة والأخرى تشعر كل منها بحركة الأخرى. توقفوا كلهم. لاأحد! أنت ياقيس جديد في اختراق الليل لذلك تنوهم في النسمة خطرا وتتوجس منه! سيتكرر مع قيس الأمر نفسه! سيلمح في الحياة أخطارا تخفيها العتمة وسيخبر من حوله عنها، لكنهم لن يصدّقوه حتى تقع! بعد خطوات دوت صيحة: قف! وقع الرجلان اللذان يتقدمان القافلة! كنت على حق ياقيس! ليتني كنت مخطئا ياشاكر! حقا، كان ذلك شبح رجل يقف على صخرة قرب قرية كوكب العربية المهجورة التي تحيط بها صخور ومنحدرات.

وقع رجلان من القافلة، وحادت البقية عن مسارها بعيدا عنهما. سيأخذ "قاطع الطريق" من المهربين حصته من التموين! بعد فترة من المشي دوت مرة أخرى: قف! هنا قرية سيرين العربية المهجورة! سقط الرجلان اللذان يتقدمان بقية القافلة! قال شاكر: قطاع الطرق العرب فلاحون هجّروا من قراهم ولم يتركوا فلسطين إلى البلاد العربية! يأخذون جزءا مما يحمله المهربون يعيشون به. لكن اليهود لايصرخون "قف"، بل يطلقون الرصاص! التفت قيس إلى شاكر وسقطت قطعة من قلبه. هل شعر بأن جميع المهربين الذين رافقهم سيقتلون فيما بعد برصاص الإسرائيليين؟ هل بدأ هنا حدسه الذي يصور له كاليقين ماسيحدث؟ سأل قيس شاكرا: من سيتقدمنا الآن؟ قال شاكر: الآن لاأحد!  اتجهت القافلة إلى قبيلة الصبيح في جبل طابور. ودّعه هناك شاكر: ابق مع حمد! سألقاك اليوم!

في الرابعة صباحا وصل قيس مع حمد الصبيح إلى مضارب الصبيح في سفح طابور. تلفت قيس. "تبحث ياقيس في الهواء عن أثر معارك الصبيح؟ في كانون الثاني 1948 قبل الفجر اصدمت قبيلة الصبيح باليهود. سندتهم نجدات من المستعمرات والعفولة. فقصف اليهود قبيلة الصبيح بمدافع المرتر. كان المطر غزيرا فعبر اليهود الوحل بالتراكتورات. ساعد أبناء الشجرة قبيلة الصبيح فردت اليهود. وتوسط  الصليب الأحمر كي ينقل اليهود قتلاهم. لكن البلاد سقطت بعد ذلك. وصارت علاقتنا ببلاد الشام كأنها تهريب!"

انتقل مع حمد قبل الظهر إلى دبورية التي تبعد ثلاثة كيلومترات تقريبا. والتقى بشاكر هناك. في دبورية استقبل أهل شاكر قيسا في ترحاب. كيف أبوك؟ وأهلك؟ وإخوتك؟ كيف تعيشون؟ أبو شاكر صديق أبي قيس. بلاد واحدة، ومصالح واحدة! ناموا الآن، استريحوا من تعب الطريق! الصباح رباح!

بقي قيس أربعة أيام في دبورية. استراح من الطريق، استعاد الناس. وبعد؟ ياشاكر، يجب أن أذهب إلى الناصرة! ماذا في بالك ياقيس؟ دين لأبي أريد أن أحصّله! في الغد اذهب مع قافلة الطحّانة ياقيس، في القافلة أخي محمد أبو صالح. ينجزون الطحن في الناصرة في يوم واحد! اذهب معهم وعد معهم في آخر النهار!

مشى قيس مع قافلة الطحّانة الثلاثة الكيلومترات بين دبورية والناصرة. عند مدخل الناصرة اتفق مع محمد أبو صالح على اللقاء به بعد الطحن في المكان نفسه وقت عودة القافلة إلى دبورية. مشى قيس إلى دكان شريك أبيه عبد الله. بين عبد الله المسيحي وبين أبي قيس ودّ وصداقة. مرحبا ياعمي! مئة مرحبا! كيف وصلت إلينا ياإبني؟ وصلت مع المهربين، ياعمي! تريد الناس أن تأكل، ياإبني! ياعمي جئت لأسترد دين أبي، ستمائة جنيه! أبوك طلب منك ذلك ياولدي؟ سكت قيس. أين الورقة التي تحملها منه لي؟ أرسلك هذه المسافة الطويلة لتأخذ هذا المبلغ الكبير، ولم يحملك ورقة؟! اسمع ياولدي! سأعطيك عشرين جنيها كي تعود إلى أهلك. وقل لأبيك أن يرسل لي ورقة مع أي شخص يختاره. دينه جاهز عندي!

آه، فشل قيس! ضاع منه تفصيل صغير! وستضيع منه في حياته تفاصيل أخرى صغيرة، رغم انتباهه الدقيق إلى التفاصيل!

في مدخل الناصرة التقى بقافلة الطحّانة وعاد معها إلى دبورية. فشلت مهمته في الناصرة! بقيت زيارة بيته في صفورية! سأل: متى تعود القافلة إلى إربد؟ لن تكون القافلة جاهزة قبل ثمانية أيام ياقيس! قال أبو شاكر لقيس: أبوك صاحبي وأنت عندي مثل شاكر! ستبقى ضيفنا حتى عودة القافلة!

 في الرابعة صباحا في ذلك اليوم هزّه أخو شاكر: قيس، قم! القرية مطوقة! سيجمع اليهود أهل القرية في البيادر ليفتشوا البيوت بحثا عن المتسللين! تعال إلى البئر! تبعه قيس. البئر تحت المزراب، تجمع فيها مياه المطر. ضيقة في فوهتها، عريضة في أسفلها. أنزل أخو شاكر السلم إلى البئر فاستند طرفه إلى الجزء العريض من البئر. لايمكن أن يرى من الفوهة الضيقة! دلى قيسا بالحبل إلى السلم. نزل قيس إلى البئر فغاص في مائها حتى وسطه مستندا إلى الحائط الذي لايرى من الفوهة. وقف ساكنا زمنا طويلا. ثم سمع أصواتا، وشعر بأشخاص يطلّون من البئر ويتوقفون هناك. ثم ابتعدوا وعاد السكون. ظل قيس ساكنا في مكانه حتى الساعة الثامنة والنصف صباحا. وقتئذ أتى أهل شاكر وأخرجوه. أشعلوا نارا أجلسوه قربها ولفوه بالحرامات. وبدأ يرتجف. قالوا له: التقط الإسرائيليون بعض المتسللين العرب! كل عربي دون بطاقة متسلل! المتسللون أهل البلاد! ياحيف على الزمان!

قال قيس: ياعمي، أريد أن أرى صفورية! ياإبني، ينقصك وجع القلب؟! يجب أن أراها ياعمي! بيننا وبينها رمية حجر! إذن انزل إلى الرينة! في الرينة يعيش من بقي من أهل صفورية في البلاد. منهم الشيخ صالح سليم المحمد رئيس بلدية صفورية. ياعمي، هذا صديق أبي. سأنزل عنده! نزل قيس إلى الرينة ضيفا على الشيخ صالح سليم المحمد. ابن الشيخ صالح زميل قيس في المدرسة، في صفورية وفي صفد. رحب به صالح سليم المحمد. أهلا ياابني! كيف رجعت؟ مع المهربين! ياعمي أريد أن أنزل إلى صفورية لأرى بيتنا! تأمله الرجل. أتيت من هناك كي ترى بيتك؟ من ينكر الحنين على شاب في عمر قيس!

استمتع صالح سليم المحمد بمجد حياته. عاش في قرية غنية، انتخب رئيسا للمجلس المحلي في صفورية عدة دورات، حتى سنة 1948. أشرف مع أعضاء المجلس البلدي المنتخبين على الثقافة والمياه والضرائب والمدارس والبناء والتموين. قدم باسم المجلس مساعدات للدير والراهبات في صفورية مكافأة على خدمات عيادة الدير الطبية المجانية. في سنة 1946 قدم للدير خمسين جنيها وكمية من زيت الزيتون.  

لكن صالح سليم المحمد حسم قرار حياته. لن يترك البلاد! سيظل يحوم حول قريته. وفي سبيل ذلك هيأ نفسه كي يتحمل المرّ. فهل يفوته مادفع بقيس إلى قريته؟ فلير قيس بيته المنسوف! يعرف صالح سليم مصير صفورية. لم يخربها قصف الطائرات الذي قتل امرأة مع أولادها وهدم بيتها. خرب صفورية النسف الذي تناولها بيتا بيتا ليمحوها من وجه الأرض. لايعرف صالح ذنب صفورية التاريخي. سيعرف ذلك قيس.

قال صالح سليم المحمد لقيس: اسمع، يطلب اليهود قطّافين يقطفون لهم زيتون صفورية. انزل مع القطّافين! لكن انتبه! يشرف العسكر الإسرائيليون على القطّافين! هل خبأ صالح سليم نقطة ضوء في قلبه وهو يحنو على قيس، حتى وهو يعرف أنه سيصل إلى صداقة بن غوريون فيما بعد ويصبح مرات نائبا في الكنيست عن حزب العمل؟

نزل قيس مع محمد إبن رئيس البلدية، ومع أهل صفورية ليقطف معهم زيتونهم الذي أصبح للإسرائيليين. عبر معهم مرج الذهب في صفورية، ثم دخل إلى صفورية المنسوفة. على عمود بازلتي قديم بجانب العين  في وسط صفورية جلس عسكري إسرائيلي مع زميل قيس في المدرسة! هذا محمد عبد المجيد! مايزال العمود القديم مكانه قرب النبع! مايزال بناء عين صفورية الذي أنشأته البلدية مكانه في وسط البلد قرب الشارع الرئيسي الذي يعبر القرية على "رأس البيادر"! مايزال الماء يجري إليه من القسطل! ماتزال الحنفيات التي يستقي منها أهل صفورية موجودة، قربها مستودع ضخم ومكان تشرب منه المواشي والخيل! ولكن أين أهل القرية؟ أين النساء الراجعات من العين؟ أين الجالسون في استرخاء على المصيطبة؟ نهض محمد عبد المجيد عندما لمح قيسا وتقدم منه في لهفة. قبّله: أنت هنا؟! تناول قيس منه التحية والقبلة. ابتسم له؟ هل يستطيع قيس أن يرد الابتسامة؟! ودّعه ومشى في طريقه. يجب أن يخفي قهره! يجب أن يظهر فرحه برفيق المدرسة! ولايستطيع قيس هذا أو ذاك! وفي حياته كلها سيكون مقتله انفجار عواطفه في ملامحه! ياربي! كل مايشير إلى معرفة سابقة رعتها هذه القرية ومدرستها وحقولها وشجرها يمكن أن يكون خطرا على قيس الآن! مشى مع "قطّافي الزيتون" أصحاب أراضي صفورية التي لم تعد لهم ولم يعودوا سكانها! قال له محمد بن صالح سليم المحمد: انتبه! زميلك هذا يعمل مع الاسرائيليين!

أكمل "القطّافون"  طريقهم إلى كروم الزيتون الواسعة في وادي النصارى. هناك القطاف. انتشر أهل صفورية في الحقول التي يجب أن يقطفوا زيتونها. وانتشر حولهم الجنود لكن هؤلاء لم يكونوا كثرة. ترى هل سيحمي محمد عبد المجيد ذكرى زمالة المدرسة؟ أم سيشي بقيس فيلتقط الإسرائيليون متسللا؟! هل في قلب من خان أهل بلده شيء من القهر يدفعه إلى التستر على زميله؟ قال قيس لمحمد بن صالح: سأتسلل لأرى بيتي! سألقاكم في طريق العودة! ياقيس، انتبه! ينتهي القطاف في الساعة الرابعة! سنعبر في العودة مرج الذهب! إذن أنتظركم في مرج الذهب!

تسلل قيس في اتجاه السدر جنوب بيته. الطريق أسفل بيته. رفع عينيه فرأى كومة من الأنقاض، لمح على قمتها كلبا. نعم، الكلب الذي رباه منذ كان جروا صغيرا! في النظرة الاولى لم ير إلا رأس الكلب. لابد أن الكلب أيضا لم ير إلا قمة رأس قيس. من منهما ركض إلى الآخر؟ همهم الكلب، نبح، بكى، فرح، هز ذيله من طرف إلى طرف. هس! ولاصرخة! الفضاء، الفلاة، الهواء، الحاكورة، الشجر الباقي، الزيتونة التي ربطني أبي إليها ذات يوم، ركام البيت، أرض حرام! هس! ولاهمسة! لكننا سنبقى معا! سيحمل كلبه من صفورية إلى إربد! سيعبر به أرضا محتلة إلى أرض لم تحتل! سينقله من بيت الأمس المنسوف إلى بيت اليوم! هل كنت تحرس الأنقاض؟ هل شعرت بأني سأعود؟ اهدأ، اهدأ! سنبقى معا! ستكون الدليل إلى أني  وصلت حقا إلى صفورية، إلى أني زرت بلدتي المسروقة، المهجورة، المنسوفة! لا، بل سيبحث عن دليل آخر! بدأ ينقب بأصابعه تحت الأنقاض. أزاح الحجارة والتراب. وجد قطعة من المرآة الجميلة التي حملها أبوه من استنبول وقت كان يعيش في صفورية ويتاجر بالغنم. وهذه قطعة أخرى! دسّ قطعتي المرآة في جيبه. حمل كلبه ومشى إلى مكان اللقاء بأهل صفورية الذين أصبحوا قطّافي زيتون في أراضيهم عند الإسرائيليين! من قريته، من بيته، من بساتين أبيه، من البيت المرفوع على عقود، المطل على طريق العين، من الشرفة التي كان يطلق فيها صوت أسمهان "اسقنيها بأبي أنت وأمي"  فتلتفت إليه غزالة الراجعة من العين مع الصبايا.. من حياته كلها في صفورية يحمل هذه القطعة الممزقة من مرآة كانت كبيرة وجميلة!

التقى بأهل صفورية في مرج الذهب، وعاد معهم إلى الرينة. لكن إياك أن تبقى في الرينة ياقيس! لاتنم فيها! الرينة ملتقى الطريق بين طبريا والناصرة. فيها مخفر شرطة. يؤهلها موقعها لجولات دوريات اليهود. لاتبق فيها! تعشى قيس في الرينة، وفي الساعة الثامنة مساء ودّع الشيخ صالح. احتضنه الشيخ صالح. يعلم الله ياإبني إن كنا سنلتقي! سلم على أبيك وقل له عسى الله يجمع الشمل!

في دبورية تأمل أبو شاكر وجه قيس، ونظر إلى الكلب. حضّروا الشاي لقيس! ياابني، يكبر الهمّ إذا فكرت فيه! أنت شاب والعمر أمامك، فماذا نقول نحن؟ قد تتحرر البلاد في حياتك، لكن هل نرى ذلك نحن؟ تسأل عن القافلة؟ اشتقت إلى أهلك؟ أنت ضيفنا في دبورية حتى عودة القافلة إلى إربد. باع المهربون الطحين والرز والسكر للعرب، واشتروا بدلا منها السلاح. بالطحين يباع الآن السلاح الذي اشتراه أهل فلسطين بالذهب! يحمل المهربون خارج البلاد السلاح الذي أدخله أهل فلسطين بشق النفس وبالمغامرة بالحياة! أغلقت البوابات! إذا أتى التحرير ذات يوم فلن يكون إلا من خارج البلاد! هل يأتي؟ متى؟ متى؟ هل ضاعت البلاد؟ هل يضيع الحق في هذه الدنيا علنا، هكذا؟! تفو أيتها الدنيا! تفـــــــو!

أصبحت القافلة جاهزة! لكن المطر ينزل كأنه ينسكب من القرب. لابأس! ذلك أكثر أمنا للمهربين! المطر طقس لايلائم الدوريات! ودّع قيس أهل شاكر، ودّع دبورية. هل سيلتقي بهم مرة أخرى؟ أين؟ هل يستطيعون أن يكونوا كلهم مهربين كي يصادفهم في دكان أبيه؟ وهل يصلون دائما أحياء؟  نحن أهل البلاد الذين ننقل التموين بين عرب وعرب أصبحنا مهربين! نحن أهل البلاد أصبحنا متسللين! نحن العرب الذين شلّحنا اليهود أرزاقنا أصبحنا مشلحين وقطاع طرق نقتات مما نصادره من إخوتنا العرب المهربين! مع ذلك احبس ياقيس القهر!

مشى قيس مع القافلة. كان فيها رجال جدد وبعض الذين صادهم قطاع الطرق في طريق الذهاب! الترتيب نفسه: في المقدمة اثنان، ثم مجموعات من ثلاثة أشخاص. وقيس يسير مع شاكر. مطر وظلمة ووحل، وصوت الريح! همس شاكر: قفوا! فهجعت المجموعة ساكنة. سكن أيضا كلب قيس! صوت لاسلكي! الدورية قريبة إذن. ظلوا ساكنين حتى ابتعد الصوت. 

وصلت القافلة أخيرا إلى المخاضة على الشريعة. لكن المخاضة ليست للعبور! تيار الماء جارف هادر. يتدفق المطر في النهر! ولكن لامجال للانتظار أو الرجوع! قال شاكر لقيس تمسك بذيل الفرس بكل قوتك! التفت قيس إلى الكلب: أنت، اسبح! وقف الكلب على الضفة مترددا! ناداه قيس: تعال! هز الكلب ذنبه وبقي في مكانه. ثم تقدم خطوة وتراجع! لامجال للتردد! لامجال! عبر الرجال والدواب المخاضة بصعوبة. ووقفوا مبللين على الضفة الأخرى. قال قيس لشاكر: يجب أن نعود لنأتي بالكلب! نعود؟! مجنون! اسمع ياقيس! ماصدقنا أننا عبرنا المخاضة. لانستطيع العودة! نظر قيس إلى الكلب، ثم بدأ يبتعد مع الرجال. هاجر قيس مرة أخرى، وبقي الكلب على ضفة الوطن! هل خاف كلب قيس النهر أم خاف الغربة؟

ترك قيس المهربين في القبيبات عند الباقورة. أخذ باص الشونة إربد. لماذا ردد بينه وبين نفسه طول الطريق: "عذب الجمّال قلبي حين نادى بالرحيل"؟ من أين التقط هذه الكلمات؟ وصل إلى إربد بعد 17 يوما من الغياب. فتحت أمه الباب.. وزغردت. فعرف الجيران أن المفقود عاد. كان الرجل الذي رآه عند المخاضة قد أخبر أباه بأنه قطع الشريعة إلى الأرض المحتلة. فبلغ أبوه القوات العراقية في المنطقة ورجاها أن تعرف مصيره. تعرف مصيره؟ يعود الناس إلى قراهم. يقتلون على مشارفها. يقتلون قبل أن يروها. في أحسن الأحوال يعتقلون في السجون. فهل نستطيع أن نعرف مصير اولئك كلهم! آه، صحيح، لايعرفون مصير القرى نفسها!

أخرج قيس قطع المرآة من جيبه وقدمها لأبيه: من بيتنا في صفورية! أطرق الأب. هل يحتفل بابنه الشجاع؟ هل يحتفي بابنه الذي يخترق المستحيل؟ هل يفرح بذكرى من بيته المنسوف؟ بشهادة على دمار ماأنشأه قشة، قشة؟ بحريق عمر لن يعود؟

في القافلة التالية عاد شاكر. لماذا تبدو مرتبكا ياشاكر؟ اقعد!  استرح واشرب هذا الشاي! لم يعاتبه أبو قيس. فالرحلة كشفت له وجها جامحا وصلبا في ابنه. وأعادت له المشهد الأخير من صفورية. والصورة الأخيرة من بيته وأصحابه وبلاده. قال لشاكر: ألا تريد أن ترى قيسا؟ بلى ياعمي! بلى! روى شاكر أن الكلب عاد إلى دبورية.. لم يعد إلى صفورية ياعمي، بل عاد إلى دبورية! ولكن ياعمي.. لاتقل لقيس.. لاتخبره. أتى اليهود قرب الفجر، وطوقوا دبورية. نبح وهجم عليهم.. ظل ينبح عليهم حتى أطلقوا عليه الرصاص!

بقي قيس مضطربا أسبوعا. لن يخرجه من بحرانه غير المرأة! ناداه أبوه: خذ ياقيس! انزل إلى عمان وابق فيها يوما، يومين! يكافئه أم يعزيه أم يقول له صرت شابا والبلد صغيرة عليك؟ نزل قيس مع رفيقه فائز إلى عمان. ومنذ خرج من البلد امتد المدى واستعاد قيس جموحه. معه صديقه المحبوب. فائز ابن عشيرة كبيرة، مثل قيس على شاطئ الشباب. الحلم لهما معا أكثر سعة من الواقع المرئي. الحلم هو المستقبل المفتوح والمغلق! هو الغيب الذي يظنان أنه لايجسر أن يعاندهما، ويتمردان لأنهما لم يمسكا بعد مفتاحه. تجرفهما معا الأشواق فيمشيان كالمتنزهين مساء على طريق "الكمب"، يتحدثان أحيانا عن النساء، وأحيانا يعودان إلى كارثة فلسطين الموجودة على مرمى حجر ومسافة قرن! لم يتزوج فائز بعد ابنة عمه هندا ويهواها ويقتلها. ومازال قيس متنقلا بين هوى وآخر. نزلا إلى عمان ليجلسا في مقهى لايعرفهما فيه أحد، ليقصدا نساء لايعرفنهما، ليشعرا بأنهما شابين ناضجين حرّين. مع أن المال الذي سينفقانه مال أبويهما.

هل بدأ قيس منذ ذلك اليوم يؤمن بحدسه؟ ستزيده المصادفات ايمانا ببصيرته وبأن مايراه في نومه أو يتصوره، يقع! جلسا في مقهى السمرا في عمان. تحدث قيس خليّ البال مع صديقه فائز. رمضان والوقت وقت الإفطار. سمعا طلقة المدفع وأذّن المؤذن. فجأة بدأ قيس يبكي في مرارة. ذهل صديقه. لماذا؟ تسألني عما لاأعرفه أنا نفسي؟! حدث أمر لايدري بعد ماهو.  بكى قيس حتى ارتوى من البكاء. ناوله فائز منديله ليجفف دموعه، ونهض: فلنمش ياقيس في الشوارع التي فرغت من الناس! البلد لنا! لن نفسد مشروع هذه الليلة!

في الصباح ركبا السيارة وعادا إلى البلد. قرب بيته صادف ساعي البريد: هذه البرقية لوالدك. أخذها قيس منه وناولها لأبيه. فتحها أبوه. من عمك ابراهيم في دمشق. "احضر حالا. توفي أبونا"! قال أبو قيس: قم! أخذا تاكسي ونزلا إلى دمشق. في الطريق بكى أبو قيس في حرقة حتى وصلا إلى الشيخ مسكين. عندما هدأ قال له قيس: "سيدي" مات البارحة وقت أذان المغرب! سأله أبوه: كيف عرفت؟ فهز كتفيه. وصلا إلى دمشق فوجدا الجنازة حاضرة. ودع أبو قيس أباه. وسارت الجنازة إلى مقبرة المزّة. في البيت سأل أبو قيس أخاه ابراهيم: متى مات أبي؟ رد: جهزنا الإفطار وجلسنا على الحصير ننتظر الأذان. قال لي أبي هات مخدة لأضع رأسي عليها. قدمت له فخذي. وضع رأسه عليه. عندما قال المؤذن الله أكبر شهق أبي ومات. وقت خلا قيس بأبيه في الليل روى له كيف بكى في مقهى السمرا في عمان في البرهة التي مات فيها جده.

 

 

 سجلت لقيس مغامرته وعودته حيا من فلسطين، إعجابا بين أصحاب أهله وزملائه، انتشر في بلدته. جلس في المقهى كالرجال وقصده رجال أرادوا أن يصف لهم مارآه. لعله مر بقريتهم، لعله التقى بأهلهم أو أقربائهم! وكأن فيه بركاناً هاج بعد رحلته مع المتسللين. لم يعد يخاف شيئا! لكن القلق والشوق والأسى تهده فيفتح الباب في الليل ويخرج إلى الحاكورة ليدخن. يصحو أبوه ويتظاهر بأنه لم ينتبه إليه. صار يهدئ أشواقه بكتابة الشعر. وكأنما نضجت فجأة الخواطر التي كان يسجلها على قصاصات من الورق، وعلى الهوامش البيضاء في المجلات، فأصبحت قصائد يسكبها في جموح ثم يعود إليها ليضبطها وينقلها إلى دفتر ويثبت في نهايتها تاريخ اليوم الذي أنجزت فيه. لم يستنتج أن الشعراء والسياسيين الذين ينشد التلاميذ كلماتهم قد أكملوا صفحتهم التاريخية وأصبحوا بخلودهم تراثا وحنينا ومستندات مستمرة. وأن الحياة تطلب الجديد الذي يتصل بهم وهو يختلف عنهم. لكنه بحدسه تبين أن قدره ومسؤوليته أن يصوغ كلمات زمنه، يفاجأ بها الناس ثم يتبينون أنها كلماتهم.

أعجب المستمعين إلى قصائده الشوق المدثر بالأسى، والعنفوان الجامح، والأمل الذي يشف في نهاياتها مرة عن عناد ومرة عن رومانسية رقيقة. كان قد أنهى السنة الأخيرة من المدرسة، والمدرسة وجه البلد، ومعلموها مثقفوه، ولها مجلة ينشر فيها كتاب العاصمة المعروفون مؤلفاتهم. ومع ذلك اعترف لقيس بأنه تجاوز ماأهّلته له المدرسة، وأنه أكثر نضجا من عمره. بل قيل: في قيس نسمة من عمر الخيام! سمع قيس ذلك فبحث عن الخيام، وجده فخيل إليه أنه وجد كنزا. بدأ ولعه بالخيام. وتمنى أن يقرأه بلغته! 

في البلد الصغير العيون على الجوهرة المكتشفة! اتصل المتصرف بأبي قيس: أرسله لنا! فبحثوا عنه ووجدوه مستلقيا في حقل يتأمل السماء، وبين أصابعه زهرة من شقائق النعمان! قال له المتصرف: ستلقي قصيدة أمام الملك! لم يرتجف قيس فالملك كان في ذلك الزمان يجلس بين الناس، ويلتقي حتى بالطلاب المشاغبين ويؤنبهم كأنهم أولاده. 

وصل الملك وجلس بين أهل البلد. قدمت المناسف وقدم قيس كي يقرأ قصيدته الطويلة. استمع إليه الملك: بارك الله، بارك الله! كان يزهو بمعرفته دقائق اللغة العربية والشعر. فسأل وزير المعارف الشيخ محمد أمين الشنقيطي: ماذا تقول ياشنقيطي في القصيدة؟ فيها أغلاط؟ رد الشنقيطي: لم ألاحظ فيها غلطا في النحو، لكن فيها كلمات غير عربية مثل زغرد. التفت الملك إلى قيس: أنت، ماذا تقول؟ رد قيس: زغرد كلمة من أصل عربي. سأل الملك: ماذا تقول ياشنقيطي؟ رد: ليس صحيحا.. قاطعه الملك: والله هذا الصغير على حق وأنت مخطئ ياشنقيطي! أدار قيس ظهره للملك لينسحب فركض المتصرف ليعلّمه كيف يتراجع في حضرة ملك. اعترض الملك: اتركه، اتركه! واعطوه طقم باركر، وخمسة عشر دينارا!

بعد يومين من رحيل الملك وصل خبر من المتصرف: طلب القصر قيسا. يجب أن يحضر فورا! القصر؟! منذ البوابة رحبوا به. منتظر! ثم استقبله شاب وسيم: انتظر هنا! قدمت له قهوة. قدمت القهوة، ثم قدمت القهوة.

- لايستطيع جلالته أن يقابلك اليوم!

- هو الذي حدد الموعد!

رجع قيس إلى بلده فرحا بعودته إليها! في اليوم التالي أرسل المتصرف خبرا آخر: القصر يسأل لماذا لم يلب قيس دعوة الأمس، عين لقيس موعدا غدا! استمع قيس إلى المتصرف. وقال: لن أذهب! عاد إلى الحقل واستلقى على الأرض ووجهه إلى السماء! لم تكن عادته أن يتأمل زرقة السماء بل نجوم الليل، لكن ذلك كان هواه في ذلك الإسبوع! 

هل أكدت تلك التجارب المرفوضة لقيس أنه مكلف بمهمة لايدري بعد ماهي؟ لاسكون في روحه كالسكون في روح زملائه! كأنه ورث حزنا عميقا من زمن قديم كان يعيش فيه قبل هذا الزمان! هل خمن أنه يجب أن يدفع الثمن، فالتميز ليس للفخر فقط، بل للعذاب!

طلبه المتصرف. صار قيس وهو بعد فتى، من المهمين في البلد؟! سيزور الملك الجديد البلد! نريد قيسا في الاستقبال! كان الملك الجديد ذا مزاج غريب. ربما لذلك أيضا كان محبوبا. يبدو أنه يحب الشعر.. جلس مستمعا إلى قيس. ثم ركب حصانا أبيض وخرج الأولاد خلفه يهللون.. ذهب ليزور النّور! كان ملكا متمردا. سجل الناس أنه نزل إلى الشعب، لكنه لايمكن أن يكون ملكا.

قال المتصرف لقيس: إذا رغبت يمكنك أن تكون من موظفي  القصر! قيس يتحمل الحياة في قصر؟ وهل يتحمل قصر مزاجه الهائج؟ لايستطيع قلبه المتلاطم أن ينبض بانتظام! لن يتبين ثمن ذلك إلا في قمة العمر، وقت يأوي زملاؤه إلى حياة مستوية، وتصور قمة العمر للإنسان أن الركود استقرار وأمن، فيعتد بما لديه من مال وبيوت وأولاد مطيعين، ويبدو صخب الحياة ترفا ضيع العمر، وتكون الأيام الجميلة الماضية قد تسربت من الأصابع ولايستطيع الإنسان أن يكرر الجنون. عندما سيفتح زملاؤه صفحات حياتهم لن تكون فيها إلا كلمات قليلة. وسيضيع هو بين الألوان. لكن زملاءه العاديين سيتناولون وجباتهم في أوانها، وسيأوون إلى الفراش في وقت معين، سيستقبلون أولادهم ويستمعون إلى لغو أحفادهم، ويتوهمون أن تلك الدعة جني سنوات العمر. وسيبقى هو جوّالا في الليل والنهار بين مروجه البعيدة، وبين مروجه الممنوعة.

 

 

- 16 -

 

جلس قيس أمام مكتبة صقر على كرسي منخفض من القش، واستعرض مع صاحب المكتبة بنات المدرسة اللواتي تدفقن إلى الطريق. ميز منهن شابة أعجبته. قال لصاحبه: هي! أتعرفها؟ رد صاحبه مداعبا: اسمها شهرزاد! لكنك لن تكون شهريار لأنها غنية، أبوها طبيب سوري ترك دمشق يوم خرج منها فيصل سنة 1920.

كان قيس يومذاك على التخوم. يشعر بقوة تصور له أنه قادر أن يفتت الصخر. ويجرفه شوق عاجز إلى كل شيء. يرسل قصائده إلى الإذاعة فتقرأ منها، وينشرها في الجرائد. ومع ذلك يشعر بأنه على التخوم. لايجد بعد عملا يمسك بحياته.

صار ينهض من كرسيه ويتبع شهرزاد، يعبر الطرقات خلفها ثم يتسرب إلى درب بيتها، ويتركها أمام بوابة حديقة واسعة. قدم له صاحب المكتبة المعلومات التي تجعلها أسطورة بعيدة عن قيس: عمها طبيب الأمير! لكنه في بداية هواه لم ينتبه إلى إشارة تلك المعلومات إلى حب يائس. لم يتساءل هل تنتظر فتاة مثلها فتى مثله حتى يصبح شخصا ذا مكان؟!

مشت شهرزاد أمامه حتى بيتها. عند الباب التفتت وقالت له: ماذا تريد؟ لم يخف عليه أنها قالت ذلك دون لوم. يعجبها؟ رد: أريد أن أراك! قالت: في حديقتنا مساء اليوم. ياللخبر العظيم! لايعرف كيف وصل المساء! دفع الدقائق كأنه يدفع الدجاج إلى القنّ ليحبسها فيه. تسلل إلى حديقتها وأتت إليه، فاندفع وعانقها. ولاحظ أن أختها تحرسهما من النافذة. صارت حديقتها مكان اللقاء. حديقة كثيفة الأشجار. وزادت من إهمالهما الخطر براءة الشباب.

اقترحت شهرزاد عليه: "اقطع" تذاكر للسينما! قطع تذاكر له ولزميله ولأختها. في العتمة لمسها، وصديقه يجلس مواربا ليحميه وأختها تجلس مواربة لتحميها. بعد ذلك اللقاء أرسل قيس إلى الإذاعة، قصيدة يتغزل فيها بشهرزاد. أذيعت قصيدة "الشاعر الشاب"  مرات! ونشرت في الجريدة مع مقدمة طويلة عن سيمفونية كورساكوف "شهرزاد". وسجل الكاتب أن قصيدة قيس ليست أدنى من تلك السيمفونية، لأنها استمدت ألوانها من بلاد شهرزاد وحضارتها العظيمة. وختم مقاله: لدينا جميع الإشارات إلى مولد شاعر لن يقل عن شاعر البادية القديم، مجنون ليلى!

في ذلك اليوم همس قيس لشهرزاد: افتحي الراديو في الساعة العاشرة! فجمعت صديقاتها حول الراديو. وجلس قيس في المقهى بين أصحابه يستمع إلى الراديو الموضوع على رف مرتفع. استمعت شهرزاد ورفيقاتها إلى قصيدته التي تفنن المذيع في قراءتها. كرر أحد المقاطع مرتين! محظوظة ياشهرزاد! فلنستعره منها يابنات ليقول قصيدة فينا!  نهضن وقبّلنها. هنّأنها. محظوظة! كم من الناس استمع إلى القصيدة اليوم! سيتساءلون من شهرزاد التي يهواها الشاعر الشاب!

عندما التقى قيس بها كانت كلماته ماتزال تخفق في روحها. فانهمرت عليه لينة، ناعمة. وخيل  لقيس أنه يتسرب من جلدها. لكنه لم يتبين ثقتها بأن ماقاله لايمكن إلا أن يقال فيها، وأنها تتوقع أن يحبها آخرون أيضا لأنها جميلة وغنية. أتت له قصيدة شهرزاد برسائل من معجبات أرسلنها مع أولاد إلى المكتبة التي يجلس فيها. طمعن في أن يحبهن كما أحبها، أم طمحن أن يلهمنه كلمات كالتي ألهمته إياها شهرزاد؟ تحب المرأة أن تكون ملهمة؟! لايدري قيس حتى اليوم سبب السحر الذي يجذب إليه النساء كلما شعرن بأنه مغرم بإحداهن!

اندفع قيس في حب شهرزاد كطالب يمتحن ويجب أن ينجح. كبطل ذي سمعة رائعة يجب أن يحافظ عليها. كمغامر راغب في كشف مجهول جديد. ولم تكن هي في عمر الزواج لتتفادى مغامرة لن تثمر. ولم يفكر قيس الذي جرفه الهوى بما يباعد بينهما.  

هل سبب انتحاره أنه فكر في الفرق بين فتاة من أسرة مستقرة غنية وبين فتى لاجئ ضيع احتلال فلسطين أراضيه؟ حبه اليائس؟ وهل كان قيس يتصور حقا أن هذا الحب سيمسك بيده إلى حياة رتيبة هادئة مع زوجة؟ يأبى عليه كبرياؤه أن يضع بالزواج حدودا لحياته! لن تقفل عليه حياته امرأة! كان على التخوم. أنهى المدرسة ولم يجد عملا. تبين موهبته وفهم رغم حفاوة من حوله بها أن طريق النضج طويل. كان قلقه يشويه، والسور المغلق حوله يضغط عليه، والمسافة واسعة بين طموح لاحدود له إلى مجهول لايدركه بعد، وبين واقع كالخاتم الضيق! تموج فيه قوى عاصفة يلمسها الذين يقدمون قصائده، وتضيق بالمسارب الممكنة لها في الواقع! والفضاء الممتد حوله فراغ لاأمل فيه ولامخرج منه. نسي الحدس الذي صور له يوم حاول الانتحار قرب شجرة الزيتون أنه يجب أن يعيش كي يحمل أمرا لايعرفه بعد!

أقفل قيس الباب بالمفتاح، وجزّ شريانه فتدفق الدم وجرى من الباب. مر أبوه صدفة فرأى خيطا من الدم. صرخ: قيس! ناداه: افتح! لم يجبه. قرر الموت! ياللمجنون! قرر الموت لأنه يحب الحياة! كسر أبوه الباب، وحمله إلى طبيب البلد، أبي شهرزاد. ضمده وأنقذه. لكن الشرطة سجلت ذلك في سجلات يمكن أن تواجه بها قيسا ذات يوم. فتعاقبه على الجريمة الوحيدة التي يعاقب عليها إذا لم تنفذ!

قال أبو قيس لصاحبه شكري: ليس السبب أنه يحب شهرزاد! المسألة أنه يجب أن يشتغل أو أن يسافر إلى الشام أو بيروت ليتعلم! ياشكري ساعده! رد شكري: سأعطيه رسالة إلى المكرّم! الرجل مقتدر، ذو نفوذ، سيجد له وظيفة. فشلت ثورة 1936 لكن بعض الذين شاركوا فيها أصبحوا أبطالا بعيدا عن الثورة التي صدّرتهم!

 

 

وصل قيس إلى عمان ظهرا. فتحت له الباب شابة جميلة. فقال بينه وبين نفسه: ماأكثر الجمال في هذه البلاد! وتساءل لماذا تكون الفتيات على هذا المقدار من الحسن وينطفئن بعد زمن من الزواج؟ لكنه لم يشعر بالأسى الذي تشعر به النساء عندما يصحون برهة فيتذكرن أن أجسامهن لم تكن مترهلة، وأرواحهن لم تكن كقماش غسل كثيرا في مياه مالحة. قالت له الشابة بصوت عذب: المكرّم غائب، لن يأتي حتى المساء.

لو كان لديه ذلك الوقت بعد سنوات لتنقل بين بيوت أصحابه. لكن لم تكن لديه وقتذاك العلاقات التي توسعها السياسة والعمل. جلس في المقهى حتى المساء وعاد إلى بيت المكرّم، وهو يعرف أن وقت اللقاء به سيكون مقتضبا لأن قيسا لن يجد إذا تأخر سيارة تعيده إلى بلده.

استقبلته مرة أخرى الصبية الحلوة، وأجلسته في الصالون. ودخل المكرّم. تترك حتى الثورات الفاشلة أثرها على قامات الرجال! وتترك السلطة أثرها الأكبر! المكرّم، عضو الاتحاد والترقي، الذي رافق حملة الترعة داعية وواعظا، ثم أخذ مكان أسعد الشقيري، ثم التحق بالملك فيصل وصار رئيس النادي العربي في دمشق، وجمع التبرعات من الهند لإصلاح الصخرة المشرفة، وتظاهر في يافا ضد الإنكليز وسجن ستة أشهر، الخطيب القدير! هاهو نفسه بهيبته أمام قيس!.

 تأمل المكرّم قيسا من باب الغرفة، تناول الرسالة وقرأها، ثم مد التهذيب دون أن يسحب السطوة. لكن قيسا لمح عواطف أخرى توقد عينيه وهما يشربان القهوة. برقت فيهما أشواق رمت السطوة بعيدا عنه فخفض نظره إلى الأرض كي يخفيها، وكأنه غير راض عليها. قال لقيس: سأسعى لنجد لك عملا! ونادى بنت أخيه: ياصبا! هرعت صبا فظهرت القسوة التي يعامل بها أهل بيته. قال: هاتي فواكه وحلويات! نهض قيس: أشكرك. يجب أن أسرع لأجد سيارة تنقلني إلى بلدي! قال المكرّم: لن تجد سيارة الآن. ستنام عندنا، البيت واسع وفي الصباح اخرج على بركة الله!

مايزال قيس غضا، لايستطيع رغم عنفوانه أن يفرض قراره وينفض عنه التهيب من السطوة. نهض مرة أخرى: سأجد فندقا! رده المكرّم: ترفض ضيافتنا؟ ياصبا، افرشي له في الصالون! انحنى قيس أمام الثقة التي تراكمت على المكرّم الذي اشترك في الثورة الكبرى وجنى مهابته منها ومن مركزه اليوم.

بعد العشاء غفا قيس كما يغفو الإنسان في بيت غريب. عين نائمة وعين صاحية. فراش غريب، مكان الباب والاتجاهات غريبة.. المقاييس كلها غريبة. لابأس، نم! لايتقلب الشباب طويلا! هكذا غفت العينان. وفجأة شعر بيد تلمسه. منام؟ لا! انتفض. المكرّم، الشيخ الجليل، راكع قرب فراشه. انتفض: ابتعد! أين سطوة المكرّم وهو يتوسل إليه: أرجوك! عصف قيس، وكشف له البرق والوهج ظهر الصورة، مسوّدتها، العواطف التي تذل حتى ذا السطوة. لم يكن قيس سياسيا لكنه قال لنفسه: لم يسقط المكرّم سياسيا فقط! راح زمانه. وربما كان مقتل انتفاضة 1936 أن قيادتها متنافرة ومتنوعة. ولكن لاحق لرجال الانتفاضة في أن يسقطوا هكذا! ربما انتبه بحدسه إلى المكانة التي تأسر الرموز بمقدار علوّها، وتفرض عليها الاستقامة حتى التصوف. لكنه انشغل فقط باكتشافه عالما متآكلا يختبئ بالأساطير. هذا هو الرجل الذي اشترك في الانتفاضة الكبرى؟ كان قيس شابا غضا. لايعرف بعد أن تلك الأخطاء ترصد في الرجال، ويمرّغون بها، ويجرّون بها إلى الخيانة أو إلى الانتحار. يعيش في عالم لم تنشر فيه بعد قضايا التجسس الكبرى والفضائح التي تواكبها. في عالمه لاتزال الأسرار والفضائح تغطى بالوقار!  قال بصدق الشباب وجموحه: يجب أن يقتلع هذا المجتمع من جذوره لينبت آخر مختلف عنه! دون ذلك لن نستعيد بلادنا المحتلة! لمس نتيجة صحيحة لكنه بالغ فيها، بجهل العمر الغض وجهل الفتى البعيد عن السياسة. وأوغل في استنتاجه كلما أوغل المكرّم في انهياره أمامه. قال له المكرّم: أعطيك مقابل ذلك بنت أخي! ألم تعجبك؟ لايوجد إغراء يمكن أن يستبقي قيسا. فالغثيان والقرف والغضب، دفعته كي يخرج إلى الهواء النظيف. قرف قيس من الشذوذ الذي سيكون حقا طبيعيا في اوربا بعد عقود من الزمن. لكنه لم يفكر بالنساء اللواتي قبلن اغتصابهن كي يخلصن أزواجهن أو أبناءهن، أو كي يدفعن ثمن عمل يدفع عنهن الجوع. ولم يفكر بصبا التي يمكن أن يقدمها عمها.

لبس ثيابه مستعجلا، فتح الباب وخرج إلى الليل. مشى مسرعا حتى ابتعد. في السفح جلس على حافة سياج حتى طلع الفجر. وصل إلى بلده كما يصل الضائع في البحر إلى البر. وصل إلى البيت قبل أن يخرج أبوه إلى دكانه: يابا، تعال! لكن ليس هنا! مشيا إلى البستان وهناك روى له مافوجئ به. أخرج من جيبه رسالة المكرّم إلى المتصرف ومزقها. فحص أبو قيس هيجان ابنه، وهاج هو أيضا، لكنه استمع إليه في هدوء حتى غسل روحه. قال: لايطلب الثمن من الفتيات الجميلات فقط، بل من الشاب الوسيم أيضا! خذ هذه الشهادة فقط ياقيس وانس المكرّم! لاتتحدى السلطة فقط الرجال. يتحداهم أيضا العمر! لم يصمد المكرّم لاأمام السلطة ولاأمام العمر! لم تسقط ثورة 1936 لأن ملوك العرب ورؤساءهم تدخلوا فنفذوا طلب بريطانيا. بل لأن في قيادة الثورة أشخاص مثل هذا المكرّم!

مزق قيس رسالة المكرّم وقدم طلبا لوظيفة معلم وانتظر الجواب. لايريد أن يكون موظفا، ولايستطيع أن يكون تاجرا، ولايملك أن يكون مزارعا. كان البهائيون يبحثون عن مدرس لمدرستهم في العدسية. ووسطوا لذلك المشرف على التعليم. وكان بين يديه طلب قيس.

 

 

 

- 17 -

 

قال مدير التربية لقيس: هذا مختار العدسية، يطلب معلما لمدرسة الذكور. هل تقبل العدسية؟ الشروط؟ خمسة عشر دينارا، وبيت، والطعام! شروط ممتازة، وحظ عظيم، فأهل العدسية بهائيون يقدّرون العلم! وافق قيس على شروط المختار البهائي.  وأصبح في سنة 1950 معلما في العدسية.

 

الطريق إلى العدسية ترابي معبد. إلى يمينه شرقا جبال يخيم فيها البدو الذين يعمل بعضهم عمالا زراعيين في العدسية. وإلى يساره غربا، تنحدر الأرض نحو الغور والعدسية.  في أول القرية غابة صغيرة من أشجار الكينا، تجري بينها قناة ماء تخيم حولها مجموعة العاملين في مصلحة المياه.  بيكوفسكي روسي أبيض كان ضابطا في الجيش القيصري، هرب بعد ثورة اكتوبر، ويشار الشركسي، ورياض ذو الصوت الرخيم ومحمد المهجر من يافا. تمتد الدرب بعد المخيم المظلل بشجر الكينا إلى الغرب، تعبر بيت هوية، أخت سكرتير شوقي أفندي زعيم البهائيين. بيتها كبيوت العدسية، من الحجر الأسود، وسط أرض مزروعة بالحمضيات، في الواجهة مدخل البيت، إلى جانبه مدخل السيارة. في شمال المخيم درب يوازي الدرب الذي يعبر بيت هوية، يوصل إلى مزرعة واسعة ذات بوابة جميلة من الحديد المزخرف وسط سور من الحجر يعلوه سياج من الحديد بزخرفة شرقية. مزرعة أسرة بهية وغولروخ، فيها وسط بيارة الحمضيات بيت من الحجر الأسود أمام بوابته نخلتان. على مرمى النظر منه مدرسة الذكور، بناء من طابقين، بينه وبين مزرعة بهية وغولروخ بيت من الحجر الأسود، فيه غرفة المعلم. إلى الجهة المقابلة من المخيم، يسارا، بيارات حمضيات في وسطها مدرسة البنات. في الطابق الأول منها قاعة واسعة للدراسة، وغرفة المعلمة لور. وتحت الدرج الداخلي غرفة السنترال. في الطابق الثاني المحفل البهائي. في البيوت الأربعين أو الخمسين في العدسية، كلها، تلفونات.

وجد قيس في غرفته طاولة ملأى بصحون الطعام. ماذا أفعل بكل هذا؟! قال للمختار: شكرا، ذلك كثير! ومشى معه إلى سيدة العدسية.

استقبلته هوية أخت سكرتير شوقي أفندي رأس البهائيين في شرفة مدخل بيتها. قالت له: مني تطلب مايلزمك! خمّن أنه أمام حاكمة العدسية. فهمس لنفسه: لكنها لن تحكمني! قالت له: ستكون دائما ضيفي على الغداء! وافهمت المختار أن أسر العدسية تستطيع أن تدعوه فقط إلى العشاء في دورها.

بدت العدسية لقيس جمهورية مستقلة. مستعمرة زراعية، يسوّق الرجال منها الفواكه بسياراتهم. لكل عائلة فيها مزرعة، تراكتور وسيارة وتلفون، والطرقات بين المزارع مزفتة. فيها أربعون أو خمسون أسرة فقط، ومع ذلك فيها مدرستان واحدة للذكور وواحدة للفتيات. يجتمع أهلها كلهم في احتفالات أسبوعية في قاعة مدرسة البنات، يلتقون بشخصيات، يستمعون إلى محاضرات. هناك عرف قيس أول مرة عجاج نويهض، مدير الإذاعة، الذي دعي إلى المحفل البهائي في العدسية. قرأ قصيدة قيس وطلبها منه كي يذيعها.

استمتع قيس براتبه الكبير. كدّس الكتب في غرفته. أفاده أنه حفظ القرآن واستهواه الشعر العربي، وبدأ يفتتن بالخيام. يفتتن؟ بل بدا متيما به! هل ذلك صدفة كالصدف التي صاغت حياته فيما بعد، فكان يفاجأ مرة بفتاة مقابله تضع في عنقها برج محبوبته، أو يلتقي بامرأة يحزر قبل أن يكلمها أنها تحمل اسمها! استهواه الخيام قبل انتقاله إلى العدسية بأشهر، كأنه كان يستشف أنه مقبل على من سيعلمه لغة الخيام بين زهر الليمون وشجر البرتقال في العدسية.

بهرته هوية بسطوتها. وعندما جرّها إلى الثقافة ليصغّرها نافسته بالكتب التي قرأتها، وقابلته برؤية كاملة إلى الدنيا. هل اندفع إليها من الغيرة منها أم ليثبت أنها لاتحكمه؟ أم استهوته حقا بقوتها؟ صار يتغدى معها من الطعام الذي تحضره خادمتها الغورية. بعد الغداء دعت بنتها لتعزف له على البيانو. استمع إلى العزف وعيناه على هوية. لم تكن جميلة، لكن ضوءها كان يغمر الغرفة. التفتت إليه وقرأت شوقه إليها. هو أيضا يستهويها لكنها تنتظر أن يرجوها! ورجاها: اطلبي من بنتك أن تخرج!..

في تلك الليلة عاد إليها، ومشى في الطريق الذي دلّته إليه. عبر الحديقة بين أشجار البرتقال، وصعد على درج من الحجر إلى شرفة غرفتها. شعر بيديها مغروستين في ظهره. وسحره أنها تقبض عليه في نشوتها. وألف الطريق إليها.

أحبته هوية؟ كانت أكبر منه بعشر سنوات. أعطته كتب البهائيين التي يمكن أن يقرأها. حدثته وهما جالسان في الشرفة عن وحدة الخالق والمخلوق. فسحب ذلك إلى الصوفية، ووصف لها أنه يشعر بوحدته مع أشجار الكينا والليمون، بل يشعر عندما يعود من مخيم أصحابه في مصلحة المياه بأنه الكون. قالت: هذا شعر! ماأقصده ياقيس غير ذلك. لكنك مؤهل للوصول إليه! الكون مفتوح، لايغلق بنبي أخير. تجلى الإله في البهاء ويتجلى في آخرين بعده. لم تقفل النبوة!

أدهشته الجرأة التي تخالف بها مايؤمن به الناس. لكنه كان وقتذاك في أيام فحص الأسس ومناقشتها. تعجبه القيمة التي يضعها البهائيون للعلم، والمساواة بين المرأة والرجل، تعليم المرأة، وحدة الخالق والمخلوق. ولكن ياهوية لاتعجبني وحدة الأديان. لاشيء يجمعني بالتلمود! "شعب الله المختار" ينفي تلك الوحدة. لايستوقفني حجّكم إلى البهجة في عكا. لكن لماذا جعلتم القدس قبلتكم؟ ولماذا يرى عباس أفندي أن خلاص البشر لن يكون إلا بعودة اليهود إلى أرض الميعاد؟ معنى ذلك.. أغلقت هوية فمه بكفها. اسكت! أشار لها إلى أنه سيقول شيئا آخر، فأطلقته. قال: إذا كان شوقي أفندي كالله فكيف رسب في الجامعة الأمريكية؟ لماذا لم يساعده الله؟ قالت هوية في ثقة: رسوبه دليل إلى أن الله لايساعد حتى شوقي أفندي إذا لم يعمل! بهرته هوية المفكرة. وربما أغراه بها في تلك الليلة أنه لايستطيع أن يهزم  ايمانها.

كانت الليلة مقمرة، وعبق زهر الليمون يغمر غرفتها. ترك قيس قمر آخر الليل على فراشها وخرج. كان زوجها قد ذهب ليسوّق الفواكه في عمان. عاد متأخرا. وجدها نائمة فلمسها. قالت له مغمضة العينين: قيس، عدت؟ وعندئذ صحت فوجدت زوجها جامدا ينظر إليها. سألها قيس: وبعد؟ ردت: لاقبل ولابعد! لكن قيسا لاحظ الضغينة في عيني الزوج منذ ذلك اليوم. فاعتمد ذلك كي يجعل زياراته متباعدة.

بالأمان الذي شعر به، وبالوقت الممتد في فسحة خضراء، وبالحوار مع البهائيين، اندفع يفكر في الكون. تحتاج الظواهر البراقة والكامدة محورا ينظمها! تحتاج مطلا عليها! وكانت البهائية التي تعرف إليها في العدسية منظومة أفكار، ومنظومة رجال ونساء. مجموعة مشدودة برابطة حميمة، زرعت هذه الجنة. فاخضرت فيها الأشجار وعبق فيها زهر الليمون. بقيت جنة العدسية جنة البهائيين حتى قبيل حرب حزيران 1967 بستة أشهر وقت اتفقوا على الهجرة.

في المساء يجلس قيس بين مجموعة العاملين في مصلحة المياه، تحت أشجار الكينا قرب قناة الماء. يتناولون الزجاجات التي وضعوها في القناة لتبرد ويصبون له النبيذ. فتتندى أصابعه بالكأس. الشراب ممكن هنا في الليل، وهؤلاء ليسوا بهائيين! يستمع قيس، إلى الضابط الروسي الأبيض بيكوفسكي. يواجه منظومة فكرية متماسكة. ليست لديه معلومات مضادة. لكن الهجوم على "البلشفية" يستفزه. يتفرج قيس على لوبا حبيبة الضابط الروسية. الضابط في الستين تقريبا، وهي فتية، شقراء، تحب الخيل، تركب فرس حبيبها وتتجول به طول النهار والضابط ينتظرها. تختفي زمنا ثم تعود إليه أياما. فيتأمل قيس عالما غريبا من الفراق واللقاء. ويتساءل أيكون الحب أحيانا كالأبوة، ويسعده أن تكون المرأة كالوردة التي تعلق على الصدر؟ يسكت الضابط الروسي ويبدأ رياض بالغناء. "سجى الليل حتى هاج بي الشوق". والليل دائما هادئ ساج هناك! ينتشي قيس من الخمر والقمر والغناء، فيلحق مدى يهرب منه، ويتقلب بين الفرح والأسى. يترك في منتصف الليل بيكوفسكي ورياض ومحمدا المهجّر من يافا، ويمشي إلى بيته في درب صغير بين شجرات الكينا وبين بستان بهية وغولروخ.

صادف قيس غولروخ واقفة أمام مدخل بستانها، محاطة بزخرفة البوابة، وبزهر الجهنمية الحمراء. من أية أسطورة حطت تلك الشقراء وسط الربيع؟ التفت إليها سعيدا بلقيته. وانشغل بسعادته حتى أنه لم يلمح ابتسامتها له. تعرفه، أستاذ المدرسة! لكنه لايعرفها! في اللقاء الأسبوعي وجدها مع أختها. فرح كما يفرح شاب وجد زملاء في عمره. واحدة شعرها حالك، وعيناها سوداوان سوادا عميقا. والأخرى بيضاء شقراء. خرج معهما من قاعة مدرسة البنات ومشوا متأنين في الطريق الضيق حتى معسكر مصلحة المياه. تحدثوا كأن كلا منهم يعرف الآخر حتى أن أحدهم نسي أن يقدم للآخر اسمه. هاهو بيتهما! بعد أيام دعته أسرتهما إلى العشاء، ورأى طول المساء بريق شعر غولروخ الأشقر تحت الثريا الكبيرة. صار يختار إلى بيته الطريق الذي يمر بمزرعتهما. هل كانتا تنتظرانه قرب البوابة؟ دعتاه إلى البستان، وجلسوا تحت شجرة برتقال. صار بعد السهرة قرب قناة الماء، يعبر الحاجز إلى بستانهما ويتقدم بين أشجار البرتقال من بوابة البيت الداخلية. يتجاوز النخلتين ويرمي حصاة على نافذة الغرفة التي تنام فيها الأختان. فترفعان قضبان الحديد التي فكّتاها، وتقفزان منها إلى بستان البرتقال. لولاه لما استمتعن بالليل. فالليل للفتيات نوم أو سهر وسط مجموعة. هاهن يذقن سحر الليل مع شاب في عمرهما. أنشدوا تحت شجر البرتقال شعر الخيام بالعربية والفارسية، وتأملوا القمر، وثرثروا، استمتعوا بسعادة لاتسمى. عم تحدثوا؟ يتذكر فقط أن كلا منهم حكى عما يشعر به في تلك الليلة، ونشر روحه صافية كثيرة العواطف دون أحداث كبرى في الحياة. وأنهم ضحكوا وكان سعيدا كأنه يركض في مرج. وانساق قيس وراء عيني بهية وشقرة غولروخ.

من روى كل ذلك لهوية؟ من تبين أنه اختار غولروخ؟ قالت له: إذا سمعت أن العاهرة غولروخ تقابلك سأكسر رجلها وأعيدها إلى ايران! هاهي إذن هوية حاكمة العدسية! وهو إذن سجينها! في حياته كلها لم يكبح غضبه، لكنه كبحه يومذاك كي يحمي غولروخ. رد: لاتسعى إلي، أنا الذي أقصدها! قالت: لاتدافع عنها! ليست عذراء! لسنا راضين أيضا عن أخيها! يقامر ويشرب الخمر في الشونة!

روى قيس لغولروخ حديث هوية. فارتجفت من الخوف: تستطيع أن تعيدنا إلى ايران! سألها: والقصة الأخرى؟ أحبها ثري من أثرياء العدسية وعدها بالزواج. لم يف بوعده. أسرتها أفقر سكان العدسية وهو من أغناها. لكن كيف تعرف هوية تلك التفاصيل؟!

خيل لقيس في البداية أنه يحب بهية، الحنطية، ذات العينين الكبيرتين السوداوين. لكنه تبين أنه يحب غولروخ. بررت انصرافه إليها معرفتها الخيام، ودروس الفارسية! بدأ يقرأ عمر الخيام بلغته معها. وبالخيام اكتمل زمن العدسية. ترنم مع غولروخ بالرباعيات التي سيقرأها فيما بعد بترجمة فيتزجيرالد إلى الإنكليزية. تعلم الفارسية، كما تعلم بعدها اللغات الأخرى، من النساء! صدق من قال، اللغة تحت عباءة المرأة! تعرف المرأة دقائقها، تفاصيلها، خفاياها ونكهتها. فتعلّم الشاب كما تعلم  الطفل. لاتهب المرأة الحياة فقط! تهب النطق، الوعي، رموز الأشياء، أسماءها وصفاتها، جوهرها! تفتح كف الولد والرجل وتضع فيها الخيط ليطلق طائرته ويرتفع بها!.

صارت غولروخ تخرج إليه وتحرسهما بهية. هل توجد شجرة ليمون لم يجلس تحتها في القمر وفي العتمة، والزهر يعبق في الجو، والهواء نفسه يفوح!  آه ياشجر البرتقال! هل كنت ترش عطرك على امرأة معينة أم على جنس النساء المقدس، آلهة البشر القديمة، وكل من عاش من النساء ومن لم يأت بعد منهن؟!

ربما أخذته غولروخ لأنها بيضاء شقراء. فهل كان ذلك حبا؟ أم كان دهشة التعرف إلى المرأة، افتتانا يجمع شعر الخيام وعبق البيارات وأفراح الحياة المستترة، ويحاول أن يمتد منها إلى المستحيل ويستشف المجهول الممكن؟ قالت له غولروخ والقمر يفوح بشذى الزهر: اذهب إلى محفل عمان لتصبح بهائيا كي نتزوج! يصبح بهائيا؟ تحدثا مرة أخرى عن البهائية. قيس معجب بمكانة التعليم عند البهائيين. معجب بنشاطهم وتضامنهم. لكنه مايزال يبحث في فكرهم. أوصلت له غولروخ كتبهم لكنها لم تعطه قرآنهم. كان الحوار عن البهائية مخلوطا بالحب. أراد قيس أن يسألها عن شوقي أفندي فوضعت كفها على فمه. سألها: لماذا؟ قالت: سيسمعك! سألها: يسمعني؟ كيف؟ قالت: يعرف كل شيء، ويسمع كل شيء! قال لها: إذا كان يسمعني فهو يعرف إذن أننا معا الآن؟ يعرف أني أحبك؟ هس! لاتكفر! أكفر؟ بمن؟ بدأت البهائية تنزلق عن كتفيه قبل أن يرتدي رداءها. لكن ظلت أمام عينيه المستوطنة الصغيرة الخضراء التي أنجزها البهائيون.

نزل المطر في ذلك اليوم. فجرّته غولروخ إلى الإسطبل. تحسسا في الظلمة قناة التبن التي يأكل منها البقر. واختلط التبن بجسميهما. دامت تلك السعادة حتى سمعت خطوات أخيها عائدا من الشونة. صادف المطر فساق البقرات إلى الإسطبل. وضعت غولروخ كفها على فم قيس! لا، لم يشعر بهما! أدخل أخوها البقر في الظلمة، أغلق الباب وخرج. وعنذئذ انفجر توترهما ضحكا. ضحكا، ضحكا. قد يخطر لبقرة أن تأكل التبن من القناة! فهل تعضهما؟ افترقا تلك الليلة في صعوبة. فهسهسة التبن وصوت المطر ورباعيات الخيام اختلطت بسعادتهما. نظفت غولروخ نفسها من التبن تحت شجرة برتقال ثم نقرت الزجاج لأختها فرفعت لها قضبان النافذة. وتمهل قيس في طريقه إلى غرفته. يعرف أن الرجل الهرم الذي يسكن معه في البناء نفسه سيفتح الباب منذ يسمع خطوته على الدرج، وسينظر إليه نظرة تقول إنه يعرف مغامرته. كان ذلك الرجل دون عمل، ينفق عليه المجمع البهائي. عاد قيس ببعض القش على شعره وقميصه، جمعها كما يجمع زهر البرية وصفّها على طاولته.

بعد تلك الليلة قالت له غولروخ: يبدو أني حامل! لم يكن في كلماتها أسى. لايزال الشباب في أوله، والمدى أمام العينين! هل كانت تخمّن أنها ستهاجر وستصبح محامية مشهورة في نيويورك؟! رتبت هي موعدا مع طبيب في إربد وأخبرت قيسا. طبعا، لن يرافقها إلى الطبيب! سيلتقي بها  بعد الإجهاض. التقى بها في ظاهر البلد. مشيا وذراعه في ذراعها. ثم ذهبا إلى مصور صورهما معا. هبت الخمسينيات على كل شيء، فتّحت العلاقات بين الشباب والشابات. لم يستطع التزمت أن يلجم العشاق، أو يغلق المساقي والمقاهي. كانت تلك سنوات الحلم للأفراد وللشعوب! فشلت المظاهرات أحيانا، طوقت أحيانا، لكن روح الزمن خفقت في الشوارع والمدن والبيوت وفي علاقات الشباب.

بعد خروج قيس من العدسية زار مرات غولروخ. انتظره سائق التاكسي في الشونة حتى الساعة الثانية في الليل. لكن هوية هي التي استطاعت أن تتبعه إلى بلده، وتستعيده أحيانا. كانت الأقوى والأغنى! فمن أحب منهما؟ لعله أحب جميع النساء اللواتي عرفهن. استبقى من كل منهن ذكرى جميلة. كان محظوظا بالنساء، كما تنبأت له الغجرية على شاطئ بحيرة طبرية! وكان الفراق في حياته قدرا، كاللقاء. ينهي العلاقة، لكنه لايطوي الذكرى. لم يقل كالرجال: لماذا سلمتني نفسها؟ قال: أحبتني! لم يقل: أريد أن آخذ منها! قال: أريد أن أعطيها! وكان يستمتع وهو يعطي السعادة لنسائه ويفتتن بذلك. فتميز عن رجال الشرق الذين يدينون المرأة التي يأخذونها. ويتصورون أنهم قنصوها. لكنه مثلهم قرر بينه وبين نفسه أنه يجب أن يكون أول رجل وآخر رجل تعرفه المرأة التي سيتزوجها.

قبل حرب 1967 بستة أشهر تقريبا، قرر البهائيون الهجرة من العدسية باعوا أملاكهم وهاجر بعضهم إلى أمريكا. هاجرت غولروخ إلى نيويورك. خلال الحرب ركز القصف على بيوت العدسية المبنية من الحجر الأسود.  فلم يبق من بيت بهية وغولروخ سوى مدخل البيت الداخلي وإلى جانبه النخلتان وسط بستان الحمضيات، والمدخل الخارجي وقطعتان من السور على جانبيه، حيث رأى قيس غولروخ أول مرة. بقي سليما بيت هوية، ومدرسة الذكور ومدرسة البنات وبعض البيوت الأخرى. بقي من البيت الذي سكن فيه قيس جدار. وبساتين الحمضيات.

يأتي البهائيون اليوم من محفلهم الكبير في حيفا ليزورا العدسية. من أمريكا يأتي بعض من عاشوا في العدسية.  لكن غولروخ  لم تأت أبدا. يملك العدسية الآن بيت واكد بحق الشفعة. يستقبلون الزوار في البناء الذي كان مدرسة للبنات ومحفلا بهائيا. ويروون لهم مصائر سكانها القدماء. رووا لقيس: توفيت بهية، سيدة العدسية، وتزوج زوجها امرأة أخرى، ودرست بنتاها الموسيقى في ايطاليا وبقيتا هناك. أصبحت غولروخ محامية مشهورة وغنية. وهاجرت لور إلى أمريكا.

وصل قيس بعد أربعين سنة، كالزوار إلى العدسية. كان الربيع يفرش الجبال بخضرة رقيقة مرقشة بأزهار  "زر الذهب" الصفراء. أثار فيه جمال الجبال طول الطريق بهجة تختلط بالدهشة. في هذه الأمكنة مسارات حياته! انحدرت السيارة في طرقات جديدة. هاهو الآن في منطقة حدودية! قف! جوازات السفر! فتش الجنود صندوق السيارة. ثم: سر! في مدخل العدسية مخفر آخر، فالعدسية تلاصق الأرض المحتلة. سأله المخفر: إلى أين؟ واستبقى عنده جواز سفره ضمانة لعودته!  يقول أراغون: لايوجد حب سعيد! لكن هذا الحب المخلوط بالحزن غير ذلك!

تفرج على العدسية، وهتف: ياللجمال! هذه هي القرية الحلم! البيوت من حجر البلد الأسود. تحت أشجار الكينا الباسقة على حافة الطريق ظل كثيف ومجرى نهر جف. مدى من أشجار الحمضيات! مدى من الهدوء والنضرة! حياة بعيدة عن حضارة الإسمنت. هاجعة عند الحدود بين مخفرين. في المخفر الأول جوازك رهينة، وبعد المخفر الثاني يمنع العبور: الأرض المحتلة!

خيل لقيس أن ليلى معه، يكشف لها صباه كي تكون قريبة منه يتحادثان كزميلين، يبحث معها عن بيوت محبوباته القديمات وأصحابه. ويضع على كفها تلك القطعة من عمره. فرحه بأن قرية بقيت كما كانت في زمن يتبدل وينزلق فيه كل شيء، وتعاد فيه حتى صياغة الخرائط! ياللنظافة والجمال! ياللحضارة! جلس على جذوع الكينا الضخمة وأصغى لتغريد شحرور. وعندما ابتعد الشحرور نهض ليتجول. لم يتبدل الصالون الواسع في مدرسة البنات. تسرب الضوء الواهن من نوافذه الطويلة، ودثرته الرطوبة. كم يناسب هذا النمط من البناء بيئته. تتقدم بيت هوية ذا الحجر الأسود الدرجات نفسها! غطى العشب بوابة مزرعة غولروخ وبانت منه قطعة حديد مزخرف. لكن مدخل بيتها وسط البستان يجذب النظر: مدخل من الحجر إلى جانبه نخلتان باسقتان، مدخل إلى لاشيء! كأن البيت تبدد في الهواء! بقيت الإشارة والذكرى وسط أشجار الحمضيات! من سياج بيت بهية قطف قيس غصن جهنمية حمراء سيجففها ليقدمها لليلى يوم يلتقيان. وستقول له شكرا ياقيس! سأحتفظ بهذه الأزهار من بيت حبيبة قديمة، من قرية سنوات الشباب!

قال قيس لأصحابه في ذلك المساء: نتهم أحيانا بأن ذكرياتنا عزيزة علينا لذلك تصور لنا البلاد أجمل مما كانت حقيقة! لا! كانت الدنيا نظيفة وخضراء أكثر مما هي اليوم. في ذلك الزمان كانت الرغبة بالعلم والجدة جارفة، دون أن تقتلع التراث الجميل. كان الناس أكثر رحابة وتسامحا، وأقل تزمتا. كان الوقت للحب والغناء وتذوق الحياة. من يسهر اليوم في القمر تحت شجر الكينا ويغني "سجى الليل"؟

 

 

لور، المعلمة في مدرسة البنات في العدسية، في عمر قيس. بيضاء، شقراء، رائقة، ناعمة. غرفتها في الطابق الأول خلف القاعة الواسعة، تحت المحفل البهائي. تحيط بالمدرسة أشجار البرتقال والليمون واليوسف أفندي. في منتصف المسافة تقريبا بينها وبين مدرسة الذكور في الجهة الشمالية أشجار الكينا الباسقة حيث تخيم مصلحة المياه حول النهر. في غرفة لور فونوغراف و"كوانات". تستطيع لور براتبها السخي من البهائيين في العدسية أن تساعد أهلها، وتشتري أسطوانات، وأن تحلم. هل يساعدها قيس على الحلم؟ رأته أول مرة ماشيا تحت أشجار الكينا الباسقة. في المرة الثانية رأت تلك القامة الرشيقة أمامها عند باب المدرسة. شعرت أنه قاس قامتها بقامته. فاحمر وجهها وخفضت عينيها، وهمست لنفسها: احمني يارب من الحب! تعرف أن هوية تهواه! من يمنع نفسه عن حبه؟! شاب في العشرين، لاتسنده عشيرة أو غنى، لكنه يخفق معتدا بنفسه، وينشد الشعر.

صادفته مرة أخرى أمام مدرستها. صادفته؟ دعاها لتمشي معه. ارتعشت لكنها قالت لنفسها: نمشي في الضوء! ثم زارها بعد الدروس وتفرج على فونوغرافها وكواناتها، وأسمعته بيتهوفن. مشت مرة في الدرب مبتعدة بين أشجار الليمون والبرتقال، واجفة القلب. شعرت بأنها ستصادفه. وصادفته. مشيا معا والعتمة تهبط. كان فرحا بلقائها؟ كان متوهجا. حكى لها عن زمن الحضارة العظيم، تقمص شعراء الماضي فكأنه عمر بن أبي ربيعة، وقيس ليلى، والأحنف. حكى لها عن سلاّمة المظلومة التي لم ينسب إليها القسّ رغم مافعلت بناسك متعبد! التفتت إليه. أحقا يستطيع أن يعيش حياتهم؟ أنشد أبياتهم المؤثرة، ولحقهم في مصائرهم. كاد يبكيها على عمر بن أبي ربيعة. فصرخت: نفوه لأنه تغزل بامرأة؟! قال لها: انتبهي! مع ذلك كان زمنه زمن الشعراء العشاق، كان الحب علنيا، وفي المدينة كانت مجالس الغناء!

مدت لور كفيها فلفحتهما النار التي تجعله عاشقا طائرا. قالت له وهما يمشيان بين أشجار البرتقال: لم أكن أحب عمر بن أبي ربيعة لأنه تنقل بين النساء! مست قلبه رقتها وحلمها بالحب، فأنشد لها شعر الأحنف:

نام من أهدى لي الأرقا     مستريحا   زادني  قلقا

كان لي قلب أعيش  به      فاصطلى بالحب فاحترقا

أنا  لم  أرزق  مودتكم      إنما   للعبد    مارزقا

هل يضع القصيدة على كفها كي ترددها إذا أرقت؟ سألته بينها وبين نفسها: أنت ياقيس، من منهم؟ عمر بن أبي ربيع الهائم في النساء؟ أم قيس ليلى الذي مات من الهوى؟ أم الأحنف الذي لم يعشق إلا حبيبة واحدة؟ هل سمع همسها؟ استدار إليها وأنشد:

إن المحبين قوم بين أعينهم        وسم من الحب لايخفى على أحد

أجابها؟! عاشق، فمن المعشوقة؟ قرب شجرة برتقال خيل إليها أنه عانقها. أغمضت عينيها وفاح الزهر. قال: يفوح زهر البرتقال في الليالي المقمرة أكثر مما يفوح في الليالي المعتمة! خمنت أنه يسهر في الليالي المقمرة مع أخريات. رفعت رأسها نحو القمر، وهمست لنفسها: يكفي أننا الآن معا، وفي الدنيا زهر البرتقال وهذا القمر! وفي ألم ناعم تورد في قلبها حب رائق يغفر لقيس أن يعشق غولروخ تحت شجرة برتقال. ونسيت هوية. تبحثين يالور عن مبرر للذل؟ لو عانقها لاستكانت بين ذراعيه وأصغت لحركة ذراعيه على ظهرها ولحرارة شفتيه على وجهها. ولشدته إلى صدرها، ولمست بكفها ظهره لتشعر بجسمه كله! ولتساءل: تودعه؟! ولأبعدها عنه برهة وتأملها مشفقا. سيراها غدا وبعد غد! أين المهرب منه؟! نظرت إليه صامتة. لايفهم أنها تقص هذه البرهة عن كل ماقبلها ومابعدها! شغله بريق القمر على بشرتها فقال لنفسه: فيها شيء ليس فيهن! وقالت لنفسها: يرحل المحب أحيانا ياقيس، يودع حبيبه وهو بين يديه! أمس جلست قرب النافذة، تنوس بين متعة الاستسلام لحبه، وبين الأسى لأنها ليست إلا واحدة ممن يعرف. وعندئذ مر الشحرور الذي يمر كل يوم. استمعت إليه. وقالت لنفسها: لايغرد الشحرور إلا حرا! هذه السماء الرحبة فضاء قيس!

هل ماتزال لور قريبة من المراهقة؟ رفعت رأسها إلى القمر. هذه اللحظة المدهشة عابرة فلتمسك بها! أليس غريبا أنها لن تفكر في أن الحياة ومض، عندما ستصبح زوجة رجل أعمال غني في أمريكا، والحياة تقترب من مغربها، وتفكر في ذلك الآن؟

في غرفة لور، صار قيس يسمع موسيقاها، ويقرأ لها شعرا. هل انتبه يومذاك إلى أوجه الإنسان المتنوعة، الشفافة والجامحة، وهو يستمتع بصداقة صافية في غرفة لور، وبحب متوهج في بستان غولروخ؟ فيعود رائقا وهو يستمع إلى خطواته على الطريق بين مدرسة البنات وبين مخيم العاملين في مصلحة المياه، ويعود مرتويا سعيدا من بستان غولروخ. تساءل قيس: للور أيضا وجه آخر يشبه هوية؟! تستمتع بسطوة حلاوتها! يحمل لها رجال العدسية صناديق الفواكه من مزارعهم، ويدعونها إلى بيوتهم، ويسألها الذاهبون منهم إلى عمان أو إربد، ماذا تريدين من هناك؟ واستعاد كلمات هوية: تريد لور أن تسحر رجال البهائيين!

بعد الاحتفال الذي حضره عجاج نويهض وأنشد فيه قيس شعرا، عاد قيس مع لور إلى غرفتها. وجلسا إلى أمها التي تزورها. استمعوا إلى الكوانات صامتين. شعرت لور بإعجاب أمها بقيس، كأنها تلمس بأصابعها المخمل. وفهمت أن قيسا سيبقى زمنا وسط أسرتها كبركة ماء وسط بيت شامي.

خرج قيس من غرفة لور نشوان بذلك اليوم. به شوق لأن يعيش قرنا من الزمان، ومستعد أن يموت في تلك البرهة نفسها. كان صاحيا كأن الليل في أوله. لكنه تساءل: هل يسكره عبق زهر البرتقال؟ عبر السكون إلى صوت رياض يغني "سجى الليل" وانسكبت على خديه دموع. مسحها وهو يقترب من مخيم مصلحة المياه. جلس مع الساهرين. تناولوا من الماء زجاجة نبيذ يبردونها وسكبوا له قدحا. شرب، ورافق المغني بصوته الرخيم، وتأخر المغني عنه حينا ليبقى فقط صوت قيس تحت أشجار الكينا يتسرب في الليل كشعاع القمر. على بعد خطوتين كانت غولروخ ساهرة في غرفتها تنتظر أن يرمي على النافذة حجرا صغيرا، لتنزل من النافذة إليه!

في الطريق إلى غرفته مر قيس ببستان الفتاتين. كان القمر في السماء وعلى أشجار البرتقال والسياج والنخلتين قرب مدخل البيت. بدت زخارف حديد السياج واضحة في ضوء القمر. لكنه عبر البستان، ومشى وظهره إلى القمر. ثم التفت، وعاد. عبر السياج والبستان. وقف في ظل شجرة برتقال ورمى حجرا على النافذة فارتفعت. كيف يستطيع أن يميز بين حبه النساء وبين حبه نفسه، والحياة، وهذه القرية، وهذه الدنيا؟ آه لايستطيع! ليس حبه المرأة إلا تجلي هذا الحب المترامي الأطراف! لو توجد امرأة تستطيع أن تجمع له النساء والدنيا!  

كان الاحتفال الذي أقيم في ذلك اليوم في العدسية براقا. حضره عجاج نويهض مدير الإذاعة، الحنطي، المهيب، المقرب من الأمير. في القاعة الواسعة في مدرسة البنات، أمام غرفة لور، وقف قيس وألقى قصيدة. فنهض عجاج نويهض إليه بقامته الضخمة وعانقه: اكتب للإذاعة كل أسبوع! عدني بذلك! أخذه من يده وكانت لور جالسة بين المجموعة. في جريدة ذلك اليوم نشرت قصيدة قيس وفي أعلاها إهداء: إلى لور! تناول عجاج نويهض الجريدة وقرأ بيتا من قصيدة قيس:

        أنا النسر المحلق لست أرضى          بتحليق على غير الأعالي

وقال: لايمكن أن تقال هذه القصيدة إلا في هذا المكان الجميل، ولايمكن أن تكون إلا لهذه الآنسة الجميلة! فاحمر وجه لور، واصفر وجه هوية. في تلك البرهة حسمت هوية قرارها؟

قرأت أم لور قصيدة قيس جالسة إلى طاولة بنتها. يالهذا الشاب الرائع! يالقوامه الممشوق، ورشاقة إلقائه، واعتداده بنفسه! فرح بشبابه، بجماله، بشعره، بأنه محبوب، بأنه محب! كالطفل المدلل، يعرف أنه معشوق! وبدا لها أنه المثل الذي يتعلق به الإنسان، والحقيقة التي تجسد الرجل للنساء. وبعين امرأة في الخمسين رأت كرمه بنفسه، بقلبه وعواطفه، وبماله! وكادت تقول له: لاتستنفد روحك وشبابك! لكنها انبهرت بأنه يسكب نفسه على البرهة التي يعيش فيها، غير مبال بما بعدها!

تعيش أم لور في بيت صغير في إربد: غرفة نوم وصالة ومطبخ وحمام، لها ولبنتيها وابنيها. كانت مثل بنتها لور، شقراء بيضاء، لكنها ممتلئة. فهل قيس هو الذي مد نظرتها لتطال سعة كالعدسية؟ فكتبت مقالة عن التفاؤل للمجلة التي تصدرها المدرسة الثانوية في إربد: "ابتعد عن التكلف والتلفيق واتبع البساطة والراحة تجد كل اللذة في الحياة". هل كانت تعبّر دون بوح عن حبها قيسا  وبنتها لور والعدسية وتلك الأمسية هناك؟ أم عن شفافية أمّ مثقفة وفقيرة؟  

زارت هوية مدرسة البنات وأنّبت لور: لست ناجحة في التدريس! انتقمت من تلك الأمسية مع عجاج نويهض؟ قال قيس لهوية في ذلك المساء: فكري في أسرتها! تعيش على راتبها! لكن هوية أصرت: هذه آخر سنوات لور في العدسية! لكن لور التي تحب الشعر والموسيقى تستطيع الحزن ولاتستطيع الحقد. قرب النافذة كتبت مقالة عن العدسية لمجلة إربد الثانوية: "بقعة من الأرض غناء بأشجارها ومياهها. وحي من الخيال يصدح به الشعر والفن. من الوحدة الأليمة التي تصقل النفس وتهذبها. جو من الهدوء والسكون العميق يثير المشاعر الدفينة ويزيل مرارة العيش، تلك هي العدسية.. إن في علو أشجارها لعظمة الحياة والكون. يؤثر ويأخذ بلبك تناسق مزروعاتها وأزهارها اليافعة. يؤنسك خرير مياهها المتدفقة بين نهرين عظيمين يضمان تلك القرية هما اليرموك والأردن.

إن في نظافة مبانيها وحقولها الخضراء المديدة مايجعلك تكبر أهلها ويدفعك لتقتبس أسلوبهم. بيوتهم مبنية على أحدث طراز ومفروشاتها منسقة بترتيب وأناقة. تنال من اللطف والكرم والعناية منهم ماينسيك الحسد والأنانية اللتين تطغيان على البشرية بأكملها.. إن في كثرة مواشيهم مايوفر عليهم شراء الألبان واللحوم من الخارج. وتتوفر لديهم جميع اللوازم التي يحتاجها الإنسان في كل حين من علاج وسيارة وهاتف ومذياع في كل بيت. وقلما تجد أحدهم يلجأ إلى ملذات الحياة التافهة من مسكر أو ميسر أو لهو وغيره".

خبأت قيسا يالور؟ لم تذكريه! لكنه هناك قرب أشجار البرتقال! يمشي نحيلا ممشوقا تحت أشجار الكينا الباسقة كما رأيته أول مرة! وهو هناك قرب الفونوغراف في غرفتك يستمع معك إلى بيتهوفن.  "جلست أستمع لبعض المتنوعات من القطع الموسيقية، وكان الجو هادئا حالما، فحلقت في سماء خيالي واستسلمت لخواطري ونزعات عقلي الباطن، الذي قادني دون أن أدري في رحلة طويلة ملذة، مارجعت منها إلا شاردة اللب متوترة الأعصاب، إلى عالم الحقيقة المرة. وجدتني في كوخ صغير وسط غابة من غابات ألمانيا، رأسي مخبأ بين يدي وإذا بي أسمع صوتا شجيا خلفي.." قالت لقيس: أحب بيتهوفن! أحلم بأنه يحدثني! لاتعرف أن بنتيّ هوية هما اللتان ستدرسان الموسيقى في ايطاليا وستحادثان بيتهوفن! للور الفقيرة الكوانات والحلم!  

في إربد أصبح قيس ابن الأسرة. عرف أخت لور الصغيرة سوسن، وأخاها وليم. سوسن، شعر فاحم طويل، بياض صاف، عينان سوداوان. وليم يجلس في حضن قيس. تمد سوسن رأسها من السرير وتضعه على حضنه فيسيل شعرها على ركبتيه. تتأوه من الحمى. ويهبّ قيس إلى صديقه الطبيب. تنظر أم لور إليه. لايلام أولادها! كيف تميز في حبهم له بين التعلق بالمثل وبين العشق؟! زارته لور في بيته، وجلست مع أهله. وفي اللحظة التي كانت فيها موجودة لم ير قيس سواها. قال له أبوه بعد انصرافها: الحقني إلى المخزن! هناك سأله: ستتزوجها؟ رد قيس دهشا: لا، يابا! لماذا تسألني؟ أبوه الذي فهمه منذ طفولته وعرضه أمام أصدقائه فخورا به: احك قصة أبي زيد الهلالي! اقرأ سورة مريم! غن سجى الليل! انشد الشعر.. أبوه الذي فهم انتحاره، لايفهمه الآن! لايفهم أن المرأة الموجودة أمام قيس الآن هي التي تستهويه، لكنها ليست معشوقته! قيس مبهور فقط بأجمل المخلوقات وأكملها: المرأة! يتمنى أن يعرف جوهرها الموزع بين النساء!

كان قيس تحت سماء دمشق عندما رحلت أسرة لور إلى الولايات المتحدة. هل كانت الحياة في البلد ضيقة إلى ذلك الحد يالور؟ هل قلت مايقول الإنسان أحيانا: لم يبق شيء، وطويت الذكرى في حقائبك وأدرت ظهرك؟ وهل خمنت أن قيسا سيعود بعد نصف قرن إلى العدسية ويمشي خطواته نفسها إلى غرفتك، ويبحث عن عبق البرتقال، ويستعيد صوتك ولون شعرك وموسيقى كواناتك؟ ثم يعبر الطريق إلى أشجار الكينا الباسقة حيث رأيته أول مرة، ويمر ببيت هوية، ويتوقف عند مابقي من بيت بهية وغولروخ بعد القصف الإسرائيلي؟ وذات مساء سيجد المجلة التي كانت تنشرها ثانوية إربد ويقرأ مقالتك عن العدسية؟ 

لم يفقد قيس هوية فقط. فقد أيضا لور وأسرتها. رحلت إلى أمريكا. كما رحلت غولروخ إلى أمريكا فيما بعد. هل كانت العزيزات على قيس من "الأدمغة" التي امتصتها الولايات المتحدة، عدوته! فكان كمن يوزع ثماره على أعدائه وهو يبشر بمشروعه المناقض!        

 

 

- 18 -

 

لاتنجد البهائية العرب من نكبة فلسطين! لاتقنع قيسا ولاترويه! يبدأ من نكبة فلسطين. جرح من عاصرها، ومقياس من عاش نتائجها. لم ينفد بعد المال الذي كسبه من العدسية! حمل من مكتبة صقر رزمة من الكتب الدينية والتاريخية، والكتب المترجمة، والقصص، والشعر. يبحث عن رؤية يقابل بها البهائية؟ يبحث عما يروي روحه العطشى إلى محور عظيم يعيش به! أمتعه الطبري. أمسك بمحاور الخلاف بين الاتجاهات القديمة. وأذهلته رحابة الحوار بين الرسول محمد وبين النساء والرجال. رفع رأسه عن الكتاب وقال: قدرتنا على فهم النص تتناسب مع ثقافتنا! لذلك يجهل كثير من المتدينين جوهر الدين! يخاطب الإسلام العقل! أبطل عمر الحدّ في سنة القحط لأنه فهم روح النص! عاد قيس إلى القرآن مدققا، وترنم بسورة مريم، وسيظل دائما يتذوقها في متعة. وأدهشه حتى غنى عصور الانحطاط في الحضارة العربية! وقرر: كان الانحطاط سياسيا لكن صناع الثقافة والحضارة وصلوا إلى قممهم!

دكان الحلاق كمكتبة صقر، من أماكن اللقاء بين الشباب. لكن قيسا تبين فيما بعد، عندما حاور الحلاق أن الآخرين سبقوه إليه. فجعلوه يراقب من يرتاد دكانه! ياللمسافة إذن بين الفضاء الذي يتجول فيه قيس وبين هذا الواقع الصغير! ولكن هل يلغي مكان اللقاء؟ بقي يعبر الطريق نفسه إلى الحلاق. يمر بدكان النابلسي، فيدعوه: تفضل ياابني! يجلس قليلا على الكرسي أمام الدكان، يتحدث عما يقرأه، ويشرب كأسا من اللبن. كان النابلسي جميل الطلعة، نظيفا، يبيع الألبان. عرض على قيس ماقاله له ابن أخيه، فرد قيس ووضح وفسر، فقال النابلسي: فهمت أنت، ياابني، الجوهر الذي لم يفهمه ابن أخي! 

قرأ قيس حتى الفجر. ورأى نفسه في نومه في مغارة بابها كالقوس، وهو قاعد في الصدر. دخل رجلان وسيمان سأله أحدهما: ألم تعرفني؟ أنا محمد بن عبد الله، وهذا صديقي أبو بكر الصديق. أفاق قيس مرتعشا من الرهبة. في النهار استوقفه النابلسي. فروى قيس له منامه. جمد الرجل. رجاه: ارو لي الحلم مرة أخرى! رواه. فوضع الرجل يده على كتف قيس وقبّله: يابنيّي، يستطيع الشيطان أن يتقمص من الشخصيات ماشاء إلا شخصية محمد. جاءك حقا سيدنا محمد في المنام! سيرى مثيل تلك الأحلام كثير من الشباب بعد قيس. وسيقول لهم من حولهم الكلمات نفسها. فروح الباحث عن اليقين تنشغل به في النوم والصحو.

انتشر حلم قيس، وصار النابلسي يسقي قيسا كلما مر به كأسا من اللبن، ويسأله هل رأيت حلما جديدا؟ لكن قيسا انصرف إلى بقية الكتب التي اشتراها. فقرأ عن المعتزلة، وقرأ كتب غوته ونيتشه المترجمة. وبدأ يكتب قصيدة عن الايمان والشك قرأها لأصحابه في دكان الحلاق. كم كان الناس قادرين على حفظ الشعر!

في الليلة التي أنهى فيها قصيدته رأى في الحلم أنه مع صديقه صبري الحمود في غرفته في "المنزل" في صفد. من النافذة التي تطل على وادي الطواحين، بدت لهما جموع من الناس تملأ الطريق والسفح في القرب وفي البعد. نزلا راكضين. سأل: ماهذا؟ فقيل له: لاتعرف ماالخبر؟ مات جبريل اليوم! ورأى أشخاصا يحملون شرشفا أبيض، إلى مغارة تشبه المغارة التي رآها في منامه الأول. استيقظ مرتعشا. في النهار روى للنابلسي منامه. فأبعد الرجل كرسيه عنه: أعوذ بالله! يابنيّي مات الايمان في قلبك! في يسر ترمي حكمك علي؟ في ذلك المساء تحدث قيس في النادي الثقافي عن سعة العصور الاولى من الحضارة العربية، وفحص الظواهر بمعيار العقل، وبين أن الجهل هو سبب التقصير في فهم الحلاج وفي قتله. وتلا بعض مقاطع من كتاب الشيخ خالد محمد خالد.

استمع الأستاذ عزيز إلى قيس من مكانه في الصف الأول في النادي الثقافي. وبدا له أنه الوحيد من الحاضرين الذي يتابع تأرجح قيس بين اليقين والشك، ويفهم تنقيبه في الكتب. يبحث هذا الشاب عن قضية حياته! فهل يستطيع أن يوقفه في نقطة لاشك بعدها ولابحث؟ كيف يستطيع أن يكسبه؟ سيسلك إلى ذلك المباح وغير المباح!

بعد المحاضرة، أضيف الحلم إلى قصيدة قيس التي أنشدها في دكان الحلاق. فصاغت مجموعة من الرجال عريضة قدمتها للمتصرف تتهم فيها قيسا بأنه يدّعي النبوة. سأله المتصرف: تدعي النبوة؟! رد قيس: لم يخطر على بالي حتى أن أكون قائد حزب! قال المتصرف: لاتتواضع! قبلت أن تكون نائب رئيس النادي الثقافي! نريد القصيدة! القصيدة؟ لم تنشر بعد! لو كنا أصدقاء لقرأتها لك!

غير قيس طريقه إلى دكان الحلاق، فصار يمشي على الطرف الآخر من الطريق. يلمحه النابلسي ويقول: خسرناه! أودى به المعتزلة! وبقي قيس يقرأ الشعر في النادي الثقافي. ويستمع إليه الأستاذ عزيز! هل يتنافسان على الشباب الذين يحضرون الندوة الأسبوعية؟

صفق الأستاذ عزيز لقيس وطلب منه قصيدته "الحرية الحمراء". لم يستوح قيس أمير الشعراء إلا في العنوان! أخذها من قيس ونشرها في مجلته. قيس مشروع كبير للأستاذ عزيز الذي يشكل حزبا جديدا يريده أن يكون قوميا ودينيا يجمع الشباب. قيس متفتح، قارئ، متوقد، متبحر، يحفظ شعر القدماء. تستوقف الأستاذ صفتان فيه: نشاط لاينفد، وموهبة في تقريب من يعرفه! تكسب الحركة إذا جذب إليها قيسا! لكن في قيس دودة البحث! يسعى إلى فهم الأفكار الأخرى! صادق البهائيين، ويصادق اليوم القوميين السوريين ومجموعة من الفلسطينيين والأردنيين تسمى نفسها أنصار السلام! أوحى الأستاذ بالعريضة التي رفعت إلى المتصرف لأنها قد توصله إلى قيس. لكن طريقه المباشر إليه يجب أن يكون الحوار! يعرف الأستاذ زملاء قيس وزملاء أخيه في المدرسة. يشغله الصراع على الشباب بين الماركسيين والإخوان المسلمين والقوميين السوريين والقوميين العرب والبعثيين. الشباب قوة إذا اهتدى! يتفادى عزيز في حواره الوعظ. يقول: أسلوب لايناسب شباب هذه الأيام المسحورين بشعارات الأحزاب. يلاحظ الشباب غنى الفاسدين وفقر الموهوبين ويرغبون في كسر ذلك الواقع، فليقدم لهم الحل! يحتاج الشباب المثل، فليقل لهم هاهي، مستمدة من التراث الوطني! يحتاج الشباب التجمع فليقل لهم هاهو، رابطة الشباب القومي المتدين! يدرك عزيز أن مالديه من الفصاحة والمعلومات أكثر مما لدى محاوريه. فإذا وجد محاوره مستندا إلى منظومة فكرية أخرى جره إلى باب مغلق: النص!

جلس الأستاذ عزيز وسط حلقة من الشباب. قال: شبابنا اليوم حائر لايستبين الطريق، شاك لاتسعفه روح اليقين، متطلع لاتواتيه وسائل الطموح... وللشباب عذره في ذلك فقد نشأ في جو موبوء. فهم الدين على وجه معكوس، وعرفه طقوسا تتلى ورسوما تتعبد. وفهم القومية كرداء فضفاض. وأحاط به مجتمع منحل، رجاله منغمسون في ماديتهم، ملوثون في أفكارهم، طبقة مستبدة تتحكم في طبقات، واقتصاديات متدهورة، وأراض مهملة لاتتعاون فئات الأمة على استغلالها، ومعاملات بنيت على الغش والخداع، وإغفال عناصر الرقي، وتنكب عن طريق المجد السوي، فأورثته كل ذلك الشك القاتل ومن ثم ألحت عليه عوامل اليأس من المحيط الخامل والأمة الغافلة.

ولو نظر الشباب إلى مابين يديه من مقومات المجد لانسربت الطمأنينة إلى جوانبه.. ولن يستطيع أن يطمح إلى مجد أو يرقى إلى عز إلا إذا آمن واعتمد على قادته.. فأزيلوا ياشباب عن القلوب ظلمة الشك في مقدرتكم وهيئوا أنفسكم لتحققوا وعد الله "ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض فنجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين ونمكن لهم في الأرض". وإن نكصتم وجبنتم عن رفع مشعل النور فاسمعوا نذير السماء!

في النادي الثقافي قال قيس للأستاذ عزيز: لاتتقدم اوربا علينا وتقتحم بلادنا واقتصادنا لأنها مؤمنة بديننا أو بدينها. انقسام المجتمع إلى فقراء وأغنياء يحسم بالصراع! أرضنا دون مشاريع الري ومدننا دون مصانع كبرى لأننا بلاد اقتسمها الغرب. ردّ هذا القدر عنا يحسم بالصراع!  ولذلك توجد أحزاب ومنظمات تتبنى منظومات فكرية وتضع برامج. هذا الواقع هو الذي تموهه ياأستاذنا! وصفت بعض مانعرفه في الواقع الفاسد، لكنك لم تبين الحل!

تأمل عزيز قيسا. هذا الشاب انتصار أو هزيمة لنا في هذا البلد! قال: لاوقت للحوار هنا! سأتصل بك! طلب اللقاء بقيس بعيدا عن النادي والمستمعين. والتقيا في بيت يزيد. هما الآن قطبان في مدينة! عزيز قوة بين مريدين يسحرهم ببلاغته ولغته ومشروعه. وقيس يجر شباب النادي بقصيدته ومسوّدة مشروعه! سيجري حتى الكهول فيما بعد إلى المظاهرة التي يخطب فيها ليستمعوا إليه! لأنه سيصوغ مايستهويهم، وسيبهرهم برشاقته وجرأته! سيصفه الآباء لأبنائهم بعد عقود من السنوات، وهم يحكون كيف كانوا يركضون إلى أي تجمع يدعو إليه. وسيقول أحد أصدقائه بعد أربعة عقود لرجلين من زواره عندما يدخل قيس: أتعرفون من هذا؟ قيس! فينهضان: أنت؟! كنا نتبعك مسحورين، مع أن ذلك كان يعني الضرب أو السجن! كيف سيكون اللقاء بين القطبين؟ عزيز قومي، فقيه، مطلع على التيارات الفكرية، عارف بمشاريع الأحزاب، قارئ دؤوب. وقيس يحفظ القرآن والحديث، ويعجب بالمعتزلة وبالحلاج والمتصوفين. سيقول الفلاحون لمن يردهم عنه: يعرف القرآن أكثر منكم ومنا! وسيقول زملاؤه مازحين: يعرف التاريخ العربي أكثر من المستشرقين!

في الغرفة المغلقة بينهما فقط يزيد، الطالب الشاب، زميل أخي قيس في المدرسة، أحد مريدي الأستاذ. الحوار صريح لاتقيده الضرورات التي تمنع قيسا عن موضوع، أو تمنع اعتراف عزيز باجتهادات السياسيين والمفكرين وبسحر المسرات الدنيوية. يريد عزيز أن يكسب قيسا! لو استطاع لملك داعية إلى حزبه الجديد! لذلك اندفع في مناقشة لايمكن أن يجري مثلها خارج الغرفة. لاعزيز يريد أن تسمعه جماعته، ولاقيس يريد أن يسمعه أصحابه. أحدهما مقابل الآخر، ويزيد بين قمتين. قال عزيز أخيرا: ياابني، كن معي على الأقل لتربح الجنة! ياأستاذي، يمنع ديننا الحنيف أن يمثل الله عبد من عباده! وكيف تعرف أنها لك والعمر مايزال ممتدا للخطأ والصواب؟ لن يستسلم عزيز مع أن الحوار كان يبعد كلا منهما عن الآخر.

عصفت الريح خارج غرفة يزيد. سلخ المطر النافذة. كان الليل قد تجاوز منتصفه. وعوت كلاب بعيدة. نهض عزيز: لم يقنع أحد منا الآخر هذه المرة. لكننا سنلتقي مرة أخرى إذا وافقت. أعترف بأنك مطلع على مايهمني! أتمنى أن أكسبك إلى طريقي! رد قيس: سنلتقي. لكن لاتبحر في الأحلام ياأستاذي!

فتح عزيز الباب فتدفقت الريح ولمع البرق. استعد قيس للخروج بعد عزيز. قال له يزيد: ستذهب في هذه العاصفة؟ فلتبق الليلة هنا! قيس ويزيد في عمر واحد تقريبا، من جيل واحد، أبناء مدينة صغيرة واحدة. لم يتكلم يزيد خلال حوار عزيز وقيس. لكن صوته يلعلع بين الشباب، فيقولون: حامل أختام عزيز! إذا قلنا اللبن أبيض قال أسود!

يمكنك أن تبقى! فكر قيس برهة. وومض البرق في الغرفة. لاتوجد في البلدة طرقات مزفتة. يعود قيس من زياراته عادة محملا بالوحل. ففي أي وحل سيغوص الليلة إذا خرج من بيت يزيد؟! وإذا بقي؟

أضاء الغرفة برق خاطف. وفي البرهة نفسها ومض برق آخر. قال ليزيد: سأبقى! ابتهج يزيد؟ 

في الغرفة نافذة، كراس، وسرير واحد. لبس يزيد بيجامته، واستلقى في طرف سريره. وخلع قيس قميصه. ومض البرق مرة أخرى في الغرفة. اقترب قيس من يزيد، لمسه، فابتسم يزيد له.

في الكتب القديمة: تروى حكاية رجل أخذ من السبايا "جارية" بعد المعركة. قبل أن يطأها استعيدت منه. في المعركة الثانية لم يترك "الجارية" التي سباها للغد. وطئها خوف أن تستعاد منه! كان الوطء يرسخ الانتصار؟ انتصار من يرسخ في هذه الليلة العاصفة؟ لماذا لايوجد شريكان بل آخذ ومأخوذ؟ يفتل شاربه من يطأ، ويداعب من يختار صبيه! دخل البارودي إلى جمع من الناس بينهم صبي جميل. استحلاه فقبّل الجميع واحدا واحدا حتى وصل إلى الصبي. نفر الصبي منه فقال البارودي: تحملت لأجلك كل هؤلاء البشعين! فضحك الحاضرون. يزور البارودي في حارة قولي في سوقساروجا، رفيقا الذي يعزف على العود، فيضحك أهل الحارة: يستحليه! يترقرق الشعر العربي في الغلمان. تسحر أبا نواس فتاة تحمل الخمر في زي صبي. لكن ذلك بعيد عن الصراع السياسي! ذلك بعيد عن العسكري الأسود الذي وطئ في السجن بعض الإخوان المسلمين. فمشت في دمشق مظاهرة جامعية أدانت تعذيبهم في سجون مصر! في هذه الليلة العاصفة سجل قيس انتصارا على منافسه بالمعايير السائدة في بلده. "كسر عين" خصمه! انتصرت ياقيس؟! لماذا لم تعلن انتصارك إذا كنت تزهو به؟ 

تأوه يزيد كالفتيات تحت البرق ودقات المطر في الليلة العاصفة. سأله قيس: لازلت مؤمنا بالأستاذ عزيز يايزيد؟ رد يزيد: نعم! ياقيس، هل تعجبك أختي؟ رد قيس: من لاتعجبه! جمالها حديث البلد! قال يزيد: تزوجها إذن! زلزلت روح قيس: تريدني لأختك كي أبقى معك؟! أم معكم؟ منذ هذه الليلة لن يرفع يزيد عينيه إذا صادف قيسا! لكن رسائله ستصل إلى قيس في برهة حاسمة في ظروف أخرى!

بقي ماجرى بين قيس ويزيد سرا. لكن قيسا لم يتساءل: هل كانت تلك الليلة مشروعه فقط أم مشروع يزيد والأستاذ؟ ولم يتساءل أيضا هل يجوز أن يكون الصراع بين المتنافسين دون معايير الفروسية؟

في  سأل قيس أباه: مارأيك في يزيد؟ رد أبوه: شاب متبحر في العلم، رغم وقاحته. يمتعه أن يضيّق الايمان كلما وسّعته. اعترف قيس لأبيه فقط بماحدث بينه وبين يزيد. ذهل أبوه ثم أشعل سيجارة: حدث ذلك؟! نعم يابا! ولاأفخر به! تاه أبو قيس بين "زلة" ابنه، وبين فجيعته بيزيد. سأله قيس: غضبت علي؟ بعد زمن أجابه: ليحمك الله من مثلها! كانت عادة يزيد أن يتلو آراءه في مضافة أهله كأنها أحكام قاطعة لاتحتمل المناقشة. وكان تطاوله على الكبار يغضب أبا قيس. انتهى ذلك الزمن يايزيد! قال له أبو قيس وهو ينظر في عينيه: اسمع، قلت لك ذلك غلط! فهمت؟ ذهل يزيد من قسوة أبي قيس عليه. ثم فهمه، فخفض عينيه. رجع أبو قيس إلى بيته مستمتعا بخلاص المضافة من غطرسة يزيد. في برهة انتصاره، فقط، قال لنفسه: أحسنت ياقيس!

 

 

- 19 -

 

مشروع الأستاذ عزيز صغير على قيس الذي يلوب كالشباب منذ نكبة فلسطين متسائلا لماذا ضاعت من العرب أراضيهم وهم كثرة؟ لماذا وقف العالم ضدهم؟ لماذا.. ولماذا .. ولماذا؟ كيف يؤسس مجتمع جديد وقيادات جديدة؟ استعادة مجد العرب؟ كيف؟ لايكفي استيحاء الماضي! بالماضي نقاوم إسرائيل التي تزرع مستوطناتها بآلات حديثة وتبني مدنا معاصرة وتستخدم بنوكا اوربية؟ سيبقى قيس مفتونا بالشعر العربي القديم وشذى القرآن. لكن كيف يفسر كارثة معاصرة بعقل معاصر؟ وبأية معاصرة يقابلها؟ ماالعمل؟ 

هل يوحي كل زمن بأجوبة كما يوحي بأسئلة؟ هب نسيم من سوريا! وهب من مصر. بيّنت أول مذكرة للقيادة المشتركة أهمية الأردن وصعوبة الجبهة السورية وبعد المصرية. يجب أن تنضم الأردن للقيادة المشتركة. كيف؟ وهل يمكن ألا تهب على الأردن ريح الخمسينيات، وهو استمرار حوران، جنوب سوريا، ونصف عائلاته في الشمال ونصفها في الجنوب؟   

في مقهى في عمان عرفه رفيقه فائز بمجموعة من الفلسطينيين. بحث مثل بحثك ياقيس هز عصبة العمل الوطني في فلسطين. نحن مجموعة صغيرة تقاوم استكمال هزيمة العرب بالقواعد العسكرية. نكتب نشرات ونوزعها. ممنوعة طبعا! نقاوم القواعد والأحلاف العسكرية التي يقترحها من خلق إسرائيل! بدأ مشروع سوريا الكبرى من هنا ليفقد سوريا استقلالها! سقط مشروع الهلال الخصيب الذي رعته العراق. والآن يجب أن يسقط حلف بغداد! خلال هذا الصراع يتغير الناس والمجتمع والقيادات. لاقيمة للفرد وحيدا ياقيس، البركة في الجماعة! هل كانت تلك المجموعة تحتاج فردا مثل قيس، ماهرا في خطاب الناس، يجمع حوله جمهور النادي الثقافي في بلده، وأصدقاء من أحزاب واتجاهات متنوعة!

لم يعد العالم مغلقا في صراع لاأفق له. بل أصبح للصراع ناظم تتحرك به المجتمعات من شكل إلى شكل. الإنسان هو صاحب هذا الكون وهو الذي يجب أن يقرر مصير مجتمعه. لكن الإنسان فردا لايبدل الوضع الراهن. تبدله الحركة الواعية التي تقودها الطليعة إلى مجتمع متقدم، فيه حريات سياسية واجتماعية وفكرية، والثقافة فيه حق الناس! هذا مايريده قيس! وجد الجوهر الذي يبحث عنه! هل كان ذلك كله ساذجا وبسيطا؟ لماذا يجب أن تسلك الحقائق الطرق المعقدة؟! سيعرف فيما بعد أكثر مما عرفه الذين حدثوه عن خفايا الأحلاف وعن الحرية والقومية والاشتراكية وتطور المجتمعات البشرية. لكنه اكتفى بالجوهر! وجد قضية يرتمي فيها بروحه كلها. سلم قيس مصيره للخمسينيات المجيدة والدامية. وخيل إليه أن بلده سيتبدل قريبا في حياته نفسها. وبدا له أنه هو نفسه أصبح جديدا، مختلفا.  لكنه لن يعرف إلا فيما بعد أن المجتمع الذي رفضه أسس جزءا من روحه وطباعه. 

تدفق قيس متحمسا. يريد أن يشرك من حوله باكتشافاته؟ قال في محاضرته: لن يرد الحق إنجيل ولامصحف، جرنا للبؤس الغرب الذي شيد على أشلاء موتانا دويلة السلب. ولن نرده إلا بمقاومتنا قواعده العسكرية! صفق له الجالسون والواقفون. جروه أو جرهم إلى مظاهرة كبيرة تضامنت مع المصريين الذين تظاهروا ضد المعاهدة البريطانية.

يقصدون المعاهدة البريطانية في مصر أم يقصدون المعاهدة البريطانية هنا؟! في اليوم التالي فتشت الشرطة بيت قيس. فوجدت نشرات ضد القواعد العسكرية، وكتاب أندريه جيد "مات الله". مات الله؟ أنت ياقيس إذن أكثر مما نعرف! أنت عضو في حزب سري!

لكن لايوجد "حزب الشعب الديمقراطي" بعد! توجد مجموعات "الديمقراطية" من فلسطينيين لجؤوا بعد سنة 1948، وأردنيين درسوا في الجامعة الأمريكية في بيروت وفي الجامعة السورية في دمشق لمّتهم مقاومة الأحلاف. لايعرفهم قيس، لكنهم سيرتبون الدفاع عنه! 

حوكم قيس بعد ثلاثة أشهر مرت عليه في السجن. رئيس المحكمة بهجت التلهوني، الذي صار فيما بعد رئيس وزراء وعضوا في مجلس الأعيان. محاميا الدفاع شفيق رشيد، الذي أصبح فيما بعد وزير عدل ثم سكرتيرا عاما للمحامين العرب. وصلاح الدين ، الفلسطيني. بين يدي القاضي المستمسكات التي ضبطتها الشرطة عند قيس. 

قال المحاميان المدافعان عن قيس: أولا، لايمكن أن يكون موكلنا عضوا في حزب الشعب الديمقراطي لأن هذا الحزب غير موجود! ثانيا، كتاب "مات الله"، المستمسك ضد موكلنا، كتبه أندريه جيد ليبيّن فيه أن مثله الأعلى، الاشتراكية، مات. الكتاب إذن ليس كتابا دينيا، وليس دليلا ضد موكلنا، بل معه. يالحرج المحكمة! كان قيس قد أنهى ثلاثة أشهر في السجن. فحكمت عليه المحكمة بالسجن ثلاثة أشهر. نقل من المحكمة إلى السجن مباشرة، سلموه أشياءه وأطلقوه. لكن الشرطة ليست المحكمة! أفلت منها اليوم لكنه لن يفلت غدا! يهددونه؟ لايبالي بهم! وجد محور حياته، ولتعصف العواصف! ولن تكون المرأة، المخلوق الجميل، غير عنصر فقط يواكب هاجسه الكبير، الوطن، حتى يمتنع عليه!

استقبل قيس المهنئين بخروجه من السجن. احتفى به غرباء لايعرفهم. وتفرج عليه شباب كما يتفرجون على بطل. عبق في بيت قيس انتصار بدا كأنه انتصار على حلف بغداد نفسه. تحدث رجل حديثا هادئا عن حركة التحرر الوطني التي تحرك آسيا وإفريقية وأمريكا اللاتينية، وتتوهج في الآرض العربية. قال في نشوة: لكل زمن سمة. وسمة الخمسينيات أنها للأستاذ عزيز مجموعة مريدين، ومشروع حزب، لكنها لنا ولقيس فضاء! اكتشفت الشرطة علاقة شيخ الجامع في قرية قرب إربد بالشيوعيين، وقيل بالبعثيين، فربطت رقبته بلفته وجرته في الشوارع. مع ذلك وقف المختار وقال للشيخ البديل الذي شتم البعثيين والشيوعيين في صلاة الجمعة: اسمع! نصف هذه الضيعة شيوعي ونصفها بعثي، فالزم حدّك! وعندما تحدث الشيخ عن الملائكة التي تنقل الأخبار وقف رجل من المصلين وقال له: تجعل الملائكة كالمخبرين؟! عيب، ياشيخ! سمى السياسيون هذه الأيام زمن نهضة حركة التحرر الوطني! يجب أن يسموها سنوات البريق!

وقت كنت في السجن ياقيس، لم يكن لدى مصطفى الذي أرسل إلى الإتحاد السوفييتي سنة 1917 برقية باسم "الحراثين"، بطاريات راديو. فاخترق الطريق الموحل ودق الباب على جاره: نمت؟ لا! خير؟ يجب أن أسمع الراديو! أضاء جاره الفانوس وجلسا يبحثان عن المحطات. هاهي! استمع الزائر إلى الأخبار. بعد الأخبار نهض لينصرف. سأله صاحب البيت دهشا: أذاعوا ماأتيت لأجله؟ نعم! لاتزال الأحلاف العسكرية معروضة لكنها لم تنتصر! ظنه أتى في الليلة العاصفة ليسمع خبرا عن نجاح ابنه في الشهادة! نسي أن الرعيان يحملون في هذه السنوات الخمسينيات الترانزيستور ليسمعوا الأخبار.

روى رجل آخر أن ابن عم مخلص، الذي فصله عرفان من عصبة التحرر، وسيقتل في السجن فيما بعد، ضابط الشرطة، صادفه في الطريق: اعطني نشرة جماعتك ضد القواعد العسكرية! فرد: تجرؤ؟! قال له الضابط: الله يسامحك! مقبولة منك! خذ هذا الدينار مساعدة لهم! فرد في كبرياء: آخذ منك مساعدة!! وعندئذ روى قيس أن أحد رجال الشرطة الذين فتشوا بيته طلب أخته للزواج "كي يكون لأولاده خال شجاع"! 

عند الباب همس الرجل الذي أتى بوفد المهنئين: كن حذرا! نريدك خارج السجن لاداخله! البطولة أيضا أن تحمي نفسك منه! لكنه كلفه بتنظيم مظاهرة يمكن أن توصله إلى السجن. فهمس قيس مرحا: توصل الدروب كلها اليوم إلى هناك!

كشف قيس موهبة منظم ماهر ودقيق. فكانت المظاهرات تتجمع هادرة وتذوب كالملح عندما تتفرق. لكن قيسا وسط حماسته لم يستطع أن يجمع الرحمة إلى الحزم! كلف شابا بأن يبدأ الهتاف في المظاهرة التي ستتجمع وقت خروج المصلين من المسجد ضد القواعد العسكرية. لاحظ الشاب أن الشرطة سبقت المتظاهرين فقدر أن سر المظاهرة أفشي. لم يهتف فلم تتجمع المظاهرة. قال له قيس: هذا جبن! بكى الشاب، وهاجر من البلد.

كانت هوية يومذاك قد أتت من العدسية واستأجرت بيتا تمضي فيه الصيف بعيدا عن حر الغور. تركت بيتها وسلطانها وأتت إليه؟ نام تحت ناموسيتها. ومع ذلك تبينت مسافات أخرى بينهما ليست البعد بين بلدتين. عاد إليها متأخرا. لماذا؟ كان يجمع التواقيع على عريضة ضد القواعد العسكرية والقنابل الذرية! جفلت هوية: هذا كلام شيوعيين! ماعلاقتنا بالقنابل الذرية والقواعد العسكرية؟ هذه شعارات مستوردة! قال لها: كلامك كلام أميركان! أكدت له: الاشتراكية هي الخطر الأكبر علينا، لاالاستعمار! رد: لاأرى غير القواعد العسكرية والمعاهدة البريطانية هنا! رجته: اترك السياسة ياقيس! رد: ليت السياسة تتركنا! هي في كل شيء. كلامك نفسه سياسة! البهائية سياسة! موقف! لم تكمل هوية الحوار معه. ستنتظر يوما آخر.

طلب منها أن توقظه باكرا كي يجد سيارة توصله إلى عمان ليراقب المظاهرة التي لن تنطلق لأن الشاب لم يعطها الإشارة بهتافه. أيقظته. حضرت له الفطور. سألته: أخذت ماوضعته لك تحت المخدة؟ ماذا وضعت له؟ رسالة حب؟ وجد ثلاثين دينارا. فرفع ذراعه وصفعها وخرج. تشتريه؟ رأى مرة أخرى حاكمة العدسية ولم ير المحبة. 

في المساء رجع إلى بيته. فوجدها جالسة مع أبيه. كيف اهتدت إلى بيته؟ بعد القهوة انصرفت. وتبين قيس أنها تركت له هدية: ثيابا. قال له أبوه: بهائية! احذرها! لم يتساءل قيس: ماالفرق بين ثلاثين دينارا وبين هدية أغلى منها؟ ولماذا يقبل منها جسمها وروحها ويرفض مالها؟

 

حسب قيس عودته إليها اعتذارا. ولم يذكر أحدهما الصفعة. قالت له: أنت الآن دون عمل. قدم طلبا للمحفل البهائي لتأخذ حقك. من يعلّم البهائيين له حق الوارث! تحدثه امرأة عن حاجته؟ يرفض ذلك! فهم كل منهما أنه سيترك الآخر. كانا ينتظران فقط سببا خارجا عنهما كأنهما يغاران على حرمة الذكرى. عادت هوية إلى العدسية. وفهم قيس أن زمن العدسية انتهى. فهل يستطيع ألا يودعه؟

نزل إلى الشونة موجوع القلب. اتفق مع سائق تاكسي انتظره في المقهى ومشى إلى العدسية. ليست العدسية بحاكمتها! بل بالمسكينة فيها! عبر الدرب كأنه ذاهب إلى غرفته القديمة. ثم دخل مزرعة غولروخ. رآها من تحت شجرة البرتقال تسند رأسها إلى زجاج النافذة كأنها تبحث عن شيء في العتمة خارجها. هبّ قلبه. تتوقعينني ياوردة؟ وقف يستمتع بها وهي في إطار النافذة، نجمة مضاءة في عتمة البستان. ظل واقفا حتى استدارت لتبتعد فركض إليها. رمى حجرا صغيرا على النافذة، ورآها تسرع في لهفة إليها. فتحتها وتلفتت فخطر له أن يصفّر لها. ثم خرج من الظلام حذرا. لم تتكلم، عانقته صامتة، شدته إليها، وضعت رأسها بين كتفه ورأسه وسكنت زمنا. أنت؟ كم كان اللقاء مبهرا! لكنه لايمكن أن يستمر! 

  

 

بقيت هوية في العدسية، وعبرت أسرة لور معه بعض سنواته الحاسمة. ليست المسافة فقط، ياهوية، مايقرر الفراق واللقاء! للعدسية في قلبي أشواق! لكن البهائية ابتعدت والعدسية صارت بعيدة!

تابعت أسرة لور قيسا في المحاكمة. استمعت إلى اكتشافاته. وقرأت النشرات التي حملها لها. استهوتها العدالة التي يتحدث عنها كما كان يستهويها الشعر؟ لاتستطيع لور أن تندفع إلى هناك! ستكون من مريديه الصامتين! سالم، أخوها، هو الذي كاد ينجرف بقيس! وكان ذلك في عمان.

 

اشتغل قيس في دائرة الأراضي في جبل اللويبدة في عمان. وانتقلت لور لتشتغل في عمان. فجمعتهما المصادفة مرة أخرى. بيت لور في طريقه! غرفتان وسط بستان، بينهما شجر وأحواض زهور وفي نهاية البستان حمام. يلمح لور أو أمها أو إخوتها. ينادونه: تفضل! هناك التقى أول مرة بسالم الذي نزل من قطعته ليزور أهله.

تنقل قيس وسالم بين نادي التعاون الذي يلتقي فيه الشيوعيون وبين المنتدى العربي الذي يجتمع فيه البعثيون والقوميون العرب. ثم فضلا المنتدى العربي لأنهما يستطيعان هناك أن يشربا كأسا من البيرة. تعليمات حزب الشعب الديمقراطي، ومنظمة مناهضة القواعد العسكرية، صارمة: لاتقربوا الجيش! أول أسئلتهم: هل لك أقرباء في الولايات المتحدة الأمريكية؟ هل أنت منتسب للجيش؟ لماذا خطر لقيس إذن أن يحدّث سالماً عن القواعد العسكرية والمعاهدة البريطانية؟ طبعا، يجب أن يحدثه عنها! في الأيام التالية قصده شباب قالوا له: حكى لنا سالم عنك، اعطنا النشرات التي أخذ مثلها منك!

صحا قيس؟ لعل اعتقاله أنقذه من خطر أكبر! مر في طريقه في جبل اللويبدة ببيت لور. تفضل! رد: سأعود! لديه موعد مع خليل الذي سيحمل له منشورات. أتى خليل على دراجة، سلمه حزمة المنشورات وانصرف. على بعد خمسة أمتار رأى الشرطة تنتظره في أسفل الدرج. سلّمه خليل إذن ودليل إدانته في يديه! صرخ قيس: ياناس، خليل جاسوووس، خليل جاسووووس! سمع المارون قيسا، وسمعته لور. سيصل الخبر لمن يجب أن يصل إليه! لكن قيسا لم يعرف أنه حمى نفسه! لم تقدمه الشرطة للمحاكمة، كي تستر خليلا. فنقل دون محاكمة إلى معتقل الجفر. اصرخ ياقيس في الصحراء كما تشاء! أسس هناك مع أصحابك جمهورية، واكتب لها دستورا أيضا! تسخرون؟ ستكون تلك الجمهورية على مدّ العين، وسيكون لها دستور! 

بعد الطريق الطويل في سيارة قفزت وترنحت في ليل بارد، احتفل قيس بوصوله سالما إلى معتقل الجفر. وبدا له هدوء الصحراء مخمليا بعد هدير السيارة طول الليل. أليس الممتع أن يرحب المعتقلون بالضيف الجديد؟ قال لمن عانقه: كأنكم تمنيتم حضوري وانتظرتموه! من قال شر البلية مايضحك؟ افتتح ياقيس الأشهر التي ستعيشها هنا، وقصّ الشريط الحرير! وماأكثر ماستقصّ في بلادك الأشرطة الحريرية فيما بعد! رأى قاووشين، واحدا للمحكومين وآخر للمعتقلين، بينهما شريط يتحادثون من خلاله. رأى في أقدام المحكومين سلاسل. فتساءل: في أي عصر نحن؟ رد عليه طبيب معتقل: تكتشف بلدك؟ اكتشفه، لكن لاتبالغ! في اليوم الأول يبدو كل شيء صعبا وغريبا! احتفل بأنك دون سلاسل، مع المعتقلين! صدم قيسا هدوء الطبيب أمير تصور أن ربط إنسان بالسلاسل يجب أن يثير تمردا، إضرابا، عصيانا! قال له الطبيب: لكل تعبير حسابات سياسية دقيقة، كيلا تفشل أو تفجع! تأمله قيس فابتسم الطبيب: ذات يوم كنت مندفعا مثلك. ثم تعلمت الحكمة! سأله قيس: كم عمرك؟ عمره ثلاثون سنة، متخرج من الجامعة الأمريكية في بيروت. وكم هو وسيم! قال: وصلت ياقيس عشية الاحتفال! غدا يوم الجمعة. يسمح للمحكومين بأن يتغدوا عند المعتقلين. ويمتد احتفال الغداء من الصباح حتى الساعة الرابعة تقريبا. يقرأ المحكومون والمعتقلون ماترجموه أو كتبوه من مقالات وخواطر وشعر وقصة! صدقوا إذن! جمهورية في الصحراء!

انظر! هذا هو عرفان! الرجل الأسطورة أمام قيس! سمع قيس تفاصيل حياته! فهل تستطيع المثل أن تعيش حياة شخصية؟ لاحق لها في حياة عادية! يعرف قيس أن عرفان ولد في بلودان في سورية، ورجع إلى الناصرة سنة 1922 درس حتى الصف الرابع فقط، وترك المدرسة فاشتغل عاملا في صناعة الأحذية. اشترك في انتفاضة البراق 1929 وفي انتفاضة 1936 نفي وحكم بالإقامة الجبرية في الخليل. سجن في سجن عكا. بعد السجن بقي في الإقامة الجبرية في الناصرة. هرب إلى الثوار في الخليل. وقاد الانتفاضة المسلحة في سنة 1939 في منطقة القدس والخليل خلفا لعبد القادر الحسيني الذي جرح. من اشتباكاته مع الإنكليز في كسار وعرطوف وأم الروس كسب شعبيته. جرح ووصل مشيا إلى بغداد. دخل الكلية العسكرية وتخرج منها بعد أشهر. واشترك في ثورة رشيد عالي الكيلاني. بعد فشل الثورة انتقل إلى ايران. رفضته ايران فنقلته السلطة العراقية إلى كردستان، ثم اعتقلته. بعد العفو العام في أواخر 1943 رجع إلى فلسطين وفرضت عليه الإقامة الجبرية.

أتعرف ماالفرق بيننا وبين اوربا ياقيس؟ تعتد اوربا برموزها. وقت يصل الفرد فيها إلى مستوى الرمز تمدّه في الولاء العام وتجعله تراثا وطنيا لتعتد به أمام الهوية الأخرى! نحن، قد نستطيع ذلك عندما نقلّب تراثا قديما. فنعترف للغزالي ولابن رشد بالمكان التاريخي. لكننا في الصراع المعاصر نحبس الخصم الفكري في سجن حقيقي أو معنوي. لانعي أن الوطن يغتني برموزه المتنوعة!

أعد الغداء احتفالا بعيد ميلاد عرفان. كتب قيس متحمسا، مسرعا، متدفقا قصيدة له. ألقاها بصوته الذي يصبح عذبا شجيا وقت يلقي الشعر. كان المعتقلون والمحكومون ملتفين بالحرامات من البرد. فهبّ عليهم دفء من شعر قيس ومن صوته. وقف عرفان، رفع يديه المقيدتين بالسلاسل وعانقه. رفّ قلب قيس. تأثر الحاضرون. دمعت عيون بعضهم. لاشيء يمنع هؤلاء المرتجفين من الصقيع، المحرومين من دفء البيوت، من فوران العواطف وحرارة الايمان! ستمر السنوات والمحكومون يرددون كل يوم لايمكن أن تبقى الدنيا كما هي الآن! فأي حلم مبهر يرون! أية ألوان؟

أصبح قيس نجم المعتقل! زاده حنان رفاقه توهجا. استمتع بالحب وسيظل طول حياته عطشان إليه. ياللشاعر! توقده المحبة، وتطير به! في لقاء المعتقلين والمحكومين التالي أنشد قيس قصيدة طفح فيها حبه على فلسطين حتى الشفقة، فقبل في شهامة أن يبقي فيها، يوم يستعيدها، بعض الغرباء الذين يحبونها، شرط أن يعترفوا بالدولة الفلسطينية الديمقراطية! يحلم؟! ياقيس لم تتبين بعد مشروعهم! لو كان مشروعا صغيرا لما طردوا شعبك! وسيظلون يلاحقونه!   

نهض عرفان، عانقه وقال: هذه قصيدة تنضح بالأممية! أطرب قيسا أن يعانقه قائد ويمدحه! أطربه أن يصبح مركز الحب! الاتفاق مع المجموعة مريح ياقيس، والخلاف معها يشقي. لكن الصراع مع الضمير هو التعاسة. لن تهنأ زمنا طويلا بالرضا وستضحي به!   

وجد قيس في المعتقل مجتمعا منظما. سيدين له كثير منهم بكشف مالم ينتبه إليه في روحه من خير وشر، وبتقويم طباعه، وبدفء الصداقة في المرض والبرد. تمثل المعتقلين مجموعة تتصل بالحرس، توزع مجموعة الأعمال من طبخ وتنظيف، وتكتب مجموعة دفاتر الثقافة التي يتداولها المعتقلون. قرأ قيس في أحدها مقالة عرفان: "تاريخ الحركة الوطنية في فلسطين". جفل؟ همس: خطأ! شتيرن والأرغون ساهمتا في طرد الاستعمار الإنكليزي من فلسطين؟! لا! خرج الإنكليز من فلسطين لأنهم استكملوا تنفيذ الوطن الصهيوني الذي تعهدوا به في صك الانتداب! قتلت العصابات الصهيونية المتطرفة من العرب أكثر مما قتلت من الإنكليز! حاربت الإنكليز لتخرجهم من فلسطين؟ كان مشروعها الأول أن تخرجني من بلادي! هل يعلن هو الشاب رأيه أمام رجال يكبرونه في العمر وفي التجربة؟ هل الوقت مناسب لذلك؟ مال إلى جاره الطبيب أمير وأشار بإصبعه إلى المقالة: يمكن أن يفهم منها أن الصهيونية حركة تحرير! رد الطبيب: تعبر مقالته عن اجتهاده الخاص! قصة اليساريين الصهيونيين قصة طويلة. بان أنهم كانوا صهيونيين ونكلوا برفاقهم العرب. حوسب بعضهم وأعدم. اقرأ فيما بعد عن بورغر! فهم اولئك اليساريون اليهود الجبهة الشعبية بأنها تعني دعم المعتدلين، وايزمان وبن غوريون، ضد المتطرفين، جابوتنسكي والأرغون! وأكدوا في عنصرية أن العرب غير مؤهلين للقيادة والتنظيم. كانت الحلقة محكمة فالمسؤولون في الاتحاد السوفييتي عن منطقتنا كانوا صهيونيين، مدير جامعة الشرق للكادحين، ومسؤول الصلة بين الجامعة والكومنترن، والذين أعطوا الشهادات بالعرب الفلسطينيين. اعتقل اولئك مع جوزيف برغر في حملة التطهير في الاتحاد السوفييتي. ولتتذكر كلمتي ياقيس: سيدفع ستالين طول عمره ثمن هذا التطهير الذي أبعد به الصهيونيين عن قدر بلاده وعن صلتها ببلادنا! ادرس تلك التناقضات المتلاطمة بعين باحث واسع لتكون استنتاجاتك واسعة. قدّر وزن الوقائع وقدّر أيضا وزن الأوهام! امسك السمة العامة لتحكم حكما صحيحا، كيلا تجنح بالتفصيل الذي لايعبر عن الجوهر. ياقيس، أعترف لك بأن قصيدتك الماضية لم تعجبني! كنت مجروفا بعاطفة خيالية! لاتستطيع أن تمارس قتل أعدائك الذين سرقوا بلدك، لأنك متحضر ورحيم. لكن خيارهم: أنت أو هم! ذكرتني قصيدتك بموضوعات إخوتنا في فلسطين. دعوا إلى دولة عربية حرة تحمى فيها حقوق الأقلية اليهودية. ذلك صحيح نظريا. لكن في الواقع كان اليهود "اليساريون" أولا قلة لاوزن لها، وكانوا ثانيا  يرفضون تحديد الهجرة الصهيونية أو منعها، وثالثا يرفضون أن يكونوا أقلية في دولة عربية! تمييز عصبة التحرر بين الصهيونية وبين يهود البلاد صحيح نظريا. لكن الصهيونية كانت تجرف أكثرية اليهود في فلسطين. استند يهود صفد إلى ثقة العرب فيهم واشتروا باسمهم بعض الأراضي للمؤسسة الصهيونية! وضح عرفان سنة 1946 أن كسب الجماهير اليهودية في فلسطين وإبعادها عن الصهيونية ممكن، وأن هذا النضال يجب أن يكون هدفا استراتيجيا للحركة الوطنية العربية. فهل هذه الموضوعة واقعية؟ كانت المنظمة الصهيونية العالمية تبتلع اليهود وتنظّمهم وهي التي تؤمن لهم العمل والسكن. تشهد أحداث مصفاة حيفا على هذه الشبكة من التناقضات. قررت مصير حيفا نفسها المؤسسة العسكرية اليهودية لامجموعة تنادي بدولة فيها حقوق متساوية للعرب واليهود. ولذلك انتبه إلى تحفظ غروميكو في الجمعية العامة وقت قال "إذا" استحالت دولة واحدة.. فدولتان. رأى كديبلوماسي مشكلة لاتحل. مصفاة حيفا مثل على امتناع واحات التفاهم بين العرب واليهود في زمن تحكمه الصهيونية. كان عدد العمال العرب في المصفاة 1700 عامل، ثلاثون في المئة منهم أعضاء في عصبة التحرر الوطني، وعدد العمال اليهود 270 عاملا، نصفهم أعضاء في الهستدروت. وكان الإداريون 190 يهوديا و110 عربيا و60 إنكليزيا. بعد قرار التقسيم انفجرت الصدامات بين العرب واليهود. وكان من أولها مذبحة مصفاة حيفا. رمت عصابة الإرغون في 30 كانون الأول 1947 قنابل من سيارة مسرعة على العمال العرب الذين ينتظرون عملا يوميا أمام باب المصفاة. فقتلت ستة عمال وجرحت 42 عاملا. فانعكس ذلك فورا في صدام بين العمال العرب والعمال اليهود داخل المصفاة، وقتل أربعون عاملا يهوديا. أدانت الوكالة اليهودية هجوم الإرغون لكنها وجهت الهاغاناه إلى الهجوم على بلد الشيخ، حيث ضريح القسام، فقتلت ستين شخصا من عمال المصفاة ونسائهم وأطفالهم ونسفت عشرات البيوت. مع أن لجنة التحقيق بينت أن هجوم الإرغون عند باب المصفاة سبب الصدام في المصفاة، وبينت أن كثيرا من العمال العرب حمى العمال اليهود. عندما أعلنت دولة إسرائيل في أيار أخذ المهاجرون اليهود الاوربيون مكان العمال العرب في المصفاة وأخذوا بيوتهم ووطنهم! فهل كانت نداءات سحب الجماهير اليهودية من نفوذ الصهيونية موضوعة واقعية؟! لتكن تلك مهمة اليهود الذين تتاجر بهم الصهيونية وتفصلهم عن الشعوب التي يعيشون بينها! لكن لاتظن ياقيس أن المخطئين أو الواهمين فقط يدفعون الثمن! رتّب مؤتمر أريحا سنة 1948 لتعلن الشخصيات الفلسطينية المجتمعة فيه رغبتها في الانضمام إلى شرق الأردن فتطوى حكومة عموم فلسطين التي قررها مؤتمر غزة. عارضت عصبة التحرر الوطني قرار مؤتمر أريحا، فاعتقل بعض أعضائها. جرتهم قوات البادية مربوطين بالحبال خلف الخيل من نابلس إلى عمان، فمات في الطريق من العطش روحي زيد الكيلاني وجروه مقتولا، ووضع الباقون الأحياء في الجفر. لكن لماذا نذكر الأحزان فقط! سأروي لك مايضحكك. في تلك الأيام كسبت "حكومة عموم فلسطين" أحمد حلمي باشا، المقرب من الملك عبد الله. فلجأ إلى القاهرة. فأرسل إليه الملك برقية كتب فيها: ماعهدناك ياأحمد كبش نطاح! فرد أحمد باشا ببرقية قال فيها: ماعهدناك إلا نعجة لقاح! ضحك قيس والطبيب أمير. ضحكا أكثر مما تستحق البرقيتان. فهل كانا يردان عنهما صورة الرجال الذين جروا بالحبال خلف الخيول في حرّ تموز؟       

وضع الطبيب كفه على كتف قيس: إذا انقلبت الدنيا ذات يوم فألغي الاتحاد السوفييتي سيرى أعداؤه انتصاراته خطايا، لكن أحدا لن يعترف بأن قرار تقسيم فلسطين ظلم، أريد به أن يفتتح اجتياح المستوطنين الغرباء القرى والمدن العربية. ولن يقال إن الاعتراف بإسرائيل، فورا بعد إعلان نفسها دولة، خطأ حقوقي لأنه يشترط الاعتراف بدولة فلسطينية قررها قرار التقسيم لكنه لم يتضمن ولم يرغب أن تنشأ! مع ذلك لاتبحث ذلك هنا، الآن! واسمع نصيحتي لك كإبن: رموزنا ياقيس من تراب بلدنا. نتمنى أن نراها صافية، كأنها غير بشرية. وربما يوجد اولئك الناس المنزهون كالملائكة. لكن ليست مهمتنا فقط أن نكون، في مستوانا، رموزا فنضبط غضبنا، ونقمع أشواقنا، ونزن كلماتنا وخطواتنا. مهمتنا أيضا أن نحرس رموزنا الكبرى بحكمتنا. فلا نبالغ عندما نزن أخطاءها. تذكر أن الحركة الوطنية لاتعتمد رموزا مصنوعة في الغيب تحميها قدسيتها. بل تصنع رموزها بالحياة. ويوم تدمر هذه الرموز ويبدد الايمان بها سيعود الإنسان إلى زمن وحشي، وستنطلق شروره، وستصبح المجموعة البشرية دون معايير ومثل! وستكون تلك الحرب على الإنسان أبشع الحروب!

جلس قيس بعد حديث الطبيب صامتا. إقامته في الجفر، محاكمته، سجنه، خطاباته تجعله هو أيضا رمزا؟! فهل يستطيع أن يحمل ذلك الثقل؟ فيقيس عواطفه، ويكبح نزواته، ويزن كلماته، ويلجم حبه وكرهه؟ عاد إلى الطبيب. وقال له: لاأستطيع أن أكون رمزا! ضحك الطبيب: وأنا أيضا! لاتقرر الرموز لنفسها ذلك. يقرر لها الزمان! لك ياقيس مزاج شاعر، وسيقسمك إلى شطرين الحرية التي تحتاجها والالتزام بأن تسوس نفسك كرمز! لكن أليست للحرية التي نحتاجها وللتمرد على الركود معايير؟ المهم ياقيس أن يكون لنا وجه واحد لاوجهين! وأن نضع أنفسنا بين الناس لافوقهم. ففي المتمردين والثوريين والسياسيين ضبع يأكل روحهم إذا توهموا أن خدماتهم تفرض لهم على الناس ضريبة، وأن تضحيتهم تلزم مريديهم بأن يخدموهم. لاتظن أن السياسيين الحاكمين فقط يتصورون أنهم متميزون عن الناس! السياسيون غير الحاكمين قد يتوهمون ذلك أيضا! وهم أيضا قد ينحازون إلى أولادهم وأحفادهم ويقدمونهم على أولاد شعبهم.       

لم تمنع صداقة الطبيب وحب المعتقلين والمحكومين عن قيس التدرن الرئوي. نزف دما. تساءل مازحا: هل كان العرب يرسلون أطفالهم إلى الصحراء ليتنفسوا الهواء النظيف؟ والصقيع؟! اقتطع له المعتقلون أحسن طعامهم ليغذوه. ولكن حتى قيس يرفع رأسه إلى السماء ويرمي مصيره على القدر! لم يترك التدخين إلا يوم نزف أول مرة. من حظه أن حكومة توفيق أبو الهدى سقطت وأن فوزي الملقي، كلف برئاسة الوزارة. اختار الملقي شفيق رشيد وزير عدل. فأعلن رشيد عفوا عاما عن المعتقلين. وخرج قيس من الجفر مع المعتقلين. حاملا مرض الرئتين، ونفورا من عرفان دفنه في قلبه سيكون أساس خلاف طويل بينهما فيما بعد، ولن ينفذ نصائح الطبيب!

 

 

 

- 20 -

 

بعد أسبوع من استقبالات المهنئين بعودة المعتقلين من الجفر، اشتغل قيس كاتبا في دائرة الأشغال في إربد. مكتبه في غرفة ساري الفنيش. في غرفة واحدة مع الفنيش المتهم بتسليم صفد لليهود؟ لاترفع صوتك!  هذه وظيفة لابيت! ابتكرت لساري وظيفة لزيادة دخله! ثمن المدينة الجبلية الجميلة وظيفة تملأها من الصباح إلى الظهر كؤوس الشاي والتدخين والكلام؟ راقبه قيسا وهو يتساءل عن الحدود الفاصلة بين الخيانة وبين تنفيذ الأوامر. لايتحمل قلبه الشاب أن يكون هذا المكان الصغير والراتب الصغير ثمن مدينة صفد، ثمن مدرسته و"المنزل"، وبيت أميرة، ودروب نزهته مع أصحابه! في البداية لم يسلّم قيس عليه. ثم تعود أن يتأمله. ثم بدأ يحاول أن يفهم الرجل الذي يكرهه. قال له ذات يوم: أنت سلّمت صفد! رفع الفنيش رأسه ونظر إلى عيني قيس. يتهمه؟ بل ينقل مايقوله الناس من دمشق إلى عمان! رد: ياحبيبي، أنا سلّمتها؟ من أنا كي أسلّم مدينة؟ جاءتني أوامر: انسحب، فانسحبت. هكذا راحت صفد! وقف قيس: لكن الأوامر التي أتتك لم تكن من المسؤول عن الأوامر! هل يقول الفنيش، أتت ممن أعلى منه! سكت. يجر أمثال الفنيش مستمعيهم بعيدا عن البقع السوداء في حياتهم، ليظهروا أن فيهم جوانب أخرى جذابة وحيّة. يأملون أن يبدلوا حكم الناس عليهم؟! بدا الفنيش ظريفا وهو يحكي لقيس: في العشرينيات كان عندنا ضابط إنكليزي، مسؤول عن المخابرات، اسمه سومرست. وقتها طلب الإنكليز من الأمير عبد الله قواعد أو اتفاقية توجس منها الأمير فتلكأ في الرد عليهم. أوعزوا لأحد رجالهم من منطقة الكورة من مشايخ الشريّدة كي يثور على الأمير. قالوا له: من هذا! جاء إلى شرق الأردن على جمل! ثر عليه وخذ مكانه! "ساوي" ثورة في الكورة!

عمل الرجل تمردا في الكورة. فهم الأمير المراد منه وصفّى الجو بينه وبين الإنكليز. فانتهى التمرد. لكن الشيخ أتى قبل نهاية ثورته إلى الضابط سومرست وقال له: ثورة وعملنا، قل لي ياسيدي  ياصورم سيد، كم نجمة أعلق؟ رد عليه سومرست: علق قدر ماتشاء! لم يستطع قيس إلا أن يضحك. هل أراد ساري الفنيش أن  يصور له كيف ينفذ الموظفون الأوامر؟ قيل له، هو أيضا، انسحب من صفد فانسحب! مطلوب أن تسقط صفد قبل الخامس عشر من أيار!

انتهت أيام دوام قيس في وظيفته الهادئة، بمظاهرات عاصفة. بين سنة 1953 وسنة 1955 هل مر شهر دون مظاهرة؟ انقطعت مفاوضات الجلاء عن القنال بين إنكلترا وبين مصر في أيار 1953 وسحبت إنكلترا رعاياها المدنيين من مصر. فردت مصر على التهديد بغارات فدائية في منطقة القنال. نظم الجيش والمخابرات العمل الفدائي فسدده لكنه أفقده صيغته الشعبية. وكانت قيادات الأحزاب في السجون، والوضع يشبه ماسيتكرر فيما بعد. فالأحزاب الوطنية ستسند الحكم نظريا، لكنها لن تكون قادرة على مده بقوتها لأنها مراقبة أو مسجونة. وصل دالاس في تلك الأيام المتوترة في أيار 1953 إلى القاهرة واقترح حلفا عسكريا "يحمي مصر من الشيوعية والاتحاد السوفييتي". الدفاع المشترك؟! البلاد العربية كلها ضد أمريكا التي خلقت إسرائيل ودعمتها! دالاس وسيط بين مصر وإنكلترا، وجلاء إنكلترا مقابل حلف مع أمريكا وإنكلترا؟ قال له عبد الناصر: يبعد الاتحاد السوفييتي عنا خمسة آلاف ميل. ليست بيننا وبينه مشاكل أبدا. لم يحتل أرضنا ولم يهاجمنا وليست له قاعدة في مصر، بينما لاتزال بريطانيا تحتل القنال! في 20 كانون الثاني 1954 أطلق الإنكليز الرصاص على جنود مصريين فاشتدت المقاومة المصرية المسلحة، ونزلت المظاهرات إلى الشوارع في مدن سوريا والأردن تعلن التضامن مع مصر. سجن قيس، وقال الفنيش لمن جلس إلى طاولته: سكة قيس لاتوصل إلى السلامة! 

لم تصل إلى جماهير البلاد العربية تفاصيل الصراع بين المنظمات وبين قيادة الثورة في مصر. وسط الصدام الكبير بالغرب، وصلت تصريحات عبد الناصر: "الجلاء عن القنال أو القتال حتى الموت!".. "على الاستعمار أن يحمل عصاه ويرحل!" فرفعت في المظاهرات أمام القادة العرب الهادئين تمرد جمال عبد الناصر على الغرب. وستظل الشوارع العربية تردد تمرده مختارة حتى سنة 1959. وستتصل مصائر أجيال بمسار عبد الناصر وقراره السياسي.

صدحت الخمسينيات! احتشد فيها الأمل والأحلام. شباب في أول العمر تصوروا أنهم يحكمون القدر! "إذا الشعب أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر"! وسددوا ثمنها من الأفراح والأحزان. في اتفاقية جلاء الإنكليز عن القنال حق الإنكليز في العودة إذا هوجمت تركيا، لكن فيها أن القنال جزء من مصر. وستغطي محاولة اغتيال عبد الناصر الخيبة بالشرط في المعاهدة.

قال قيس لأصحابه في السجن: أخرج الإنكليز من القناة في سنة 1954. وفي سوريا سقط الشيشكلي، وكانت الانتخابات سنة 1954 تصويتا ضد الأحلاف. نجحت كتلة نيابية وطنية يدعمها الضباط الوطنيون. واجتمع مؤتمر للشخصيات السياسية الوطنية العربية في بيروت. وقع نوري السعيد ومندريس في 24 شباط 1955 حلف بغداد، وانضمت إليه إنكلترا. لكن ريح الخمسينيات تهب على العرب. ياللسنة المجيدة! رفضت الحكومة السورية الأحلاف، وعقدت اتفاق القيادة العسكرية المشتركة مع مصر والسعودية. اشترت أول صفقة من الأسلحة التشيكية سنة 1954 والصفقة الثانية من الاتحاد السوفييتي سنة 1955. ووصل أول سلاح سوفييتي لمصر في أيلول 1955. حشدت تركيا والعراق حشودا عسكرية على حدود سوريا في 21 آذار ووجهتا مذكرتين استفزازيتين تدعيان قلقهما من الخطر الشيوعي. قدمت الولايات المتحدة مذكرة وقحة لسوريا. فأعلن الاتحاد السوفييتي في 23 آذار أنه يؤيد سوريا وسيساعدها في حماية استقلالها. وفي نيسان 1955 جمع مؤتمر باندونغ رؤساء الدول الآسيوية الإفريقية وأعلن رفض الأحلاف العسكرية، والحياد الايجابي، والمبادئ الخمسة لعدم التدخل في الشؤون الداخلية.

كان قيس واقفا وهو يتحدث كخطيب. ابتسم أحد المسجونين المستمعين إليه. ابتسم لأن قيسا توهج في خطابه كأنه تحت سماء واسعة، كأنه حر! وغمره شعور قيس بالحرية والقوة. وعندما انغمر بوهج قيس لم يعد هو أيضا ينتبه إلى جدران السجن القاتمة. لذلك رفع يده كيلا يقاطع أحد قيسا. لكن رجلا قال: ردت إسرائيل بغارة على المخافر السورية وقتلت 41 عسكريا سوريا، وبغارة على غزة! تناول قيس الحديث فورا: أغارت إسرائيل؟ ملأت الجماهير الشوارع: تفضلوا! سنصيدكم إذا نزلتم من الجو، وسنخرج إليكم إذا أتيم من البر! عقدت سوريا اتفاقية تجارية مع الصين، واتفاقية مع ألمانيا الديمقراطية. وشيعت دمشق شهداء العدوان الإسرائيلي. يتجمع العرب في هبّة التحرر. عقد من 31 آذار إلى 1 نيسان التلاقي الوطني الشعبي للبلدان العربية في دمشق، فكان "تظاهرة عربية كبرى ضد الأحلاف". حضرته شخصيات دينية وسياسية ونواب وصحفيون وأنصار سلام. كشف بيان التلاقي الشعبي أن هدف التدخل الاستعماري "ترتيب صلح بين الدول العربية وإسرائيل لإدخال إسرائيل في كتلة عسكرية تشمل منطقة الشرق الأوسط. الاتفاق الإنكليزي العراقي الأخير صك عبودية يحلل استعمال مطارات العراق .. نؤكد مطالب إخواننا اللاجئين العرب في استعادة حقوقهم السليبة في فلسطين والعودة إلى ديارهم ونحيي التضامن ضد حلف تركيا العراق".

هل يمكن ألا تهب على الأردن ريح الخمسينيات، وهو جنوب سوريا واستمرار حوران، نصف عائلاته في الشمال ونصفها في الجنوب؟  بينت أول مذكرة للقيادة المشتركة أهمية الأردن. يجب أن تنضم الأردن للقيادة المشتركة! قال قيس: سنخرج من السجن خلال أيام! وخرج المعتقلون من السجن حقا بعد أيام.

انشغلت الأحزاب بالانتخابات في الأردن في تشرين الأول 1954. لكن الجبهة بين الوطنيين لن تنضج إلا بعد أن يذوقوا الدم. مع ذلك تجمعت جبهة من الشخصيات الوطنية، برنامجها تعريب الجيش وإلغاء المعاهدة، وإطلاق الحريات.. وقائمة مرشحين. فلتلغ المعاهدة البريطانية مع الأردن! لم ننس دور غلوب في حرب فلسطين! يسّرت الاجتماعات الانتخابية للمرشحين الوطنيين أن يشعروا بقوتهم، وبخوف السلطة منهم، وضغطها على الناس كيلا ينتخبوهم، وبغفلة القوى التي لاتعي ضرورة الجبهة الوطنية لرد حلف بغداد. قال قيس في أحد الاجتماعات: جرت الانتخابات لأنها طلب الزمن!

لكنها لم تكن صوته! لذلك عاد الناس إلى الشوارع! في مظاهرات القدس، حاولت الطالبة رجاء أبو عماشة أن تنزل العلم الإنكليزي فقتلها الإنكليز بالرصاص. فنشرت صورتها في الصفحة الاولى في الجرائد السورية، وتصدرت صورها المظاهرات في سوريا وفي الأردن. خطب قيس في مظاهرة كبيرة. صفق الناس له، ومنعوا الشرطة أن تقطع خطبته. لكنها وصلت إليه، ضربته وضربت المتظاهرين. بين المتظاهرين شابة مستديرة الوجه، بيضاء، لم تشترك في المظاهرة لأنها فقط تقاوم حلف بغداد، ولأنها فقط تكره الإنكليز الذين يحكمون جيش بلدها، ولأنها فقط متحمسة كالطالبات بعد مقتل رجاء أبو عماشة، حالمة بأن تكون مثلها، بل أيضا لأنها مسحورة بقيس. وهاهي ترى الشرطة تضربه والدم يسيل من وجهه ورأسه! هتفت: عاش قيس، ولتسقط الحكومة! هل تحتاج الشرطة إلى آذان كي تسمع الهتاف الفظيع؟ اعتقلتها كما اعتقلت قيسا. لم تنتبه إليهم. انتبهت إلى نظرته الضاحكة لها تحت الدم الذي غطى وجهه. 

أخوها وزير. ذهبت أمها إليه: ياإبني، أخرج أختك من السجن! تطلب وساطته ليخرجها من السجن؟ "أخرجها؟ تسب الحكومة وأنا أخوها وزير فيها، وأخرجها؟ فلتنتظر في السجن ريثما يستلم قيس الوزارة ويخرجها من السجن!"

هل كان قيس يخمن أنه سيلتقي بجورية بعد غربته الطويلة، وستجلس أمامه واضعة ساقا فوق أخرى كما تجلس بنت عائلة كبيرة، مزينة بماض ثمين وهيبة عشيرة؟ لاتزال عزباء. مرت الأيام الجميلة. لاتوجد أية أيام أخرى يمكن أن تمحوها! في دفتر حياتها أنها هتفت وسط مجموعة كبيرة باسم حبيبها. هل يحدث مثل ذلك كثيرا؟ بقي ذلك الهتاف كالوردة التي رمتها لحب انقطع، ولامجال لأن يعود، ولامجال لأن يستبدل بأصغر منه. فلتملأ الحياة أمور أخرى كبيرة وصغيرة، لكنها ليست الحب.. أبدا ليست الحب! هل يفهم ذلك قيس الجالس أمامها، مكللا بشعره الأبيض، مشغولا بهواجسه؟! أهذا حقا قيس الذي أحبته، وقاست به الرجال، ووهبته عمرها؟    

 

 

- 21 -

 

في تلك الأيام من أيار 1955 ملأ الربيع الحقول بشقائق النعمان. فبدت في البستان حول بيت قيس مرجا أحمر. وقيل سنة خير. أتت بين الأمطار الغزيرة أيام صاحية يحلو فيها الاسترخاء في الشمس على عشب البرية. في أحد تلك الأيام التقط الضابط ابراهيم خريشان قيسا من المظاهرة التي خطب فيها ضد حلف بغداد، وهتفت فيها جورية: عاش قيس ولتسقط الحكومة! ضربه في مركز قيادة المنطقة على رأسه بقضيب من الحديد. فنفر الدم على وجهه ورقبته. كم سيتكرر هذا المشهد: رجل ذو سطوة، حوله رجاله وأدواته، وأمامه رجل مقيد؟! قال قيس: ياللشهامة! جمع كل مافي فمه وبصق في وجه قائد الشرطة. ذلك مايستطيعه! ضربوه بعد البصقة. ونقل مدمى إلى غرفة المرضى المنعزلة. لكن الخبر انتشر في البلد: كسر قيس هيبة قائد الشرطة! وسيزيد ذلك ممن سيخرجون خلف قيس في المظاهرات. ففي الخمسينيات لم يكن البطل من يكنز المال ويملك سيارات وأرصدة، بل من لايبخل على الوطن بروحه.

رمي قيس في غرفة المرضى الصغيرة. بقي فيها حتى وصل الدهان والنجار اللذان كلفا بتجديدها. لم تكن في ذلك السجن القديم زنزانات منفردة تستوعب النزلاء. ولم تكن مؤسسة السجانين بعد قد فصلت عن البنية التي تعيش فيها. فنقل أبو صالح، مدير السجن، قيسا إلى قاووش المسجونين.

أهلا بالضيف! محكوم؟ رد قيس: موقوف. وأنتم؟ كان ماهرا في القرب من الناس. يبدأ من السؤال عن العمل وينتهي بالسؤال عن المرأة. فيقيم بسرعة صداقة مؤسسة على معرفة حميمة. وخلال ذلك يحكي عن الناس الذين عرفهم، ويتنقل بين الواقع وبين حكايا التاريخ. بعد ساعة من الزمان أصبح مركز الجالسين. المسجونون العشرة فلاحون فقراء. لم يحكم عليهم بعد. لكن الحكم إذا صدر سيكون ثقيلا. جريمتهم؟ لايعترفون بجريمة! هم من الغور، تسللوا إلى الأرض المحتلة قربهم وأخذوا بقرا وغنما. بلادهم، مواشيهم، سرقها محتلون غرباء! حقا، ليسوا هم أصحابها شخصيا. لكنهم يستعيدون ماتيسر مما سرق منهم! سرقت إسرائيل بلادنا كلها! كثير إذا استعدنا بعض بقرنا؟ يعرفون أن الأحكام صارمة. لماذا غامروا إذن؟ يعرفون أيضا أن الأحكام تخفف إذا رشوا رئيس المخابرات، طاهر. قال قيس: لن تدفعوا رشوة! لكن تمسكوا بشهادتكم! نتمسك بها! دون خوف؟ نعم!

وقت مر أبو صالح بقيس في جولة المساء قال له قيس: أريد أن أقابل قائد المنطقة! المعايطة؟ نعم! يثق أبو صالح بقيس. شاب يعرف مايريد! تصور قائد المنطقة أن قيسا سيبوح بأمر خطر. سيتراجع؟ مستحيل، وليست هذه الأيام للتراجع! لكن لو حدث ذلك سيسجل له النصر! قال لأبي صالح: هاته!

نقل قيس مقيدا إلى المعايطة الذي وقع اتفاقيات الهدنة وجرف السيل فيما بعد بيته فقال الناس: انتقم الله منه! سأل قيسا: نعم؟!

صاغ قيس كلمته كأنه في محكمة: تدعون أنكم تدافعون عن القانون والعدل! لكنكم تسمحون بالرشوة. وممن الرشوة؟ من فقراء. تتهمونهم بالسرقة لكنكم تشاركونهم فيها. تأخذون حصتكم مما تدعون أنهم سرقوه! ذات سنة أبطل عمر بن الخطاب الحدّ، سامح الفقراء وأدان بسرقتهم الأغنياء! سأله قائد المنطقة: ماذا تقصد بخطابك؟ قال: يطلب رئيس المخابرات من اولئك الفقراء رشوة ليخفف عنهم الحكم. لدي عشرة شهود على ذلك!

ينتشر الخبر في بلد صغير. ضجة! ثم لجنة تحقيق! لن يذهب هؤلاء المنسيون كشربة الماء! قال أهل البلد، يجد قيس مشروعا حتى في السجن! وقال قائد المنطقة: سبب المتاعب أن أبا صالح وضع قيسا بين المسجونين! أنت ياأبا صالح مسؤول! سيدي، غرفة المرضى دون باب! اخلقوا أبوابا من تحت الأرض! ضعوا عليها عشرة أبواب! تذكر أبو صالح ست بدور خلف السبعة البحور. وشعر بأنه يحب قيسا. قال الحاكم العام: ألغوا التصليح حتى يخرج قيس!

في المساء همس أبو صالح لقيس: قامت الدنيا هنا وفي البلد! قال قيس: لاتقعد إذا لم تقم! فخرج أبو صالح من السجن في طريقه إلى البيت وهو يردد بينه وبين نفسه: لاتقعد إذا لم تقم!

في الطريق بين البيت وبين السجن يمر أبو صالح بدكان أبي قيس. يشتري منه قمحه وعدسه وطحينه. وفي الأيام التي يسجن فيها قيس يتناول من أبي قيس وجبة الغداء ووجبة العشاء فيوصلها ساخنة لقيس في السجن. في جولة المساء، وقف أبو صالح  قرب القضبان: قلت لأبيك أرى قيسا أكثر مما تراه! يكاد يكون مقيما عندنا في هذه الأيام! رد قيس: واجب، ياعمي، واجب! قال أبو صالح: تريد أن تسقط غلوب ياقيس؟ رد قيس في ثقة: سيسقط! قال أبو صالح: قد تنزل الملائكة عن عروشها، لكن غلوب لن ينزل من عرشه! ناول أبو صالح قيسا باكيت سيجارات وسأله هامسا: تشتهي شيئا؟ فقال له قيس: كأسا من العرق! انصرف أبو صالح وهو يكتم ضحكته.

أسس قيس فيما بعد مع الفلاحين الذين التقى بهم في السجن نقابة العمال الزراعيين في الغور. يعود إلى العدسية بطريقة أخرى؟ لكنه لم يحزر أنهم سيحملون من رتب اغتياله ويرمونه في البركة!      

 

 

بعد أسبوعين من سجن قيس، قال المعايطة: هاتوه! السجن بجانب قيادة المنطقة، ومع ذلك قيدوه، ومشى خلفه عسكري وأمامه عسكري. أدخلوه على المعايطة. قال للعسكريين: فكا قيده واخرجا! وبقي وحده معه. قدم له سيجارة. ثم طلب له قهوة: هل أوحت لك هذه الأيام بقصيدة جديدة؟ كان الملك عبد الله معجبا بشعر عرار رغم مافيه، وأنا معجب بشعرك رغم مافيه! رد قيس: تحط ملائكة الشعر في البلاد الرائقة. عندنا تحط شياطين الشعر! السجن أنسب مكان لها؟ استرخت ملامح المعايطة: تضيع ياقيس عمرك وموهبتك لأجل من يبيعك! نادى: هاتوا رؤوفا! وأنت ياقيس اشرب قهوتك!

دخل رؤوف. نظر إليه قيس. طبعا، يعرفه! سأله المعايطة: هذا هو الذي نظم الاجتماع في كرم ابن عمك؟ نظر رؤوف بسرعة إلى قيس: نعم، سيدي! سأله: هل تعرفه؟ نظر إليه نظرة سريعة أخرى: أعرفه، سيدي! قال المعايطة: انظر إليه جيدا! هل تعرفه؟ رد رؤوف: طبعا أعرفه، سيدي! سأله: واثق؟ رد: طبعا، سيدي! سأله: الاجتماع الذي نظمه قيس كان قبل البارحة؟ رد: نعم سيدي! قال المعايطة في هدوء: اخرج ياحقير! قيس عندنا في السجن منذ أسبوعين!

خرج رؤوف. والتفت المعايطة إلى قيس: هذا هو الشعب الذي تدافع عنه! تريد فنجانا آخر من القهوة؟ رد قيس: شكرا على القهوة! لكن هذا من تختارونه من الشعب! نادى المعايطة العسكري. وضع القيد في يدي قيس، وأعيد إلى السجن!

سأله أبو صالح وهو يتسلمه في السجن: خير؟ رد قيس: لاشيء! شربت فنجانين من القهوة في مكتب المعايطة! قال أبو صالح: سأرسل لك فنجانا ثالثا! ابتسم قيس لنفسه وهو يعود إلى زنزانته. الشعب؟ كيف يستطيع أن يفهم المعايطة، الرجعي، أن الشعب ليس هؤلاء الأجراء؟ شعب قيس جموع ذات مشروع، تدافع عنه رغم الشرطة والضرب والسجن والنفي والتسريح. تحلم بالعدل وحرية البلاد! الشعب ليس هؤلاء. الشعب هذه الدنيا.. قبائل الماوماو.. الجزائر التي بدأت ثورتها المسلحة.

جلس قيس بين الفلاحين المعتقلين وأنشد لهم شعر مفيد زكريا في أحمد زبانه الذي نفذ فيه حكم الإعدام في سجن بربروس:

قام يختال كالمسيح وئيدا     يتهادى نشوان يتلو النشيدا

شامخا أنفه جلالا  وتيها    رافعا رأسه يناجي الخلودا

اشنقوني فلست أخشى حبالا     واصلبوني فلست أخشى حديدا

     واقض ياموت في ماأنت قاض      أنا راض إن عاش شعبي سعيدا    

 قال لهم: ذلك هو الشعب! واستعاد كتاب يوليوس فوتشيك "تحت أعواد المشنقة". أخرجه الغستابو وداروا به في المدينة: انظر، الناس يتحابون ويعيشون غير مبالين بك! لابد أن كثيرا من المسجونين الذين يمكن أن يهز تراجعهم الضمير العام، أخرجوا في مثل تلك النزهات الليلية السرية ليروا شعبهم المنصرف عنهم! لكن اولئك المعتقلين كانوا يرون شعبا آخر، ويوسّعون سجونهم الضيقة بنشيد وشعر. ماأعجب أن يكون هؤلاء الواقعيون رومانسيين؟! اولئك هم رجال الأحلام! في السجن ستنشد جميلة بو باشا التي عذبت أكثر من جميلة بو حيرد، أشعار مالك حداد! وسترى شعبا استقوت به. وإن خرجت من السجن فيما بعد محطمة وستظل تتناول المهدئات طول حياتها!

قال لهم قيس: سيبقى الصراع على الشعب الذي نستقوي به زمنا طويلا! فهل خمن أن "العدو" سيكتشف دروبا متنوعة معاصرة إليه. ليسقط المثل والمشروع التي يرفعها، ويسوقه في برامج ومثل أخرى! هذا الشعب الذي يتدفق في مشروع وطني الآن، يمكن أن ينكفئ في بيته، ويمكن أن يصبح غوغاء. قال قيس للفلاحين المعتقلين معه: صراعنا على الشعب، على القوة التي قد ينظمها مشروع عاقل فتجعل الدنيا جميلة وعادلة، وقد تجرفها أهواء تبددها لتخدم الظالمين! ولم يكن الشعب في زمن قيس مربوطا إلى التلفزيون، ولم يكن مسحورا بأحلام الأغنياء، ولم يكن فسد بالرشوة وسحق بالجوع والعمل، ولم يبدد شجاعته بعد الخوف واليأس، ولم يجتحه الشك في المثل ويفجع بسقوط السياسيين!

انتبه قيس في ذلك اليوم إلى الصراع على الناس. لكنه لم ينتبه إلى ماسيقدّره بعد أربعين سنة: للرجال خصوصيتهم أكانوا رجعيين أم تقدميين. لذلك لايعرّفون فقط بصفتهم الفكرية. شغله التفكير في يوليوس فوتشيك بعد عودته من مكتب المعايطة وردد: الصراع على الشعب! لكنه لم ينتبه إلى الشهامة في المعايطة وفي أبي صالح وفي القضاة الذين صادفهم في عمان قبل أن يعتقل.  

بعد أربعين سنة تذكر المظاهرة النسائية التي نظمت في عمان ونزل قيس إلى مكان تجمعها. فرأى النساء ورأى الشرطة السرية أيضا. اقترب منه رجل أمن ووقف أمامه. قال: مومسات عمان يتظاهرن! ذهل قيس. ماهذا؟ رأى فجأة سهام، وسعاد، وعائدة... مومسات عمان! أتت الشرطة واعتقلت المتظاهرات، واعتقلت المومسات أيضا. كشف قيس لأصحابه فورا ماعرفه: أنزلوا المومسات إلى المظاهرة! في يوم المحاكمة قابل قيس وأصحابه قاضي الصلح. فهز القاضي رأسه: هذا الأسلوب في الصراع غير مقبول! وحكم بإطلاق سراح النساء!

بعد زمن طويل تذكر قيس ذلك القاضي، وتذكر رئيس الشرطة الذي ترك على طاولته رزمة نشرات سلمها جاسوسه. أبقاها كما طواها قيس، ليحذره! وتذكر المعايطة، وقال: شهامة! لم يفكر قيس فيهم يومذاك. مع أنهم كانوا من عناصر الصراع على الشعب! لو يستطيع أن يعود إلى ذلك العمر، إلى تلك الأمكنة، ليقول الكلمات التي لم يقلها!    

 

 

 

- 22 -

 

ضرب قيس في مركز قيادة الموقع، لكنه لم يضرب كالرجل الذي رموه قربه ليراه! صدق أصحابه الذين تعرف إليهم في مقهى في عمان يوم حدثوه عن الفرد والمجموعة! كان الرجل الذي رموه وحيدا دون مجموعة، لذلك لايحاسب أحد بدمه! أوجع قيسا أن يسكت الرجل على جروحه. طريق الوعي طويلة ياقيس! وربما طريق الكرامة! وليس الشارع المتوهج الذي تراه هو الموجود فقط! يوجد هذا الجانب أيضا في الشعب!

هل كانت وظيفة الرجل المدمى أن يهز روح قيس! ربما ضرب فقط كي يفتت روحه! تناولوه بعد يومين ولم يستطع أبو صالح مدير السجن أن يفصّل في المعلومات عن الرجل. قال لقيس: لو تحدث لعرفنا على الأقل من لهجته من أية ديار هو!

وقت بقي قيس وحده شعر بالأسى. في هذه البرهة يعدم في ايران الدكتور يازدي، كما أعدم فاطمي ومئات الضباط. وقيس مقصوص الجناح. أي ظلم يجتاح العالم! أي شر! عصف اضطراب بروح قيس حتى اكتملت قصيدته. عندئذ اجتاحه اضطراب آخر، هياج من الفرح والانتصار. سيتحدى الموت والظلم! نحن هنا! وأحاطت به الصورة التي رسمها الفنانون وكتبها الكتاب طوال عصور: حامل الراية على الأرض دام وآخر يتناولها منه! وقصيدة ناظم حكمت التي أصبحت نشيد جيل الخمسينيات: إذا أنا لم أحترق وأنت لم تحترق فمن يضيء الدنيا؟ وقصيدته عن شجرة الزيتون التي يجب أن تغرسها ولو كنت في السبعين من العمر! طار قيس بانتصاره في التعبير الذي ساس به اضطرابه وأساه وهزيمته. لم يغطس بعد في الشك بما أنجزه، ولم يشعر بعد فيه بأنه كتب كلمات عادية، وأنه إنما صاغ كلمات الصحف. ماسيقوله لنفسه فيما بعد وهو يفحص قصيدته قبل أن يصوغها صياغة أخرى.

يوم خرج من السجن تناول منه سليم، القومي السوري، القصيدة وغناها. كان صوته رخيما وعزفه على العود شجيا. بين المجموعة التي استمعت إلى الأغنية كانت إلهام، أخت سليم. دمعت عيناها وأدهش قيسا رأسها المرفوع في كبرياء رغم الندى في عينيها. لم تجرب أن تخفي دمعها، ولم تحجب العواطف عن ملامحها. سحرته بتلك الصراحة. شغلته إلهام في تلك الأيام السريعة. أحبها ولم تخف عنه أنها أحبته. ولم تكن الطرقات الطويلة إلى الحب ضرورة بينهما. فكل منهما يعرف أنهما إذا التقيا اليوم قد لايلتقيان غدا.

نظرت إلهام إليه. في السهرات ماأحلى حديثه، ماأحلى ابتسامته التي تميل إلى جانب الفم! يروي الحكايا والنكات، وينشد شعر القدماء فيظهر رونقه وكماله! قالت لنفسها لايدهشني أن يحبه حتى الرجال، فلماذا لاتحبه الفتيات؟! لم تصبح الثروة بعد حلم الفتيات. فالحياة رخيصة وهنيّة، والعلم نور، والسياسة تخلب لب الشباب! نعم، تحبه مع أنها تعرف أن حبهما لن يدوم. حبهما كزهر البرية نضر قصير العمر. بين قيس وبين أخيها القومي السوري مناقشات. يقول قيس لسليم: أنت وطني ياسليم، في روحك إرث أبيك المقاتل في الثورة العربية، لكن قيادتك ستوصلك إلى جهنم! ويرد سليم: أنت ياقيس وطني، شجاع، تحديت الشرطة وأنت مقيد، وتحملت الضرب بقضيب من الحديد على رأسك، لكني لن أفهم أبدا كيف تقبل تقسيم فلسطين! يقول قيس: تحدثنا عن الموضوع نفسه مرات عند الخياط! أقبل التقسيم؟ أقبل أن تقتطع ذراعي أم قلبي أم رئتي؟ لكن ماأشد خوفي أن يصبح طموحنا التقسيم الذي رفضناه!  يختلفان على الموقف من الاتحاد السوفييتي. يقول سليم: قوة عظمى مثل أمريكا! فيرد قيس: قوة عظمى تختلف بنظامها الاجتماعي عن أمريكا، بيننا وبينها علاقات قديمة، لذلك هي صديقة للعرب. يذكره سليم باليهود الروس والبولونيين والتشيك والمجريين الذين حاربوا العرب واستوطنوا فلسطين بالقوة. يقول له: مصيبتنا جاءت من هناك! فيرد قيس عليه: بيض! هربوا من نظام بلادهم الاشتراكية! لكن ليست لدى قيس بعد معلومات دقيقة عن الصهيونيين الروس الذين زيّفوا الاشتراكية، وعن اليهود المجريين الذين صفّوا غير اليهود في الحزب الاشتراكي المجري. يجهل ماسيعرفه فيما بعد وسيرعشه فيه أن الصهيونية حاربت الاشتراكية من داخلها. واقتصت باسمها من الشعوب في وحشية أكثر من وحشية النازية. في سنة 1919 كان 22 عضوا من 24 عضوا في اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي المجري يهودا، لذلك سماه الناس حزب اليهود. وصفي فيه غير اليهود بتهمة الخيانة. تسلق اليهود القمم وجر أحدهم الآخر إليها. وكان لهم مشروعهم الخاص. في العشرينيات في روسيا كان برونشتاين (تروتسكي) رئيس المفوضية العسكرية في الجيش والأسطول، ومساعدوه الذين عينهم في المراكز المفتاحية يهود: غيرشفيلد رئيس المجلس الحربي الموسكوفي، شتينغراد  المفوض الحربي لمنطقة موسكو، غوبيلمان المفوض الحربي للمنطقة نفسها، غيتس المسؤول العسكري عن منطقة بيتروغراد، روم المفوض القضائي العسكري للجيش الثاني عشر، روزمانوفيتش مفوض الاستنطاق العسكري لمنطقة موسكو، غليزر مفوض حرس الحدود، ليختنغر مفوض مجلس جيش  القفقاس، غلوزمان المفوض الحربي لفرقة سكاريا. والمفوضون السياسيون ميتشيك للجيش الثاني عشر، ليفنسون لفرقة الجيش الرابع، دزينيس لمنطقة فيتيبسك العسكرية، سبيرو لجبهة رومانيا، فيشمان المفوض فوق العادة لجيش الشرق، بوزرن لمجلس جيش الجبهة الغربية. والقادة: غيكير للجيش الأحمر في ياروسلاف، ماتسيتيس للجبهة الغربية، على حدود تشيكوسلوفاكيا، سلوزين ومساعده زيلبرمان لجبهة كورسك، زاك قائد دفاع القرم. أطلق هؤلاء اليهود النار على العزل وقتلوا الضباط الروس بينما كان الأبطال الشعبيون مثل تشابايف، كوتوفسكي، فرونزه، يحملون النصر للجيش الأحمر ويرتقون جرائم الصهيونية. كان 80% من قادة الجيش الأحمر وقتذاك ضباطا سابقين في الجيش القيصري. أعدموا كلهم تقريبا في سنة 1927 بعد أن ابتعد الخطر وزالت الحاجة إليهم. كان الحوار قصيرا جدا مع "الغرباء عن الطبقة" مع أن برونشتاين والمفوضين الذين عينهم غرباء جدا عن البروليتاريا! لم يتخلص برونشتاين من ضباط الثورة فقط بل من محبوب منطقة الدون ميرنوف أيضا. وهكذا وصلت السنوات الثلاثون والقادة الذين قاتلوا لأجل الشعب، والضباط الأكفاء قد أبيدوا. وأخذ مكانهم الصهيونيون، ياكير المسؤول عن إبادة الهيئات العليا الكازاكية، توخاتشيفسكي الذي سحق انتفاضة البحارة في غرونشتات، اوبوروفيتش المعروف بحقده على الروس، كورك مساعد القوات العسكرية في اوكرايينا والقرم وقائد جبهة كردستان، ثم منطقة لينينغراد العسكرية، ثم المسؤول عن منطقة موسكو العسكرية، ثم عن أكاديمية فرونزه. غامارنيك مسؤول القيادة السياسية لجيش العمال والفلاحين الأحمر، زميل تروتسكي، الذي أعاد اللجنة الوطنية السوفيتية ضد معاداة السامية، وأصبح مسؤول اللجنة الوطنية للدفاع وكان مساعدوه: أزول، بولين، روستيت، بلومنتال، ريزين، برلين، رسكين، رايخمن، بولتمان، غرنبرغ، كانتسنيلسون. وضع غامارنيك في المراكز المفتاحية يهودا فأصبح مسؤولي الإدارة السياسية: أرونشتام لجيش الشرق الأقصى، أميلين لمنطقة اوكراينا الحربية، غينتز لطيران ماخلف القفقاس، فيلتنر لطيران الفولغا، ربينوفيتش لأسطول البلطيق، ميزيس لمنطقة الفولغا العسكرية، شيفريس لمنطقة شمال القفقاس العسكرية.. وغيرهم مثل غيرشين والمارشال غلوخير الذي لم يقصر في إبادة "أعداء البروليتاريا". قرر اولئك الصهيونيون الحياة والموت في القطاعات التي حكموها قادة عسكريين ومسؤولين سياسيين. وقتلوا ملايين الناس في الإرهاب. ودمروا كادرات الثورة المخلصة. نفذ تروتسكي، سفيردلوف، ياكير، توخاتشيف، غامارنيك، ايبشتاين، في السنوات العشرين مذابح وحشية. لكن تروتسكي سيبدو كثوري كبير متمرد في الغرب زمنا طويلا. وسيدان بالإرهاب ستالين الذي أزاح قبضة اليهود عن قمم الجيش والسياسة. وسيقتله الأطباء اليهود بالسم. وسيغير من بقي منهم أسماءهم ليتسللوا من المساواة إلى القمم مرة أخرى ويحكموها بالبنوك اليهودية. لكن حتى الضحايا لن تتبين ذلك إلا متأخرة!

تنتهي المناقشات بين قيس وسليم عادة بنزهة في الطريق الذي تمشي فيه الصبايا والشباب مساء بين الحقول حتى "الكامب". أو بجلسة يغني فيها سليم أشعار قيس. عرف سليم بإحداها فصارت تطلب منه في السهرات: غن لنا "ياصاحب السجن"!

كان بيت سليم وإلهام بيتا قديما، باحة حولها غرف، ثم ممر يوصل إلى زقاق. استندت إلهام إلى الجدار وانحنى قيس عليها. ملأت في تلك البرهة عينيه. وفجأة تجمدت ملامحها وارتخت ذراعها. فالتفت قيس إلى حيث وقفت نظرتها. رأى في نهاية الزقاق أخاها سليما. أرخى قيس ساعديه وانزلقت إلهام إلى البيت. وقف قيس جامدا في انتظار سليم. تقدم سليم، طويلا، فارعا، ممشوقا، قويا. هل سيضربه؟ وصل سليم إليه، وقال له: ياقيس، هل يمكن أن نتحدث؟ طبعا! تعال إذن نمشي قليلا! مشى قيس معه وهو يتوقع لطمة منه. لكن وجه سليم هادئ، ساهم. ابتعدا عن الحارة. هناك سأله سليم: هل تحب أختي؟ رد قيس: نعم! قال سليم: لي طلب واحد فقط. احترم عذريتها! رد قيس: وعد! هل فهم قيس كم يحبه سليم؟ هل قدّر سعة روحه؟

كان صوت سليم حلوا، رخيما. كان صوتا فريدا. وكان عزفه على العود مطربا. لحّن قصائد قيس وغناها فانتشرت بلحنه وصوته. فهل غاب عنه أن إحدى تلك القصائد لأخته ولو موّه قيس فيها اسمها؟ غنى سليم قصيدة قيس عن السجين الذي رمي قرب قيس داميا. وصارت تلك القصيدة أغنية في البلد. صاحب هذه القصيدة يحب أخته! ولايستطيع الزواج منها لأن بلاده تشرده. فهل يبخل عليه بحبيبته؟ 

في ذلك المساء نفسه جلس قيس إلى سليم، واستمع إليه وهو يعزف على العود ويغني لأصحابه قصيدة قيس. اسمعوا ناظم حكمت العربي!

هذه ليست كلماته بل مدى ينشره سليم، بحبه وبامتنانه لأن قيسا كتبها! اعتذر لسليم بعينيه وخرج. وفي العتمة بكى.

بعد مقتل رياض الصلح غاب سليم عن قيس زمنا. وعندما التقيا عاتبه قيس كأنه هو القاتل. ودافع قيس عن القاتل كأنه هو. لاتوصل الاغتيالات إلا إلى بركة من الدم! رد سليم: يجب أن يدفع الصلح ثمن إعدام أنطون سعادة! دفعه حسني الزعيم الذي فاوض إسرائيل سرا وسلّم سعادة، ويجب أن يدفعه الصلح! لايقاوم الخطأ بخطأ ياسليم! ألم يبتعد جيلنا عن ثأر العشائر إلى حوار أصحاب العقيدة والرأي؟ رد سليم: هل تحاور أنت غلوب باشا أم تقاومه؟ المسألة ياقيس أن كلا منا رتب صداقاته وعداواته في نسق معين. نسقك ياسليم خسارة لك قبل أن يكون خسارة لغيرك. لاتتحمل هذه البلاد الدم! قبيل مقتل المالكي فترت للقاءات بينهما. ولم يكن لدى قيس وقت ليتساءل أيمكن أن تكون تلك السهرات الممتعة انتهت وأصبحت من ماض لن يستعاد. ولم يتنبأ بأنهما سيكونان أكثر قربا بعد عقود من الزمن!

عندما رجع قيس إلى بلده بعد عقود من السنوات أتاه رسول من إلهام: أريد أن أراك! يراها؟ يخشى على الصورة القديمة، على الشباب! يخشى أن يراها سمينة، أو كهلة، أو بيضاء الشعر! وأنت ياقيس، ألم تتغير؟ ألن تقول لك ليلى إذا رأتك: لو صادفتك في الشارع لما عرفتك! لكن إلهام ستستعيد بعد ربع ساعة عينيك، وملامح وجهك، وقامتك. وأنت ياقيس ستستعيد ملامحها!

تذكر قيس سليما، تذوق خطواتهما في ذلك اليوم وهما يبتعدان عن الحارة معا. لمس عبق تلك السنوات وقاس البعد بين تلك البلدة التي استبقى فيها أخ حبيب أخته وصدّق وعده، وبين هذه المدينة التي يعيش فيها الآن. تبع دروب سليم، وتأمل القوة المتدفقة التي تطلب مسارات تملأها. حاول سليم اغتيال إحدى الشخصيات. نفذ تفجيرا عشية حرب حزيران. عبر دروب الخطأ والصواب إلى فلسطين! أين أنت اليوم ياسليم؟ هل تجلس مثلي مستعيدا تفاصيل سنواتنا المجيدة؟ متقاعدا تجري الحياة بعيدا عما حلم به وصاغ له مشاريع واسعة؟

في سجل في الشرطة بقيت قصيدة قيس محفوظة كعمل جميل مؤثر لكنه خطر. لكن صوت سليم الذي غناها تبدد. أغلق قيس نوافذه. تصدح أغنيات أخرى لايريد أن يسمعها!

 

 

اغتيل الضابط عدنان المالكي في دمشق في 22 نيسان 1955، في الملعب البلدي. خلال مباراة كرة القدم سدد رقيب في الشرطة العسكرية مسدسه إليه من ظهره، فتله وانتحر. قرأ قيس الجرائد السورية واستمع كأبناء بلده إلى راديو دمشق وقال: عقاب على صفقة السلاح التشيكية والروسية للجيش السوري! وانتقام من مكانة سوريا في مؤتمر باندونغ. نفذ الاغتيال حلف بغداد! يراد هز سورية من داخلها لأن الضغط عليها فشل من خارجها!  

اتهم جورج عبد المسيح بتخطيط اغتيال المالكي. كان يتابع تنفيذ الاغتيال، وينتظر الخبر! بدا ذلك لمن خارج سوريا مؤامرة عليها. وقع قيس برقيات من بلده "تستنكر المؤامرة وتتضامن مع الجيش السوري الوطني".

فهل تستطيع الصداقة أن تقاوم هذا الاصطدام الدامي؟ قبله كان قيس يناقش أصحابه القوميين السوريين فيقول: مشروع الهلال الخصيب ليس وحدة عربية، بل ربط بلد مستقل ببلد مقيد بمعاهدة إنكليزية! وأين البلاد العربية الأخرى في مشروع الوحدة؟ مع ذلك بقيت المناقشات بينهم كلاما حتى اتهم القوميون السوريون بقتل عدنان المالكي. أراد الضباط القوميون السوريون في الجيش أن يتخلصوا منه؟ من العقل الذي رتب جريمة كبيرة؟ ليس ذلك صراعا شخصيا! المالكي اتجاه وطني، محور يجمع عليه الجيش. قتله هجوم على سورية! أنت مادخلك ياقيس؟ مادخلني؟! ماتزال بلاد الشام واحدة! إربد تتمة حوران. إذا انهارت سوريا صرنا دون ظهر! نسيتم أن عرار درس في مكتب عنبر، وأن رجال الثورة العربية من دمشق؟ تدافعون عن قتل المالكي؟ لا، لم يدافعوا جميعا عن قتل المالكي! قال الخياط لقيس: القتل مؤامرة على حزبنا! أخفى جورج عبد المسيح عن بقية الأمناء مخطط الاغتيال! حارب القوميون السوريون الصهيونية في فلسطين فكيف يوافقون على قتل المالكي الذي حارب معهم هناك؟ 

مسؤول القوميين السوريين حامد حسين حلال، من بلد قيس، صفورية. وبينهما صحبة. أبواهما أيضا صديقان من أيام صفورية. يعرف قيس أن حامد حسين حلال يحبه. يقصده مع شباب آخرين قوميين سوريين، يقرأون عليه أشعارهم ليسمعوا رأيه فيها. فيجلس في صدر القاعة ويتحدث عن الفن. وتبدو القاعة كمضافة للشباب تجمعهم في جلسات سياسية وفنية! ثم يغنون مع سليم قصيدته.

عائلة حلال كلها من القوميين السوريين. مع ذلك أحدث قيس فيها خرقا. فصار أخو حامد الأوسط من أعداء حلف بغداد. نقل منشورات إلى العراق فاعتقل على الحدود وسجن في بغداد. فاتهمت عائلة حامد قيسا: أنت السبب!

مع ذلك ظل الخصام كلاما دون أحقاد حتى اغتيال المالكي. عندئذ أخرج الطرفان جميع الأسلحة ومنها السلاح الذي استعمله خصومهما "المتخلفين": الأخلاق. ألم يحارب قيس بتهمة الإلحاد؟ ألم تدسّ العاهرات في مظاهرة النساء ضد القواعد العسكرية وتنشر الصحف: اعتقال عاهرات عمان! ستظل تلك أسلحة القتال إلى زمن طويل، وستستعمل حتى عندما تنشطر الأحزاب وتتخاصم الزمر ويصبح الرفاق القدماء أعداء. الأخلاق حلبة الصراع! غرف قيس من ذلك الماعون! جلس مع أصحابه وصاغ برقية نشرها بين الناس كأن كاتبها حامد حسين حلال أرسلها إلى زوجته بعد غياب أسبوعين. البرقية أربعة عشر حرفا كلها ح ح ح.. شيفرة سرية معناها: حبيبتي حلا. حاحضر حالا. حمّي حمّام. حضّري حمام. حبوس حضرتكم. حبيبك حامد حسين حلال.

انتشرت البرقية في البلد. وأضحكت الناس. لا يستطيع حامد حسين حلال أن يجلس في مقهى دون أن يكبح الحاضرون ابتساماتهم. عاتب قيسا غاضبا: هكذا؟! صرت تحارب بالسيوف القديمة؟ سأله قيس: بذمتك، أليست حلوة؟ هز رأسه: برأس أبي، حلوة! سأله قيس: إذن أكلت الحمام واغتسلت في الحمّام؟ لكن أصحاب حامد لم ينبهروا بتلك النكتة. هذه إهانة لمسؤول في حزب. القصد منها الإساءة السياسية! وسيعاقبونه عليها يوم يتمادى في ذنوبه!      

 

 

- 23 -

 

زار عبد الحكيم عامر، قائد القوات السورية المصرية المشتركة، الأردن، وتفقد المراكز الأمامية فيه. فاستوقف رجل في الطريق قيسا وسأله: زيارة عامر مقدمة لاشتراك الأردن في تلك القوات؟ رد قيس في ثقة: وهل يخرج الأردن على روح الزمان والمكان؟ بعد أيام وصل فجأة إلى عمان تمبلر، رئيس أركان حرب القوات البريطانية. لكن حكومة سعيد المفتي رفضت التوقيع على حلف بغداد، واستبقاء المعاهدة البريطانية الأردنية دون تعديل،  فاستقالت. بحث ذلك الرجل المجهول عن قيس. رآه قيس فقال له قبل أن يعرف سؤاله: جاءت حكومة المجالي لتوقع على الحلف، لكنها لن تجسر! لن يخرج بلدنا على روح الزمان!

في 17 كانون الأول 1955 هبت المظاهرات في القدس وعمان وإربد. تحتج على زيارة تمبلر وتهتف: يسقط حلف بغداد! قابلتها حكومة المجالي بالنار. سقط قتلى وجرحى. حل الملك البارلمان. وأعلنت الأحكام العرفية، واعتقلت شخصيات سياسية ومنظمو الإضرابات. نزلت مظاهرات كبرى في دمشق وحلب تضامنا مع الأردن. "استنكر مجلس النواب السوري الضغط الاستعماري على الأردن"، وبين أنه يعني تطويق سوريا بحلف بغداد. وكتبت جريدة الإزفستيا عن "انتفاضة الأردن" وتحدث عنها راديو موسكو.

استقال المجالي بعد الاصطدامات الدامية. فتساءلت الجرائد السورية: "تراجع الاستعمار"؟ وأجابت: لجم الاتحاد الوطني في الأردن اندفاع الحكومة إلى حلف بغداد. لكن هذه جولة اولى فقط. فمازال الوطنيون مطاردين. "لم تخمد انتفاضة الأردن الباسلة". تنقلت الأخبار في المضافات والمقاهي ووصلت بين المدن. تعرفون؟ رفع ممثلو الأحزاب والشخصيات في الأردن مذكرة إلى الملك، ترفض حلف بغداد وتطلب وزارة وطنية. وأضرب المحامون والأطباء. ورفض كثير من ضباط الجيش إطلاق النار على المتظاهرين. وأحرق العلم الأمريكي خلال تشييع الشهداء. تتصور الحكومات أن الشعب يتلقى ماتقدمه له حكوماته، منصرفا إلى شؤون بيته، فإذا به غير ذلك "هي في واد، وهو في واد!"

وصلت سنة 1956 والشوارع ملتهبة والمنظمات والأحزاب مستنفرة رغم الأحكام العرفية. تسندها برقيات التضامن والمظاهرات السورية. في صدر الصحف السورية: "عاش تضامن سوريا والشعوب العربية مع الأردن في معركته ضد حلف بغداد! "

بعد سقوط حكومة المجالي، شكلت حكومة ابراهيم هاشم. لكنها منعت اجتماع الهيئات الشعبية، فعادت المظاهرات في 6 كانون الثاني تطلب حكومة وطنية، وانتخابات حرة، وتنظيف الجيش من الإنكليز. انضم بعض جنود المدرعات إلى المظاهرات التي ملأت المدن. طاردتها قوات البادية وقتل بعض المتظاهرين، واعتقل آخرون. هجم المتظاهرون على مراكز النقطة الرابعة الأمريكية وأحرقوها، وهاجموا المفوضيات الأمريكية والإنكليزية والتركية. وفي القدس أنزل المتظاهرون العلم الأمريكي وأحرقوه.  أعلن غلوب حالة الطوارئ. شكل سمير الرفاعي حكومة وتعهد بألا يرتبط بأي حلف. تراجع المستعمرون ثانية؟ لايزال الوطنيون مطاردين! لجأ أربعمائة طالب أردني إلى سوريا. نظم الطلاب في دمشق مظاهرات تضامنا مع الأردن. وأضربت نقابة المحامين في دمشق تضامنا مع الأردن.

تناقل الرجال في المضافات أن مصر وسوريا والسعودية أبلغت الأردن بمذكرة رسمية أنها مستعدة لتعويضه عن المساعدة الإنكليزية التي تقيده بالمعاهدة مع إنكلترا. قالوا: لكن حكومة الرفاعي تائهة بين ضغط الشارع وضغط غلوب. أجمع البارلمان خلال البيان الوزاري على رفض الأحلاف، لكن الرفاعي ماطل في قبول المساعدة العربية. حجته أنه  سيشاور نوري السعيد ولبنان. وسخروا من الرفاعي: يقال إنه يقبل المساعدة العربية، إلى جانب المساعدة البريطانية! كأنه يجهل أن هدف المساعدة العربية تحرير الأردن من المعاهدة الإنكليزية! خلال هذا لايزال "غلوب يحتل" المدن. "احتل غلوب" الرمثا. واعتقل في إربد تسعة أشخاص. لكن روح الزمن تهز الأردن والضفة الغربية. قدمت لجان التوجيه الوطني في نابلس مذكرة إلى الملك تعلن رفض حلف بغداد، وتطلب الحريات وتحرير المعتقلين، وتلح: يجب أن يقبل الأردن الأموال العربية لاالأجنبية! تظاهرت الطالبات في نابلس. وخطب قدري طوقان في مظاهرات نابلس. وأعلنت الكتلة الدستورية في البارلمان أنها ضد حلف بغداد. يقال، قتل الكولونيل باتريك في الزرقاء! هل الخبر صحيح؟

تحدث الخطيب في مظاهرة الطلاب في دمشق عن جرائم غلوب وباتريك مدير المباحث الإنكليزي: رميت قنابل على المتظاهرين في المفرق. ضرب الضابط المتوحش ابراهيم كريشان طالبا بقضيب من الحديد على رأسه. دخل ثلاثون شرطيا إلى بيت فواز الروسان، عضو محكمة التمييز العليا، بحثا عن أخيه فائز الروسان. فقال لهم إذا كنتم تروعون أولادي وزوجتي وأنا عضو محكمة فماذا تفعلون بالمواطنين العاديين؟! قال الخطيب إن المعتقلين يرسلون إلى السجن الصحراوي الذي يسمى الجفر. وقرأ فقرات من البيانات التي وزعت باسم "جبهة النضال العربي" وباسم "الشباب الواعي". وفي تلك المظاهرة انتخب وفد ليستقبل الطلاب الأردنيين الذين وصلوا إلى درعا. وفي يوم النضال العالمي ضد الاستعمار حيى اتحاد الطلاب ذكرى الطلاب الشهداء الثلاثة الذين قتلوا في المظاهرات في الأردن، رجاء حسن، عبد الله محمود تايه، اسماعيل الخطيب.

في المهرجان الشعبي في حمص تضامنا مع الأردن، وفي اجتماع نساء حمص تضامنا مع الأردن، وفي الاجتماع في نقابات العمال تضامنا مع الأردن، تحدث الخطباء عن مقاومة الشعب الأردني الشقيق. لكن الاجتماع الكبير في سينما بلقيس في دمشق لدعم الأردن أصغى إلى الدكتور عبد الرحمن شقير الذي نجا من الاعتقال. وانتهى ببيان يطلب تطهير الجيش من الإنكليز.   

من سينتصر؟ الشعب! مع أن دائرة المطبوعات الأردنية كذّبت أن مباحثات الرفاعي في دمشق وبيروت تناولت الخلاص من غلوب والضباط البريطانيين، لأن ذلك مسألة داخلية! ومع أن الرفاعي سافر إلى بغداد! "أطاح" الشعب الأردني بالمجالي فهل يعجزه أن يطيح بغيره؟ قال الخطباء: تضامننا يقوي الاتجاه ضد الأحلاف في الوزارة والبارلمان الأردني. لاتيأسوا! "إذا الشعب يوما أراد الحياة، فلابد أن يستجيب القدر".. الشعب الأردني يريد الحياة!

قال قيس: لم تقترح الأحلاف كي تهدئ المنطقة بل كي تشعلها وتحرقها! كي تضم إسرائيل إلينا كعضو شرعي، كأن الاتحاد السوفييتي البعيد عنا هو خصمنا لاإسرائيل وأمريكا عدوتنا! لذلك أغارت في 28 شباط 1955 على غزة. ولذلك اغتيل عدنان المالكي في 22 نيسان 1955 بعد صفقات السلاح مع تشيكوسلوفاكيا والاتحاد السوفييتي. ولذلك ردت إسرائيل على القيادة العربية المشتركة فاعتدت على المخافر السورية حول طبرية في 12 كانون الأول 1955. لايريد الاستعمار لنا أن نعيش حياة هادئة سوية، لايريد لنا أن نفكر ونحلم وندرس ونشتغل وننعم بثرواتنا الوطنية. لكننا نرد: نحن مع سورية أمام الضغط التركي الأمريكي عليها. ونرفض إلغاء محور الصراع بيننا وبين إسرائيل وأمريكا واختراع محور آخر وهمي! نرفض حلف بغداد! ذاب قيس بعد كلمته كأنه ملح. احتضنه أصحابه وأخفوه. يبحثون عنك ياقيس! انتبه!

يوم قيل لقيس إن ضابطين من ضباط عبد الناصر وصلا إلى الأردن بإسمين مستعارين لينظما مجموعات العمل ضد إسرائيل من الضفة الغربية وغزة، قال: أهلا! لكن الجو المتفجر لاينتظر ضابطين كي يعبئوه! حلف بغداد يكاد يفرض علينا بالقوة، وأين فلسطين وقتذاك!  انفجرت طرود مفخخة في الملحق العسكري المصري في عمان وفي ضابط مخابرات غزة، وقتل الاثنان في يوم واحد. وعادت التفاصيل إلى مجالها في الاصطدام الواسع.

يوم وصل تمبلر في كانون الأول 1955 بدا أن الأردن سينضم إلى الحلف. فتقدم قيس المظاهرات ضد حلف بغداد، وخطب فيها، مزج الشعر بالنثر فزاد من حماستها وغضبها. كأنه يملك عصا قادة الجوقات السحرية! وكان أمامها يعي قدرته على خطابها! من مكانه المشرف عليها فهم مرة أخرى كيف يمكن أن تكون الجموع روحا واحدة، قوة مجردة من الخوف، عاقلة ومندفعة. تصبح الحياة المفردة شرعية باتصالها بالمجموعة فقط، مع أن شعور الفرد بها في تلك البرهة مرهف أكثر مما كان قبلها ودونها. كان التناقض بين الرغبة المضطرمة بالحياة الذي يبدو هدف التجمع، وبين الاستخفاف بالموت، يستوقفه بعد كل مظاهرة خطرة. لكنه يومذاك رآه عندما دوى الرصاص ورأى الجرحى. لم يكن قيس والصف الأول من المظاهرة مستهدفين فقط، بل كانت الكتلة كلها. قرار غلوب إذن أن يخمد بالموت وبالخسائر الهبّة العامة! أخمدها؟ يستطيع قيس وأصحابه أن يضبطوا أول المظاهرة لكنهم لايستطيعون أن يسوسوا آخرها واستمرارها وردّها عندما يتدخل الطرف الآخر في وحشية. هاجم متظاهرون غاضبون النقطة الرابعة وأحرقوا السيارات. أطلقت الشرطة النار عليهم فقتل رجل. وفي الرمثا احتل المتظاهرون مراكز الحكومة وأعلنوا جمهورية. فقررت الشرطة أن قيسا أول المسؤولين عن ذلك الشغب. 

عندما أعلنت الأحكام العرفية ومنع التجول، اختبأ قيس في بيت شيخ الجبل. دخل ضابط المخابرات طاهر مسمار مع جنوده إلى مضافة العشيرة، سلم وقصد أبا قيس: أين ابنك؟ لاأعرف! علمي علمك! إما أن تأتي به حيا أو نأتيك به ميتا! التفت طاهر إلى شيخ الجبل: ياأبا نعيم، عندنا معلومات تقول إن قيسا دخل هذه الدار! رد شيخ الجبل في سخرية: الدار أمامك، ياطاهر بك! فتشها! أي تحدّ! يفتش بيت زعيم العشيرة المهيب، رئيس مجلس النواب سابقا؟! قال: ولو ياأبا نعيم! كلمتك كافية! 

في مخبئه قرأ قيس بيان سعيد الغزي في المجلس النيابي السوري. قرأه مرات واستمتع به. قال: سياسي هادئ، صرح بموقف جريء دون أن يخرق الأصول. يعترف بواقع فيه دول وحكومات عربية، ويذكر بواقع روحي هو غير ذلك! ولد قيس بعد سايكس بيكو. ومع ذلك شعر في تلك البرهة بأنه من جنوب سوريا. وخفقت في قلبه دمشق. قرأ: "الأردن جزء من الوطن العربي، كما أنه في الوقت نفسه جزء من الوطن السوري. نريد له الخير والعزة والاستقلال التام.. الأردن مرتبط بدستور ومجلس وحكومة وأوضاع شرعية لتلك المنظمات.. نحن لانتدخل في أموره الداخلية. لكن واجبنا القومي أن نقدم إلى الأردن الشقيق المساعدة والمعونة، التي تمكنه في ظل حكم نيابي شرعي صحيح، من أن يتخلص من القيود التي تحد سلطاته الشرعية. وقد تشاورت هذه الحكومة مع الحكومتين الشقيقتين مصر والسعودية في أمر تقديم المساعدة المالية للأردن وبعد المشاورات التي بدأت بعد الحوادث الاولى في الأردن وانتهت اليوم، قدمت الحكومات الثلاث مذكرة رسمية إلى الأردن جاء فيها أن الحكومات الثلاث ترغب في أن تتشاور مع الحكومة الأردنية في الطريقة التي تقدم بها الدول العربية المساعدة والمعونة للأردن.. أما المساعدات الأخوية التي علينا أن نقدمها نحو أبنائنا وإخواننا من أبناء الأردن الشقيق الذين جاؤونا مستغيثين، فقد فتحنا لهم أبواب بلدنا وحدودنا، وقدمنا وسنقدم لهم كل المساعدات التي يفرضها علينا واجب الإخاء". شعر قيس بحرقة في عينيه. فاستدار صاحب البيت كيلا يحرجه وهو يلاحظ ندى الدمع. قال له وهو يقلب الجريدة: صحيح، ياقيس! سورية سندنا! نحن هنا استمرار حوران! 

بقي قيس في بيت شيخ الجبل يومين وليلتين. وصلته رسالة: يجب أن ترحل إلى سوريا فورا!  

 

 

- 24 -

 

في تلك الليلة قال شيخ الجبل لقيس: لو كان الأمر لنا لما تركناك تخرج في مثل هذا المطر! لكن سلامتك عزيزة علينا! الله معك! حظك أن هذه السنة كريمة بمطرها وصحوها!

لبس قيس ملابس عربية فوق ثيابه، وخرج في الصباح الباكر مع رشيد، أخي صاحب البيت. مشى خلفه كأنه شغيل يسوق له زوج بقر. مشيا تحت مطر غزير إلى آخر بيت في إربد. في كرم واسع في المنطقة الشمالية من البلد بيت ابراهيم، ابن عم رشيد. وصلا إليه في السابعة صباحا. بقي قيس في ذلك البيت حتى جاءه موسى الجبل في الثامنة مساء ورافقه إلى قرية كفر جايز. خرج مع موسى والمطر يتدفق. المسافة بينهما وبين كفر جايز عشرة كيلومترات فقط لكن الوحل إلى الركبة. وصلا في العاشرة إلى بيت أحمد، زوج بنت موسى. أحمد أبيض الوجه، أبيض اللحية والشعر، في السبعين من العمر. زوجته في الرابعة والعشرين من العمر. 

بيت أحمد في باحة واسعة فيها بقر وغنم وماعز. خارج الباحة الدكان. أوقد أحمد النار: جففوا ثيابكم! جلسوا قرب النار. وأحضرت زوجته العشاء: لبنة وجبنا وزيتونا وبيضا. يجب أن يعود موسى في الليلة نفسها! احتياط للسلامة! بقي قيس وأحمد وزوجته وطفلته الصغيرة. قال أحمد لقيس: نم أنت هنا، وسأنام أنا في الدكان. فوجئ قيس. ينام في غرفة واحدة  مع زوجة الرجل الشابة؟ قال: ياعمي، سأنام في الدكان، ولتنم أنت هنا في مكانك! ابتسم أحمد في سخرية: ياقيس، يقال إنك ذكي وفتح وشاطر. والله لاأنت ذكي ولافتح ولاشاطر! سأله قيس: لماذا ياعمي؟ قال: إذا شمّوا رائحة وجاؤوا يفتشون عنك فوجدوني في الدكان لن يخطر لهم أني وضعت غريبا عند امرأتي الشابة! قال له قيس: لكنهم اتهموني ياعمي، بأني دون دين ولاأعرف الله، فكيف تتركني عند زوجتك؟ أجابه أحمد: والله، فيك دين أكثر ممن يقول ذلك عنك!

بكى قيس في تلك الليلة. لاعلاقة لهذا الرجل المسن بأي حزب، بأية منظمة، بأي ناد. ومع ذلك يؤويه في غرفة زوجته الشابة! ماأقل مايعمله لشعب فيه هذا الرجل! هل تستطيع ياقيس أن تحمل الثقة بك طول العمر؟! هل تستطيع أن تحفظها يوم تفكك المجموعات ويهشم الناس حتى الصداقات، ويبدو الفرد وحيدا، حرا حتى في الانتحار؟ 

بدت حماية قيس مقاومة يتعاون فيها الأصحاب والسياسيون والعشيرة وتتجمع فيها الصداقة والتنظيم والحماسة للزمان. وصل جابر في مساء اليوم الثاني ليأخذه إلى سما. ناما ليلة فيها وخرجا في اليوم التالي إلى منطقة في الشريعة يفترض أن تكون سهلة العبور. مع السلامة ياقيس!

بقي قيس وحده أمام النهر الذي قطعه ذات يوم إلى بلده. كان حدودا بين السلامة والخطر؟ بين الواقع والحلم؟ بين الوجع والانتظار؟ تدفق النهر بماء الأمطار الغزيرة التي امتدت من الشتاء إلى الربيع. نعم، هذه السنة غنية بالمطر والصحو! بحث قيس عن معبر. فغاصت قدمه وشعر بتيار الماء الجارف. لن يجد هنا معبرا! تلفت فرأى من بعيد بيت شعر. اتجه إليه. في العتمة يبدو الضوء قريبا لكنك تمشي طويلا قبل أن تصل إليه. ومشى قيس يجر ملابسه العربية.

يامرحبا بالضيف! نادى الرجل زوجته: شتوة! فأحضرت طعاما. كان ذلك قبل مطلع الفجر. سأله الرجل: منهزم؟ لامجال للكذب. قال: نعم! قال البدوي: وماعرفت تقطع؟ رد قيس: صح! بعد الطعام قال لقيس: قم! وأوصله إلى منطقة يصل فيها الماء إلى خصره. خلع قيس الملابس العربية وأعطاها للبدوي، وقال له: اسمي قيس!

لم يعد البدوي إلى شتوة. رحل إلى إربد. بحث عن أبي قيس وسلمه ثيابه العربية: اطمئن، قطع قيس الشريعة!

قطع قيس الشريعة! مقابله مزيريب. هاهو في الأراضي السورية! وصل إلى مرتفع والفجر قد طلع. رأى رجلا فسأله: أين أقرب مخفر؟ أشار الرجل: هناك! تبع قيس إشارته: أنا قيس!.. أوصلوه بالسيارة إلى درعا واتصلوا بالشام.

بقي قيس أسبوعين ضيفا في بيت كان أبناؤه ينزلون إلى إربد، فيزورون بقية أسرتهم ويحضرون اجتماعات النادي الثقافي. إربد أقرب إليهم من دمشق. استضاف ذلك البيت أيضا يوسف الهرمي، الذي احتل مع المتظاهرين مركز الحدود والجمرك في الرمثا، وأعلن "جمهورية"! وهرب مع مجموعته إلى درعا عندما أعلنت الأحكام العرفية. قال له قيس: جمهورية، دفعة واحدة يايوسف؟ هل كان قيس يتصور أن بلادا ومناطق ومقاطعات صغيرة في العالم لاتستطيع أن تؤمن حتى طعامها اليومي ستعلن الانفصال بعد نصف قرن من الزمان، وقت تتجمع الدول الكبرى في وحدات إقليمية؟! 

وصل من دمشق نمر، الطالب في الجامعة السورية، يحمل لقيس مئة وخمسين ليرة سورية. ورافقه في منتصف كانون الثاني 1956 إلى دمشق.

دمشق في الخمسينيات مدينة صغيرة، أكثرها أحياء عربية ذات حارات. تمتد منها أحياء حديثة قليلة، بيوتها من طابقين أو ثلاثة، شوارعها مزروعة بالأشجار. فيها بناء واحد من ست طوابق هو "كسم وقباني" قرب البارلمان. وآخر في ارتفاعه تقريبا هو فندق فيكتوريا الذي لم تنزل فيه فيكتوريا لكن نزل فيه سلطان باشا الأطرش، ومصطفى كمال وشخصيات أخرى من الزوار. تبدأ غوطتها في الغرب عند التكية السليمانية، ومن الشعلان والروضة والسبكي. وفي الشرق عند الباب الشرقي. وتمتد من شارع بغداد حتى حي الصالحية على الجبل. مدينة جميلة، نظيفة،  ومضيافة. مطاعمها رخيصة، يرتادها المثقفون والطلاب. والملاهي فيها ليست عزيزة على الموظفين. فيها بارات على شاطئ بردى وفي البارلمان والقصاع بقيت منذ أيام الاحتلال الفرنسي. ومقاه صيفية للعائلات في شارع بغداد والقصاع. أجر البيت فيها بسيط. والفواكه فيها كثيرة يتصدرها المشمش البلدي. يعرض فيها تفاح لبنان الملفوف بالورق الملون والمشمش الهندي في سوق علي باشا قرب المرجة. وتجوبها عربات باعة اللوز الأخضر المزينة بزهر المشمش والدراق في الربيع، وعربات عليها حلّة كبيرة فيها الشوندر في الشتاء وعرانيس الذرة في الخريف. يتوقف فيها الناس إذا مر السوداني الأسود النحيف الذي يحمل على ظهره علبة يبيع منها "فستق العبيد" الساخن في قمع من الورق. يخرج أهلها إلى الغوطة أو إلى الربوة في أيام الجمعة. وتمشي بناتها في طريق الصالحية مزهوات بشعرهن الجميل وقاماتهن الشابة وملابسهن الملونة، ويتجول الباحثون عن خطيبة هناك. وهناك غرفة الشاي التي يلتقي فيها الطلاب والموظفون في جلسات هادئة. دمشق صغيرة سكانها ثلاثمائة وخمسون ألفا. نظيفة وهادئة. أرصفتها عريضة مرصوفة. وحاراتها مشطوفة. في الأمسيات الحارة ترش سيارة الشوارع بالماء لترطبها. ماأحلى المشي في دمشق! ماأحلاه في أيام الشتاء الدافئة المشمسة، وفي الليل! سيستمتع قيس بليلها وهو عائد من مطعم سقراط إلى غرفته في الحبوبي! وسيصغي إلى حفيف القنب الذي تحمله الحمير إلى الأفران عند الفجر!

يوم وصل قيس إلى دمشق لفحته روح المدينة. وخيل إليه أنه يشعر بحرارة وهجها. كانت دمشق مركز مقاومة الأحلاف، مركز الحرية. مزهوة ببارلمان منتخب وحكومة وطنية وجيش يسوسه ضباط وطنيون حاربوا في فلسطين. مزهوة بأنها كسرت الحصار باتفاقيات اقتصادية مع المعسكر الاشتراكي، وبصفقات أسلحة تشيكية وروسية. كأن القهر الذي شربته في حرب فلسطين طوي! فأصبحت مدينة تتحدى دولا عظمى، وتستطيع أن تدافع عن نفسها! وسيبقى دائما وزنها وأثرها أكبر من مقياسها. وستجد دائما بذكائها التقليدي أحلافها الصحيحة. ليست وحدها الآن! معها المعسكر الاشتراكي ومجموعة عدم الانحياز والعواطف العربية! قال بولغانين في مؤتمر الدول الاوربية في فرصوفيا في أيار 1955 إن الاتحاد السوفييتي "لايمكن أن يقف مكتوف الأيدي" أمام الضغط على سوريا ومصر والبلاد العربية لإرغامها على الانضمام إلى الكتل العسكرية. وسيتكرر كثيرا هذا التعبير. وسيفهم منه السوريون الاستعداد للدفاع عنهم بالقوة! وسيقولون مازحين: نحن والاتحاد السوفييتي أقوى من أمريكا!    

في دمشق، الجامعة مركز سياسي. للطلاب تجمع فيه ممثلون عن البعثيين والشيوعيين والإخوان المسلمين. تبدأ منها المظاهرات والعرائض والمذكرات إلى المجلس النيابي أو الحكومة أو الهيئات الدولية. يقرر ممثلو البعثيين والشيوعيين والإخوان المسلمين، مجتمعين، تلك النشاطات. تخرج المظاهرات من حديقة الجامعة الرئيسية، تمشي في طريق الجامعة، تنحدر بين أشجار الكينا، تعبر المتحف، وتصعد الطريق المرصوف بالحجر الأسود إلى البارلمان بين حديقة المنشية الجميلة وكازينو دمشق الدولي المظلل بأشجار كينا ضخمة، أو تمشي أولا إلى المرجة، ساحة الشهداء. يهتف المسؤولون الحزبيون ويردد هتافاتهم الطلاب. وأحيانا تصدح أغنية "ياظلام السجن خيم، إننا نهوى الظلام، ليس بعد الظلم إلا فجر يوم يتسامى".. نشيد يسمعه الطلاب الجدد فيتذكرون المتقدمين عليهم الذين سجنوا في أيام الشيشكلي، ويشعرون بأنهم مبتدئون لأنهم لم يمتحنوا بالسجن. لكن ذلك لايمنعهم من أن يتصوروا أنهم يسقطون حكومة أو يسندون حكومة، ويكشفون المشاريع الاستعمارية، ويمنعون القواعد العسكرية. بفضلهم لاتجسر حكومة على عقد اتفاقات تسمح بقواعد عسكرية! بفضلهم لاأهمية لأكثرية البارلمان المحافظة! هم والجيش يسندون النواب الاشتراكيين في البارلمان والنائب الشيوعي الوحيد! هم امتداد التجمع الذي يسمى جبهة وطنية! عندما تصل المظاهرة إلى البارلمان يقفز المسؤولون الحزبيون إلى السور ويلقون كلماتهم، ثم تتفرق المظاهرة ويشعر الطلاب بأنهم أنجزوا عملا كبيرا. هل يعرفون أن ذلك الاعتداد هو سبب الفرح الذي شمه قيس في الجو عندما دخل إلى الجامعة أول مرة؟! ليس الصبا فقط سبب الفورة التي رآها! بل هواء سورية! 

في الأيام العادية يتجمع الطلاب بعد المحاضرات في الحديقة أو النادي. يسمعون إذاعة نادي الجامعة تنادي أو تنقل أو تداعب وتطلق أغنيات فيروز في الحديقة. يستمتعون بمناقشات الندوة الثقافية التي تنظم لقاءات ومهرجانات أدبية وفكرية. خلال زيارة قيس الجامعة أول مرة، عرض في كلية التربية فيلم عن جامعة موسكو قدمه كامل عياد. وقرر ممثلو الطلاب مظاهرة بدأت من الجامعة ووصلت إلى المجلس النيابي. خطبوا، وخرج إليهم النواب. انبهر قيس بتلك الحركة، فلم يشعر بالوقت الطويل الذي يثقل على اللاجئين السياسيين. 

أبناء بلده في الجامعة شاب تخرج من كلية الطب يتدرب في المستشفى الوطني، وطلاب في كلية الحقوق، وطلاب في كليات الصيدلة وطب الأسنان. قدموه لأصحابهم السوريين وللعراقيين اللاجئين من حكومة نوري السعيد. وكان قيس يستمتع بتجمعات الرجال ومناقشاتهم التي تستمر حتى الفجر، فأصبح بسرعة وسط مجموعة.

 قال للاجئين السياسيين العراقيين وللطلاب السوريين والأردنيين الذين جلس معهم في نادي الجامعة: سيطرد غلوب كي ينفتح حل ما. ستأخذ أمريكا مكان إنكلترا في المنطقة. وقد نفيد من عصر الانتقال فنصفّي النفوذ الإنكليزي! ثم جنح إلى الشعر، ووصف الشخصيات التي صادفها في السجن.

ملك بحديثه ونكتته تلك المجموعة من الطلاب فاستقبلوه في الجامعة يوميا. وانتظروا معه يوم الخلاص. داعبوه كلما رأوه: لم يسقط بعد غلوب؟ وسألوه أين سيستضيفهم في جمهوريته. وداعبهم أيضا فتجول في مدن العراق التي سيدعونه إليها! وفي مدن فلسطين التي سيزورها معهم! شرب معهم الكاكاو الذي تقدمه الندوة الجامعية، وأكل صحن "ميزو سبانخ مع الرز" من يد نجاح في مطعم الجامعة. وتجول خلال ذلك معهم في الحديقة. تأمل وجوه الطالبات النضرة البيضاء، وقاماتهن الرشيقة، وملابسهن الملونة الأنيقة. تنفس في عمق وقال: الشاميات! فداعبه ابراهيم السوري: أتين من أنحاء سوريا! تلك الشقراء الجميلة من اللاذقية! وتلك السمراء الرشيقة من حلب!

  هل جمعت اولئك الشباب منظومة فكرية واحدة، أو مشروع عام فقط؟ لا، بينهم صداقة، حب، لهفة. كأن أحدهم مستعد أن يفتدي الآخر بروحه! ماسبب ذلك التوهج الذي يوهمهم بأنهم يصنعون القدر؟ الفرح باكتشاف الأخوة في منظومة فكرية مشتركة؟ سعة المشروع، ومدى الحلم؟ وهل يملكون غير المشروع والحلم وهم بعد دون أسرة ودون بيت ودون عمل؟ تذكر قيس تلك العلاقات الصافية الحميمة فيما بعد، عندما انقسمت الأحزاب في بلاد الشام، وتباعدت منظمات كل بلد عن الأخرى. في تلك الأيام نزل قيس عند السوريين كأنهم ملزمون به، ووجد العراقيين في وضعه نفسه! كأن بلاد الشام لاتزال موجودة، والأنظمة المحبوسة بالقواعد العسكرية في الأردن والعراق موقتة! سيسمي قيس فيما بعد جيله "جيل الخمسينيات"، وسيوسع تلك المجموعة حتى تسع منافسيه أيضا. 

تحدث قيس في حرارة عن إعجابه بالجامعة. فرد عليه نمر، كأنه صاحب الجامعة: كل من ينزل في دمشق يزورها! يقصدها حتى السوريون الذين يبحثون عن زوجة! انظر، ذاك الضابط حام حول تلك الفتاة شهرا ثم خطبها. وذاك الشاب تخرج من الجامعة وخطب هذه الشابة السمراء النحيلة. عرض لوحة عنها في معرض اللوحات الجامعية. قال لي: حلمي الذي كنت أبحث عنه! روى نمر لقيس قصص حب أخرى ودلّه إلى أصحابها. هذه نعمت، قامة سويدية، لكن بشرة وجهها غير صافية. قومية سورية معتدة بنفسها لكنها دون نشاط سياسي. تنتقي أصدقاءها. اختارت حتى الآن اثنين رسبا في امتحانها. لديها الآن هذا الشاب الوسيم الغني. استقرت عليه ويبدو أنهما سيسافران إلى إنكلترا أو أمريكا! سأله قيس: وأنت يانمر؟ رد: ليس لدي شابة أحبها! سأتزوج من عشيرتي عندما أعود إلى البلاد! هنا، أذهب إلى بيت سري في الشعلان، فيه نساء جميلات!

في تلك البرهة عبرت الحديقة شابة بثوب أزرق مخضر، ووقفت عند مجموعة من فتيات وشباب. هبّ قلب قيس وشعر بأن وجهه احمر. انسل وجع رقيق عذب من قمة رأسه إلى قدميه وهو ينظر إليها. وكأنه عاد إلى اليوم الذي رأى فيه أول مرة الزرقة والخضرة في زخارف قبة الصخرة في القدس، فغمرته الرهبة والانبهار وشد على كف أبيه ذاهلا.  قال لصاحبه: فلنقعد! واجتاحه خوف من أن تفلت الفتاة من عينيه. تبع خفقان شعرها، لحق فرحها، وجهها الصبوح، بشرتها المتوهجة. أحب قامتها وكتفيها. وردد لنفسه: نعم، كتفيها! ثم التقط فيها كبرياء استفزه. قال لنفسه: كأنها تملك الدنيا! وفي البرهة نفسها أكد لنفسه في هدوء: هذه الشابة قدري! قرر أن مااستشفه أصبح حقيقة وليس عليه إلا أن يتبعها لينفّذها. سأل صديقه: من هذه؟ لايحتاج صديقه إلى السؤال من تقصد. لاحظ أن قيسا ثبت عينيه عليها. قال له مبتسما: ليلى! سأله قيس: لاتمزح! من هي؟ رد نمر مرحا: ليلى! لم تسأل ياقيس إلا عن ليلى؟! ياللمصادفة! قيس وليلى مرة أخرى؟! كاد قيس يضحك. هرب من بلده متخفيا، عبر الليل والنهر والخطر كي يلتقي بليلى؟! دمشق أم ليلى أم هما معا هذا الصبا؟ قال نمر: ليلى صديقتنا! طالبة في كلية الصيدلة. لكنها لاتتجول في حديقة كلية العلوم. تقول، تلك الحديقة للعشاق! تفضل حديقتنا! لماذا اجتاح الفرح قيسا؟ لأن ليلى ليست عاشقة وإلا لفضلت الحديقة الأخرى! مع ذلك، ماأهمية أن تكون عاشقة؟ سينتزعها من أي رجل لأنها هواه المقدر له في أبراج السماء! هل بين ايمانه بحدسه وبين ايمانه بالغيب حدود؟!

أضيف إلى الجامعة رونق خاص لم يخف على صديق قيس! أمتعه أن يرى قيسا باحثا عن ليلى. فإذا صادفها ثبت في مكانه إذا كانت واقفة مع أصحابها، وجرّ صديقه ليدورا حول الحديقة إذا دارت ليلى مع أصحابها حولها. بدت ليلى لقيس دائما مشغولة بأمر لايعرفه أحد. كأنها تظهر، وقت يراها، في طريقها بين مكانين أو عملين. لذلك بدت له مستحيلة. لايمكن أن يمسك بها. وسيظل هذا الشعور يلازمه. قال له صديقه: وقعت ياقيس؟ كانت كلمة "وقع" تستعمل بين الأصدقاء للتعبير عن الغرق في الحب. لم يجبه قيس. قال نمر مبتسما: بلّغوني أنك ستلقي اليوم قصيدة في الاجتماع ضد حلف بغداد. سأكون هناك.. وأعتقد أن ليلى ستكون أيضا هناك. تريد أن أعرفك عليها؟ ستكون ليلى هناك؟ وستسمعه؟ أيمكن أن يقترب من ليلى، ويكون كهؤلاء الذين تتحادث معهم الآن في بساطة كأنها تعرفهم منذ ولدت؟! يجب أن تحتفل الدنيا بأول مرة تجمعهما! هز رأسه وقال لنمر: لا! فليترك للصدفة لقاء اليوم! يؤمن بأنه سيعرف ليلى، وسيمسك بكفها ويضعها على قلبه ويقول لها: اسمعي رجفته! ويقول: تريدين أن أنتزعه لأضعه على كفك؟ لو أتت اليوم فسيلقي شعره كما لم يلقه من قبل. وسيكون ذلك لها. مع أن قصيدته ستكون عن حلف بغداد.

في أرض دار بيت عربي في الميدان بحث قيس عن ليلى بين الحاضرين منذ دخل. ورآها بثوبها الأزرق المخضر نفسه، على كتفيها إشارب مطبوع برسم من رسوم  بيكاسو. رأى بشرتها الشفافة، وخفق قلبه مع حركة شعرها. عم كانت تتحدث؟ هنا أيضا، كانت كأنها تملك الدنيا. فهل سيكون له مكان عند هذه السعيدة التي يبدو أنها لاتحتاج أحدا؟ ومع أنها بدت منصرفة إلى ماحولها بكل قلبها، قال لنفسه: ليست هنا، كأنها تفكر في مكان آخر، ويوم آخر! وشعر بالغيرة منها وعليها. ومرة أخرى انسل وجع عذب من قلبه إلى جسمه كله. لم يجسر أن يقول لنفسه أحبها. لكنه قال: قدري، وسأمسك به! قد يترك دمشق فجأة، قد يبتعد أو تبتعد، لكنه لابد أن يلتقي ذات يوم بها لقاء لن يفترقا بعده! لم يخب حدسه أبدا. فهل يخيب في أكثر الأمور قربا من روحه؟!

في الاجتماع استمعت ليلى إلى شعر قيس. أعجبتها رشاقته ونحوله. وقالت لنفسها: صوته، صوته! في صوته نغمة لاشبيه لها. أسى؟ سحر؟ قبلت قصيدته لأنها صحيحة سياسيا. لكنها لم تصفق بعد كل مقطع منها كما صفق من حولها. انصرفت خلال ذلك إلى النظر إلى وجه قيس وقامته وقوس الليوان فوقه، وشجرة النارنج إلى يمينه. رفعت رأسها إلى السماء مبهورة بزرقتها النيلية على حدود الليل. لكل ذلك جمال خاص على ايقاع صوته. نظرت إليه عندما أضيئت الأنوار كأنها لاترى سواه. وعندما انتهى بدت كأنها نسيته.

بقي قيس حتى سفره من دمشق كالطلاب المداومين في الجامعة. يتأمل ليلى من بعد، ويقترب أحيانا فيسمع صوتها الذي يقفز قفزا، يسمع ضحكتا السريعة، ويعجبه العنفوان في كلامها. صار يستهويه أن يمشي خلفها عندما تخرج من الجامعة. ينحدر وراءها مع النهر ويعبر معها التكية ثم يصعد الطريق قرب أشجار الكينا إلى التجهيز، وهو يتأمل ظهرها وساقيها وكعبها وحذاءها، رفيف ثوبها وشعرها، عبورها الشارع كأنها فيه وحدها.  قال، سريعة كالمهرة، وحفظ رسم ساقيها وسيجعله مقياسه. حفظ ثيابها وفهم أنها تحب اللون الأزرق الأخضر والأبيض. فسأل صاحبه: أيمكن أن تكون عاشت في القدس؟ دهش نمر: في القدس؟ أظن أنها لم تسكن إلا في دمشق! ردد قيس: عاصمة بلاد الشام، حلم جنوب سوريا! واستعاد انبهار أبيه بالشام، وماترويه نساء بلده عن الزوجات الشاميات ساحرات الرجال. لكنه في زمن آخر! وليلى شامية أخرى!

 

 

 

في الثاني من آذار سمع قيس من الراديو: طرد غلوب. في الثالث من آذار 1956 نزل إلى ساحة المرجة، وركب السيارة مع المسافرين راجعا إلى بلده. عبر سهول حوران، ثم عبر درعا. لاتؤاخذوني ياأصحاب البيت الذي استضافني، لاأستطيع التوقف! ولم يكونوا في انتظاره! سبقوه إلى أهلهم في الرمثا وإربد وعمان والزرقاء ليحتفوا معهم بطرد غلوب. وفي دمشق لم يتوقع أصحابه أن يودعهم.

على الحدود حشد من الناس. ينتظرون الغائبين! كيف عرفتم أننا قادمون؟ حدس العشيرة التي تراقب أولادها من النوافذ، وتتابع أهواءهم وتزعجهم بذلك! انعقدت الدبكات وحاول الراقصون أن يطلقوا بها فرحهم. الدبكات التي ستعقد فيما بعد لتؤدي واجبا، أو لتنافق، أو لتخفي العواطف الحقيقية يوم تصبح الأفراح مقدّرة بمواسم، ويفقد حتى الحزن مذاقه، وتصبح الأعياد دون بهجة، وينكفئ الناس من الشوارع إلى البيوت، ويفسد مجتمع القرية والمدينة! وسيكره قيس عندئذ الدبكات كلما رأى صورتها في الجرائد.

على الحدود التقى بالعائدين من دمشق. ورأى المواكب التي رافقتهم حتى مدنهم وقراهم. مرة أخرى الجموع التي يحدد لها المشروع فقط أن تجري في الخير أو في الشر، ويجعلها المشروع فقط غوغاء أو جمهورا. شعر بالنشوة وهو يستمع إلى أهازيجها. لكنه عندما عاد إلى السيارة التي تنقله إلى بلده، ترددت في روحه قصيدة الرحبانيين التي كان يسمعها بصوت فيروز من إذاعة الجامعة، وهو يمشي خلف ليلى: وقوفا وقوفا، أيها المشردون وقوفا وقوفا. ترى هل تسمعون، ديارنا من يفتديها، من غيرنا يموت فيها؟ في الأمطار راجعون، في الإعصار راجعون، في الصباح، في الرياح، في السهول، في البطاح راجعون.. تمنى قيس في تلك البرهة أن يغني، وتذكر أنه لم يغن منذ زمن بعيد! ولكن أية عودة تريد ياقيس أن تغني؟ بأية عودة تحلم؟ صار الرجوع إلى البلد الذي هجّروك إليه أمنية؟ كأنك سامحتهم بفلسطين! ردد: أبدا! أبدا! لكن الهزيمة والنصر تبعدنا أو تقربنا منها! 

بقي بيته أسبوعا مفتوحا للمهنئين. منذ ألف ليلة وليلة مايزال الأسبوع يؤرخ للفرح والحزن! وقبلها بآلاف السنين! لكن الاحتفال الطويل لايناسب الزمن! لا، ياقيس! نسيت أن التهنئة كالتعزية تعبير سياسي؟!

مع المهنئين أتى أبو صالح مدير السجن. أهلا ياأبا صالح، أهلا! قدم له قيس سيجارات. لاأدخن! يجب أن تدخن كي أفيك الدين! بقي أبو صالح حتى انصرف آخر الزوار في تلك الليلة. في فمه كلام. نعم ياعمي أبا صالح؟ اسمع ياقيس! قلت لك في السجن إن الملائكة قد تنزل من عروشها لكن غلوب لن ينزل، فأجبتني بل سينزل! وقد نزل. فكيف عرفت؟ دهش قيس. هل يتصور أبو صالح أن قيسا ذو صلة بمن يرسم قدر الممالك والبلاد؟ نظر إليه. نعم، ينتظر أبو صالح أن يبوح له قيس بسرّ! ياعمي، يزاح الشخص عندما يصبح عبئا على زمن. غلوب ماعاد مقبولا في البلد. مع أنه يخاطب العشائر بلغتها ولايفوّت عرسا أو وفاة أو مولد طفل، ويقدم فيها كلها الواجب. الخمسينيات تهز بلدنا كما تهز آسيا كلها. بدأ بعد الحرب العالمية الثانية زمن جديد، وصراع جديد. غلوب يوقف بلدنا في زمن مضى. سأله أبو صالح: وكيف عرفت كل ذلك؟ لم يكن الناس يومذاك يسمعون المحطات التلفزيونية ويتابعون الحوار بين المتنافسين فيعرفون ماتعرفه "الطليعة" وقد يسبقونها في الاستنتاج!        

غاب قيس عن بلده زمنا قصيرا. ومع ذلك نظر إليه أبوه بعد انصراف الزوار كأنه يفحصه. فالتفت قيس إليه بملء وجهه. قال أبوه: فيك شيء لم يكن وقت سافرت إلى الشام! ردد قيس: شيء جديد؟ يابا، اختفيت أول مرة في عمري، لبست ملابس ليست ملابسي، قطعت القرى في الليل وغصت في الوحل والمطر. أكلت على سفرة غريبة، ونمت في فراش غرباء. وترى أني يجب أن أكون كما كنت؟ ابتسم أبوه. وصمت قيس. سأله: مازالت بنات الشام جميلات؟ فهم قيس مايقصده. قال: ذهبت إلى بيت في الشعلان فيه نساء جميلات! هذا مايريد أبوه أن يعرفه؟ سأله: ياقيس يلزمك مال؟ خذ! يفرحه أن يكون لديه ابن شاب يسعى إلى النساء! لكن لماذا لم يخطر له أنه "وقع" في الحب؟ نعم، هناك شيء جديد يخفيه! حب لن يفارقه طول عمره! 

كان يعرف أن ليلى لن تكون حيث بحث عنها قبيل سفره. لكنه مر تحت شجر الكينا، وعبر المتحف والتكية، وصعد في الطريق إلى التجهيز. واستمع إلى خطواته على الحجارة السوداء هناك، واستسلم لأسى رقيق وممتع. وقف على المرتفع الذي يطل على بردى أمام التجهيز، وبدا له أنه قال لليلى أو للمدينة: إلى اللقاء! كيف؟ متى؟ لايعرف، لكنه واثق من اللقاء! هل كانت ليلى حلما يتمنى كل إنسان أن يستبقيه نضرا ويحتفظ به؟ هل كشف له هواه أن القضايا العامة لاتملأ وحدها الروح، وأنها إذا لم تتصل بعواطف يصبح حاملها آلة دون قلب؟ بقي في دمشق زمنا قصيرا لكن لهفة مجموعة الشباب الذين صادقهم بينت له أن المنظومات الفكرية والمشروع هي علاقات إنسانية. وعاد فرحا بها. وبدت له ليلى روح ماأحبه في دمشق، صبا وعنفوان وكبرياء مدينة وزمن ومجموعة. هل كانت تدري ذلك، أم كانت تجري في فضائها الحرّ مسددة إلى أفقها؟

سيضع قيس فيما بعد صورتها في جيبه، وهو يعبر منظمات ممزقة، وبلادا تهيء انهيارها، ويغطس منتقما من نفسه ومنها ومن الواقع الذي ترنح، وسيتخيل أنه يحمي نفسه من كل ذلك بالحلم بها. سيعانق فتيات متنوعات وصورة ليلى في جيب صدره بينه وبينهن، وسيخيل إليه أنها تحميه من الزلل. هل يحتاج حتى أكثر المعاصرين معاصرة، وأكثر المتمردين تمردا، إلى تميمة تقيه الشرّ وعين الحسود وغدر الزمن؟ ويكون كالطفل الذي لفّت أمه "الحجاب" المثلث في غلاف من القماش الأبيض، وأضافت إليه خرزة زرقاء وعلقته على صدره؟ هل كانت ليلى بثوبها الأزرق المخضرّ تميمته التي تدفع سواد النهار؟ إذا لم تكن ليلى حلما ومدينة ومشروعا، مثلا لايمكن أن يفجع به، نجما لايمكن أن يخبو، صديقا لايمكن أن يغدره، فلماذا ستظل بألوانها طوال العمر الذي سيعبره، دافئة رغم الثلج، وجميلة رغم كل من عرفهن من الجميلات؟ ربما كانت ليلى زمنا، سنوات مجيدة وجميلة في بلاده، الجزء الذي يعتز به من عمره! لذلك يجب أن يلقاها ذات يوم! لابد أن يلقاها ذات يوم!    

 

أضيفت في 15/04/2005/ خاص القصة السورية

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية