أصدقاء القصة السورية

الصفحة الرئيسية | إصدارات أدبية | خريطة الموقع | مكتبة الموقع | بحث | من نحن | معلومات النشر | كلمة العدد | قالوا عن الموقع | سجل الزوار

SyrianStory-القصة السورية

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

 

 

السابق أعلى التالي

التعديل الأخير: 15/08/2024

روايات الكاتبة: هناء كرم سابا

هكذا ولدت مريم

إلى صفحة الكاتبة

لقراءة الرواية

 

 

الرواية

طال الأمر ونحن ننتظر

هكذا بدا كل شيء

هكذا كنا وكانوا

 هكذا ولدت مريم

هكذا ولدت مريم

وبعدما ولدت مريم

وانطلقنا في الدرب الشاق

وصلنا وبعد

 

 

هكذا ولدت مريم

 

 

 

هكذا كنّا وكانوا

قبل ولادة مريم

-1-

فرحنا كثيراً يوم حصل زوجي على عمله في الكويت ... كانت الكويت من أكبر وأول الدول الخليجية التي استوعبت الكثير من الشباب ومنحتهم فرص العمل المختلفة وساعدتهم على بناء أسرهم وتحقيق طموحاتهم ونحن كنا احدى هذه الأسر...

لاأنكر يومها أن فرحنا كان مغلفاً بقلق من المجهول ... غير المتوقع...

الا أن فرحنا كبر وارتياحنا عظم عندما عشنا فيها وأصبحنا جزءاً منها وأصبحت جزءاً منّا، وصارت لنا الوطن الثاني ... وجدنا فيها الأمان والراحة والأصدقاء والأهل ...

أنجبنا أطفالنا ووجدت نفسي في الكتابة في بعض الصحف والمجلات الكويتية، وكبرت عائلتنا وتمتعنا باستقرارنا وانفتاحنا على مختلف الثقافات والجنسيات الموجودة في الكويت وصارت لنا حياتنا هناك، التي نحس بعيدأ عنها بالغربة.

 

ربما كنا نعتقد كما يعتقد كثيرون أن حرارة الصيف اللاهبة في الكويت هي التي تدفع الجميع للخروج والبحث عن مكان آخر حرارته أقل ومناخه أفضل.

لكنك عندما تعيش فيها تعلم أن الصحيح هو غير ذلك، انها الاجازة المدرسية هي التي تدفع معظم العائلات للسفر لأن الحرارة الشديدة أطول من الاجازة والقيظ، الحر يبدأ فبل الاجازة ويستمر لما بعدها، والجميع يعود مع بداية السنة المدرسية.

كثيرون يتركون للسفر  والاصطياف .. كثيرون يبحثون عن أماكن مختلفة للابتعاد لأن في البعد الاستراحة والتغيير كما في جميع أنحاء العالم.

وترى العائلات الكويتية تنتشر في جميع أماكن الاصطياف والاستجمام .. الموسرة منها تتجه الى اوروبا وأخرى تفضل البلدان العربية حتى لا تبتعد عن التقاليد وتستمتع بالجو الجميل واللقمة الطيبة والخدمة الممتازة. أما العائلات المقيمة من عرب وأجانب في الكويت فما ان تبدأ العطلة المدرسية حتى ترى أسراب الأمهات والاولاد تتجه الى بلدانها لقضاء العطلة مع الأهل ... ويلحق بهم رب الأسرة لاستكمال العطلة والاستراحة..

كل هذا يجعل الاعتقاد ساريا أن الناس يهربون من القيظ والحر الا أن في الكويت أماكن كثيرة باستطاعة الفرد أن يقضي فيها أوقاتا ممتعة غير آبه بالحر الشديد... فجميع الأماكن مبردة ومجهزة بكل وسائل الراحة ناهيك عن البحر...

البحر الذي تبدأ بالحديث عنه ولا تنتهي، يجلب اليك الرطوبة العالية لكنه يأخذ نفسك وروحك ويغوص بهما في دنيا واسعة من الراحة والاستمتاع... وعندما تعتاد العيش قريباً منه فان غربتك تكبر بالابتعاد عنه وتشتاق اليه بكل جوارحك.

 

لذا فانك تجد كثيرين يفضلون البقاء ... أو يغادرون لبعض الوقت فقط في اجازة قصيرة ...

 

أنا واحدة من الامهات ، أنتمي الى فئة المقيمين العرب ومثلي كثر.. لم أكن أرغب قضاء الاجازة المدرسية كلها بعيدا عن بيتي وزوجي وعن الكويت.. كنت آخذ الأولاد لرؤية العائلة الا أنني لم أحب يوما قضاء الاجازة كلها هناك فأعود دائما مع زوجي أو بعده بقليل لنكمل الاجازة معاً.. خاصة أننا ومعظم أصدقائنا نفعل الشيء ذاته .. فيكون هذا حافزا اضافيا للعودة وقضاء العطلة معاً.

وفي هذا العام كغيره من الأعوام عدت سريعا كعادتي وقد صادف يوم عودتي مع الأولاد يوم ذكرى زواجنا حيث أصريت أن أمضيه مع زوجي وليس بعيدا عنه ، كان ذلك في السابع عشر من شهر تموز 1990....

 

إبّان عودتي أردت التأكد مَن مِن الأصدقاء موجود ومَن عاد ومَن سيعود قريباً.. الأصدقاء هم الأهل هنا ووجودهم بلسم.

جورجيت وريمون سافرا الى اميركا لرؤية أهله، لم تكن عودتهما سريعا مؤكدة لأنها حامل في شهرها السابع وكانت محتارة بين الولادة هناك أو العودة والولادة في الكويت... أخيرا قررت العودة، فقد أحست أن ولادتها في الكويت ستكون مريحة للغاية فهي في بيتها ومع طبيبها، وخاصة أن أختها بهية قررت  الحضور لمساعدتها ومؤازرتها .

ليلى والياس قررا عدم السفر هذا العام، ليلى مهندسة معمارية وتعمل في احدى الشركات الهندسية ولا يمكنها السفر مطولا لذا قررت وعائلتها البقاء في الكويت وقضاء الاجازة فيها معاً، وكذلك فعلت هدى أختها وسليم والاولاد، خاصة أن بسام أخا الياس سيحضر لزيارتهم فتكون التسلية أكبر وبامكانهم جميعاً الذهاب الى جزبرة فيلكا للاستمتاع بالبحر كما يعشقون.

أما شكري ومها فقد كانت اجازتهما في النصف الأول من الصيف وعودتهما وشيكة لأن مها لديها امتحان قيادة السيارة ولم ترغب تأجيله.. ومن يؤجل امتحان القيادة الذي تنتظره شهوراً طوالاً؟.

تريز وابراهيم لم يسافرا ايضاً لأن تريز حامل في شهرها السادس ولم ترغب بالذهاب وفضلت البقاء وكذلك فعلت أختها وعائلتها.

مي ولينة هما من الأمهات اللواتي تغادرن أول يوم في الاجازة وتعدن آخر يوم لها. ومنتصف تموز هو عادة موعد الرجال للحاق بهم لذلك فان عدنان وملك لم يكونا أيضاً.

أم سمير لست متأكدة ... قبل سفري كانت هناك بوادر خطوبة سمر ... وكل المشاريع الصيفية متوقفة على ذلك ... سأعرف قريباً.

 

في أيام الاجازة الصيفية لا يستيقظ الأطفال باكراً جداً فأتفرغ لقراءتي وكتابتي، ثم نقضي اليوم معاً، يلعبون ويشاغبون ويختلفون ويشاهدون بعض البرامج التلفزيونية وأنا أنهي أعمالي المنزلية والمطبخية... حتى يأتي والدهم ظهرا لتناول طعام الغداء ويعود الى عمله.

أو يأخذنا في طريق عودته الى عمله لزيارة أحد الأصدقاء حيث يقضي الأولاد الوقت معاً ويتسلون ويلعبون وكذلك نحن الأمهات.

أو يلعب الأولاد في مواقف السيارات عند مدخل المبنى ... وبما أن هذا لا يحدث غالباً لخوفنا عليهم فهم يفضلون لعب الكرة في البيت بعد أن يهيئوا المكان بابعاد ما سهل كسره حتى يتجنبوا العقاب...

أو ننتظر عودة الرجال من أعمالهم فنذهب الى الواجهة البحرية عندما تسمح لنا الرطوبة المتدنية بذلك فنتستمتع بهواء البحر العليل ويلعب الأولاد مليئاً ويركضون ويمرحون ونجلس الى احدى المقاهي المنتشرة ونتقهوى وندردش ونتحدث فننسى جميعاً تعب اليوم ويعود الأولاد تعبين الى العشاء والنوم فنسهر بعيداً عن ضوضائهم.

يوم الخميس نسهر عادة جميعاً في بيت أحدنا... لكل دوره .. حيث تحضر ست البيت عدداً من الأطباق فنستمتع بالعشاء معاً وقد نستمع الى الموسيقى وغالباً ما يكون عيد ميلاد أحد من المجموعة أو ذكرى زواج  فتكون الحجة أكبر والسعادة مضاعفة فتنقلب المناسبة احتفالاً ورقصاً وكيفاً وطرب... أو نكتفي بالقاء النكت والأحاديث الظريفة أو كما في معظم الأحيان أحاديث ومناقشات عن الأوضاع الاقتصادية والسياسية وأسخن النقاشات تكون عن تربية الأولاد.

 

*   *   *

 

بعد ليلة خميس ... وحديث هاتفي ...

- الحقيقة يا جورجيت السهرة كانت رائعة البارحة... انبسطنا كتير ... الجميع كان رايق ، يا الله شو ضحكنا .. كيف تأتي النكات تباعاً عندما يبدأ أحدهم بسردها.. ان شاء الله تلدين بالسلامة وتعملي لنا سهرة أحسن..

- بالتأكيد ادعي لي أن يرزقني الله بابنة حلوة وسأقيم لكم أحلى سهرة … بنت يا ربي بنت … الحقيقة ليلى لم تقصّر أبداً البارحة .. والياس كان فرحاً جداً بأخيه بسام .. يعامله وكأنه ابنه .. فرحت أنه جاء لزيارتهم فهم يخططون لذلك منذ زمن وليوفقه الله بعمل جيد هنا فيزيد الأصدقاء …

- ان شاء الله يبدو ذلك .. ويبدو أن في الأفق بنت حلال أيضاً .. ما أحلى الأفراح .. أتدرين لم نتفق أين ستكون السهرة في الأسبوع المقبل؟؟

- فعلاً كنا مستمتعين ومنسجمين فنسينا أن تنفق … بسيطة سنرتبها .. الحقيقة كنت أود أن تكون عندي لكن البارحة عندما ذهبنا الى محل المفروشات للمراجعة بشأن غرفة النوم الجديدة .. وعدونا بتسليمها لنا يوم الخميس القادم.. أخشى أن أكون مشغولة..

- أخيراً ستستلمين الغرفة.. لقد مضى زمن على طلبكم لها وهم يؤجلون موعد التسليم ..

- ماذا نفعل؟؟ يبدو أننا اخترنا موديلاً معقداً .. لكن كما تعلمين أنها أول غرفة نوم نشتريها منذ تزوجنا.. أعتقد أنه وبعد ثلاثة عشر سنة يحق لنا أن نختار غرفة ولو كانت معقدة.. وبما أننا كنا سنسافر رضينا أن يسلمونا اياها بعد عودتنا .. وها قد مضى على عودتنا  اسبوعان وهم يماطلون  ويماطلون.. صدقيني أنا متحمسة جداً وأنتظرها بفارغ الصبر..

- شو لتجديد شهر العسل؟؟

- راح فكرك لبعيد كتير .. أتدرين ؟  عندما انتقلنا الى هذا البيت منذ عشرة شهور وأنا أتمتع بشعور جديد .. هذا البيت هو أول بيت نستأجره غير مفروش .. لقد تمتعت جداً وأنا أنتقي غرفة الجلوس وتوابعها من ديكورات بسيطة .. وأنا كل يوم أمارس متعتي هذه بتنظيفها والانتباه عليها .. وعندما اضطررنا لجلب غرفة النوم القديمة معنا قلت لا بأس سأنتظر .. والآن بانتظار الغرفة الجديدة .. لا أدري ان كان سيكون لها تأثير على تجديد شهر العسل بالرغم من أنني أتمنى ذلك … الا أن الاحساس بأنك تمتلكين ما تستعملين لا أن تستعملي ما يملكه الغير هو احساس رائع جداً.

والحمد لله بدأنا بامتلاك كل ما نستعمل ..

- أتمنى أن تستلميها وتستمتعي بها بالخير والصحة .. على كل حال تذكرت أن ليلى تنوي ربما الذهاب الى فيلكا يوم الخميس القادم وأنا بدأت أحس بالثقل وعندي موعد مع الطبيب .. ربما نسهر على الخفيف..

- متى ستأتين لقضاء بعد الظهر عندي.. غداً أو بعد غد ؟ فأنا أريد أن أريك كل ما أحضرت من أميركا لابنتي .. يا الله كم سأكون سعيدة لو أكرمني الله ورزقني بابنة بعد نورمين وآلن وهما سيكونان سعيدين أيضاً وكذلك ريمون .. فهو ينتظرها ليدللها وكما يقول البنات صديقات الآباء.. وهو بانتظار صديقته..

- يا عزيزتي … انشاءالله سيرزقك بطفل كامل الصحة .. اذا كان بنت بتفشي خلقك ولكن لازم دائما تفكري أن الطبيب يمكن أن يكون مخطئاً ويكون صبي وقد حذرك الطبيب من ذلك .. حرام أن تفكري بهذه الطريقة المهم خلقة تمامة وصحة جيدة وولادة سليمة..

- أعرف .. أعرف سامحني الله، لكن قلبي يذوب.. حتى تأتي البنت..

- طولي بالك كلها شهر بالكثير وتلدي ..

-  تأتين غداً لأنني سأحضر التبولة ؟؟

- معقولة جداً ، وساؤكد لك مجيئي في المساء..

- ياالا باي استفاق رامي ويجب أن أذهب..

- باي.

كانت المكالمات الهاتفية هي الصلة الأساسية بين الأصدقاء .. المسافات بعيدة والزيارات غير ممكنة باستمرار لأن معظم السيدات لا يقدن السيارات لصعوبة حيازة اجازة القيادة وغلاء ثمن السيارات، واستعمال التاكسي ليس مستحبا عدا عن غلائه .. لذا ندر استعماله.

تنتظر النساء عودة أزواجهن من العمل للذهاب معا للتسوق أو لزيارة الأصدقاء أو زيارة الطبيب أو التمشي على شاطىء البحر… ومعظم الأحيان يكون الزوج تعباً فيفضل البقاء في البيت.

لذا ترى الهواتف مشغولة باستمرار خاصة أن المكالمات الهاتفية الداخلية مجانية .. فترى السيدات يزرن بعضهن على الهاتف، يشكين مشاكلهن وهمومهن لبعضهن البعض ويتبادلن الخبرات، والمحظوظة منهن من تجد صديقة في مبنى سكنها أو على الأقل في الشارع ذاته..

قد تطول الفترة أو تقصر حتى تتعرف احدانا على جاراتها وتنتقي جارة تكون صديقة صدوقة، تتبادل معها الأحاديث وتشترك بالاهتمامات حتى تقتل وحدة الأيام الطويلة أو تشترك في امضاء الوقت والعناية بالأطفال معاً.

 

بالنسبة لي وفي سكني القديم كانت جارتي أم سمير خير جارة.

بالرغم من الفوارق العديدة التي قد يراها الرائي للوهلة الأولى الا أن طيبة قلبها ورقتها جعلتنا نقضي الأيام الطوال جنباً الى جنب .. جارتان عزيزتان .. لكل منّا اهتماماتها المختلفة كلياً الا أننا نحترم اهتمامات بعضنا العض ونقضي بعض الوقت معاً كل يوم .. الا أن أولادنا كبروا معاً واعتنينا بهم معاً وكنت مطمئنة دائما بأنني لو احتجت لأي شيء كان ومن أي نوع فان أم سمير ستكون معيني وسندي وكذلك هي تعرف جيداً أنني لن أتردد بتقديم أية مساعدة مهما تكون.

هذا الشعور يمنحك أمانا وراحة ويعزي بعيداً عن الأهل وصدق من قال الجار قبل الدار.

لذلك عندما انتقلنا الى بيتنا الجديد .. كان ابتعادنا عن أم سمير وعائلتها أكثر ما أزعجنا.. خاصة أننا لم نجد أم سمير جديدة..

جيراني كن مختلفات .. ومعظم الشقق كانت غير مؤجرة بعد وتمنيت أن تأتي جارة تعوضني عنها..

ما كان يساعدني أن أولادي كبروا قليلاً وبامكانهم اللعب مع بعضهم البعض.. وبامكاني الثقة بهم لارسالهم الى موقف السيارات في المبنى للعب بالطابة أحياناً دون أن أضطر للبقاء معهم اذ أكتفي بمراقبتهم كل حين من الشرفة .. صحيح أنني لم أرغب في العمل لأبقى بجانبهم وأربيهم ولا أتركهم للخادمة  الا أنني لا أتمكن من قضاء كل الوقت معهم .. فمن الطبيعي جداً أن يمضوا بعض الوقت معاً يلعبون بدوني، فهم يجب أن يعتادوا على تحمل المسؤولية وخاصة أن أكبر أولادي ديمي ذو السنوات العشر كان قائداً بالفطرة.

كنت أحاول الذهاب لزيارة جورجيت مرة في الاسبوع ونقضي بعد الظهر معاً، وتأتي لزيارتي مرة وتأتي أم سمير لزيارتي مع سوسن صغرى بناتها … وهكذا يمر الاسبوع بسرعة أكثر.

 

*   *   *

 

مكالمة أخرى

- صباح الخير.. كيف حالك؟؟؟

- أهلاً أم سمير، الحمد لله ،كيف حالك أنت .. أنت أم العروس … يبدو أنك مشغولة جداً .. زمن لم نسمع أخبارك..

- الحقيقة عندما يقولون أم العروس لم أكن أصدق ذلك لكن فعلا هي مسؤولية كبيرة ولا تدرين كيف يضيع الوقت .. هذا مع أننا لا زلنا نحضر للخطبة وكتب الكتاب فكيف عندما نحضر للعرس .. لا أعرف ماذا سنفعل..

- أخبريني قبل كل شيء كيف هي صحة أبو سمير وصحتك ثم أخبريني عن سمر .. هل هي مبسوطة؟؟

- صحتي جيدة الحمدلله وكذلك أبو سمير وهو مبسوط جداً لأن سمر مبسوطة لذلك ترينه نسي مرضه ووجعه.. لو تشوفي سمر طايرة من فرحها..

- مش معقول لا أستطيع أن أصدق.. هي شهور عشرة فقط تركتكم وابتعدت فاذا سمر عروس .. تلك الفتاة الخجولة صارت عروس .. متى قررتم الخطبة؟؟

- بعد شهر حيث سيأتي أهل العريس .. نحن ذاهبون الآن الى عمان للتعرف عليهم واستكمال مستلزمات الخطبة .. سآخذ معي البنات أما سمير فسيبقى مع والده.. لن نتأخر.. هي أسابيع ثلاثة.

- هل تحتاجين الى أي شيء يا أم سمير بامكاني المساعدة .. تعرفين هذه سمر ابنتي كما هي ابنتك..

- شكرا ما قصّرت .. كله تمام سأخبرك بموعد الخطبة النهائي المهم أن تحضّري حالك مع الأولاد.. شو أخباركم أنتم؟؟ هل استلمت غرفة النوم الجديدة ؟؟ استغربت أنك لك تتصلي بي لأرسل لك العامل لاخذ الغرفة القديمة فتوقعت أنك لم تستلميها بعد ..

- آخ يا أم سمير ، ماذا سأقول لك ؟؟ وعدونا وعداً نهائيا هذه المرة وقالوا الخميس القادم في الثاني من آب الا أننا ذهبنا البارحة لدفع القسط الأخير فأكدوا أن الغرفة جاهزة وسيتم احضارها يوم الخميس أو السبت على أبعد تقدير سيتصلون بي صباح الخميس..

- اذن سأخبر أبو سمير بذلك .. لأنه أصر أن يرسل لكم حلوان الغرفة أيضاً من صنع يديه ً وربات وكنافة ً الوربات للأولاد والكنافة لأبو الأولاد..

- لا لزوم لتعبه يا أم سمير لكن من يستطيع رد وربات الطيباوي ومصنوعة  بيد أبو سمير .. وأنا سأحضر الكيك الذي تحبونه وتأتون لزيارتنا بعد عودتكم..

- ان شاء الله ادعي لنا بالتوفيق ..

- ليكن الله معكم وليتم كل شيء بخير سلامي للجميع.

 

*   *   *

 

ومكالمة أخرى

- أهلاً مها كيف حالك؟؟

- بخير ..الصحة جيدة واميل بخير وأبوه بخير لكنني مصضربة وخائفة فامتحاني للقيادة بعد يومين..

- ولمَ الاضطراب؟؟ ها أنت قد أمضيت عطلة رائعة .. المفروض أن أعصابك مرتاحة.. لمَ الخوف؟؟ قوي قلبك وستنجحين.. نحن بانتظارك لتأخذينا مشاوير .. هيا .. شكري قال أن قيادتك جيدة وأنه سيشتري لك سيارة مباشرة .. هذا يعني أنه واثق من نجاحك..

- نعم سيارة قديمة .. ان شاء الله حتى أتعلم جيداً ثم نشتري أخرى جديدة بعد سنة ..

- لا يهم ، المهم امكانية الانتقال من مكان الى آخر ..

- فعلا وهذا ما أريده .. أرجو أن يمنحني الله الشجاعة ..

- أنا متأكدة من ذلك حظاً سعيداً  طمئنينا دون تأخير ، نريد احتفالا معتبراً ..

- بالتأكيد .. بالتأكيد ..

 

*   *   *

وأخرى في يوم آخر

- صباح الخير يا جورجيت كيف حالك اليوم .. أتعبناك البارحة..

- أهلاً وسهلاً فعلاً تسلينا كثيراً والأولاد لأول مرة لم يتخاصموا ..

- فعلاً <دون حسد> ليتهم يكونوا كذلك دائماً ... لكن أعتقد أنهم بدأوا يكبرون ويعقلون ..

 وعندما لا يكونون كثر يتفاهمون أكثر..

- طبعاً وهل رأيت كيف كانت ديما تلعبهم وتركز على مجيء ابنتي وكيف يجب معاملتها بمحبة.

- رأيتها .. أظنها متحمسة لمجيء البنت حتى تعدل توازن البنين والبنات وتجد لها مؤازرة.

- طبعاً أخبريني الآن، أحقاً أعجبتك الأغراض التي أحضرتها لابنتي ...

- للحقيقة هي أغراض حلوة كتير كتير .. وان شاء الله تكون بنتاً وتتهني بها وتلبسيها كل هذه الأشياء الحلوة .. يعني يقولون أميركا والتسوق فيها مختلف .. فعلاً يبدو ذلك اتها أشياء كتير حلوة..

- لكن بتعرفي ذاك الغطاء الذي رأيناه معاً في مجمع زهرة هو أجمل غطاء رأيته ولن أشتري غيره .. أريد أن نذهب لاحضاره .. فأنا أستطيع لفها بها عند خروجنا من المستشفى .. وكذلك تلك السلة المزينة البيضاء هل تذكرينها بالدانتيل الزهري اللون .. لأقدم فيها الشوكولا..

- يا جورجيت لا تستعجلي ، ما زال الوقت أمامك .. ربما تجدين أحلى وأرخص .. هو غالي جداً .. حرام، صحيح أنه جميل جداً لكن...؟؟  والسلة قلت لك أنا سأصنع لك واحدة تشبهها وقد أحضرت كل اللوازم..

- أرجوك أعرف ومقتنعة ... اذن سنذهب للتفرج فقط .. ما رأيك؟؟ هل نذهب اليوم ؟ نتمشى من عندك، الأولاد بيتسلوا ونحن نتمشى ، المشي مفيد جداً لي في هذه الفترة..

- حسناً وبالمرة ترين السلة مجدداً وتقررين لون الدانتيل الذي سنزين به.. لكننا سنتأخر قليلاً بالنزول بحيث أن جارتي الجديدة وعدتني بزيارة بعد ذهاب زوجها الى عمله ...

- حسناً اذن سأتعرف عليها أيضاً .

- تبدو لطيفة .. تقول تزوجوا منذ سنة تقريباً وكانوا يسكنون مع أهله والآن انتقلت لتعيش بمفردها .. زوجها يعمل في السفارة الكندية.. وقد وضعوا علم كندا على بابهم..

- أرجو أن تكون لطيفة ومهضومة ...  آه اسمعي نسيت أن أخبرك أنني تكلمت مع أختي بهية وأخبرتها بأن كرت الزيارة صار جاهزاً وقالت أنها تفكر أن تأتي في العاشر من شهر آب وستبقى حوالي أربعين يوماً ... وقد فرحت لذلك، صحيح أنه باكراً قليلاً فولادتي قد تكون بعد العشرين منه ولكن بذلك أستطيع أن أريها الكويت التي طالما حدثتهم عنها ولأولاد يعتادون عليها ألا تعتقدين أن ذلك أفضل؟

- بالتأكيد بالتأكيد ..

- عادت وسألتني ان كنت سأسمي ابنتي على اسم أمي رحمها الله أو لا زلت أفكر بتسميتها مريم؟

- هيا سنتحدث أكثر عندما أراك بعد الظهر..

- باي.

 

هكذا يتم بناء الصداقات في السكن الجديد .. وتأتي الجارة ويتم تبادل الأحاديث العامة والتعارف فإما أن تتفق النفوس والأفكار وتقوى الصداقة ويتم اللقاء كل يوم وبشكل مستمر ويتم التعاون أو لا تتفق الأفكار فتبقى العلاقة في حدود فنجان القهوة في بعض الصباحات، ولكن هذا لا يمنع الاحساس بوجود الجيران في أية حالة طارئة.. فهذا الشعور هو السائد في بلاد الغربة..

الغربة وهل تعتبر الكويت غربة ؟؟

كثيراً ما فكرت بهذا الموضوع .. هل الغربة تعني العيش في بلاد الغرب أو أن الغربة هي العيش في بلاد غريبة ..

هل يتساوى المغتربون الذين يعيشون في اوروبا وأمريكا مع المغتربين الذين يعيشون في البلاد العربية؟؟

هناك في الغرب يعيشون في أجواء وعادات تختلف كلياً عن أجوائنا وعاداتنا فيبذلون جهوداً مضاعفة للتأقلم..

أما في البلاد العربية فالوضع يجب أن يكون أفضل ... العادات متشابهة والأجواء يتوقع أن تكون متماثلة .. فمن الظلم أن يطلق على الحالتين الاسم ذاته... الغربة .

الغربة ...

دوماً فكرت أن من يخرج من بلدته التي كبر فيها وترك أهله وأصدقاء طفولته هو في غربة بغض النظر عن مسافة ابتعاده ... من بدأ صداقات جديدة وبدأ يتعلم اتجاهات السير في شوارع جديدة .. هو في غربة .. ولو أن درجات التعود هذه مختلفة وقد تقسو وتهون لاسباب كثيرة ومعطيات أكثر الا أنها الغربة .. التي تبدأ ولا تنتهي ...

تقسو وتهون ليس بحسب قسوة المكان أو بعده بل بدرجة قبول الانسان لاسباب انتقاله واستعداده للتأقلم مع الحياة الجديدة .. واستقراره في العمل الذي يعتبر الركيزة الأساسية.

وكثيراً ما ترى أناساً مسرورين ومرتاحين وقد تأقلموا ويعيشون حياة مستقرة بل حلوة ولا شيء حولهم يشبه وطنهم الأم.

فكيف ونحن في الكويت كل ما حولنا مسخر لراحتنا ونعيش أجواء مشابهة لأوطاننا ..

أبناء الجالية الواحدة يتجمعون بشكل طبيعي وخاصة أبناء البلدات الواحدة .. فإن لم يعرف واحدهم الآخر فهو يعرف صديقاً له أو أخاً كان صديق طفولة أو مدرسة أو يسكن في حارة قريبة .. أو أن والدته تكون ابنة خالة صديقه أو عمته جارة جدته.. فالدنيا صغيرة جداً كما يقولون والغربة ترفع حواجز كثيرة..

ومن ثم فإن أبناء الجاليات المختلفة المقيمين يتقاربون لأنهم يسكنون المناطق ذاتها والمباني ذاتها .. فتكون الجيرة رابطاً مشتركاً للبداية ومن ثم تقوى الروابط الأخرى.

وأماكن العبادة .. حيث الرابط الديني هو من أقوى الروابط .. فعندما تتعرف على أحد في مكان العبادة تعرف أن بينكما رابطاً مشتركاً اساسياً ومن ثم تأتي الروابط الأخرى لتقوي الصداقات الحقيقية ..

الكنيسة كانت المكان الرئيسي الذي تعرفنا فيه على معظم أصدقائنا وذهابنا كل أسبوع يجدد شعورنا بأننا بين الأهل ونعرف كثيرين ونهتم بأمورهم كما نفعل في بلادنا...

 

*   *   *

 

مجمع زهرة كان أحد أفخم المجمعات في الكويت بعد مجمع الصالحية.. وبناؤه الرائع التصميم  مغلق بحيث لا يتأثر المتسوق بحرارة الجو في الخارج ..

كان قريباً جداً من منزلنا في السالمية .. وكان باستطاعتنا الذهاب اليه مشياً على الأقدام ولو في شهر تموز ... فبعد الخامسة مساء تنكسر حدة الشمس فلا يكون السير اليه سيئاً جداً.

ونصل الى المجمع حيث ننعم ببرودة المكان ونتسلى ونتفرج على البضائع المعروضة من كل شكل ولون ومن كل نوع وبلد ... لكنها كلها نسبياً غالية الثمن خاصة بالنسبة الينا .. نحن المعتمدون على رواتب آخر الشهر لنعيش في بحبوحة معقولة ونرسل للأهل مبلغاً معقولاً وندخر مثله للمستقبل ... فالمستقبل غامض لنا جميعاً في جميع البلدان العربية.

وبما أننا ممتنون جداً للرواتب العالية التي تدفعها الشركات في هذا البلد المضياف مهما كانت الأسباب لذلك ... الا أننا لا نستهون صرفها على أمور ترفيهية جداً بالامكان الاستعاضة عنها بأشياء أقل ثمناً.

وهذا استطعت اقناع جورجيت بالعدول عن شراء الغطاء الرائع الغالي الثمن ووعدتها بصنع سلة الشوكولا التي أحبتها في الواجهة .. وانتقت الألوان التي تناسب ابنتها الحلوة ... جورجيت لم تكن يوماً مبذرة ولكن شوقها لانجاب البنت بعد الصبيين جعلها تفكر بدفع هذا المبلغ الكبير لشراء الغطاء الرائع الجمال وكأنه سيؤكد انجابها للبنت.

نعم أقنعتها .. وسأزين السلة بمختلف أنواع الدانتيل التي لدي وبالألوان التي أحبتها .. فصنع الأشياء يدوياً هو هوايتي .. وبامكاني اعداد الشوكولا وبالنكهات التي أريد.. أنا أعرف أنّ جورجيت تحب جوز الهند ومربى الكباد ولدي القوالب لصنعها .. ولكن ماذا لو وضعت على السلة اللون الزهري الذي طلبته ومن ثم كان المولود صبياً ؟؟ سأنتظر الى ما بعد يوم الخميس لابدأ العمل أو أحضر كل شيء وأترك اللمسات الأخيرة لما بعد الولادة والتأكد من جنس الطفل ، فبعد انهاء البطانة البيضاء، وضع الدانتيل لا يستغرق ساعة عمل ... على كل حال عليّ أن أنهي فستان ديما وغطاء الطاولة الذي أطرزه قبل أن أبدأ بذلك.لا زال أمامنا بعض الوقت.

 

كثيرات مثلي تقضين أوقاتهن بالاشغال اليدوية من خياطة وتطريز للاستمتاع والانتاج وملء الفراغ والتوفير.

لا أعرف بالضبط كم منهن تملأن الوقت بالقراءة لكنني أعرف كثيرات يملأنه بمشاهدة التلفزيون والفيديو لكن الغلبة الغالبة يقضينه بتبادل الزيارات النسائية والأحاديث المختلفة المفيدة منها والمؤذية ... والتعرف على مستجدات الموضة وما حدث عند الجارة الفلانية أو ما فعلت الست الفلانية وما قاله زوجها لها ولا تستبعد الوصول الى مساحات خاصة جداً من حياة الناس عن حسن نية أو سوء نية .. وما أدراك ما سوء النية  ؟؟؟؟ .

 

*   *   *

 

- أهلاً ليلى كيف حالك؟؟

- بخير وأنتم كيف أحولكم ؟؟

- شو أخبار الشغل ؟ وماذا جرى بالنسبة لاجازتك ؟؟

- أتصل بك الآن لاخبرك بأن كل شيء تمام .. سنذهب الى فيلكا يوم الاثنين القادم حيث استأجر لنا الياس شاليه لمدة أربعة أيام ... وفكرت أن تأتوا الى منزلنا يوم الجمعة بعد الظهر طالما أننا لسنا ذاهبون الخميس .. لأن الياس وأخوه بسام يريدون اللعب بالورق ...  ما رأيك ؟؟

- لا أعتقد أن لدينا مانع لذلك، على العكس زوجي أيضا مشتاق للعبة ورق والأولاد سيستمتعون معاً.

- حسناً سأقول لجورجيت وريمون وتريز وابراهيم وجارتي منى وزوجها وطبعاً أختي هدى وسليم وهكذا نجتمع كلنا ... فقط سأطلب منك أن تحضري معك ذلك الشريط التسجيلي الذي يحوي الأغاني التي يحبها الأطفال ..

- بالتأكيد سأفعل .. وماذا تريدين أن أصنع الكاتو أم بعض الفطائر ..؟؟

- كما تريدين .. لكن أعتقد أنه من الأفضل أن تصنعي الكاتو لأن منى اقترحت صنع الفطائر .. هل تريدون أن يأتي أحد لاصطحابكم لأنني فهمت أن زوجك وضع السيارة في الكاراج للتصليح ..

- فعلاً وضعها البارحة وكان المفروض أن يعيدوها اليه اليوم لكنهم وجدوا أن بها عطلاً بحاجة الى قطعة غيار وتبديلها يأخذ وقتاً لذا فقد أعطوه سيارة قديمة لكنها لا بأس تنقله وستنقلنا دون مشاكل لا تقلقي شكراً على كل حال .. سنلتقي الجمعة اذاً.

 

*   *   *

 

- أهلاً مها شو؟؟  قبل السلام والكلام، بشّري، شو النتيجة ؟؟؟

- نجحت ، نعم نجحت، يا الله أنا مبسوطة جداً لم أصدق ... كنت كالأطفال ... خفت كثيراً لكن الحمدلله ... قال لي ان قيادتي جيدة ...

- ألف مبروك ... انتبهي عليك الآن ضرائب نجاح عالية ... أولها يجب أن تأتي لاصطحابي غدأ مع الأولاد للذهاب الى شاطىء البحر ليلعبوا مع اميل وتحدثيني عن التفاصيل وعن رحلتك الى الأهل فأنا لم أرك منذ عودتك ... ثم علينا أن نناقش الكتاب الأخير الذي قرأناه أليس كذلك ؟؟

- طبعاً طبعاً ولكن مهلاً مهلاً ألن تنتظري أن أشتري السيارة ... لا أعرف ان كان بامكان شكري اعطائي السيارة غداً ...

- كنت أمزح حبيبتي، ولكن توقعي ضرائب مماثلة عندما تشترين السيارة ...

- بالتأكيد ... وسيكون ذلك من دواعي سروري ... لكن يجب أن تمروا للمباركة ... تعالوا غداً الخميس ...

- سأخابرك ان كان بامكاننا ... مع السلامة.

 

 

هكذا بدأ كل شيء

الخميس 2 آب 1990

-2-

نستيقظ لا بل قل نفزّ على صوت طائرات حربية ..

أقول لزوجي

- خير انشاءالله ؟؟ وكأنني في بيروت ؟؟ وكأنه اختراق جدار الصوت ؟؟

يقول زوجي:

- نعم يبدو ذلك .. أنا متأكد أنها طائرات حربية ..

- اوه انها الساعة الخامسة والنصف ؟؟  خير انشاءالله

- لا أدري افتحي التلفزيون ..

- يا فتاح يا رزاق ... التلفزيون لا يفتح قبل السابعة..

- افتحي الراديو اذن ..

- انه موعد القرآن ... الأخبار تبدأ في السادسة على ما أظن ..

- حسناً ... ولكنه نشيد وطني .. وليس تلاوة قرآنية ..

ويدوي صوت انفجار كبير ولكنه بعيد ... ويستيقظ الأولاد مذهولين ومرعوبين يسألون ما عسى أن يكون هذا الصوت ؟؟؟

يقول زوجي:

- لا تخافوا هو صوت انفجار لكنه يبدو بعيداً ... اسألوني أنا الخبير .. لا تخافوا عودوا الى فراشكم لا زال الوقت مبكراً ...

ويعودون الى فراشهم مصدقين ....

أما أنا فلم أصدق .. أقرأ في نبرة صوته ذلك الخوف الذي كنت أقرأه في بيروت .. فما أن يبدأ القصف حتى يقول بالطريقة ذاتها : لا تخافوا هيا ندخل الغرفة الصغيرة التي تبعد جدرانها عن الجدار الأول في البيت فلو أصاب البيت أية قذيفة لا نكون متضررين مباشرة .

ويسود السكون بانتظار الساعة السادسة موعد نشرة الأخبار ..

الساعة السادسة .. بدأت الأخبار .. جلسنا نستمع بكل انتباه .. مذيع الأخبار الكويتي .. يذيع الأخبار بشكل عادي .. الخبر الأول عالمي لم نعره أي اهتمام .. هل هذا يعني أنه لا شيء يحدث والانفجار والطائرات مجرد حادث عرضي ؟؟؟

ويأتي الخبر الثاني ليعلن المذيع أن القوات العراقية تتحرش على الحدود محاولة اختراق الحدود الكويتية والاعتداء على الأراضي الا أن الجيش الكويتي يصدها ببسالة...

هو هجوم عراقي اذن .. على الحدود .. هي الحرب قادمة ؟؟؟ أمر غريب ؟؟؟ سمعنا الأسبوع الماضي قضية محاورات ومناقشات ... أما هجوم عسكري ؟؟؟

هل نتصل بالأصدقاء لنتشاور بالأمر ؟؟ لكن الوقت مبكر جداً ولا تبدو الأمور سيئة لهذا الحد والحدود تبعد عن المدينة فلم الخوف ؟؟؟ نحن أصابتنا عقدة الخوف من أي طائرة أو صوت انفجار ... لم الرهبة والتلعثم ...

ربما الأوضاع ليست مثالية لكن التحرشات والاشتباكات على الحدود ليست أمراً غير عادي أو يدعو الى كل هذا الخوف .. لنتكل على الله ونتسم بالشجاعة على الأقل حتى نتبين حقيقة الأمر ..

قال زوجي:

- سأذهب الى العمل وأستوضح الأمر وأتصل بك من هناك لأخبرك حقيقة الوضع لا بد أننا هناك سنعرف أشياء أكثر ..

- تذهب وتتركني مع الأولاد .. ماذا لو كان الأمر أسوأ مما نعرف ؟؟ ماذا لو لم تتمكن من العودة ؟؟ لو انقطعت الطريق ؟؟ لو ؟؟ لو ؟؟ ..

- ما بك ؟؟ عدت الى تخيلاتك القديمة .. هنا الكويت وليست بيروت .. اشتباكات وقناصة وقذائف ... ربما هناك شيء ما لكنه على الحدود ... هنا الدولة والجيش مسيطران وليس ميليشيا وجيوش أهلية ...

سأذهب باكراً وان أحسست بأي خطر سأعود حالاً كما أعدك أنني لن أخاطر أبداً .. ولو أحسست بالخطر في طريقي سأعود ..ألا تعتقدين أنني أخاف عليكم أكثر مما تخافين؟؟؟

ولكن يجب أن أذهب الى العمل وأستوضح الأمر ... وسأمر أيضاً على البنك في طريقي لسحب بعض النقود احتساباً لأي أمر طارىء ...

 

كان صعباً جداً علي منعه من الذهاب أو الرد على كل ما قال .. فأنا مقتنعة بما يقول ولكن الذكريات العالقة في الذهن مخيفة ، مخيفة جداً .

كان يخرج في الصباح كما الآن ولا أعرف متى يعود وأتساءل بداخلي كل يوم وهل يعود ؟؟

كنت أذهب في الصباح الى المدرسة حيث أعمل قريباً جداً من المنزل .. وهناك ننشغل بالعمل ولا نستمع الى الراديو ولا نعرف ما يحدث .. الا اذا حدث شيء كبير حينها تصل الأخبار من السكرتيرة أو الناظر أو البواب ..

وأعود الى المنزل مسرعة وألتصق بالراديو كما يفعل الجميع حيث أتتبع تفاصيل الاذاعات المختلفة التي تتلف الأعصاب .. حتى يصل ..

كم من مرة قال لي لا تستمعي الى الراديو فهو يقلقك أكثر ولا حاجة بك لذلك .. الا أنني لم أستطع اطاعته يوماً .. والآن أستمع اليه يطمئنني عن ذهابه .. يعيد علي جمل التطمين ذاتها ..

اليوم الأولاد حولي لا يعون وأنا أرتعد خوفاً .. وما باليد حيلة .. هو يجب أن يذهب وأنا يجب أن أهدأ،  وخرج.

لم أنتبه هل قبلني قبلة الخروج .. والأولاد هل قبلهم كالعادة .. أو ربما لم يفعل حتى لا يعتبرها قبلة الوداع ... سيعود .. أنا أعرف أنه سيعود ...

جلست أستمع للراديو .. أغنيات وطنية .. ثم أغنيات وطنية .. ثم أناشيد وطنية .. لا حديث ديني ولا برامج من أي نوع ..

هل هذا مطمئن؟؟

لم أكن يوماً مهتمة بالسياسة .. لم تستهويني وبخاصة أيام الحرب كنت أثور جداً وأحس بالغضب وهم يتناقشون حولي عن هذا الحزب أو ذاك وهذا الفريق وذاك ..

كان معظم من هم حولي مولعون بالسياسة الى درجة الادمان أما أنا فقليلا ما وجدت أحداً يشاطرني اهتماماتي الأدبية ..  لذلك كنت دوماً صامتة أستمع لما يقولون وأثور بداخلي ثم أسرح بعيداً عن نقاشاتهم اللامنتهية ..

اليوم هل أتمنى أن أفقه شيئاً في السياسة علني أحلل الموقف وأعرف مدى البعد الذي يجب أن أقلق فيه ..

تحدثت مع جورجيت فاذا بهم قلقين أيضاً شيء ما يحدث لكن ريمون ذهب الى عمله كالمعتاد .

ليلى قالت لا شيء أنا أتحضر للذهاب الى مكتبي والأولاد نيام والياس ذهب من الصباح الباكر الى فيلكا لتفقد المشروع هناك ..

 

الهاتف يرن، اعتقدت أنه زوجي يتصل ليطمئنني بوصوله الى مكتبه .. ولكن ؟؟ انه مدير الشركة يتصل من الخارج يسألني بكل قلق :

- كيف حالكم ؟؟؟

مرعبة قالها .. ومخيفة .. ثم استدرك ..

- كيف حالكم، اتصلت بالمكاتب ولا من مجيب ..

لم أدر ما أجيبه .. حدثته عما حصل في الصباح وأخبرته بأن زوجي أصر على الذهاب الى المكتب ولم يخابرني بعد ولم يعد ..

يبدو أن المدير أحس بأنني هادئة أكثر مما يتوقع .. وتبين أنني غير مدركة بما حصل .. لذا قال لي :

- سأتصل بعد حين ولكن ان لم أستطع لأي سبب، أرجوك أكدي له بأنني أعطيه موافقتي بل أطلب منه الخروج والهروب في أول فرصة يعتقد أنها سانحة ولا تعرض سلامتكم للخطر، وليتصل بنا من أول نقطة يصلها ويتمكن من الاتصال .. وأغلق الخط .

وأنا كمن يحلم .. كمن يستمع الى اتصال لا يخصه ولا علاقة له بمحتواه .. لم أجبه بشيء ولم أعلق .. صمتي ربما جعله يعتقد بأنني غير منتبهة .. الا أنني كنت فعلاً غير مدركة لما يقول .. يوصيني أن ننتبه لأنفسنا .. نهرب عندما تسنح لنا الفرصة .. نترك كل شيء ولا نهتم .. الشركة ستتولى أمرنا .. فهي التي أحضرتنا وستتكفل باعادة استقرارنا في مكان آخر .. ماذا يعني كل هذا ؟؟

جلست ذاهلة أفكر .. ما عساه يعني ؟؟ ولم كل هذا الخوف ؟؟ لم كل هذا القلق في صوته ؟؟؟ لا بد أن الأمر كبير.  وبدأت أستفيق .. نعم لا بد أن الأمر خطير .. أين هو زوجي وقد مضى على ذهابه ساعة من الزمن .. المكاتب لا ترد اذن هي مغلقة .. أين هو اذن ؟؟

وبدأ القلق .. القلق الحقيقي المغذى بالأفكار السوداء والذكريات القاتلة ..

لم أستطع الثورة أو البكاء فالأولاد حولي الآن وان فقدت أعصابي كيف أفسر لهم ما يحدث ؟؟ بشكل غريب ضبطت أنفاسي وطلبت اليهم الابتعاد وتناول طعام الافطار بمفردهم ..

أين هو يا رب ؟؟ أين علق ؟؟ لا لم أسمع انفجاراً بعدما ذهب .. يا رب أين يمكن أن يكون ؟؟ هي تجربة جديدة ولا أعرف أن أتخيل له مكاناً .. على الطريق ؟؟ خنقة سير قوية ؟؟ وليس بامكانه الاتصال بي .. ربما لكن طرقات الكويت كلها عريضة وواسعة ولم نشهد يوماً خنقة سير .. لا بأس علي الصبر والانتظار ..

بدأ الاولاد بالاحتجاج لأن التلفزيون لم يعرض أفلام الكرتون كالعادة وراحوا يسألون عن السبب ..

سمحت لهم حضور الفيديو فأنا غير مستعدة أبداً لأسئلتهم.

نصف ساعة أخرى وكأنها الدهر .. ويعود مكفهر الوجه غاضباً ..

عشر دقائق أخرى وكأنها ساعات عشر حتى استعاد انفاسه وصار بامكانه التحدث ..

العراق احتلت الكويت والدبابات العراقية هي هنا قريبة جداً على الشاطىء ..

لم أنبس ببنت شفة .. وتابعت الذهول الذي دخلته منذ الصباح ..

وتابع يقول :

ما ان غادرت صباحاً باتجاه الشويخ الى المكتب .. حتى بدأت خنقة سير غير طبيعية قبل الوصول الى الدوار، وشرطي مرور يوجه السير للعودة ويمنع الذهاب باتجاه الشويخ والجميع يعودون ولا يفهمون شيئاً..  فقلت لنفسي حسناً سأمر بالبنك مباشرة لسحب المال .. المصرف مغلق والطابور على ماكينة السحب طويل .. فقررت الوقوف بالدور أنتظر فقد تذكرت أنك طلبت مني البارحة مبلغاً وأنه ليس لدينا أية أوراق مالية في البيت .. ..

فيما كنا أنتظر بدأت أسمع الناس يتبادلون الأحاديث قلقين .. منهم من يقول أن العراق احتلت الكويت فعلاً ودخلت منذ الصباح الباكر .. ومنهم من يعترض قائلاً لا لا يمكن ذلك فالجيش الكويتي جيش باسل .. ومنهم من راح يعترض على وقوف الدبابات على طول خط البحر لأن الجيش العراقي سيقصف الأماكن السكنية عندما يقصفها فيرد آخرون أن الدبابات الرابضة على شاطىء المسيلة هي دبابات عراقية ..  

كان يتحدث وصوته مضطرب .. حزين .. قلق .. وتابع:

كنت محظوظاً بحيث تمكنت من سحب الحد الأقصى المسموح به في البنك الآلي وهو مئتان وخمسون ديناراً . وقد صادفت رياض هناك يسحب مبلغا من بنكه هو الآخر وأكد لي أن الوضع يبدو سيئاً وطلب مني أن أقصده لو احتجت لأي مبلغ فهو عازب وبدون عائلة ..

 

بعد أن شرب كأس الماء .. أخبرته بالاتصال الهاتفي الذي تلقيته من المدير وما قاله لي .. حينها فقط انهار وقال : الأمر جدي اذن وليس شائعات .. اذن صحيح أننا في حرب الآن .. لو لم يكن الوضع خطيراً وأنهم يسمعون أكثر منا لما اتصل .. وقال ما قال ..

حاولنا كثيراً ومراراً الاستماع الى اذاعة لندن أو مونت كارلو أو صوت أميركا دون فائدة ..  التشويش كبير والاذاعات غير واضحة .. ولا أخبار محلية ..

الهاتف يرن مجدداً، انه زوج أخته ..

بكل القلق سأل عنا وأخبرنا بأن عائلتانا قلقتان وأكد له أن الأوضاع تبدو خطيرة ويجب الخروج من هذه الأجواء بالسرعة الممكنة وأكد له أن وجودنا هو مسؤولية الشركة لذا يجب الخروج بنا مهما كلف الأمر. وعندما أكد له زوجي اتصال المدير أصر حينها على ذلك .. وأكد أنه ربما لن يتمكن من الاتصال مجددا لأن الاتصال هذا كان صعباً للغاية . كما أخبر زوجي أنه سمع أن القوات العراقية احتلت المطار وأغلقته وهي تؤكد عبر وسائل الاعلام أنها لن تؤذي المقيمين ..

كان زوجي يتحدث الى صهره وألوان وجهه تتغير وتتلون مما يدل على عظم الكارثة التي أحس بها حينها.

أغلق السماعة وهو يقول علي أن أذهب الى الجمعية لاحضار بعض المؤن قبل أن تفرغ ..

مجدداً كان علي أن أعترض على ذهابه .. ففي المرة الأولى لم أعرف عظم الكارثة .. أما الآن بعد كل ما سمعت وما لم أسمع كيف أتركه يذهب؟؟

قال : الجمعية هنا قريبة .. لن أذهب الى مركز سلطان لأنه على الشاطىء والدبابات تحيط بالشاطىء، سأذهب الى جمعية السالمية القريبة جداً وصدقيني لن أتأخر .. وإن تأخرت فيجب ألاّ تقلقي لأنني أتوقع طوابير من الناس تحاول شراء المواد الغذائية .. دعيني أذهب قبل أن يعلم الجميع جدية الموضوع.

مقتنعة من كلامه ومن ضرورة احضار بعض المواد الأساسية فالأولاد أفواه لا تتحمل الجوع والعطش وماذا ان انقطعت المياه وأغلق كل شيء ؟؟

كان علي أن أقبل مجبرة .. مغلوبة على أمري  .. تركته يذهب بالرغم من أنني فكرت أن نذهب جميعاً وان حدث أي شيء نكون معاً. ولكن الأطفال .. هل من المعقول أن أحمل الأطفال ما لا أعرف ما أتوقع .. يجب أن أحافظ على أعصابي وأتمالكها جيداً حتى لا يزيد من عذابي قلق الأطفال.

سمحت لهم باللعب على الكومبيوتر وكان هذا أمراً مستغرباً لهم لكن متعتهم أنستهم كل الأسئلة.

 

جورجيت اتصلت .. الأمر متشابه .. هم يسمعون أصواتاً وانفجارات قريبة منهم تبدو قادمة من قصر الشعب . أخبرتها بالاتصالات التي تلقيناها وأخبرتني باتصال أهل زوجها من أميركا وكذلك أهل سليم والكل يقول يجب المغادرة .. وسريعاً.

 

فعلاً تبدو الأمور معقدة ورحنا نتصل ببعضنا ونطمئن بعضنا البعض .. الاجتياح عسكري ولن يمسنا بأذى .. أكثرهم رأوا الدبابات على طول كورنيش البحر .. تريز تركت بيتها المواجه للبحر وهربت الى بيت أختها ..

ليلى لا ترد على هاتفها لكننا علمنا من هدى أن الياس عاد من فيلكا وهم يتحينون الفرصة للذهاب الى بيتها .

عاد زوجي ببعض المؤن، ما تمكن من الحصول عليه فالمسؤولون في الجمعية لا يسمحون بشراء الكثير من الأغراض حتى يتمكن الجميع من الحصول على المؤن بالتساوي.

حوالي الظهر اتصلت جورجيت باكية ترتجف .. وتتكلم بصوت منخفض .. الاشتباك هنا قريب جداً يبدو أنهم هجموا على قصر الشعب هجوماً عنيفاً نحس القذائف فوق رؤؤسنا . قالت : قد مرت الآن سيارة عسكرية مع مكبر للصوت تؤكد لنا الاّ نخاف لأن الهجوم هو على قصر الشعب فقط. الا أن الأصوات مخيفة .. كانت ترتعد وبصعوبة هدأتها وطلبت منها أن يأتوا الينا اذا ما استطاعوا .

كان طلبي كمن يطلب من الجريح أن يذهب بنفسه الى المستشفى . 

رحت أتصل بها مراراً حتى هدأ الاشتباك .. لكن النفوس لم تهدأ فقد كانوا خائفين من تجدده في أية لحظة لذا لم يجرؤ أحد على التحرك في المنطقة.

كم شكرنا الله أن الهواتف الداخلية لم تنقطع .. فقط المخابرات الخارجية توقفت .. كانت الاتصالات هي الملاذ الأوحد.

حل الظلام بعد أن مر اليوم ثقيلا  ثقيلا ثقيل بعد أن تأكدنا أن العراق تحاول احتلال الكويت.

جلسنا مساء على الشرفة بعد أن خلد الأولاد للنوم وانخفضت درجة الحرارة قليلا صامتين ..

لم نتحدث كثيرا الا أنني كنت متأكدة بأن زوجي مثلي يستعيد في ذهنه كل ذكريات الحرب في لبنان والقلق والحوادث التي تعرض لها ثم تعرضنا لها معاً.

وبعد ... ماذا بعد ؟؟؟ ترى ماذا سيحدث الآن .؟؟؟ ماذا يجب أن نتوقع ؟؟؟ ماذا نعدّ وماذا ننتظر ؟؟ هل هو مجرد انقلاب يرافقه اجتياح عسكري .. هل تعود الأمور الى نصابها قريباً أم هل سنضطر الى الرحيل حقاً ؟؟؟

لا زال الوققت مبكراً جداً للحديث عن ذلك ..

لا خبر يشفي الغليل على الراديو ... كلها أناشيد وطنية وبعض النداءات بالصمود أمام وجه العدوان الغاشم، وفي اذاعة العراق انتصارات الاجتياح والمحطات الأجنبية مشوشة ... والعقول كلها مشوشة كذلك ...

فكان النوم أفضل الحلول .. ومن ينام في ليلة كهذه ؟؟ كان كل منا يضغط على عينيه لاغلاقهما ليشعر الآخر بضرورة اغلاقهما لعدم الازعاج .. وهكذا تسهو العين ويسرقك النوم..

 

من الصباح الباكر بدأ اليوم الثاني ثقيلاً ، وثقيلاً جداً.

الاتصالات الخارجية لا زالت مقطوعة لكن الداخلية تعمل ...

رحنا نتصل بعضنا ببعض للاطمئنان .. بعضهم يرد وآخرون لا يردون .. هل انفطعت الاتصالات في بعض المناطق ؟؟

ليلى وعائلتها لا زالت بغير خبر، قيل أنهم احتلوا الجابرية أين هم يا ترى هل تمكنوا من الرحيل والصمت ؟؟ هل هم مختبئون حتى لا يشعر بهم أحد ؟؟؟ احتلوا الجابرية ماذا يمكن أن يعني هذا ؟؟ هل قطعوا الأسلاك ؟؟ هل اقتحموا البيوت ؟؟ هل قتلوا أحد ؟؟

هدى تكاد تجن لتسمع خبراً عنهم...

أبو سمير وسمير في محلهم في النقرة بخير .. يتجمعون ويتآزرون ..

مها وشكري ذهبوا الى بيت أهلها ليتآزروا أيضاً ويحسوا بمزيد من الأمان .

وجورجيت بعد أن هدأت الاشتباكات في منطقتهم هدأت نفسيتها وارتاحت وتمكنت من النوم...

لم نكن نستطيع الاسترسال في المناقشات على الهاتف .. خوفاً من ماذا ؟؟ لم نكن ندري من ماذا ؟؟ كانت اتصالاتنا فقط للاطمئنان والشعور بالأمان ..

لا جديد ، سوى انفجارات تسمع هنا وهناك بعيدة ومتباعدة.. واشاعات تأتي لا نجرؤ على التمادي في الحديث عنها وهل نصدقها وكم نصدق منها ...

هل نبدأ باستهلاك المؤن بحذر ؟؟ هل ستنقطع الكهرباء ؟؟

 

الكهرباء؟؟ .. امكانية انقطاع الكهرباء هي الكارثة الحقيقية .. حرارة الجو مرتفعة جداً والعيش دون تكييف الهواء أمر مستحيل خاصة بالنسبة للأولاد .. والأهم من ذلك تبريد الماء ليس للشرب فقط بل ليكون بالامكان وضعه على الجسم أو في الفم .. لأن من لم يختبر حرارة الصيف القوية لا يعرف أنها تأتي من الصنبور بحرارة أربعين درجة مئوية ..

كل ساعة تمر نشكر الله أن الكهرباء لم تنقطع ..

في احدى اتصالات التطمين كنت أتحدث مع منى صديقة ليلى التي هربت أيضاً من منزلها المواجه للبحر في المسيلة الى بيت أهلها في شارع تونس، وبعد أن تبادلنا امكانات مصير ليلى والياس والأولاد وقلقنا عليهم وتوقعاتنا بأنهم في مكان ما وليس بمكانهم الاتصال بأحد..  تذكرت وقصت علي انقطاع الكهرباء العام الذي حصل بعد عطل فني كبير في المولدات ودام ثلاثة  أيام .. في الثمانينات .. كيف عانى الأهالي وقضوا أيامهم ولياليهم في السيارات يدورون فيها هرباً من الحر.. وكيف كانوا يتجمعون بعد ذلك بحسب جدول التصليح ويقضون الأيام معاً للتوفير .لم تكن قصة مشجعة أبداً لذا لم أرد سردها على جورجيت حتى لا أزيد قلقها حين خابرتها فإذا بها تقص علي قصة جارتها التي كانت في الكويت في الثمانينات وعاشت تلك الأيام الصعبة . فالمحن تستذكر القصص المتشابهة والمحن المتماثلة ...  

 كنا وحيدين في المبنى الجديد .. بعض الشقق لم تؤجر بعد واكتشفنا أن جميع المستأجرين غير موجودون .. وجارتنا الجديدة عند أهلها ...

محظوظة نعم عند أهلها .. فقد اعتقدت دوماً أن من تسكن في بلد فيه أحد أفراد أسرتها هي محظوظة ، ربما لأنني منذ تزوجت وأنا بعيدة عن أهلي وعن أهل زوجي .. دوماً في الغربة .. تحس بحاجة الأهل .. لهم مكان معين لا يعوضه أحد حتى أعز الأصدقاء.

لذا يتجمع الأصدقاء في الغربة ليؤلفوا عائلة كبيرة تملأ بعض فراغ الأهل. وهكذا كان بيننا ... فقد كنت مع ليلى وجورجيت كالأخوات وها نحن اليوم لا نعرف عن ليلى وعائلتها شيئاً وليس بيدنا الا الصبر والدعاء والتمني بالسلامة .. كل منا في بيته .. حتى اتصلوا أخيراً بعد الساعة العاشرة وكانوا قد وصلوا الى بيت هدى .. لم نسأل عن التفاصيل .. فقط علمنا أن الجميع بخير، كان هذا ما نريد سماعه وهكذا كان ...

شكرنا الله وخلدنا الى النوم يسحقنا التعب والقلق بعد يوم ثقيل .

 

*   *   *

وبدأ اليوم الثالث..

بدا أهدأ من اليومين السابقين .. مر الليل دون انفجارات ..

حركة الشارع بطيئة جداً،

بدأت الهواتف باكراً.. ريمون شجاع للتحرك وجورجيت متحمسة للخروج قالوا أنهم سيمرون على الجمعية ويقصدونا للزيارة وتبادل المشاعر والمؤازرة ..

ليلى لم نتصل بها باكراً فهم ربما لا زالوا نياماً...

مرارً قلنا لريمون .. انك شجاع ولكن هذه المرة كان شجاعاً حقاً .. قلنا له طبعاً ستحس بالشجاعة فأنت أمريكي ولو حدث لك أي مكروه سيحضر الأسطول الامريكي كله لانتشالك ...

حينها أخبرنا أن السفارة الأمريكية فعلاً اتصلت به وطلبت منه أن يكون جاهزاً للهروب في أية لحظة يصل فيها الأسطول وليكن بحوزته حقيبة صغيرة فيها كل ما يلزم من الأوراق الثبوتية وبعض الأغراض الشخصية الهامة... وطمأنوه أن المقيمين غير مستهدفين ..

كنا نستمع اليه بكل هدوء لأننا حتى تلك الساعة لم نعتقد أن الأمور يمكن أن تتأزم الى ذلك الحد وأنهم بالتأكيد سيجدون حلاً ...؟ ولا بد للقوات العراقية من التراجع ... ربما هي حركة سياسية للتخويف أو ربما ...؟؟ تهويل  ؟ هل يمكن أن يكونوا جديين في الاحتلال ...؟ أين الجيش الكويتي ؟؟ لا بد أنهم يحضرون الخطط لرد الهجوم ونحن هنا مغلق علينا ولا نعرف ما يحدث فعلاً ... نعرف أن معظم الوزراء والشخصيات الهامة هم جميعاً في دول الاصطياف .. ولكن هل هذا يعني أن الدولة فارغة وليس من يتمكن من فعل شيء ... لا   ...

قضينا الزيارة ونحن نتحدث عن كل هذا .. عن قلقنا على الأهل في الخارج الذين لا يعرفون عنا أي شيء ولا يمكنهم الاتصال بنا بأي شكل ...

قال ريمون أن أحد جيرانهم استطاع الاستماع الى احدى الاذاعات الأجنبية وهم يصفون الوضع في الكويت بصفات مخيفة لا نحس بها نحن هنا ولكن أهلنا لا يعلمون هذا...

وحدها ديما ذكرتنا بالسؤال عن الطفلة المنتظرة التي لم نكن نكف عن ذكر انتظارنا لها وللاحتفالات المرافقة لقدومها ... يا الله كيف تأخذنا المحن وتنسينا أهم الأمور ...

جورجيت بدت غير قلقة لأن الدكتور زياد سألها أن تمر الى المستشفى الأسبوع المقبل ... آملاً أن تكون الأوضاع أفضل ..

دعونا للذهاب لزيارتهم والبقاء معهم اذ وجدوا أن شارعنا فارغ ومبنانا فارغ وهذا لا يريح أما شارعهم فهو مغلق أكثر ومكتظ بالسكان والسيارات مع مكبرات الصوت تمر كل يوم لتطمئن الناس ونؤكد أن الاعتداء هو على الكويتيين أما المقيمون فيجب الا يقلقوا بل بامكانهم المساعدة.

طبعاً لم يرد عليهم أحداً بخصوص المساعدة ولكن معرفة حدود الأمور ..  يريح الأعصاب ويمنح بعض الأمان ... فوعدناهم خيراً.

ليلى اتصلت بنا، لم تقل الكثير فقط طمأنتنا وأكدت أنهم سيبقون حالياً عند هدى وبسام معهم ...

أكدت أنهم تمكنوا من الحصول على بعض المؤن وهذا كاف حالياً.

صوتها طمأننا قليلا وكان يجب أن نغصب أنفسنا لانتظار سماع الحقيقة حين نلتقي ...

 

 

طال الأمر ونحن ننتظر

السادس من آب 1990

-3-

هو عيد تجلي الرب .. تشاورنا وقررنا الذهاب الى الكنيسة للصلاة .. كانت الكنيسة في منطقة سلوى .. وكل من كان يسكن حولها من معارف شجعنا و أكدوا أن لا خطر من الذهاب  ... هذا القرار أسعفنا ببعض التغيير فحلق زوجي ذقنه وتحمس الأولاد وأسرعوا لتحضير أنفسهم أخيراً سيخرجون من البيت ويرون بعض أصدقائهم .. وقد كنا جميعاً بحاجة للاطمئنان عن الجميع ..

الكنيسة ممتلئة بالمصلين .. كلهم يصلّون بحرارة .. الأزمات تذكر المؤمنين بضرورة اللجوء الى الله بكل التقوى والخشوع والدعاء ..

ارتفعت معنوياتنا قليلاً ونحن نرى الجميع ونطمئن عن الجميع ...

بعد الصلاة التقينا جميعاً سريعاً في صالون الكنيسة .. سريعاً لأن الجميع يريد العودة دون تأخير من حيث أتى ...

لكن تلك السرعة لم تمنع تبادل وجهات النظر السريعة ومعاناة كل فرد بحسب المنطقة التي يعيش فيها .. ومنهم من بدأ يتحدث عن أشياء فظيعة لم نكن نتوقع حدوثها فهم يسكنون في مناطق كويتية أو في الشوارع الفرعية للأسواق .. جرّنا زوجي خارجاً حتى لا نستمع أكثر لما يفزع ويزيد القلق .. ودعنا بعضنا متمنين الأفضل للجميع وقفلنا عائدين بسرعة كبيرة .. راجين أن يمر هذا الكابوس على الجميع بأسرع ما يمكن ..

أدركنا يومها أن سرقات كثيرة حدثت .. وتحدث كل يوم والجنود العراقيون يقفون في نقاط تفتيش معينة ويفتشون .. يتساهلون مع البعض ويتراذلون مع آخرين ...

في طريق عودتنا فكرنا بالسيارة ... يا رب السيارة ليست لنا .. كيف نثبت لمن يسأل أننا لم نسرقها وأن الكاراج أعطانا اياها...

اقتربنا من أحد الحوجز .. ارتعدت وارتبك زوجي ... الا أنه قال هم لا يستوقفون أحد ... قوي قلبك..

استوقفنا الحاجز ... قال أهلاً فأجاب زوجي أهلاً وأعطانا اشارة بالمرور ...

كانت تلك أطول دقيقة مرت في حياتنا ..  وكانت تلك أفضل أهلاً سمعتها في حياتي فقد حررتنا من خوف كاد يقض أوصالنا.

 

الأيام تتعاقب قاسية .. قسوتها في غموضها وفي الاحساس بالانفلات .. نشعر وكأننا في غابة .. نشعر  بعدم وجود قوة تحمينا .. مم ؟؟ لا نعلم .. لكن الاحساس بالانفلات الأمني مرعب .. كان زوجي يقول في لحظات الخوف العديدة : لو حضر أحدهم في أي وقت وقرع الباب وبيده عصا وليس سلاح .. فقط عصا أو لو كانوا عصبة من ثلاثة أو أربعة أشخاص ماذا بامكاننا أن نفعل ؟؟؟

 لو اعتبرنا أن العراقيين لديهم أوامر صارمة بعدم أذية المقيمين وأنهم يقصدون الكويتيين فقط بحسب رواية الناس والاذاعات الأجنبية .. ماذا لو أتى أي مقيم من أية جالية وفي نفسه نوايا سيئة وما أكثرهم اولئك الذين يتحينون أرخص الفرص .. من يمكنه أن يحمينا أو كيف نحمي أنفسنا ؟؟ 

هل نستعد بحيازة عصا كبيرة نضعها باستمرار خلف الباب ؟؟

القلق يقض مضاجعنا .. وعلينا أن نبدو هادئين أمام الأولاد .. تارة يلعب زوجي معهم بالطاولة خاصة أن ديمي ابني البكر كان يتحمس ليغلب والده .. أحياناً كنت ألاعبهم بالمونوبولي ..

أحياناً يجبرون زوجي ليلعب معهم بالكرة .. فهي الوحيدة التي تستغرق الطاقة المكبوتة .. ويقضون وقتاً طويلاً يستمعون الى الموسيقى ويعزفون على الآلات المتوفرة لديهم من أورغ وغيتار ..

أو يلعبون بالورقً أونوً. كانوا يذكرون كثيراً جداتهم وجدهم فهم الوحيدين الذين يلعبون معهم الورق دون ملل أو يحكون لهم القصص الحميلة  ...

الأيام تتعاقب قاسية .. نحمد الله أن الهواتف لم تنقطع وكذلك الكهرباء ..

كل يوم يزيد قلقي كلما تكلمت مع جورجيت، اتصالات السفارة للاطمئنان عليهم وتحريضهم    للخروج بدأ يقلقها وبدوره بدأ يقلقنا .. معنى هذا أن لا حل قريب في الأفق .. كانت قلقة هل تلد قبل الهروب أم تهرب وهي حامل أفضل  وأسهل ؟؟ لكن ماذا لو داهمها المخاض أثناء الهروب أو في الانتظار ... اذن الأفضل أن تلد .. ولكن كيف تهرب وتتحرك وقد تضطر للركض وهي نفساء وطفلتها رضيعة صغيرة بحاجة للاستراحة والطعام المعقم .. وان كان بامكانها ارضاعها اذن هي بحاجة الى الراحة والطعام الجيد .. هذا دون التفكير بالولدين الآخرين فهما ايضاً طفلان، نورمين لم يتجاوز الثامنة وآلن الخامسة ... وهما بحاجة الى رعاية كاملة من الأب اذن ستكون مسؤولية الطفلة لها وحدها ..

الأيام تتعاقب قاسية ... كل يوم يدعوننا للذهاب الى منزلهم .. منطقة الشعب آهلة وستحسون بالأمان أكثر ... كانت هذه حجتهم للأقناع ..

بالرغم من كل الصعوبات التي كنا نفكر بها الا أن تعب الأعصاب والارهاق دفعنا للتحرك .. وأعطانا شجاعة كافية لقطع المسافة ... وكنا أكثر هدوءاً عندما اقتربنا من الحاجز ومررنا بسلام ..

طلبنا من ليلى والياس أن يحذوا حذونا ويأتوا لنجتمع كلنا .. الا أنهما رفضا وطلبا منا أن نعطيهم مزيداً من الوقت قبل البدء بالتحرك ..

قضينا معهم اليوم بطوله والليل ..

وصولنا اليهم كان احتفالاً .. الأولاد افتقدوا بعضهم .. ونحن كمن عائد من سفر برلك ..

طعم القهوة كان مختلفاً..

تحادثنا .. وتحادثنا .. ولعب الأولاد والتقينا بالجيران ... ولعب الرجال بالورق وتسلوا وطبخنا معاً وكان الغداء وكأنه وليمة عامرة ..

الجيران كثر التقيناهم وقضينا وقتاً لطيفاً حتى أننا في المساء استطعنا التمشي قليلاً في الشارع .. وسهرنا معاً الى ساعة متأخرة من الليل...

صحيح أن تجمع الأصدقاء يخفف المصاعب الا أن الأخبار التي سمعناها هناك والقصص التي كانت جورجيت تمتنع عن اخبارنا اياها حتى لا يزيد قلقنا كانت مروعة .. وبت لا ألومها أبداً على القلق المتزايد ...

جارهم الذي يمتلك محلاً للألبسة الجاهزة في السالمية .. كان يذهب كل يوم لتفقد محله حتى أنه اضطر أن يبقى هناك عدة أيام لحماية محله وبضائعه وحاول نقلها كلها الى البيت ... وجوده هناك كان مخاطرة كبرى ولو كان أحد أولاده هنا لمنعه من فعل ذلك الا أن خوفه على رزقه ورزق أولاده دفعه لتلك المخاطرة الكبرى ..

كان كل يوم يعود اليهم بأخبار جديدة .. سرقوا السوق كله .. حدثهم واليوم حكى لنا ذلك مجدداًعن الباصات التي كانت تأتي من العراق محملة بعائلات من البصرة .. يصطفون عند وصولهم ليمثلوا أمام الكاميرات مظاهرة تأييد للعراق وكأنهم كويتيون يؤيدون الحكومة العراقية الكويتية الجديدة وبعد انتهاء التصوير يسمحون لهم بالهجوم على المحلات فيفتحون ما استطاعوا منها وينهبون ما وصلت اليه أيديهم ثم يعمدون الى الباصات محملين بأكياس كبيرة ويرحلوا ..

غير قصص الهجوم على البيوت الكويتية ونهبها وقتل رجالها أمام عيون عائلاتهم .. عدا قصص اغتصاب الفتيات أمام أمهاتهن ... غير قصص السرقة والنهب والتنكيل ... وووو ... وقصة الجندي الذي هجم مع رفاقه على أحد البيوت لسرقته بحسب الأوامر المعطاة له ففتحت له أخته الباب وقد كانت متزوجة من كويتي ...

قصص كثيرة تبدو خيالية ... فتجعلك تحس بالخوف والقلق أكثر وأكثر ...

وبموازاة القلق والخوف كانت ولادة جورجيت هي الهم المباشر المشترك .. لم نستطع جميعاً أن نستقر على رأي بشأن الولادة قبل أو بعد الهروب فلكل حسناته وسيئاته ..

ما أكدنا عليه أنها يجب ألا تدع القلق يستحوذ عليها ويسيء الى صحتها وصحة طفلها .. وأن تعتني بنفسها وغذائها جيداً لتكون قوية ومستعدة لأي طارىء.

استطعنا أن نقويها ونقنعها أن تترك الأمر لله ..

وغادرنا في اليوم التالي آسفين لكننا كنا متأكدين أننا لا نستطيع ترك منزلنا طويلاً وأننا لا بد سنعود قريباً.

في اليوم التالي اتصلت جورجيت باكراً باكية ... ما الأمر ؟؟؟؟

لقد اتصل الدكتور زياد ليخبرها أنه اضطر لاغلاق المستشفى البارحة وأنه توقف عن الخدمة وأنها ربما ستضطر للذهاب الى مستشفى الصباح أو مستشفى عدّان للولادة ...

لم أجد وسيلة لتهدئتها .. فللحقيقة كان مستشفى السلام من أنسب المستشفيات أولاً لأن الدكتور زياد هو طبيبها والمستشفى غير بعيد .. أما الأخرى فهي بعيدة وبالتأكيد خطر الوصول اليها في هذه الأيام الخطرة.

هي مشكلة فعلاً .. ولكننا جميعاً حاولنا تهدئتها ووعدناها بمحاولة البحث عن أحد يعمل في احدى هذه المستشفيات لتحس ببعض الطمأنينة وحاولنا اقناعها بأننا لن نتركها أبداً.

وساءت الأحوال أكثر في اليوم التالي عندما بدأت تبرز قضية الخطر على الأجانب وبخاصة الامريكان .. فقد سمعنا أنهم يقبضون عليهم ويحتفظون بهم للمقايضة ..

الأمور تعقدت أكثر ولم يعد باستطاعة ريمون التحرك ومغادرة البيت .. لا بأس ان كانت تقف عند هذا الحد .. ولكن ماذا لو فسد عنه أحد الجيران أو اضطر للاخبار عنه أو حتى بالصدفة ..

ما العمل اذن ؟؟؟ كنا نقضي الساعات على التلفون نبكي نتحدث ونحاول تشجيع بعضنا البعض .. ولكن القلق كبير وما نتحدث عنه ولادة وليست أمراً بالامكان تأجيله أو غض الطرف عنه ..

صارت كلما قرع الباب ترتجف خوفاً معتقدة ان أحدهم وشى بزوجها ويأتون لأخذه ..

مر ذلك اليوم طويلا طويلا جدا ...

وما تلاه كان أصعب .. صارت تعتقد أن الطفل لا يتحرك في بطنها ولم تعد تستطيع تناول الطعام .. وقلقنا أكثر بشأنها .. نسينا جميعاً كل ما يحيط بنا وصارت صحتها وولادتها همنا جميعاً بالرغم من كل ما يدور حولنا..

حاولنا اقناعهم الانتقال الى بيتنا، بالرغم من أنه صغير .. فبيت الضيق يسع ألف صديق .. ولكن ليس الأمر بتلك السهولة .. لم يقتنع لا بل صار ينزعج من الاصرار.

 

الأيام تمضي .. يتعاقب الليل والنهار بطيئاً أو سريعاً لم نعد نحس ، ننام ونحن مستاؤون نريد أن ينتهي الليل عل تباشير الصباح تحمل أخباراً جديدة تريح ما تلف من أعصابنا .. واذا بالأيام تتثاقل وتتثاقل ..

كل يحلل .. كل يتكلم من زاويته المختلفة .. كل يضع في الميزان أحواله وماضيه ومستقبله والمعطيات المحيطة به والفرص التي فقدها ..

كثرة اللغط تشوش الأفكار فلم نعد نعرف أيها نصدق وأيها لا نصدق .. أيها اشاعة وأيها حقيقة ..

ودخل الناس في دوامة السفر .. يجب أن نسافر .. الجميع يقول يجب أن نسافر .. لماذا نبقى ؟؟؟ لماذا نسافر ؟؟ قد نخرج ولا نعود .. لا لن نذهب ونترك كل ما لدينا ...

- سنذهب فالأرواح أغلى من كل الممتلكات .

- لا الى أين نذهب دون أموال كافية وماذا نفعل هناك؟

- لا الى أين نذهب فلا أوطان لنا ولا بيوت .

- لماذا نبقى وبيوتنا هناك بانتظارنا.

- كيف نذهب وأموالنا وحقوقنا في السوق .. ربما يفتح السوق قريباً بالتأكيد لن يستمر الوضع هكذا..

- كيف نذهب وجوازات سفرنا في حوزة أصحاب المال .

كيف ونعم وكلا ولماذا وبالتأكيد .. كل كان لديه جواب وقناعة مختلفة ونحن قلقون على جورجيت ..

تريز كانت أول المغادرين حيث تحمس زوج أختها كثيراً خوفاً من الحرب وبسبب ذكرياته الأليمة السابقة أسرع بالهروب فهربت معه وبقي زوجها ليعتني بما تبقى من الأموال.

رياض اتصل بنا وأكد أنه مسافر مع مجموعة من الأصدقاء وتمنى لنا السلامة .

كنا نسمع أن كثيرون غادروا عن طريق السعودية لكنهم عادوا لأن الحدود السعودية مغلقة .

كانت سيطرة الحكومة الجديدة التي تألفت بعد الاجتياح ممن يسمونهم كويتيين عراقيين على مباني التلفزة واذاعتهم لبياناتهم وانتصاراتهم الحقيقية منها والكاذبة تفقدنا أعصابنا وتجعلنا نعيش في حيرة كبيرة ... هل نصدق أو لا نصدق ... بل في حزن عميق ...

وليس ما يسلينا ...

حتى اتصل الدكتور زياد ليطمئن عن حالة جورجيت وأخبرها أنه ربما يفتح المستشفى خلال أيام وسيخبرها بذلك وسيحاول توليدها ..

كان ذلك أول خبر جيد نسمعه من زمن بعيد ..

الهاتف أراحنا جميعاً وخاصة جورجيت ارتاحت قليلاً وتحمست لتستعيد قواها ..

يومها قالت ليلى .. تعالوا جميعاً الى بيت هدى لنحتفل ونلتقي فقد اشتقنا لكم حقاً .. تعالوا وسنتغدى معاً.

 

اقترحت المضحك المبكي .. قالت : ما رأيكم أن نأكل كل ما لدينا في الفريزر من ربيان .. من يعلم قد تنقطع الكهرباء في أية لحظة ونضطر لرميه .. أو قد نسافر ونتركه .. هيا نحتفل ونأكل جميعاً كل ما لدينا ..

ليلى معها حق .. براداتنا مليئة بأنواع الربيان الفاخرة التي نشتريها في موسمها ونكدسها مؤونة للشتاء وقد نسيناها مع القلق .. الربيان الذي تشتريه وتأكله في الكويت ليس له مثيل.

تشاورنا واتفقنا، المخاطرة ليست كبيرة وقرر ريمون الذهاب أيضاً.

في الغد اجتمعنا .. وكان لقاءً مؤثراً آخر .. لم نرض البدء بتحضير الطعام قبل أن يسردوا لنا ما جرى ..

وحدثونا ..

حدثتنا ليلى عن الهلع الذي واجهته في البدء وحيدة حيث ذهب الياس باكراً الى فيلكا كما يفعل كل خميس لزيارة الموقع كجزء من عمله كمهندس .

لم يسمعوا شيئاً ولم يحسوا في البدء بشيء حتى أتت هواتفنا وقلقنا خاصة اتصال هدى بعد أن اتصل أهل سليم وكانوا جد قلقين ومرتعبين وطلبوا اليهم أن يغادروا فوراً..  حينها فتحت النوفذ ووجدت الدبابات تقترب من الشارع .. لكنها بعيدة .. فكرت هل يجب أن تذهب الى الجمعية فموعد تسوقها اليوم وهذا يعني أن البيت فارغ .. أخذت بشار ابن السنوات التسع معها وأسرعت .. وكأن الاجتياح سينتظر عودتها .. هي حتى لم توقظ رنا ودانة النائمتين ولا حتى عمهم بسام.. اعتقدت أن الأمر بسيط مجرد وجود مسلح ولن يزعجوها لأنها سيدة ..

اشترت ما استطاعت بسرعة .. وعادت الى البيت لترى الدبابات تقصد الشارع المقابل قبل أن تدخل شارعهم ...

تساءلت ما عسى أن يكون ؟؟؟

هي لا تعرف أحد الجيران الموجودين لتستشيرهم.. كل جيرانها الذين تعرفهم مسافرون ..

 وجود مسلح .. لن يؤذوا نساءً وأولاداً وستطلب من بسام الاختفاء ان طرق أحد الباب ..

مدت رأسها من الطرف الآخر من المنزل لتستطلع ما يجري في الشارع المقابل فوجدت الجنود يترجلون ... ثم يدخلون أحد الأبنية ..

قرع جرس الباب ..

جفلت وخافت .. ارتعدت فرائصها وأبعدت بشار وطلبت منه بصوت منخفض أن يدخل ... وسألت من؟؟؟

وسمعت صوت الياس ... فتحت مسرعة وعانقته عناقاً كبيراً .. هي تحبه جداً وقد أحبته دوماً أما العناق اليوم فله معنى آخر .

وأخبرها بكل ما سمع على الطريق لحين عودته فزعاً مرتاعاً اليهم.. وراحوا معاً يراقبون الجنود.

ثيابهم ليست ثياب جنود كويتيين .. عادت الى المقدمة للتأكد من الدبابات فاذا عليها العلم العراقي

اذن هي الحقيقة ..

كان بيتهم في الطابق الأرضي لذا كانوا يشعرون بكل التحركات ..

أغلقوا جميع النوفذ الخارجية وتركوا اثنين للمراقبة ..

بعد قليل راح مكبر صوت من احدى الدبابات يهتف بأنهم يبحثون عن الكويتيين فقط .. وطلبوا ممن ليسوا كويتيين أن يعرفوا عن أنفسهم، لكنهم خافوا أكثر ولم يعرفوا هل يصدقونهم ؟؟ هل يثقون بهم أن أنهم يرمون طعماً ...

حضروا حقيبة صغيرة فيها جميع الأوراق الثبوتية الهامة وبعض الماء والكعك ما يلزم الهروب المفاجيء وبعض الغيارات خاصة لدانة ابنة العامين .

كان بشار بالرغم من سنواته التسع يراقب مدخل البيت مع والده ورنا تساعد أمها بتسلية دانة حتى لا يعلو صوتها .. غير محدثين أية حركة تدل على وجودهم .. فلم يكن باستطاعتهم معرفة ما قد يحدث ... حتى الهاتف أسكتوه حتى لا يرن .. وبدا لهم مؤخراً أن الجنود قطعوا كل كوابل الاتصال في المنطقة .

فكروا بالهروب منذ اللحظة الأولى لكن الفرصة لم تسنح حتى مساء اليوم التالي ..وتحت جناح الظلام ..

يومان قضياهما بخوف وصمت قتقلت أعصابهم وفنت قواهم ..

 

ولم تنته القصة بذلك فقد كان على الياس أن يذهب الى الشركة أو يحاول الاتصال بالمساعد التنفيذي ،   لأن صاحب الشركة طلب منه حين كانوا في فيلكا وعلموا بأمر الاجتياح، وقرر البقاء في فيلكا، طلب منه الذهاب الى الشركة ومحاولة اعادة جوازات سفر الموظفين فهم بالتأكيد سيحاولون السفر وسيحتاجون اليها.

 بعد الوصول الى بيت هدى أحس الياس بمسؤوليته الكبيرة تجاه كل العمال والموظفين الذين قد يفكروا بالسفر وجوازاتهم بحوزة الشركة فاتصل بالمساعد التنفيذي واتفقا على الذهاب الى الشركة وفتح الخزنة.

لم يتردد الياس بالذهاب الا أن ليلى كانت قلقة جداً ولم تقبل تركه بمفرده وأصرت على الذهاب معه لأن وجود النساء يسهل حالات كثيرة .. واضطر للموافقة . وتركوا الأولاد مع هدى وسليم ومعهم بسام أيضاً، وذهبوا الى الشركة لأخذ الجوزات وحاولوا فتح الملفات للحصول على العناوين ربما أو أرقام الهواتف ... وعادوا الى البيت ... وبدأوا اتصالاتهم للبحث عن الأشخاص ....

وفي اليوم التالي بدأت مشاوير البحث الخطرة منها قبل السهلة .. لم ترغب ليلى الاسهاب بالحديث عن المغامرات فقالت نحن الآن هنا هيا الى المطبخ لاعداد الطعام ...

فهمنا جميعاً الضغط الذي كان يبعدهم عن الحديث والتحرك أكثر ... لا بل هنأناهم على قوتهم واخلاصهم ..

 

كانت المائدة عامرة بشتى أنواع أطباق الربيان الشهية الا أننا كنا جميعاً بلا شهية ..

كنا فقط بحاجة الى مؤازرة بعضنا البعض .. وقضينا الوقت في الحديث عن الأوضاع وما يقول هذا وما يقول ذاك .. وما سمع هذا وما سمع ذاك ..وماذا يجب أن تفعل جورجيت وماذا يجب أن يفعل ريمون .. وكلها أخبار مقلقة الا أن وجودنا معاً خفف وطأة كل الأخبار وقلل شدة التأثر ... الجميع شجع جورجيت ووعدها بالمساعدة ... وأكد انتظارنا الطفلة الموعودة للاحتفال هنا أو في أي مكان من العالم سنلتقي ونحتفل ... وبرغم كل الظروف .. أما بالنسبة لوضع ريمون، حاولنا مرة أخرى اقناعهم الانتقال الى بيتنا ... بالرغم من صغره كما فعلت ليلى عندما ذهبت الى اختها هدى ... لكن دون فائدة ..

لم يلعبوا بالورق، أما الأولاد فقد لعبوا مليئاً بهدوء وكأنهم يحسون أننا في محنة وأعصابنا لا تتحمل مشاحناتهم ومشاجراتهم ...

بعد الظهر وقبل أن تبدأ الشمس بالمغيب بدأنا بالتحرك ، كان يجب أن يعود كل منا الى منزله سريعاً قبل أن تغرب الشمس .

وفيما كنا نودع بعضنا شعرنا جميعاً بقسوة الأوضاع .. لحظة الوداع كانت جد قاسية وكأنها وداع لغير لقاء .. كلنا شعرنا بهذا ووعدنا أحدنا الآخر بأننا سنبقى على اتصال وأن أول اهتماماتنا الآن الاطمئنان على الولادة ..

حاولنا التماسك أمام الأولاد لكن الحالة عامة ولا شيء يخفى على أحد ... تعانقنا ... وأسرعنا بالغادرة كل الى بيته أو قل الى مكان اقامته الجبرية.

تلك الليلة لم ننم .. لقاؤنا بالرغم من فوائده الكثيرة الا أنه أثر كثيراً علينا وكشف لنا جدية الوضع الذي نعيشه ..

هذا الاجتياح السافر لهذا البلد الأمين الذي كنا ننعم تحت سمائه بالراحة والطمأنينة والآن ..؟؟؟؟

ماذا  ؟؟؟

لا أحد لديه الجواب ؟؟ هل نرحل حقاً ..؟؟

هل يمكننا أن نفعل شيئاً ؟؟ كيف نعلم ان كان بامكاننا أن نفعل أي شيء ونحن في بيوتنا مغلق علينا .. لا اذاعات كويتية أو تلفزيون ..

الكويتيون بالتأكيد بدأوا المقاومة ولكن نحن بعيدون جداً .. لا نعرف أحداً ولا يمكننا الاقتراب ..

 

انه الرحيل اذن ... لا بد منه ولا مفر ّ .. البقاء مستحيل في هذه الأحوال  ... لا ندري متى تقطع الكهرباء ... متى تقطع أسلاك الهاتف ..

الى متى نبقى أسرى في بيوتنا ؟؟ الى متى يبقى أولادنا بين الجدران الأربعة ... ينامون ويستيقظون، يلعبون ويتخاصمون ؟؟؟

تارة نهدأ جميعاً ونقضي أوقاتناً نلعب ونتسلى وتارةً يفقد أحدنا أعصابه فلا يستطيع التحمل فيضطر الآخرون للتحمل ومعظم الأحيان يفقد الجميع أعصابهم وتثور ثائرة الجميع حتى نكتشف أن لا فائدة مما نفعل فنهدأ ونمتع أنفسنا بما توفر من الأطعمة المسلية ...

كنا نستهلك المؤن بكل الحذر .. خاصة وأنه لا مال لدينا وأثمان الأشياء بدأت  تشتد غلاءً.

 

كيف يمكنني أن أنسى ذلك اليوم الذي رحنا فيه جميعاً نفتش في حقائبنا وجيوبنا علنا نجد ديناراً قابعاً في احداها ..

وراح الأولاد يجمعون ما لديهم من قطع نقدية للمشاركة وجلسنا جميعاً نفكر ما عسانا أن نفعل .. هي مئتان وخمسون ديناراً أحضرناها من البنك .. صرفنا منها حوالي ثلاثين دينار ... وماذا بعد ؟؟؟ ان طالت الاحوال المماثلة ...

 

ولا أنسى يوم قررنا كسر الحصالة التي نجمع فيها جميعاً القطع النقدية واستعمال نقودها لشراء المؤن وترك القطع الورقية لسهولة حملها ...

كسرناها وجلسنا نعد النقود .. كلٌ يعد فئة نقدية وحاولنا جعل الأمر ترفيهاً وتسلية .. كان المشهد مؤثراً جداً ... صحيح أن المحن تجمع العائلات الكبار والصغار ..

المحن تقوي الروابط وتربي النفوس ... في المحن تتعلم أكثر معاني الأخوة والصداقة والوفاء والتضحية ... ومع أن أكبر أولادي كان في العاشرة وأصغرهم في الرابعة فهموا جميعاً معنى تعاوننا هذا وتجمعنا ...

كانوا يتفهمون عدم شراء والدهم للشوكولاته والمأكولات المفضلة ... وكأن المحن توسع الأفق وتعمق التفكير ...

ويبدو أن هذا ما حصل مع معظم أصدقائنا .. فعلوا ما فعلنا وأحسوا ما أحسسنا ..

أولاد جورجيت كسروا الحصالة بحثاً عن المال الكافي للولادة ... انه هم اضافي عليهم التفكير به ... محتوى حصالتهم كان أكثر قليلاً من مئة وخمسين دينار كلفة الولادة الطبيعية في الظروف الطبيعية ..

يومها أضفى ذلك على أيامهم بعض الفرح .. 

 

 

هكذا ولدت مريم

14 آب 1990

-4-

اتصلت جورجيت باكراً قائلة :

- الحقيني، الدكتور زياد اتصل بي وأخبرني أنه سيفتح المستشفى اليوم، أنا ذاهبة اليه ليفحصني وربما سيولدني ان كان بالامكان.

 

استفقت على ذهول .... هل أفرح .. أم أحزن .. هل أضطرب أم أخاف .... كل ما أعرفه أنني يجب أن أسرع لألحق بها .. ريمون سيخاطر ويأخذها حتى لا تنتظرنا ...

 

وصلنا الى منزلها فأخبرتني جارتها أم جوني أن ريمون لم يعد بعد .. ولم يتصل .. وركض الأولاد نحوي فرحين بوصولنا وهم متحمسون ... ماما ذهبت لتحضر لنا أختنا ...

وما هي الاّ دقائق حتى وصل ريمون وأخبرنا أن جورجيت بخير وقد طمأنها الدكتور أنه سيتمكن من مساعدتها على الولادة والطفل بحالة جيدة ولا خطر عليه فقد أكملت من شهرها التاسع معظمه وهي مستعدة.

اذن هي في المستشفى الآن بانتظار تحريض المخاض ... وحيدة.

استلم ريمون الأولاد كلهم وأسرع بي زوجي الى المستشفى لأكون بقربها.

لهفتي عليها أنستني أية مغامرة أنا بصددها .. في الطريق الى المستشفى أدركت أنني أترك أولادي وأذهب بعيداً عنهم الى مكان آخر ... ماذا لو حدث شيء ... انفجار ؟؟ سرقة ... حريق ؟؟؟ هجوم ؟؟؟

كانت هي المرة الأولى التي أتركهم منذ يوم الغزو ... كنت أحياناً قبل الغزو أتركهم مع أم سمير أو مع سمر أو عند جورجيت أو ليلى اذا كان لدي مشوار مهم الى المجلة ولحضور محاضرة أو مؤتمر أو حتى شراء شيء هام ولا يناسبه وجود الأطفال .. أما اليوم ؟؟؟

استعذت بالله وتذكرت أية مهمة أنا ذاهبة اليها .. فهي أختي .. وهل يعقل أن أتركها وحيدة في ساعة كهذه ؟؟ ساعة المخاض أو قل ساعات المخاض .. من يعلم كم سيطول ذلك وهو لم يبدأ طبيعياً...

ودعت زوجي سريعاً فلم أرغب أن أظهر له تأثري لابتعادي عنه وكذلك حتى لا يشعر أنني أحسست بانفعاله وخوفه .. لو كان الأمر بيده لقال لي .. لا تذهبي ... لكن الأخّوة التي تربطنا

أبعدت تلك الكلمات عن شفتيه ...

قلت سأطمئنكم ان وجدت هاتفاً .. وأسرعت بالدخول الى المستشفى ... بحثت عن غرفة الاستعداد للولادة ...

وجدتها ....

وبدأت رحلة الآلام ..

 

ما ان رأتني تمسكت جورجيت بيدي ، لتستمد قوة لم أكن متأكدة أنني أمتلكها .. لكني ما ان نظرت الى وجهها أحسستني قوية .. قوية بقدر كاف لاساعدها على تحمل الألم ,, أطمئنها أنني هنا بقربها وأن الله سيعينها وتنجب الطفلة المنتظرة ...

قالت : مريم سأسميها مريم ... فقد طلبت من مريم العذراء أن تساعدني وسأسمي ابنتي مريم ..

كانت تنوح وتبكي صامتة ,,, بدأت الآلام تداهمها بفترات متباعدة .. وكلتانا صامتان .. وما ان تداهمها هجمة الألم تصلي بصوت مرتفع وتقول : ساعدني يا رب، ساعدني ..

ثم تقول لي: سأموت .. سأموت قبل أن أرى ابنتي .. لاتنسي أن تسميها مريم .. أتركها بين يديك اعتني بها وبابني الآخرين ... أوجاعي رهيبة سأموت ...

وتعود فتهدأ بعد هدوء الألم ..

 

ما عسى أي انسان في مكاني أن يفعل ؟؟ في ساعات كهذه .. ساعات طوال مليئة بالألم والانفعال والثورة والخوف ... ما عساني أفعل وليس عندي سوى الكلمات والصلاة .. أشد على يدها وأصلي معها وأطمئنها وأبلع بكائي .. أدفن قلقي وغضبي وخوفي في جوفي بعيداً ... فأقترب من الاختناق ... ثم أعود وأتذكر .. لا يحق لي الاختناق فأنا هنا للمؤازرة والتعاضد .. مهمتي أن أقويها وأشدد صبرها على الألم ..

 

هدأت برهة .. فرحت أنظر حولي ... الغرفة كبيرة فيها ثماني أسرة ..

على خمسة منها سيدات داهمهن المخاض مستعدات للوضع يتألمن .. ويصرخن، كل منهن بلهجتها وانفعالها ..

احداهن كانت وحيدة .. تئن بصمت تارة وتصرخ تارة ..

الاخريات كل منهن تحيط بها قريباتها للتشجيع خاصة تلك الصغيرة السن ويبدو أنه طفلها الأول وليست لها خبرة بالمخاض .. كانت تصرخ بشكل مستمر غير محتملة آلامها ..

ما كان مشتركاً في الغرفة عدا الألم والمعاناة والصراخ والصلاة والدعاء تلك السيدة الكويتية المتقدمة بالسن التي كانت تقول بشكل مستمر بعلو صوتها : ادعين على صدام .. انتن مطلقات والله يستجيب دعاء المطلقات ... ادعين الله أن يعذبه كما يعذبنا ويعذب شعبنا وأولادنا ..

وتصرخ كل منهن عندما يداهمها الألم .. وتمر لحظات صمت مريع ,,لتعود الصرخات لتملأ المكان ..

تأتي الممرضة الوحيدة في المستشفى للاطمئنان على السيدات كل فترة وتسأل احتياجاتهن ان كان بالامكان تلبيتها ... ومن ثم تذهب لاعداد غرفة الولادة أو أسرة الأطفال المتوقع ولادتها وهي تتمتم ان مهمتها صعبة ... وهي وحيدة ... ربما ستأتي ممرضة أخرى لمساعدتها في مستشفى كان يعج بالممرضات والمساعدات وعاملات التنظيف ..

 

وتشد جورجيت على يدي وتقول آلامي كبيرة جداً لم أحس بها في الولادات السابقة ... ويبدو أن هذا الدواء محرض سريع .. لكن لا بأس .. لا بأس .. فأنا التي طلبت من الدكتور زياد أن يحاول وسعه لألد اليوم .. وأنا أشد أزرها وأطمئنها وأدعو لها بالسلامة ...

أتى الدكتور زياد لمعاينتهن وقال لجورجيت يبدو أن الرحم متجاوب وستلدين قريباً ... تحمّلي  الألم .. هي ساعة وتكون ابنتك بين يديك .. أعرف أن آلامك كبيرة ... تشجعي ...

 

عندما يكون الطبيب طبيباً وانساناً فهو كالبلسم الشافي ... لقد أراحهن جميعاً بهدوء أعصابه وقوة شخصيته .. وطلب منهن جميعاً التحمل وتفهم الوضع .. وطلب من السيدات المرافقات أن يساعدنه ويخبرنه في حال أحسسن بقرب وضع احداهن فخبرتهن تساعد وهو وحيد مع الممرضة الوحيدة ولن يتمكن من متابعة الجميع .. ففي الغرفة الأخرى أخريات ..

 

شددت على يد جورجيت .. وقلت مجدداً صلّي .. فالصلاة أنجع الأدوية ..

وبدأت آلامها تزيد وتزيد .. وتقترب أزمنة المخاض وهذا يدل على اقتراب الولادة ..

وزاد خوفها وقلقها .. وزاد صراخها وخوفها من الموت ... كانت لا تتوقف عن ذكر الموت .. وأنا أهدئها وأقول لها انه شعور طبيعي في هذه اللحظات ..

ولكن ... قلبي ينفطر ولا حيلة لدي ..

يا مريم شددي ضعفنا .. يا مريم قوينا .. لنصبر على آلامنا ..

وأسمع صوت السيدة مجدداً : ادعين على صدام .. يا متألمات الله يستجيب دعاء المتألم ..

ونحن نردد يا رب قوينا وساعدنا...

 

وتأتي الممرضة مجدداً وتبشر أن الممرضة الأخرى وصلت للمساعدة في غرفة الولادة .. وبعد فحصهن جميعاً وجدت أن جورجيت هي الأكثر استعداداً فقررت نقلها الى غرفة مجاورة .. لاعدادها للولادة .. ومن ثم أدخلتها الى غرفة الولادة وبصعوبة فلتت جورجيت يدي وهي تكرر لا تتركيني .. لا تتركيني ... انتبهي لمريم ..  وأغلقت الممرضة دوني الباب وقالت بحزم ابقي هنا... وتركتني في الممر الطويل أسمع صراخ المخاض يأتي من جميع الغرف والدكتور زياد ينتقل من غرفة الى أخرى وكذلك الممرضتين .. كل بدوره وأنا أقف هنا مذهولة ..

 

لم أذق قبلاً طعم المخاض فقد حرمني الله نعمة الانجاب الطبيعي وكان علي أن أنجب أطفالي الثلاثة بعملية قيصرية .. لذا لم أتخيل يوماً حقيقة آلام المخاض ... وقد خبرتها اليوم بكميات وحالات فاقت تصوري وتحملي وتركتني مذهولة .

ورأيتني كما في الأفلام أروح وأجيء في هذا الممر الطويل ويداي مكبلتان وكذلك تفكيري ..

هل أذهب لأجد هاتفاً في المستشفى أخبرهم أنها دخلت غرفة الولادة ؟؟ لكن الممرضة قالت لي بحزم انتظري هنا .. بالرغم من أنني لم أفهم قصدها ولمَ قالت لي ذلك الا أنني فضلت البقاء فربما احتاجت الي ...

أروح وأجيء .. والدقائق تبدو ساعات طوال .. أسمع خلالها بعض أصوات انفجارات بعيدة تتسلل الى السمع من خلال أصوات مخاض السيدات ... فأتردد في استيعابها وأقول لنفسي هي بعيدة .. لا بد أن تكون بعيدة .. وأنا رعبي كله محصور في الغرفة المجاورة ..

وأردد: انتشلها يا رب .. ساعدها ... ساعديها يا مريم ...

وانطلقت صرخة مدوية وعلا صراخ طفل .. فجمدت في مكاني ... أنتظر.

 

وأخيراً فتح الباب وطلت الممرضة تدفع سرير الأطفال وفيه كومة لحم مغطاة باحكام بقطعة قماش أزرق وقالت لي: أرادت بنتاً فأنجبتها .. قفي هنا، استلميها وقفي بجانبها فأنا يجب أن أعود سريعاً الى الداخل، السيدة الأخرى تلد الآن أيضاً .. ابقي الى جانبها حتى لا نخلط بين الأطفال هذه طفلتكم .. لن أتأخر ..

وأغلقت دوني الباب مجدداً ...

بنت انها بنت ... ولكن كيف حال الأم .. لم أسألها .. لم تترك لي مجالاً لأفتح فمي .. بالتأكيد هي بخير والا لأخبرتني ... بنت ... بنت .. وسقطت دمعة من عيني أخيراً ...

بنت ...  أتت البنت ...

أبعدت الغطاء قليلاً عن وجهها المغطى بالدماء والأقذار كوجه كل طفل حديث الولادة قبل أن يأخذ حمامه الأول ..

يا الله ، يا سبحانك يا الله ... البنت المشتهاة المنتظرة ... هي بين يدي الآن .. مريم هنا .. هل تدري جورجيت أم أنها منهكة ؟؟؟ وريمون والجميع ... جميع من هم بالانتظار ... مريم التي كان الجميع يعد بالحفلات والهدايا حين تلد .. هي هنا وأنا أنظر الى جمالها ... وحيدة كاليتيمة ..

 

مريم حبيبتي أنا هنا وأمك في الداخل ووالدك وأخواك مع جميع الأحباء هناك بانتظارك .. لا تخافي .. لسنا وحيدتين هنا .. ربما الآن نعم .. لكن لا تخافي .. الجميع يفكر بنا وسيعوض لنا كل هذه الساعات الأليمات .. تشجعي، كوني قوية مثل أمك  .. تبدين بصحة جيدة ... حبيبتي ليتني أتمكن من ضمك الى صدري .. لكني أخاف لو فعلت قد تؤنبني الممرضة ..

كنت أكلمها وكأنها تفهني .. أكلمها لأبعد عنها الخوف والرعب .. كي لا تحس بالوحدة واليتم .. أكلمها لأقويها .. حقاً ؟؟؟  أم أكلمها لأقوي نفسي وأنسى رعبي وأعلن عن فرحتي .. مريم هنا ... هيا استفيقي يا جورجيت .. مريم هنا بانتظارك ...

 

وعلت صرخة أخرى قوية من الداخل .. خرجت بعدها الممرضة بسرير آخر قائلة اتبعيني ..هي بنت ثانية للسيدة الأخرى ... اتبعيني بالسرير وابقي معي حتى لا نخلط بينهما ونضع الأسماء الصحيحة ... فتمالكت استيعابي وذاكرتي وبعض قوتي وسألتها وصديقتي ؟؟ كيف حالها ؟؟ فقالت هي صديقتك ؟؟ حسبتها أختك .. هي بخير ستستفيق بعد قليل وريثما ننهي مهمتنا ستكون في غرفتها .. لأنها تعبت كثيراً وقد أعطاها الدكتور مهدىء لتنام قليلاً .

وتبعتها بكل همة .. الحمدلله جورجيت بخير ومريم بين يدي ... لا يهم متى يفرح الجميع ... المهم أن الخاتمة ستكون مفرحة ... وسقطت الدموع أخيراً من عيني ... أعتقد أنها دموع الفرح ..

أخذت الممرضة مريم بين يديها وغسّلتها ونظفتها ... ثم ألبستها ثياباً من المستشفى ... سألتها هل أذهب لاحضار ملابسها ؟؟ قالت ابقي هنا الآن ولاحقاً غيري لها ملابسها كما تشائين  .. وكادت تفرغ عصبيتها وتعبها بي فصمتت لا بل قلت لها ... ليعطيك الله العافية ويقويك .. ما تفعلينه الآن ترينه أمامك في الآخرة ... صمتت، ليتني وجدت دعاء آخر أفضل ...

 شكرت الله أنها لم تنزعج من دعائي ...

رتبت مريم ووضعت في يدها اسوارة مطاطية تحمل اسم أمها،

رحت أنظر الى تقاطيع وجهها الجميل ...

عندما يصفون الرضع بالملائكة لم يخطئوا أبداً.

هي كالملاك غير مدركة ما يحدث حولها ... أغمضت عينيها ونامت .. قالت الممرضة لي : اتركيها هنا ولا تخافي سأبقى هنا حوالي نصف ساعة ارتب المكان وأحضّر وجبات الأطفال .. اذهبي واطمئني عن الأم وتعالي لأخذها لتراها .. كما أعتقد أنك يجب أن تتركيها معكم لأنني بعد ذلك سأستلم أطفالاً جدد.. أليس باستطاعتك الاعتناء بها ؟؟ أليس لديك أطفال ؟؟ اذهبي وعودي سريعاً ... كما أعرف أنك تريدين اخبار الأهل ، الهاتف العامل الوحيد موجود في المكتب في الطابق الثاني في الغرفة الرابعة .. هيا اذهبي ولا تتأخري ...

لم تترك لي مجالاً لأجيب أو أسأل أو أعلق .. أملت عليّ أوامرها وارشاداتها وأنا المذهولة دون تعليق .. استدرت وخرجت ...

ركضت باتجاه الغرف ورحت أبحث عن جورجيت .. وجدتها على سرير نائمة ... اقتربت منها آملة أن أستطيع التكلم معها ... واذا بها بانتظاري ...

قالت : أين أنت ؟؟ أنتظرك أغالب النوم طمئنيني عن مريم قالوا لي أنها معك ...

قلت : علمت اذن ... الحمدلله على سلامتك وسلامة مريم ... انها رائعة ..

ابتسمت وقالت: نشكر الله ... قلت لنفسي لن أصدق حتى تأتي أنت وتخبريني.. هل هي جميلة ؟ هل أخبرت ريمون ؟

قلت : هي أجمل ملاك في العالم .. الله يخليلك اياها ... نامي الآن وارتاحي ... أمامك تعب كثير .. سأذهب الآن لأبحث عن الهاتف وأخبرهم .. نامي ومن ثم سأحضر مريم ونكون بانتظارك هنا ...

وقبل أن أنهي كلامي استغرقت في نوم عميق .. كانت تصارع التعب والنعاس وما ان اطمأنت استسلمت ...

وخرجت من الغرفة أبحث عن الهاتف ... وانفجرت بالبكاء .. أحسست بالظلم .. أحسست بالغربة .. أحسست باليتم .. هذه الطفلة المنتظرة المشتهاة الموعودة بالحفلات والهدايا تأتي بكل صمت .. وها قد مضى على ولادتها أكثر من نصف ساعة ووالدها واخوتها وأقرباؤها الذين ينتظرونها بفارغ الصبر لا يعرفون بعد .. وأنا أروح وأجيء وحدي في المستشفى أبحث عن الهاتف وكل مشغول بأمور أهم .. ايصال الخبر المفرح ليس بتلك الأهمية ... عجيبة هي هذه الأيام ... لو كان لدي خبر سيء لهب الجميع لنجدتي لكن للخبر السعيد علي أن أنتظر ..

ربما هم محقون ولم أعترض الا أن قلبي كان يعتصر حزناً ولم يسمح لدموعي بالتوقف ..

 

- ريمون .. أتسمعني .. جورجيت ولدت وقد أنجبت لك طفلة جميلة وتؤكد أنها تريد تسميتها مريم ... ريمون هل تسمعني؟؟ جورجيت بخير وهي نائمة الآن لأنها تعبة لكنها بألف خير ..

ريمون لم يصدق ما أقول وقد أخذته الصدمة ..

تكلمت مع زوجي وأخبرته بعض التفاصيل وطلبت منه تحضير طعام بالامكان احضاره الى هنا لأن جورجيت ستستفيق بعد حوالي ساعتين أو ثلاثة ولا شيء للشرب والأكل هنا .. هي بحاجة الى شوربة على الأقل ..

فاقترح أن يأتي لاحضاري الى البيت لتحضير الشوربة ورؤية الأولاد .. وعندما أخبرته عن عدم امكاني ترك الطفلة وحيدة قال سيتدبر الأمر ...

 

لم أعرف ماذا يعني ... سيتدبر الأمر .. أغلقت السماعة وعدت الى غرفة الأطفال مسرعة فوجدت الممرضة بانتظاري وقالت : جئت في الوقت المناسب .. هل تريدين البقاء معها هنا أو تأخذينها معك الى هناك ؟؟

فضلت أخذها حيث والدتها وحيث باستطاعتي رعاية الاثنتين معاً ...

وأردفت سآتيك بالرضعة اللازمة في الوقت المناسب .. 

 

جررت سريرها ذاهبة الى غرفة والدتها وأنا أفكر .. أية أوضاع هذه تلك التي تجبر الممرضة في مستشفى محترم كهذا أن تتصرف على هذا  النحو ؟؟ تترك الرضع لأمهاتهم ... حيث الأمهات أصلاً بغير عناية .. كنت أتطلع بأسى الى أرض المستشفى التي اعتدت أن أراها تبرق كالمرايا ...

ضجة وأصوات وكل يجري على هواه ..

تذكرت ذلك المثل القائل الطاسة ضائعة ... فعندما تضيع الطاسة في الحمام تعلو الأصوات الصاخبة باحثة عنها .. وهنا أية طاسة ضاعت ؟؟؟

كل هذه الحالات للولادة اليوم ؟؟؟ ربما كثيرات حالتهن مثل حالة صديقتي تحريض مخاض وولادة قسرية ... قبل أن تسوء الأحوال أكثر وأكثر ... والدكتور زياد وحيد تساعده ممرضتان لا حول لهن ولا قوة ... كم باستطاعتهما أن تقدما ؟؟؟ مستشفى طويل عريض وحالات كثيرة والخدمات النسائية كثيرة تلك التي تسبق الولادة وتلك التي تليها ..

وتلك السيدة لا زالت تصرخ بأعلى صوتها .. ادعين على صدام ... الله يستجيب دعاءكن ..

 

 مريم، تتقلب بين حين وآخر أمرر يدي بحنان على كفيها الصغيرتين .. أعدل غطاءها فتعود الى النوم ...

مرت ساعة وأنا جالسة بقرب جورجيت ومريم بجانبنا أراقبهما معاً ..

 

تململت مريم في سريرها وفتحت عينيها ....

حملتها بكل الحب ووضعتها بقرب قلبي وجعلت رأسها الصغير يلامس خدي لأحس بضربات قلبها وتحس بقلبي يخفق حباً وحناناً ... ضممتها الى صدري ... يا حبيبتي يا مريم ... من أجلك تهون كل المصاعب ... من أجلك يتحمل الجميع كل المخاطر... وأنت يا حلوة ليعطيك الله الصحة والسعادة والحياة لتنيري حياة أهلك ...

أطعمتها رضعتها التي أحضرتها الممرضة .. ثم تجشأت ...

أخرجت الثياب الجديدة التي حضرتها جورجيت وبدلت ملابسها فبدت رائعة الجمال ... ضممتها ثانية متذكرة الغطاء الجميل الذي كانت تود شراءه لها .. ضممتها ناسية كل ما حولي من ضجة وصراخ وألم ... وكأني في شرنقة من الحب والفرح تمنع عني كل ما يحيطني من معكرات ... ونامت مريم مجدداً... فوضعتها في سريرها ..

واذا بي أرى أم جوني جارة جورجيت أمامي ..

قالت أسرعي زوجك بانتظارك في الخارج ... سأبقى هنا حوالي ساعتين تذهبين خلالها لرؤية الأولاد وقد وضعت دجاجة على النار لسلقها وتحضير الشوربة .. أحضريها معك عندما تعودين ..

وعندما رأت مريم قالت : ليحميك الرب وتحفظك مريم .. وسألتني لمذا هي هنا وليست في غرفة الأطفال ؟؟ شرحت لها باختصار الوضع القائم في المستشفى وطلبت منها أن تراقبهما معاً فقد أطعمت مريم للتو وجورجيت لن تستيقظ الآن .

قالت: مريم ؟؟ قلت: نعم مريم ..

وذهبت ،،

 

عندما جلست في السيارة مع زوجي ... وسألت عن الجميع انفجرت بالبكاء مجدداً...

كم هي قاسية هذه الأيام ..؟؟؟...

أمسك زوجي بيدي وقال : ابكي هنا لا بأس ، فما عانيته ليس سهلاً وأنا أتفهم ذلك ولكن يجب أن تعلمي أن الجميع بانتظارك في البيت ولا يحتملون رؤيتك بهذه الحال ... الأولاد مضطربون جداً ويريدونك، وريمون بانتظارك ليطمئن على زوجته وكذلك أولاده يريدون أمهم ..

نظرت اليه وقرأت حنانه وشكرت الله على الهدوء الذي منحه اياه في هذه اللحظات ... عادة عندما أثور وأفقد أعصابي يثور أكثر مني ويغضب من ثورتي ولكن يبدو أن هذه المحنة أظهرت طرفاً آخر من شخصية زوجي فرحت للمسها ومعرفتها ..

 

فرح الأولاد بحضوري وراحوا يسألوني عن التفاصيل .. وعن مريم ومن تشبه ؟؟؟

أما الكبار فبكل القلق كانوا ينتظرون الأخبار الحقيقية ... حدثتهم بكل التفاصيل ... الايجابية منها فقط .. أهملت السلبية كي لا أثير قلقهم أكثر ..

 

حضرت الشوربة وأطعمت الأولاد ما حضره لهم الرجال من معكرونة وسلطة ...

طلبت ابنتي ديما مرافقتي الى المستشفى لرؤية مريم ... فوافقنا على أن تراها سريعاً وتعود مع أبيها ..

 

في طريق العودة حضنت ديما بكل القوة .. وطلبت الى الله أن تمر كل هذه الأيام على خير ... هل أخطأت باحضار طفلتي ذات السبع سنوات لترى ما سترى في المستشفى ... لكن شوقها لرؤية مريم كان أكبر من أن أمنعها وربما تعلقها بي كان أكبر حجماً لذا لم أمنعها ..

لهفتنا للوصول حجبت عنا كل ما يحدث في المستشفى وتوجهنا مباشرة الى حيث جورجيت ومريم .

جورجيت ما زالت نائمة .. أما مريم فهي تتحرك بهدوء ..

اقتربت ديما من مريم وأمسكت بيدها وداعبتها .. هل كانت تقول لها: أنا هنا يا مريم لا تخافي .. أنا من ستعتني بك وتعلمك كل الألعاب والألاعيب .. حركتها ألهبت مشاعري وكدت أنفجر بالبكاء مجدداً ولكن أم جوني أنقذت الموقف بحيث قالت  أن عليهم المغدرة .. وفي طريق خروجها أضافت لا أعتقد أن الطبيب سيسمح لها بالخروج اليوم ..

ماذا ستفعلين هل ستبقين معها ؟؟؟

فاجأتني ...

وكأن ما قالت ليس أمراً طبيعياً جداً فالولادة طبيعية الا أنها قسرية وتحتاج الى مراقبة على الأقل لمدة أربع وعشرين ساعة ..

فاجأتني ولم أعرف ما أجيب ..

قلت لها اتفقت مع زوجي أن يعود في السابعة مساء ..

 

في كل مستشفيات العالم تلد المرأة وتبقى أياماً ثلاثة في حالة الولادة الطبيعية وخمسة الى ستة أيام في حال الولادة القيصرية .. أما أن نتوقع أن تخرج في اليوم ذاته وفي ولادة قسرية كهذه فهو نوع من الهذيان ..

ولكن الوضع العام كله مغلف بالهذيان والجنون ..

طلبت منها أن تنتظر حتى أذهب وأحاول ايجاد الدكتور زياد وأسأله ..

وأسرعت أتنقل بين الغرف بحثاً عنه .. حتى لمحته يسرع من غرفة الى أخرى .. فأكد لي أنها يجب أن تبقى وسألني أن أبقى معها أو ان قررت الذهاب فالأفضل أخذ الطفلة معي ..

ماذا ؟؟؟؟

آخذ الطفلة معي ؟؟؟ لم أستوعب ما قاله فسألته مجدداً ... قال : ما بك ألا ترين الوضع ؟؟ ساعدونا .. ألا ترين أنه ليس هناك أحد للاعتناء بالأطفال .. الأفضل أن تبقي هنا للاعتناء بهما .. لن أستطيع ارسالها حتى لو استفاقت وهي بخير ..

 

نعم ستبقى وأنا سأبقى معها .. كيف يمكنني أن أتركها وحيدة لا حول لها ولا قوة .. وهذا الملاك بجانبها بحاجة الى رعاية أيضاً ..

وفيما أنا أخبر أم جوني بقراري وأطلب منها أن تخبر زوجي بذلك .. وجدته أمامي .. وقد قلق لتأخرهم ..

نظرت اليه بتوسل وأخبرته بقراري ... كان قلقاً ... لم يدر ما يقول .. أمسك بيد ديما وقال : انتبهي الى نفسك واليهما، واستدار مغادراً ولحقت به أم جوني ...

مرة أخرى أجبر على الموافقة .. أو أنه وجد الموافقة أمراً أو شراً لا بد منه ... فعدم الموافقة أمر مستحيل ..

 

استفاقت مريم .. نظرت الي .. أو خيل الي أنها نظرت الي وشكرتني على بقائي بجانبها .. حملتها بين ذراعي .. ضممتها الى قلبي ورحت أتحسس الرأس واليدين والخدود ,, وما ان اقتربت أصابعي من فمها حتى راحت تبحث عما يمدها بالطعام ..

وضعتها في حضني ورحت أطعمها الرضعة التي أحضرتها الممرضة .. وأنا أنظر الى وجهها الملائكي تارة والى أمها النائمة التي هدّها الألم والخوف والتعب ..

ماذا ينتظرك أيتها الحبيبة ؟؟؟ ما هو شكل الأيام التي تنتظرك ؟؟؟ وأنت بعد وليدة  .. أعرف أنك محظوظة لأن لك أباً وأماً يخافان عليك جداً ولن يبخلا بأي شيء لحمايتك وراحتك وصحتك وفرحك .. ولكن هل سيستطيعان ؟ أم أن المصاب أكبر منا جميعاً ..

بكل الهدوء رضعت ... وبكل الهدوء تجشأت .. وبكل الهدوء قبعت في سريرها تنتظر استيقاظ أمها .. صامتة .. وكأنها تفهم ما يدور حولها وأن عليها ألا تدع الأمور تسوء ببكائها .

 

كانت الساعة تقارب السادسة حين استفاقت جورجيت ... فتحت عينيها ونظرت الي وابتسمت وقالت: أين مريم ؟؟

قلت لها : هي هنا بانتظارك .. هيا افتحي عينيك واملئي نظرك بها .. فقد أكرمك الله ووهبك البنت التي طالما حلمت بانجابها..

بكل أوجاعها وكل أمومتها أرادت أن تجلس لتتمكن من احتضان مريم ..

لمستها .. حضنتها .. غمرتها .. وغرقنا جميعاً مجدداً في شرنقة الحب ونسينا كل ما يحيط بنا .

وأين نحن ولماذا ؟؟

لحظات أمومة تفوق التصور .. لحظات حب أبعد من الكلمات .. تنفر الدموع من العيون وتبهج القلب من الصميم .

وتغفو مريم وأضعها في سريرها ..

 

يأتي الدكتور زياد لعيادة النساء ويطمئن عن جورجيت وعن ابنتها ويؤكد لها أن قراره لبقائها الليلة حكيم وستشكره يوماً على ذلك .. قال لها: خطر كبير عليك ان تحركت سريعاً وأنا أعرف ما ينتظرك كما ينتظر الأخريات لذا فأقل الايمان أن ترتاحي كلياً الليلة ..يجب أن أراقبك وقد يفاجأك نزيف في أية لحظة لو تحركت ولو ذهبت لما استطعت القدوم اليك .. جيد أنك بقيت وها هي أختك بقربك تعتني بك وبابنتك .. ماذا أسميتها ؟؟

- مريم ، مريم يا دكتور ..

- خير الأسماء وأجملها .. سأحضر لك شهادة الميلاد وبامكانك الخروج غداً لأننا استكملنا الأوراق عند دخولك أليس كذلك ؟؟ سأعطيك الآن ابرة أخرى تريحك الليلة وتنامي وغداً انشاءالله تبدأين مهماتك الشاقة .

 

بعض الوقت مر قبل أن تخلد الى النوم من جديد .. سألتني فيه عن الأولاد وعن ريمون وفرحته بمريم ..

هذه الفرحة المبتورة ..

جلست على الكرسي أتأملهما معاً نائمتين .. وفجأة بدأت أسمع من جديد كل الأصوات حولي وكأن نومهما فتح الأبواب مع أن الستائر لا زالت منسدلة .. وكأنني عدت من عالم آخر ...

تلك التي تبكي وحيدة .. وتصرخ من حين لآخر متألمة ..

تلك التي تشجعها أمها على الصبر والدعاء والتماسك ..

وتلك التي تحيط بها العائلة، كل تشجعها من جهة ..

كل يشرح بلواه بصوت عالٍ..

ولا زالت السيدة تصرخ بأعلى صوتها بين حين وحين أدعين على صدام هو سبب كل البلا.

 

أتى المساء .. والساعات تنتظر الدقائق الستين حتى تمر والدقائق تنتظر الثواني الستين حتى تمر والثواني بانتظار اللحظات تمر بطيئة بطيئة وأنا أعدّها وحيدة ..

ما أطولها حين تنتظر انبلاج الصبح وما أطولها حين تريد أن تسبقها .. .. تركض وتركض وهي تتمشى ومع ذلك فليس باستطاعتك أن تسبقها .. تستحثها لكنها لا تسمع ..

انتبهت أنني أغفو على الكرسي ... وقد أخذني التعب والانفعال .. فتحت عيني بخوف ونظرت الى مريم .. هي بخير .. هي هنا .. هل يمكن لأحد أن يستغل اغفاءتي ويأخذها ..؟؟..

ربما نعم من يدري ؟؟ في هذه الأيام الصعبة حيث الفلتان في كل مكان .. من يمنع سرقة طفلة .. وأعود فأطمئن نفسي .. ومن سيسرق طفلة ؟؟ أعود فأقول ربما أم ثكلى أو رحم عاقر ..

الطفلة مسؤوليتي ... غيرت وضعية السرير وجررته مقابل سرير أمها ووضعت كرسيّ بشكل يمنع الوصول اليها دون أن أحس ..

هذا التفكير أيقظني من غفوتي وراحت أفكاري تسأل عن أحبائي .. أطفالي ترى ماذا يفعلون ؟؟ أطفال جورجيت ..؟ أزواجنا ؟  .. أصحابنا .. هل علموا ؟ أهلنا ..أمي واخوتي ...  عائلة زوجي .. والد جورجيت وأخواتها .. كل أقربائنا وأصدقائنا بماذا يفكرون وهم لا يدرون عنا شيئاً... حتى أخت ريمون التي تسكن في الفحاحيل .. لم نسمع منها شيئاً ولم تسمع عنا شيئاً .

انه الاعصار .. انه الكارثة .. انه كل ما يمكن أن تصف وتختار من كلمات قاسية .. مرعبة .. مخيفة .

لأبتعد عن كل هذه الأفكار وأعود الى الصلاة ...

ساعدني يا رب.

 

مرت الممرضة للاطمئنان وقالت لي أنه بامكاني استعمال السرير الفارغ لأنام عليه ... فأختي لن تستيقظ قبل الصباح ..

كيف بامكاني أن أنام .. وأن أغفو ..؟؟؟   لكن الساعات طويلة ... طويلة .

رحت استكشف مكان السرير ...

يبعد مسافة مترين عن سرير جورجيت ... هذا يعني انني أستطيع سماع صوتها ان استفاقت ... أو حتى تحركت .. فقد هدأ الصراخ وأنجبت معظم الأمهات ... ويبدو أن كل الأطفال الرضع هم مرهقون كأمهاتهم لذلك فالجميع نيام ...

لكنني لن أتمدد على السرير فقط سأجلس وأمدد قدمي وأسند رأسي على الحائط .. وهكذا بامكاني امساك يد مريم براحة أكبر ...

ثم أتساءل ماذا لو غفوت وتركت يدها ... لا ..

هل أضعها بجانبي لتنام قريباً من أنفاسي ؟؟ لا ربما آذيتها ونمت فوقها من شدة تعبي .. الأفضل أن تنام في سريرها ..

اذن ما العمل ؟؟ هاجس خطفها يتعبني ... ربما يجب أن أربط يدها بيدي فاذا حاول أحد أخذها سأحس ... وان غفوت وسقت يدي احس بذلك أيضاً لأنها ستبقى مرتبطة بالسرير ..

أعجبتني الفكرة .. ولكن بماذا أربطها ؟؟ بحثت عن شيء ناعم لا يؤذي جلد يدها الناعم ... 

فلم أجد الا الشريط اللاصق الذي تستعمله الممرضة لتثبيت المصل .. قلت لمريم سامحيني يا حبيبتي .. ربما سيؤلمك انتزاع الشريط غداً ولكن ما باليد حيلة ..

أطعمتها وجبتها الثانية ... وتجشأت ... وأعطيتها ووهبت نفسي جرعة كبيرة من الحنان ثم وضعتها في سريرها ... وكانت الساعة تقارب الواحدة ليلاً.

باشرت بوضع الشريط اللاصق واطمأننت أن المهمة ناجحة ...

غفت مريم ويبدو أنني غفوت أيضاً.

عندما استفقت على صوت المؤذن يؤذن لصلاة الفجر ... قلت يا رب ليكن هذا النهار أفضل من سابقه ...

فككت الشريط بكل تأن حتى لا أزعج مريم .. التي بدأت تتململ كما بدأ يفعل معظم الرضع ... وبدأ دبيب النهار يسمع في كل الأرجاء ...

أخذت سرير مريم وعدنا الى قواعدنا بجانب الأم المتعبة التي بدأت تستفيق ..

فتحت عينيها وقالت يا رب ... نظرت الي والى مريم وابتسمت ...

وقالت: صباح الخير ... لم أكن أحلم اذن .. ولادتي حقيقة ... الآن أستطيع التفكير بكل شيء آخر كنت قد أجلت كل شيء خوفاً عليها ..

قلت : يا صباح النور ، نعم انها الحقيقة الرائعة ومن أجل عينيها يجب أن تعتني بنفسك أكثر .. يجب أن تهتمي بحليبك وصحتك فهما سبيل خلاصها الوحيد ..

ابتسمت ثانية مؤكدة ما قلت ..واحتضنت مريم ... بحرارة ... حتى غفت .. ووضعتها في سريرها ..

الساعات العشر التي نامتها جورجيت أعادت اليها نشاطها واحساسها بالقوة ..

طلبت مني مساعدتها للذهاب الى الحمام ... ومريم ؟؟ هل نتركها وحيدة هنا ...؟

استغربت من قلقي هذا ولم أرد أن أزيد قلقها ففكرت سنفتح الستار والأمهات الأخريات موجودات ثم انها بضع دقائق فقط ...

ساعدتها حتى وصلنا باب الحمام الذي لم أجرؤ على استعماله وحيدة كي لا أترك مريم ...

دخلنا الحمام وليتنا لم نفعل ..

كيف يمكن أن تصف حماماً في مستشفى نسائي حيث تلد النساء، دون تنظيف مباشر مستمر ...

بسرعة كبيرة قضت حاجتها ... وعدنا بانتظار وضح النهار ووصول زوجي ليأخذنا الى البيت ..

تساءلنا هل يجب أن ننتظر الدكتور زياد ؟؟ هل هو هنا ؟؟ ألم يتعب ؟؟ بالطبع تعب وهل تمكن من الاستراحة ؟؟

 

طلت الممرضة وهي تحاول رسم ابتسامة على وجهها ... فتحت الستائر الفاصلة بين الأسرة وقالت بصوت مرتفع للجميع : من منكن تشعر بتحسن وأنها قادرة على الخروج فلتجهز نفسها .. سيمر الدكتور زياد بعد ساعة لرؤية الجميع .. ثم تغادر من تود المغادرة .. بكل أسف أعتذر لا طعام متوفر للامهات وآمل أن تتدبرن الأمور .. فقط حضرنا رضعات الأطفال .

 

أخرجت ما أحضرت البارحة لتأكل ...أخذت جورجيت قطعة خبز مع قطعة جبن وشربت بعض الماء فهي بحاجة للطعام لتستعيد بعض القوى ..

وبحسب تعليمات الممرضة تبعتها للحصول على رضعة طازجة للطفلة ومثلي فعلت كل المرافقات للامهات ..

 

وحضنت جورجيت طفلتها وأعطتها الرضعة لأول مرة، علّها تشعر بالحليب يتدفق في صدرها رغبة منها لارضاعها ..  تجشأت مريم وباتت جاهزة للنوم ...

سألتني جورجيت هل نبدل ملابسها أم نبدلها في البيت بعد الحمام ...

نظرت اليها غير راغبة بالاجابة ... كانت جورجيت تعد العدة قبل الغزو ليكون استقبال مريم في البيت استقبال الأمراء وقد رغبت بشراء ذلك الغطاء الرائع .. أما اليوم فها نحن نأمل فقط الوصول الأمين الى البيت ... ولا نشعر حتى بأهمية ما تلبس ... تلاقت نظراتنا وكأننا نفكر بالشيء ذاته ... اغرورقت عينانا ...

ورحت أشغل نفسي بتطبيق الأغراض استعداداً للخروج ..  وقلت: هيا قومي وجهزي نفسك الدكتور زياد قادم قريباً وأعتقد أن زوجي لن يتأخر ..

تحركت .. وراحت تتمشى فى الغرفة الكبيرة تشاهد الأمهات والرضع ... كل في همها وبلواها  وعادت تجلس على الكرسي شاكرة الرب على القوة التي شعرت بها واستعدادها لكل ما ينتظرها ... جلسنا ننتظر ... ونحن نسمع الأنين والعنين .. البكاء والصراخ ... كلها أصوات معتادة في مستشفيات الولادة الا أنك في الأيام العادية تسمع بعض الزغاريد من هنا وهناك فرحاً بالمولود أو تسمع الموسيقى والفرح بعد تعب المخاض ... أما هنا فالجميع في كرب ...

أكثر ما لفتنا هو سيدة في مقتبل العمر ... تضم ابنها بحنان غريب وفرحة عامرة لكنها ما تلبث أن تنفجر بالبكاء ... وأمها بجانبها تهدئها ... قائلة :

- كفى يا بنيتي ، كفى طالعي ولدك ..

- لكنهم أخذوا كل شيء يا أمي، كل الذهب وكل الحلال ، ولو لم أكن في الشهر التاسع لفعلوا بي ما فعلوا بالأخريات ... أو لأخذوني معهم ..

- اشكري ربك يا بنيتي .. أشكري ربك هي أيام صعبة ... افرحي لقد أنجبت الولد بعد بناتك الثلاث .. افرحي الحمدلله ... كل شيء يعوض ... وزوجك قد هرب بالبنات سيعود بخير ويفرح معك بولده الذي طالما تمناه ... لن يدر الحليب لو بقيت مقهورة هكذا.. حرام  يا بنيتي حرام ..

 

 

ذهلنا .. وزاد صمتنا ... وضمت جورجيت مجدداً ابنتها الى صدرها ,, وكانت مثلي تنظر الى الساعة ... والوقت لا يمضي .

 

 

وبعدما ولدت مريم

-5-

طلب الدكتور زياد من جورجيت الانتباه الشديد على صحتها وطعامها ليكون باستطاعتها ارضاع الطفلة ... ووعدها أن شهادة الميلاد ستكون جاهزة في خلال ساعة من الزمن.

كانت أغراضنا القليلة مرتبة، جاهزات للخروج في أية لحظة ... لنبتعد عن سماع أصوات الألم والبكاء والمعاناة ..

 

ركضت ديما الينا فعرفنا أن زوجي قد وصل .. ويا للمفاجأة ... معه ريمون ... كيف تجرأ ..؟

كانت مخاطرة لكنه قال أنه لم يستطع تحمل فكرة عودة زوجته مع طفلته الى البيت بدونه ... كما لم يطق الانتظار لرؤيتها .. كانت فرحته أقوى من كل خوف ...

اقترحت حينها أن نسبقهم الى البيت للاعتناء بالأولاد قبل أن تفقد أم جوني أعصابها معهم .. ولتحضير الطعام فالكل جائع .

جلست ديما بجانبي في السيارة تضمني وأضمها ... وكأننا افترقنا منذ سنوات ...

يقولون ً أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض ً وأنا شعرت لحظتها أن أولادنا هم أرواحنا في أجساد منفصلة.

ذات السنوات السبع تضمني وتربت على كتفي وكأنها تقول لي ... أعرف أنك تعبت ... أعرف أنك قمت بعمل رائع والا لما تركتنا وحدنا ... لكننا اشتقنا اليك ونحن بحاجة اليك بجانبنا ...

ماذا يمكن أن يريد الانسان أكثر من هذا في دنياه.

دخلنا البيت بلهفة ... مشتاقون للأولاد وهم أسرعوا يسألون عن مريم وعن أمهم ... وعن وصولهم وماذا حدث ... ثم انشغلنا بطلبات الأطفال وتحضير الطعام غير آبهين بما يجري في الخارج ...

كنا نسمع أصواتاً عالية .. كثيرون يصعدون وينزلون الدرج بسرعة ...

عندما تكررت مرات عديدة طلبت من زوجي أن يخفض صوت الراديو ويذهب لاستطلاع الأمر ...  وتابعت عملي ..

ولم أنتبه أن زوجي لم يعد ...

وبعد حين عاد مطرقاً .. ما الأمر ؟؟ ماذا يحدث أيضاً  ؟

بكل الأسى قال : الجار أبو بشير توفى .. لقد أصيب بجلطة في القلب ... وقد أحضروا الطبيب الذي يسكن في العمارة المقابلة ... وقد حاول انقاذه مع أنه طبيب تجميل ... الا أنه توفي .. لم يستطع تحمل خبر سرقة محله ..

 

صرخت : ميت في العمارة ..؟؟ سامحني يا رب ...

قال زوجي : لا تقلقي لقد اتصلوا بسيارة الاسعاف لأخذه، ستأتي في أية لحظة ..

قلت : ماذا ؟؟ جورجيت أيضاً ستصل في أية لحظة ... ما أبشع أن تصل مع وصول سيارة الاسعاف ...يا سبحان الله.؟. يا حكمته ... حياة فانية ... حياة  تنتهي وتبدأ أخرى .

اذهب حبيبي وانتظرهم في الخارج .. أرجوك حتى لا يخافوا ولينتظروا في الطريق المجاورة حتى ينتهي كل شيء ...

يا الله لو كان بامكاني الاتصال بهم ... لو أنهم اخترعوا هواتف في السيارات كما في البيوت لتمكنت من الاتصال بهم وتحذيرهم ..

نزل زوجي مسرعاً .. وأسرعت أنا أيضاً الى النافذة ...

الجمع غفير ... كل الجيران مجتمعون ... كيف سيتمكن زوجي من اختراق الجموع ؟..

وبدأت أدعو الله أن يتأخروا قليلاً ..

الا أنهم وصلوا مع وصول سيارة الاسعاف .. وزوجي لم يتمكن بعد من اختراق الجموع ... بدأت أؤشر لهم من النافذة وأصرخ بأسمائهم ... لكن الأصوات كلها عالية ...

لمحت جورجيت تستطلع بقلق .. وريمون يحاول النظر بخوف شديد .. وللحظ نظرت الى الأعلى ورأتني فطمأنتها بابتسامة عريضة على وجهي ... وصرت أصرخ طالبة منهم ان يلفوا في الشارع المقابل عشر دقائق يعودون بعدها ... لأن من المستحيل صعودهم ...

كانا ينظران الي وعلامات استفهام كبيرة على وجوههم ...

دعوت الأولاد جميعا لرؤيتهم بالرغم من أنني لم أردهم أن يروا سيارة الاسعاف لأن أسئلتهم لن تنتهي ... الا أن رؤيتهم طمأنت ريمون وجورجيت فقبلوا أن يذهبوا ويعودوا بعد ربع ساعة بعد أن تمكن الجيران من نقل أبو بشير بكل الحزن ... فقد كان وحيداً ...

هذا الحادث جعلني أشكر الرب وأبعد بعض السوداوية التي غلبت على تفكيري طوال تجربة الولادة اليتيمة ... وكأن الله أرادني أن أتعلم من موت أبو بشير ألا أتشاءم وأضيف على كل الضغوط المحيطة بنا ضغطاً اضافياً ملوناً بالغربة واليتم ...

ها هو أبو بشير يموت وحيداً بعيداً عن كل أبنائه .. وزوجته ... أراد البقاء ليحافظ لهم على المحلات والحلال وذهب الحلال وذهب أبو بشير ... أغربة أكبر من هذا ...

أما حبيبتي مريم فأمامها العمر كله انشاءالله ونحن سننسى ... ونعوض هذه الأيام بأحلى منها ...

هذا الشعور أراحني ورحت بفرح أكبر أحمس الأطفال على استقبال مريم بمظاهرة حب وشوق ..

وهذا ما كانوا على أتم الاستعداد لفعله وبحاجة اليه .

وصلت ... وركضوا جميعاً لاستقبالها على الدرج ... وكل منهم يريد حملها أو حمل شيء من أغراضها ...

استقبلوها بكل الفرح الذي تحتاج اليه ... وأحاطوا بأمهم ... وعادت بعض الطمأنينة الى الوجوه الصغيرة والكبيرة ... دون التفكير بالغد ..

جلسنا الى مائدة الطعام ... الجميع يأكل ببرود ... بغير شهية .. ليس لأن طعامي غير جيد وطبخي غير لذيذ ... الا أن الفرحة لم تستطع استبعاد القلق القادم ... وبعد ؟؟؟ ماذا سنفعل ؟؟  طفلة وليدة وأم نفساء وأب أمريكي مطلوب ...

اتصلت ليلى للمباركة والاطمئنان .. واتفقنا أن نجتمع كلنا هنا في الغد للمباركة والتفكير المشترك ... اليوم هو للراحة فقط وغدأ يبدأ القلق والتفكير ..

كنا لا نزال جالسون الى المائدة حين دق جرس الباب ... وارتعدنا جميعاً من عساه أن يكون  ؟؟ طلبت جورجيت من ريمون الاختباء ... وذهبت لفتح الباب واذا بها مرلين أخت ريمون وقد هربت آتية من الفحاحيل مع عائلتها للاطمئنان على أخيها وعائلته .. وكان العناق الكبير وصارت الفرحة أكبر والدموع تروي الحزن والوجوه ...

بعد الظهر وبعد اطمئناننا بأن هناك من يمكنه الاهتمام بالأم وأطفالها قررنا الذهاب الى منزلنا لنستطلع الأمور في منطقتنا ونرتاح ونعود في الغد .

كانت الطرقات شبه خالية .. لا ازدحام سيارات ولا مارة .. بعض الازدحام حول الجمعيات التعاونية حيث تجد الناس يشترون ما توفر من المواد الغذائية أو بعض الخضار أو الفواكه ان وجد أي منها ...

الازدحام الأكبر هو حول الأفران حيث يمكنك أن تقف ساعة أو أكثر للحصول على عدة أرغفة خبز طازجة ...

في الطرقات حواجز للجيش العراقي ... قد توقفك مرة .. ولا توقفك مرة .. كأنهم يقرأون الجنسيات على الجبين .. أو أن وجود العائلة في السيارة يطمئنهم ...

ولحسن الحظ لم يتعرض لنا أحد خلال كل جولاتنا ... بالرغم من أننا سمعنا قصصاً كثيرة مرعبة .

كنا جميعاً منهكين حتى النوم ... ونمنا.

 

 

باكراً استيقظت ... وقبل أن يستيقظ الجميع ذهبت الى المطبخ .. فتحت الثلاجة .. ورحت أنظر الى لوح الشوكولاتة القابع في الدرج الثاني بانتظار تحويله الى شوكولا جميلة المنظر لذيذة الطعم تصلح للضيافة في مناسبة عزيزة ..

أخرجته ورحت أتأمله ...

ذهبت الى الغرفة المجاورة حيث وضعت السلة المزينة بالدانتيل والتي تنتظر اللمسات الأخيرة والدانتيل الزهري اللون لتكون مستعدة لاستقبال الشوكولا وتكون جاهزة لاستقبال المباركين بالولادة السعيدة ..

وتساءلت أهو استهتار ذلك الذي أزمع القيام به ؟؟؟ تحضير الشوكولا والسلة ونحن في هذه الظروف ؟؟؟

ومن سيأتي للمباركة ؟؟

لا سأكمل ما أفعل وسنذهب للمباركة وآخذ الكاميرا معي .. نعم سنتصور مع الطفلة ... وما ذنبها حتى تلد كاليتيمة ... ليدم الله أهلها ... ظروف بشعة لا بأس ستتحسن ويتغير كل شيء .. والشوكولا المعدة لها فلتكن.

لم أتذكر لماذا كنت أبكي ...

 

 

فيما كنا مستعدين لمغادرة البيت .. اتصلت جورجيت وقالت لقد تركنا البيت صباحاً لأن البقال قال لنا باكراً أن أحدهم أتى اليه وسأله عن الأمريكي الذي يقطن في المبنى ... فضللهم .. لكنه خائف ... قالت أتينا الى بيت مخائيل لأن لا أحد يعرفنا هنا وأتت معنا مرلين ... تعالوا الى هنا ولكن هل حضرت أي طعام ؟...

قلت طبعاً حضرت صينية معكرونة مع بعض اللحم الذي اشتريناه البارحة في طريق عودتنا ...

ولكن هل تريدين أن أخبزها هنا ؟؟

قالت الحقيقة لا أدري زوجته مسافرة منذ شهرين ولا أعرف شيئاً عن البيت، انتظري لحظة ...

ثم عادت وأكدت لي أننا سنخبزها هناك ..

قلت لها قبل صينية المعكرونة أخبريني عنك كيف صحتك ؟

قالت أنا انتهى السؤال عني فقد نسيت نفسي الآن لدينا أمور كثيرة يجب أن نفكر بها قبل صحتنا وراحتنا أنا بخير اطمئني وكذلك مريم ..

ودلتنا على العنوان ... واتصلنا بليلى وأخبرناها مكان اللقاء ..

 

 

دخلت ليلى وقالت ألف مبروك الحمدلله على السلامة .. والله يخليلكم مريم وتربى بدلالكم ... ها هي مريم هنا كما تمنينا جميعاً ...

وعوض أن تبدأ حفلة المباركة بالضحكات والزغاريد انفجرنا جميعاً بالبكاء... ولا من يهدئنا ...

حتى علا صوت هدى قائلا : حرام هذا الذي تفعلونه حرام ...

وقالت مرلين: طولوا بالكم يا جماعة انشاءالله خير ...

 

يا الله كانت جدتي تقول ً ما حدا بيعرف شو منتظره في اليوم التالي ً فعلا انها الحقيقة ...

تكلمنا كثيراً عن هذه المباركة وكيف يجب أن تكون ... كانت جورجيت تعدنا وتعدنا بأجمل الحفلات وأطايب المأكولات ووعدناها بأجمل الهدايا ...

كنا جميعاً بانتظار مريم لنحتفل ... كان الأطفال متحمسون بانتظار الهدايا التي وعدتهم بها جورجيت ان صلوا لها ليكون الطفل بنتاً ...

وها نحن اليوم نحتفل .. ولكن أيما احتفال ؟؟؟

دخلت ديما تحمل السلة المزينة بالدانتيل الزهري لتقدم الشوكولا للمباركين الا أن وجومنا صعقها وترددت ... ونظرت الي والى جورجيت وكأنها تسأل ما الأمر ؟؟؟

لاحظنا جميعاً حينها أننا لا نزيد الأمر الا سوءاً... فأسرعت أطيب خاطرها .. ودعوتها لضيافة الجميع واسرعت لاحضار الكاميرا التي لا تغيب عن ذهني في أية مناسبة ...

صاح بي الجميع .. كاميرا هنا أيضاً .. حتى في هذه الأحوال تريدين تصويرنا ... ونحن بهذه الأشكال ؟؟؟

قلت:ولو ؟؟ ما بها أشكالنا ؟؟ هل تريدون أن تكبر مريم وتسأل عن صورها حين الولادة ولا تجد أي منها ؟؟ لم أستطع اقناعهم بالحسنى ... لم يستجيبوا الى توسلاتي لأن لا أحد منهم يريد تذكر هذه الأيام .. وأنا مثلهم مقتنعة ان الصور ترسخ المناسبات في اللاوعي وتجعلها حية دائماً في عقولهم ... وبدون شك هذه ليست واحدة من الذكريات التي نريد تذكرها  .. ولكن ...

وحدها مريم لم تعترض ... وكذلك ديما فخورة بسلة الدانتيل والشوكولا وبنات مرلين أكملن الاطار.

أردنا الانضمام الى الرجال الذين اعتقدنا أنهم يلعبون الورق لنخرج من الأسى ... فوجدناهم يناقشون العودة .. يجب أن نعود الى أوطاننا ... لا مكان لنا هنا ..

يجب أن نتجمع ونغادر معاً ... نؤازر بعضنا بعضاً قبل أن تكبر المشاكل وتحل المصائب ..

كثيرون غادروا عن طريق العراق ولم يعودوا مما يعني أن الطريق سالكة ... فقط من غادر عن طريق السعودية عاد .

أفهم أن جميع أصدقاءنا الفلسطينيين لن يغادروا لأن أهلهم جميعاً هنا كما ليس لديهم وطن ولا بيت يغادرون اليه ... معهم حق أما نحن فبامكاننا العودة الى أوطاننا وأهلنا الذين ينتظروننا بفارغ الصبر دون شك ...

 

نغادر ... نعم نغادر وبدأوا يتكلمون بجدية ...

اذن لنتكلم في التفاصيل ...

 

- ريمون والأولاد لن يستطيعوا المغادرة بالجواز الأمريكي .

- السيارات التي بامكاننا السفر بواسطتها ليست كافية .

- هل نسافر عن طريق العراق ؟؟ لكن الطريق خطرة والقوات الأمريكية تهدد بالهجوم في أية لحظة ؟؟

الياس قال: نسافر عن طريق زاخو .. ريمون وزوجي يقولان عن طريق البصرة وبغداد ثم الأردن ..

وبدأت المشاورات لحل المشكلات واحدة بعد الأخرى ..

وعندما طالت المناقشات اتفقنا أن نلتقي كل يوم هنا للتشاور ...

 قالوا : اذهبوا الآن ورتبوا أغراضكم واستعدوا  ...

 

ربما لم يكن بيت مخائيل معتماً .. صغيراً... مكتظاً بالأثاث .. الا أننا كنا نحسه هكذا ... حتى اللوحات على الجدران كنا نحسها قبيحة ومتشائمة ... والصور العائلية الموضوعة على الطاولة لا تحدثنا الا حكايات مؤلمة ... ومع ذلك فقد شهد أهم قراراتنا .. وأسوأ انفعالاتنا وأبشع ألفاظنا ... هناك بكينا وبكينا وبكينا .

 

وحان السفر

مرلين عادت الى الفحاحيل لأن زوجها لا يستطيع ترك عمله في شركة الكهرباء وهي لا تريد أن تتركه وتسافر... وقد تأثرت جورجيت كثيراً لوداعها.

وبدأت الاقتراحات والحلول...

ريمون يجب أن يخفي الجوازات الأمريكية في مكان آمن جداً حتى لو كان في حفائض مريم ..

السفارات العربية تعطي رعاياها ممن جوازاتهم في أمكنة أعمالهم شهادات تثبت شخصياتهم ليتمكنوا من المغادرة والوصول الى بلادهم ..

لذا ليحاول في السفارة اللبنانية بما أنه ينحدر من أصول لبنانية ... وهكذا كان ...

سيارتان فقط بالامكان السفر بهما ونحن أربع عائلات ...

اتفقنا أن يذهب ريمون وجورجيت مع ليلى والياس وهدى وسليم ونحن ننتظر مجموعة أخرى من الأصدقاء كانت ستغادر قريباً .

مغادرة ريمون وجورجيت بالرغم من كل المخاطر التي تحدق بهم أهم ... وقد اقتنع الياس أن السفر يجب أن يكون عن طريق البصرة وبغداد .

 

الجميع جاهز ... برادات المياه ... كميات الثلج التي يجب أن تحضر ... أهم الأغراض ...

بعض الطعام ... كل شيء جاهز..  .  

الرحيل غداً.

كنا نحرص على تشجيع بعضنا البعض ... ونحرص على استعمال كلمات التفاؤل الا أننا كنا جميعاً نفكر ...

كيف سنصل ؟؟ أين سنصل ؟؟؟ كيف سنلتقي ... ؟؟ أين سنلتقي ؟..

حتى عندما غادرنا بيت مخائيل للمرة الأخيرة لم نبك .. اصطنعنا التماسك والشجاعة ... الا أننا انهرنا جميعاً بمجرد وصولنا الى بيوتنا ..

ولم نتصل بعضنا ببعض في تلك الليلة ..

كنا كمن يجلس أمام الهاتف بانتظار اتصال الشخص الآخر .. كنا نعلم أن أية كلمة أخرى ستفجر الصبر والهدوء .. كان كل منا يتمنى أن يبدأ الآخر ...

لست متأكدة ان كنا قد نمنا أو لم ننم ...

الكل سيان القلق هو السيد الآن ...

سواء نمنا أو لم ننم فنحن نفكر فيما عسانا فاعلين ...

أصدقاؤنا يغادرون غداً .. ونحن سنبقى ... ذلك ليس شعور مستحب أبداً.

عدا قلقنا على ريمون وعلى جورجيت ومريم كل لسببه الخاص .. فقد كان القلق عاماً ...

هل قرار الخروج صحيح ؟؟ هل هذا حقاً ما يجب أن نفعل جميعاً ... هل من الأفضل أن ننتظر ... ننتظر ماذا  ؟؟؟

كل شيء مبهم ... كل شيء غامض ... الجميع يغادرون ولا أحد يعود ليخبر ... ولا هواتف مع الخارج ... بعض الاذاعات تسمع بين الحين والآخر تبث رسائل من الأهل القلقين يطلبون الى أولادهم الخروج ..

 

وكان صباح يوم آخر ...

المؤن قاربت على النفاذ .. فقد قررنا استهلاكها وبما أننا لن نغادر فيجب أن نجدد ..

اقترحت على زوجي الذي كان منهكاً من قلة العمل وكثرة التفكير القلق أن آخذ الأولاد مع قبضة من القطع المعدنية التي أخرجناها من الحصالة والذهاب الى المطحنة القريبة جداً ... فقد فتحت أبوابها ولا بد أن جارنا لديه بعض الأرز والعدس ... المشوار قريب الا أنه مشوار والأولاد سيشعرون بالتغيير ... خاصة أنني وعدتهم بشراء أي نوع من الحلوى متوفر لديه .

أمسكت يد ديما ورامي ومشى ديمي بجانبنا ...

دخلنا المطحنة ورحنا نبحث بين ما تبقى من مؤن لديه عما يناسبنا ... وبدأ يزن لنا ما نريد ... وأنا أعد النقود، واذا بسيارة عسكرية تقف أمام باب المطحنة وينزل منها أربعة جنود عراقيين مسلحين ودخلوا المحل ..

تسمرنا جميعاً جارنا البائع وأنا وديمي ... أما ديما ورامي تابعا رحلة البحث عن الحلوى المناسبة، كان هذا الخوف أكبر من أن يتفهماه ...

ولم أعرف ماذا أفعل هل أخرج وهم داخلون هل أختبىء مع أولادي وراء الطاولة ...

ماذا يريدون عما يبحثون ؟؟؟ ما هو مرادهم ؟؟

تسمرنا واسرعت لأمسك بيدي ولدي وأسرع ديمي يلتصق بذراعي ...

لم يعيرونا أي انتباه وبدأوا يملون طلباتهم على جارنا ... تركت القطع النقدية على الطاولة وانسحبت بكل هدوء الى الخارج دون أن أنبس ببنت شفة ... وفهم جاري فلم يستوقفني ولم يسألني شيئاً ... وما ان خرجنا من باب المحل ... حتى أطلقنا أقدامنا للريح ودخلنا المبنى ولم ننتظر المصعد ورحت أحث الأولاد لصعود الدرج ولا زال رامي يتمتم لم تف بوعدك ولم تشتر لنا أي شيء ...

ارتعب زوجي من منظرنا ... وخاف عندما أخبرناه بما حدث .. قال: يجب أن نغادر ... لا يمكننا أن نعيش هكذا .. والله لو كان باستطاعتي شراء سيارة بكل الذهب الذي نملكه لما تأخرت ... وكأن الذهب الذي أملكه أطناناً لكنه قد يفي بالحاجة لو استطاع ..

ولولا أنني أخذت الأولاد بعيدأ عنه الى الحمام ليغسلوا وجوههم ويبولوا من الخوف لانفرط بالبكاء وهذا آخر ما أريده له أمام الأولاد.

كم هو مؤلم أن ترى رجلاً يحس بنفسه مقيد اليدين لا حيلة له لانقاذ عائلته .

 

الهاتف يرن

الياس

- أين أنتم بكل القلق يسأل زوجي ..

- لا زلنا في البيت لم نغادر بعد، سليم أصيب بنوبة اسهال قوية ربما من الخوف والضغوط ... كل أمورنا جاهزة فقط بانتظار أن يتحسن قليلاً.. أعطته هدى دواءه المعتاد ... ربما سنغادر ليلاً أو عند بزوغ الفجر ..

- حسناً مع السلامة.

لا كلمة أكثر ولا أقل ... وكأن الكلام مؤلم مؤلم ...

 

كنت أتحرق للتكلم مع جورجيت والاطمئنان عن ابنتي مريم ... أليست ابنتي ؟؟؟ أنا التي رأيتها  أولاً وحضنتها وأعطيتها أول جرعة حب ساعة خرجت الى الحياة ... الا أنني كنت أتهرب حتى لا ننهار معاً... لنتصنع الصبر والسلوان .

 

جالسون في البيت ...

لا غير ...

قال لي: اسمعي مني، ابدئي بترتيب الأغراض وتوضيبها .. لا تتركيها هكذا ...صحيح لن نتمكن من أخذها معنا لكن لو استطعنا شحنها فيما بعد تكون جاهزة ...

انتقي أهم الأشياء لنأخذها معنا ... اختاري للأطفال أهم ما يلزمهم ... لنكون جاهزين ...

مروان سيتصل في أية لحظة ليخبرنا بموعد السفر ... قال أنهم يحتاجون ليومين أو ثلاثة لانهاء ترتيب أمورهم ... الحمدلله أن هذه الفتاة تريد السفر بسيارتها وتريد من يساعدها على قيادتها والا

لما كان لنا مكان معهم ...

 

أرتب أهم الأغراض..

 

أهمها ...

 

ماذا يعني بأهمها ؟؟؟

 

هل يعني أهمها أغلاها ثمناً ... أو يعني أكثرها حاجة لنا .. أو يعني أعزها على قلوبنا ...

أمسك اطارات صور الأولاد ... ألبومات صورهم ... أفتح أدراج أفلام الفيديو التي تحتوي على كل الذكريات واللحظات الحلوة التي قضيناها طوال السنين العشرة الماضية .. دوماً كانت الكاميرا جاهزة للصور ولما اشترينا كاميرا للفيديو صار التصوير مزدوجاً كنا زوجي وأنا نستمتع بذلك ونقضي أوقاتاً حلوة جداً بالتفرج على تلك الأفلام لأنها تحفظ كل التفاصيل ...

كيف أوضبها ..وأين أضعها ... بالتأكيد لا يمكنني أخذها كلها معي ... وضعت أحدها وجلست أتفرج عليه مع الأولاد ....

قال هذا لا ينفع ... هذا سيتعبك أكثر ... ودعا الأولاد للعب بالكرة في الصالة بينما أنشغل بترتيب الأغراض الهامة ..

فتحت الخزانة التي تحتوي أشغالي اليدوية وغطاء الطاولة الكروشيه الذي حاكته لي جدتي مع خالتي ... كيف أتركه وهو الثاني بعد أن سرق الأول في بيروت حين هربنا في المرة الأولى ..

هل أتركه مجدداً ... لكنه يزن حوالي كيلو ونصف وحجمه كبير ... مكانه بامكاني أخذ غيارات للأولاد ... اذن ما هو الأهم ؟؟؟

الشراشف التي أعطتني اياها حماتي وقد طرزتها بيدها لأستعملها عند استلام الغرفة الجديدة ...

غطاء السرير الذي اشترته لي أمي لأنه يدوي الصنع كثير الأهمية بلونه وشكله ونوعه ؟؟؟

مكتبتي .. كتبي التي انتقيتها واحداً واحداً، وقرأتها ولكل منها ذكرى ... بعد مكتبتي الأولى التي تركتها في بيروت ولم أجد منها كتاباً هل يمكن أن أفكر بها  ؟؟؟؟

جميع القصاصات التي تحتوي كل ما نشرت في الصحف والمجلات ... ان وجدت صوراً منها عند أمي ماذا عن دفاتري التي أكتب فيها خواطري ومشاعري وقصصي ... اليست من أهم الأشياء ...؟؟؟ ولكن ماذا لو فتشنا أحد وأخذها للاطلاع عليها معتقداً أنها من الممنوعات ؟؟؟

بدأت أحس بالاختناق ...

أمرر أصابعي على اللوحة التي قضيت عطلتين صيفيتين أيام الثانوي أغرز فيها الخيطان لأبرز جمالها وأضع لها اطاراً جميلاً يزين منزلي بكل فخر ... ليتني لم أدع الرجل يومها يلصقها على الاطار لفككتها وأخذتها، لكانت صغيرة الحجم ... ولكن هل هي أهم من هذه اللوحة التي رسمها طفلي وأهداني اياها بكل الاعتزاز ...

وأعيدها كلها الى مكانها وأنا كلي أسى وحزن ... لا أستطيع توضيب أي منها ...

أذهب الى غرفة أطفالي ... أنظر الى ثيابهم ... الى ألعابهم ... الى مقتنياتهم ... أيها الأهم ... كم من الأغراض سنتمكن من النقل معنا ؟؟؟

قال سيخبرونا غداً .. اذن أبدأ غداً ...

لقد اختنقت اليوم ... لنخرج .. أنا بحاجة الى تنفس الهواء ولكن الى أين ؟؟؟

الغصة تشتد في حلقي ...

 

قرع جرس الباب ... قلت ربما أرسل الله لنا من ينتشلنا من هذا الغم .. قال بخوف من يكون ؟؟؟ نظر من العين الساحرة على الباب فوجد جارتنا الجديدة ...

 

قالت: جئت أطمئن عن البيت وعنكم ... سأبقى في بيت أهلي لأنه آمن ... زوجي يبقى ليلاً نهاراً في السفارة لتسيير الأمور ولخوفهم عليهم ... 

قلنا: نحن مغادرون قريباً، لن نأخذ أشياء كثيرة لذا نتمنى أن تنتبهوا على بيتنا ...

قالت: أتريدون أن تعطوني مفتاح الباب في حال احتجنا لفتحه في حالة طارئة؟؟؟

صمت ونظر زوجي الي متسائلاً ؟؟؟ نحن لا نعرفهم بالقدر الكافي لنثق بهم ونعطيهم مفتاح بيتنا ... ولكن كم هو صعب خلعه ؟؟؟ وهل لدينا خيار ...؟؟؟ فهمت تساؤلاته دون أن يتكلم وأومأت اليه بالايجاب ... فأعطاها مفتاحه ورقم هواتفنا عند أهلي وأهله وأخذ أرقام هواتفهم وغادرت ...

زادت الغصة وزاد الاختناق ...

قال تحدثي الى صديقاتك ... تكلمي مع مها ربما ترتاحين ...

قلت أبداً بل سأضايقها ولا أظنها بحاجة الى ذلك ...

مر اليوم بطيئاً ... ثقيلاً ... كئيباً 

كان زوجي يقترب من الهاتف ليتصل بالأصدقاء ويعرف ان كانوا قد غادروا ؟؟ ويتراجع ...

فهو مثلي ..

لا نريد أن نعرف .. هل غادروا ؟؟ كيف غادروا .. متى ؟؟؟

الأسئلة موجعة جداً مؤلمة حتى الاختناق ...

ويمر الليل بطيئاً... ثقيلاً ... كئيباً .

 

في الصباح التالي كان لا بد من الاتصال ...

لا جواب في بيت جورجيت ... لا جواب في بيت ليلى ولا جواب في بيت هدى  ... اذن غادروا ..

ليكن الله معهم

ووقفنا جميعاً كما في كل أمسية أمام أيقونة العذراء  نصلي وندعو لهم بالوصول بالسلامة .

 

أخيراً تلقينا الاتصال المنتظر من مروان .. أخبرونا أننا سنغادر مع بزوغ فجر اليوم التالي وأننا يجب أن نتجمع مساء أو قل ليلاً عند بيت حبيب الذي سنعتبره نقطة الانطلاق لنتأكد أن كل شيء جاهز ونتفق على المسار وكل التفاصيل ..

طلبوا منا أن نحضر الكثير من الثلج وكل ما لدينا من حقائب للتبريد فهي وحدها التي ستفيدنا في حر الصحراء لو فقدنا المسير ... قالوا لا تأخذوا طعاماً طازجاً فقط بعض الكعك والشندويشات الجافة حتى لا تنتزع وتسبب أمراضاً نحن في غنى عنها ..

قالوا: بامكاننا أن نأخذ حقيبة سفر ممتلئة .. لا يجب أن نقلق مهما كان وزنها فهم لا يزنون الحقائب في السيارة كما في الطائرة ..

قالوا: لن نتمكن من السفر في سيارة نهلة لأن صديقتها معها وانما سيوزعوننا على جميع السيارات ولا يجب أن نقلق لأن الأماكن كثيرة ... المساعدة مطلوبة لقيادة سيارتين بدل واحدة لأن سهى ابنة عم نهلة آتية أيضاً ومعها سيارتها ... وهذا أفضل لتوفر الأماكن ...

قالوا: لا تتأخروا لأعرفكم على باقي المجموعة المسافرة ... اتصلوا بنا عندما تكونوا جاهزين لنأتي لاصطحابكم ...

 

راح زوجي يعيد علي كل التعليمات التي تلقاها محاولاً ألا ينسى احداها ...

ركز على الثلج والحقيبة المبردة .. الطعام القليل الناشف ... حقيبة السفر الواحدة ... وبسرعة أخبرني الباقي بشكل لا يلفت انتباهي ...

حقيبة سفر واحدة .. يجب أن تتسع أهم الأغراض لخمسة أشخاص ...

 

قال لي: اسمعي مني ووضبي البيت أيضاً أثناء انتقائك أهم الأغراض ... فمن يدري متى نعود وهل نعود ؟؟؟ ربما يقتحم أحدهم البيت ويلمها ان لم توضبيها ونخفيها في مكان ما ...

فقلت بحسرة أو يجدونها موضبة فيسهل أخذها ...

دعا الأولاد للعب والحكايات لأتمكن من التحضير ..

فتحت الحقيبة ووضعتها على أحد الأسرة ورحت أنتقل من غرفة الى أخرى ... دمعتي واقفة عند طرف عيني تأبى النزول ... الغصة تحرق حلقي والكلمة جمدت على لساني ...

أمسك هذا الغرض وأتركه وأختار آخر ... ثم أبدله بآخر ... ماذا أختار لأضع في الحقيبة ؟؟؟

بدأت ببعض الملابس الداخلية ... وبعض الملابس .. كنت أفكر .. صحيح أنه بامكاننا شراء كل ما نريد أينما وصلنا ولكن أين النقود ؟؟؟ كل نقودنا في البنك الكويتي مجمدة، وربما فقدناها كلها ... ربما لن نستطيع حتى الاستدانة لشراء كل ما نحتاج ...نحن عائلة وليس من السهل شراء كل شيء ... اذن الملابس واللوزم الحياتية هي الأهم في هذه اللحظة ... وللحظ أنها الملابس الصيفية وحجمها أقل ...وعندما تضع ملابس خمسة أشخاص في حقيبة واحدة تمتلىء بسرعة ... ولا تترك لك خياراً كبيراً.

 

وبعد ...

قال: ألن توضبي على الأقل أهم الأغراض، أعرف أن كثيراً منها يعني الكثير لك ولنا جميعاً ..

هيا أرجوك وضبيها لنضعها كما وضعها الباقون في السقف حيث يمر الهواء في التكييف ... فربما نحفظها عن أعينهم أو لا يجدون الوقت لاستخراجها ...

 

أقنعني ...

وبدون أن أنبس ببنت شفة أخرجت كيساً كبيراً ورحت أرتب فيه ... وجه الطاولة الكروشيه .. غطاء السرير .. الشراشف المطرزة وأشغالي اليدوية ووضعت قطعاً من الصابون عليها وأغلقت الكيس... فتحت آخراً وضعت صور الأولاد، ألبوماتهم وأفلام الفيديو وذلك كيس آخر ...

اللوحة التي رسمها ابني، أشغالهم اليدوية ودفاتر رسوماتهم التي أحتفظ بها كلها، وذاك كيس آخر.

 

كتبي ؟؟ كثيرة .. لا أعتقد أن أحد ممن سيسرق البيت سيكترث بالكتب ...

 

أحضر السلم وساعده الأولاد على وضعها كلها في السقف ... حاولوا وضع الاورغ أيضاً الا أنه لم يتسع ليدخل في الفتحة ...

 

دخلت المطبخ وحضرت آخر كيس معكرونة كان لدينا ... وجلسنا بصمت نأكله ... ثم طلبت الى زوجي أن ينام قليلاً فمن يدري متى سيستطيع النوم مجدداً على سريره ...

ثم جمعت الأولاد وطلبت اليهم توضيب أغراضهم ... واختيار لعبة واحدة لكل منهم يأخذها معه والأفضل ألا تكون كبيرة ... وحاولت أن أشرح لهم لماذا ...

في البدء لم يعترضوا فهم لم يستوعبوا الاختيار ...

عاد ابني الكبير حاملاً البومات الطوابع البريدية ... وقال بصوت متحشرج: هل تعني أنني لا أستطيع أخذ هذه معي ؟؟؟ بكل أسف هززت رأسي بالنفي ...

قال: ولكنها مهمة جداً يا أمي .. أنت تعرفين كم تعذبت لجمعها واحدة بعد أخرى ...

احتضنته بكل الحنان والدمعة لا زالت واقفة عند طرف عيني لا تتمكن من النزول وقلت: أعرف يا بني ، لكننا سنخبئها لك مع بقية الأغراض وانشاءالله سنعود لأخذها جميعاً والاستمتاع بها ... لا تفكر الآن .. وكذلك باستطاعتنا البدء بجمع طوابع جديدة ... انها الحياة والحياة تعني ينتهي شيء ويبدأ آخر ولا تتوقف الحياة ... كانت الكلمات أكبر منه الا أنه اقتنع صاغراً وراح يضعها في كيس آخر ...

وتساءلت من أين أتتني الحكمة لماذا لم أقلها لنفسي حين بدأت توضيب أغراضي ؟؟ لهفتنا على حزن أولادنا تخرج من أفواهنا الحكم .

ديما أتت بلعبتها المفضلة ريم ومخدتها الصغيرة التي لا تستطيع الاستغناء عنها وقالت هذه أريدها فقط وكأن الله وضع في عقلها الصغير كل الحكمة .. فاحتضنتها بحرارة ... الا أنني قرأت في عينيها الحسرة وهي تنظر الى ألعابها المصطفة باتقان على سريرها ...

أما رامي فقد جمع عشرة أو عشرين من دببه الصغيرة المجمعة على سريره وقال سآخذها كلها لا يمكنك أن تقولي واحد فقط ... كان يحملها كلها بين يديه ومنها ما يقع على الأرض فيلمه ويعيد مقولته ...

قلت له أعتذر يا حبيبي، بامكاننا أخذ واحدة فقط ... رماها كلها وبدأ بالبكاء ... وكأننا جميعاً ننتظر أن يبدأ أحدنا لننفجر ... كلهم انفجروا بالبكاء لبكائه ... الا دمعتي التي عصت ولم تقبل أن تنزل لتهدىء بركان غضبي وأسفي وحزني ...

احتضنته وقلت: واحدة فقط، سنشتري لك ألعاباً أخرى كثيرة لكن الآن لا يتسع معنا في السيارة الا واحدة ,,, رتبها جيداً كما فعلت ديما واطلب منها الهدوء في غيابك، سنعود ونراها بانتظارنا ..

ربما في الحياة لحظات كثيرة قاسية وقاسية جداً لكني ساعتها أحسست أن تلك اللحظات هي أقسى ما مر علي وما سيمر في حياتي.

ها أنا أتخلى للمرة الثانية عن بيتي ومقتنياتي وربما حياتي ... وأغلق دونها الباب وربما لن أعود ثانية كما فعلت في المرة الأولى ...

في بيروت غادرت وأغلقت دوني الباب ولم أعد .. وذهب كل ما كنا نملك ولو أنه لم يكن بالكثير لكنه ذهب ...

واليوم ها أنا أنتقي أهم ما لدينا ومن يدري هل نعود ؟؟ ومتى تعود ؟؟ وماذا يمكن أن نجد ؟؟؟

قال لي: أفكر أن أفك اطارات السيارة فربما يستصعب السارق سرقتها وتبقى، فأعيدها الى صاحبها عند عودتنا وآخذ سيارتي ..

دعا الأولاد لمساعدته فهبوا مسرعين .. أي عمل أفضل من البقاء في البيت ...

وبقيت وحدي أستكمل ما يجب أن يستكمل ...

جلست في الصالة على الكنبة الجديدة التي اشتريناها حين انتقلنا الى هذه الشقة الجديدة ورحت أتحسس قماشها كما يودع الحبيب حبيبه ويتلمس جلد يديه وخديه ...

بالتأكيد ليست الكنبة ما أعني توديعها انما حقبة من حياتنا ... عشناها هنا ... كان يتملكني شعور أنني لن أعود لرؤية هذه الشقة .

دخلت غرفة نومنا التي نمنا في أحضانها منذ جئنا الى هذا البلد الجميل ... كل أيامنا بحلوها ومرها ... وقفت أمام المرآة ورحت أتحسس أطرافها وأنظر الى نفسي فأراني قبل عشر سنوات يوم طالعت نفسي فيها لأول مرة أو قبل خمس سنوات أو حتى سنة ... ابتسمت متذكرة كل الأيام ..

في طريقي الى غرفة الأولاد مررت بالاورغ .. تلك الآلة التي عزف عليها أولادي أول وأروع أنغامهم ,,, تلمستها بحنان وطلبت اليها الا تحزن اذا لم نعد بل سنحاول جلبها الينا اينما كنا ... تخيلت رامي وهو يضع الكرسي ليتمكن من الوصول الى المفاتيح ليعزف بحرية لصغر سنه ... ويعزف أنا في الروضة وايا صحابي أو يعزف أغنية فريوز ( فيروز) .

دخلت غرفتهم ... لم أستطع الدخول وأسرعت بالخروج واذا هم قادمون فقد أنجزوا المهمة ووضعوا السيارة على أربع قطع حجرية كبيرة وأحضروا الدواليب .

فأسرعنا لاستكمال حقيبة السفر ولوازمه.

أخذنا جميعاً حماماً ساخناً ... ولبسنا ثياب السفر المريحة ووضعت قطع ذهبي القليلة وقطع الأولاد في كيس قماشي صغير وربطته جيداً ووضعته في جيب داخلي في سترتي ... ووضع زوجي جوزات السفر والأوراق الثبوتية وشهادات الأولاد في حقيبة صغيرة في يده وجلسنا بانتظار مروان.

أطلق زمور سيارته .. فأطل زوجي من الشرفة ورآه وأخبره بأننا جاهزون ...

حمل الحقيبة لينزل بها فأسرع الأولاد معه ونزلوا يحمل كل منهم لعبته.

تغير لون وجهي ... واختنقت أكثر ... وقفت واجمة والغصة في حلقي تكبر ...

دخلت الغرف بحجة التأكد أننا لم ننسى شيئاً ...

قال زوجي: هيا هيا سنعود قريباً وبسرعة شدني من يدي حاملاً بقية الأغراض وأغلق الباب ...

صوت اغلاق الباب سمعته بكل تفاصيله وكأنني أحضر فيلماً بالعرض البطيء ... صوت اغلاقه يتردد في أذني ... يتردد ويتردد ...  ودخلنا المصعد  فحضنني وقال أعرفك قوية .. ما بك المهم أن نصل بالسلامة وسنعود ونجدد كل شيء ... المهم سلامتنا جميعاً. بالتأكيد ومن يضع في الميزان أي شيء مع سلامة أولاده ؟؟؟

وغادرنا

 

 

وانطلقنا في الدرب الشاق

-6-

كنا أول الوافدين الى بيت حبيب

مروان هو صديق قديم تعرف اليه زوجي وقويت صداقتهما أما حبيب قريبه فمعرفتنا به سطحية الا أن ظروف اللقاء والشعور بالتآزر أضافت بعض الدفء ...

بدأت المجموعة بالتوافد ... عائلة ... ثم عائلة أخرى.. آوه.. حسناً انها منى وعائلتها على الأقل نعرف أحداً منهم  ... ثم أتت نهلة مع صديقتها وأختها ترافقها ابنة عمها سهى ... ثم زوجان .. وبعدهما صديقين ..

تعرفنا على الجميع وتبادلنا بعض عبارات الموآزرة والتطمين ... لكنني كنت أنظر ولا أرى ... أسمع ولا أفهم ... أتمشى فيما بين الجمع الذي ملأ المكان .. حتى منى وابنتها أظنهما استغربتا من استقبالي البارد وتساءلت لماذا .. بالتأكيد أنا لست أنا ..

دخل الأولاد جميعاً احدى الغرف ووجدوا سبيلاً للتسلية فالليل طويل ولا مكان لنوم الجميع ولا حتى الجلوس للجميع ,,, وقد كان من الأفضل ألا ينام الأولاد فيتعبوا ويناموا في السيارات.

قال حبيب: أفضل أن نجلس جميعاً أو قل نتجمع في غرفة واحدة ونتحدث عن الطريق التي سنسلكها وكيف ستكون القيادة ومن سيكون في المقدمة ... لا نريد أن نفقد بعضنا بعضاً فنحن الآن تسع سيارات.

تحلق الجميع حوله وبدأوا الحديث ...

وكما في كل المجتمعات والاجتماعات علت الأصوات واختلفت الآراء وكثرت الأفكار والنصائح ... وأنا جالسة من بعيد ولا أزال في ذهولي ... واذا بي أصاب برعشة وأستقيم في جلستي فقد سمعت حبيب يتوجه بالكلام الى زوجي قائلاً: مهمتك أن تساعد نهلة قليلاً ثم سهى في قيادة سيارتيهما ... زوجتك مع ابنك الصغير سيكونون معي وابنك الأكبر مع ديما مع مروان ... نظرت الى زوجي برعب ... كان هذا آخر ما أتوقع ... أن يكون كل منا في سيارة مختلفة ... توقعت ألا نكون مع زوجي ولكن كل منا في سيارة ... هذا مرعب .

أشار الي من بعيد بالهدوء ... ثم اقترب مني محاولاً تهدئتي ... كيف يمكن أن نبدأ المغامرة الشاقة وأولادي بعيدون عني وعن أبيهم ... لا لا يمكنني أن أتقبل هذا أبداً .

قال: وهل تعتقدين أنه سهل علي تقبله ؟؟ ولكن لا حل لدينا أفضل من هذا، فلو خرجت هذه المجموعة لن نجد من يأخذنا معه ... يجب أن نتكل على الله ..

مرة أخرى كان علي أن أقبل .. أمتص الامتعاض والرعب عميقاً في داخلي ... ولكنهم صغار .. كيف أتركهم ؟؟؟

قال: ألم تسمعي ما قالوه .. كل منهم حمل سيارته بكل ما يمكن أن تتسع وهذا حقهم وانه لكرم منهم أن يتركوا بعض الأماكن لنقلنا ...

قلت: اذن لنحاول وضع الأولاد معي سنجلس جميعاً في مكان شخص واحد ..

قال: سنرى سأحاول، اهدئي الآن ثم لا تنسي هي ليست طريق قصيرة نقطعها بزمن قصير ولا يهم كيف نجلس ... انها طريق طويلة ... اهدئي ... يقولها والغصة تخنقه وما في يده حيلة ... وما في يدي أية حيلة .

ها هو الدرب الشاق يبدأ بالصعوبة الكبرى .

 كل ينظر الى ساعته ويدعو الرب أن يكون معنا .. وتحضر الجميع حين بدأت تباشير الصباح بالبزوغ وعلا آذان الفجر ...

بدأ الرجال يحملون برادات الثلج الصغيرة .. قناني الماء .. وكل ما أعدوا ... وتوجه الجميع الى السيارات ...

كانت السيارات محملة بشتى أنواع الأغراض ، ما غلا ثمنه وخف حمله حتى أنك تجد في بعض السيارات عدا التلفزيون والفيديو والحقائب المحشوة بالأغراض، بعض الأدوات الكهربائية من غاز وغسالة ..

بعضهم حاول نقل منزله في سيارته الصغيرة ونحن حقيبة سفر واحدة ...

لا بأس أصدقاؤنا الذين غادروا قبلنا لم يأخذوا الكثير أيضاً... لم أحس بالغيرة بل بالأسف ... أن يضطر الناس للقيام بهذا ... هذا الاحساس بالخسارة يجعلك تتصرف بعفوية ربما تقودك الى الخطأ وربما هو ليس خطأ ففي آخر المطاف ربما ينقذون ممتلكاتهم أو بعضاً منها.

كان كل ما يعنيني أن أتدبر أمر الأولاد وأتركهم معي في سيارة واحدة لا يهم أيها...

بدأت الصرخات الأخيرة .. هيا الى الحمام جميعاً بالدور .. وانزلوا الى السيارات .. سنتحرك

بعد عشر دقائق ... واصطف الرجال والنساء كل أمام حمام وكذلك الأولاد.

ونزلنا جميعاً الى السيارات، كان زوجي يحاول مع مروان راجياً اياه أن نتمكن من وضع العائلة كلها في سيارة واحدة.

كانت سيارة حبيب ممتلئة لدرجة لا يتمكن حتى طفل في العاشرة مثل ديمي أن يضع نفسه فوق الأغراض أو بينها في المقعد الخلفي ...

لم يكن متوفراً سوى مقعد واحد بجانب السائق، وحتى على هذا المقعد علبة كبيرة لم أستطع معرفة ما بداخلها الا أنه قال أننا يمكن استعمالها كمسند لأيدينا ... وعلى الأرض أكياس قال نسند عليها أرجلنا... فكان من المستحيل أن أسع مع أولادي جميعاً.

قلت: سأترك رامي في حضني وديما بجانبي ... خذ ديمي معك ...

قال: لكنها طريق طويلة ... كيف ستتحملين رامي في حضنك وديما لن تكون مرتاحة في هذا المكان الصغير جداً.

قلت مصرة: دون جدال أبداً، لا أريد غير هذا ولن أتحرك الا بهذا الشرط.

وجد أنني مصرة ... وأظنه ارتاح لاصراري فقد كان خائفاً أكثر مني.

قال: اذن أعطيني جواز ديمي ليبقى معي ... أخرجته مرغمة من حقيبة يدي وناولته اياه وكأنني أقتلع جزءاً من لحمي.

جلست ووجدت مكاناً لقدمي ثم أعطاني رامي ليجلس في حضني ودخلت ديما بعد أن أحست بالراحة وشدت بجسمها النحيل نحوي وأحاطت ذراعي بيديها المرتجفتين.

نظرت الى ديمي والغصة تخنقني ... وهو ينظر الى اخوته وهم يجلسون بجانبي وهو ذهب مع أبيه ... لم ينبس ببنت شفة لكني كنت متأكدة أنه خائف يحاول اظهار شجاعته لأنه الكبير لكنه لم يستطع النطق بها أو التعبير عن أي شعور أو حتى خوف.

ليته بكى ... ليته أصر على البقاء بجانبي فربما حركوا شيئاً ما من هذه السيارة وتركوه معي ... ليته انفجر بالبكاء مصراً على عدم الابتعاد.

وتكبر الغصة في حلقي والدمعة واقفة على طرف العين ... وأحيط رامي بذراعي وأشد على يد ديما التي تشد على ذراعي وبدأت أصلي.

كان ديمي حساساً جداً ودوماً أحس بالمسؤولية الكبيرة تجاه اخوته ... كنت كلما طلبت اليه أن ينتبه اليهما حين أكون مشغولة في المطبخ أو في بعض الأعمال المنزلية يأخذ دوره جدياً جداً ويقوم بدور المشرف والأب والأستاذ ... أما اذا طلبت اليه ذلك في غيابي كانت المسؤولية تزعجه جداً ... فهو يفكر كثيراً ويتساءل ماذا لو حدث شيء ما ولم يستطع التصرف ... كنت أتحدث اليه كثيراً في هذا الأمر وأناقشه بأن المسؤولية شيء جيد وأنه واع بشكل كاف ليتمكن من التصرف .. ونتحدث عن أمثلة كثيرة ويحسن الاجابة عن الامكانيات ثم نقول أن الرعب   يجعله يحس بالضعف وهو ليس ضعيفاً... في المرات القليلة جداً التي اضطررنا للمغادرة في البيت الجديد ... كان يصاب بالمرض حين نخبره أننا سنضطر للغياب ولو ساعة خاصة اذا كنا معاً والده وأنا ... كان يناقشني ويعبر لي عن خوفه من المسؤولية في حال حدث لنا مكروه ... فهو لا يعرف كيف يتصرف مع اخوته ... كنت اطمئنه وأخبره أن المسؤولية ليست كاملة على عاتقه ولو حدث لنا فعلاً مكروه فان أصدقاءنا لن يتركوه أبداً... كان هذا هاجسه الأكبر لذا كنت دائماً أحاول تمرينه دون الضغط عليه حتى يتخلص من هذا الاحساس .

وها أنا اليوم أتركه ... ربما لم يعبر عن رعبه وخوفه لأن اخوته معي ... استسلم الى يد أبيه وتبعه الى حيث جلس في المقعد الخلفي من السيارة التي يقودها ... نظر الي من بعيد وكنت أنظر اليه وكأن نظراتنا قالت كل الكلام.

الصلاة هي فقط خير منقذ ...

يا رب.

 

علت الدعوات بالتوفيق والانتباه ... وأغلقت الأبواب وانطلق الموكب ... تسع سيارات تسير متتالية .

 

من منطقة حولّي انطلق الموكب باتجاه الشويخ في الطريق الى الحدود العراقية الى مدينة البصرة.

كان ضوء النهار قد اكتمل والشمس سطعت في كبد السماء لبداية يوم جديد .. لعله جيد لنا جميعاً.

مرت السيارات في شوارع الكويت التي اعتدنا المرور بها ... لكنها تبدو مختلفة اليوم ...

أين منها النظافة ؟؟؟ وقد كانت دوماً نظيفة .. الأقذار وأكياس القمامة في كل مكان ... سيارات مكسرة في كل مكان .. خاصة في معارض السيارات ... المحلات ذات الأبواب المخلوعة والبضائع المبعثرة ..

لا أدري ماذا كان يفكر الآخرون ونحن نمر بهذه الشوارع التي كنا ننتقل فيها بكل الحرية والفرح .. ونحن نعبرها اليوم ولا نعرف ان كنا سنعود يوماً ...

لا أدري بالتحديد ما كان يفكر الآخرون الا أنني أعرف تماما ما كنت أفكر ..

مع أنني كنت مأخوذة اللب منذ جلست في السيارة ومنذ انطلق الموكب اذ أحسست أن صوت اغلاق باب السيارة أعاد الي صوت اغلاق باب البيت ... الا أنني وباستغراب كنت أفكر .. وعقلي يذهب مع كل شارع نمر به الى المكان الذي كنا نقصده عبر ذلك الشارع ... وأتذكر الأيام واللقاءات والحفلات ..

من ذلك الشارع كنا نذهب الى نادي الغزال حيث حضرنا حفلات عديدة ... من هنا كنا نذهب الى حديقة المنقف حيث نقضي أيام العطلة ... فيستمتع الأطفال بالألعاب المتوفرة بكل أمان ونجلس نحن ونتسلى بمختلف أنواع التسلية من لعب بالطاولة أو الورق ثم تحضير الشواء هذا عدا الاستمتاع باجتماعنا بحد ذاته وأحاديثنا وزيادة قربنا بعضنا من بعض.

من هناك نذهب لزيارة الأصدقاء في الفحاحيل ... ومن هنا الى الأحمدي ...

ها نحن نعبر شارعاً بعد شارع ونبتعد عن المناطق التي عشنا فيها ونقترب من الحدود العراقية ...

ما بي أفكر بالماضي السعيد ؟؟؟ ناسية كل الأخطار التي تحدق بنا .. هل أهرب من التفكير بما ينتظرنا ولكن أين الهروب ؟؟؟ فنحن نقود موكبنا لنصل الى بلادنا عبر ..؟؟ عبر ماذا ؟؟؟  فقط أحس أننا ذاك المهرج الذي يرمي بنفسه في اللولب الناري ولا يدري ان كان سينجو كل مرة .. أو أحسني في ذلك القطار الذي أجبروني على ركوبه يوم ذهبنا الى المدينة الترفيهية وقد كان اسماً على مسمى قطار الموت ... يبدو لك سهلاً ويقولون أنك آمن وتضع كل أدوات السلامة الا أنك وعندما تبدأ الدورة تحس بالرعب حين تفقد السيطرة على كل شيء ...السرعة، الاتجاه، التوقف ... وتستسلم حتى ينتهي الدوران وتتوقف بعد أن يتوقف قلبك ...

 

ها نحن نقترب من الحدود ... الحدود الكويتية مفتوحة .. بعض الجنود العراقيون يتأكدون من حيازة جوازات السفر أو اذن الخروج ... لا أختام ولا توقف فالبلدان بلد واحد الآن ...

قطعنا الحدود وتوجهنا باتجاه مدينة البصرة.

ما ان قطعنا الحدود واطمأنينا قليلاً ونام الأولاد حتى بدأت بتبادل الحديث مع حبيب فقد كنا طوال الفترة السابقة صامتون وكأن التجربة أكبر منا والخطر الذي نعبره أعظم من أن يسنح لنا بالكلام ...

أي حديث ؟؟ وأي كلام ؟؟؟ بدأت أبحث عما يمكننا أن نتحدث به فليس من المستحسن أن أبقى صامتة ... فقد يصاب بالنعس ... تارة أجد سؤالاً أسأله ونتحدث قليلاً وتارة يسألني فنتابع بعض الحديث الا أنني كنت معظم الوقت أبتعد وأبتعد بتفكيري وأحلامي ومخاوفي ...

أفكر بكل شيء وبالجميع .. أحلم بالوصول السليم وعدم التعرض لأية مساوىء أو مصائب الصعاب مقدور عليها ...     

أخاف ... أخاف من كل شيء ...

ترى ليلى وجورجيت كيف قطعوا هذا الطريق ؟ هل كانت سهلة كلها كهذا القدر القليل الذي قطعناه أم أن الصعاب ستتلو ؟؟

هل وصلوا بالسلامة ؟؟ ومريم .. طفلتي مريم ؟؟ هل خرج ريمون بسهولة ؟؟ هل  وهل   ؟؟ هل سنلتقي على خير ؟؟

وأعود الى الصلاة .. أعرف أن أهلنا حميعاً يصلون لأجلنا منتظرين خروجنا أو سماع خبر عنا .. مسكينة أنت يا أمي وأنت يا حماتي أحس بصلاتكما تؤازرني ..

أمرر يدي على شعر رامي الذي ينام بكل هدوء وأشد على يد ديما التي تنام على كتفي .. وأحس بالحنان والطمأنينة وأنظر محاولة رؤية ديمي الا أنه في السيارة التي تبعد عنا ولا أتمكن من رؤيته .. الا أنني أحس به ..

مضت الساعات الأولى على خير يبدو أن الطريق الرئيسي بين البصرة وبغداد سالك.

لذا وبعد قيادة خمس ساعات وبحسب الاتفاق وما اجدوا فسحة توقفوا للتحدث والتآزر والاطمئنان بعضنا على بعض.

نزلت ديما من السيارة وبكل صعوبة استطعت اخراج قدمي فقد كانتا مجمدتين... اذ لا يمكنني تحريكهما طوال مدة القيادة ... نزل رامي وأسرع الى والده ورحت أبحث عن ديمي فاذا به يركض الى أحضاني ويعانقني بكل الراحة ... ربتت على كتفه وشكرته لشجاعته ... وطلبت اليه أن يأخذ أخاه مع والده الى حيث يذهب الرجال جميعاً للتبويل ... أما ديما فلم تقبل الذهاب معهم ..فأخذتها الى جانب السيارة وأحطتها بمنشفة كبيرة كنا نضعها على المقعد حتى لا يزعجنا المقعد الجلدي في الحر ... عندما وجدت أن المنشفة كبيرة وتحيطها وتبعد عنها الأعين وافقت وارتاحت .. أما نحن السيدات والبنات فلم يكن المكان ملائماً ... واتفقنا أننا نستطيع التحمل ... حتى يجدوا لنا مكاناً مناسباً... مطعم أو فندق أو منزل ... من يجرؤ على التوقف أمام منزل ... لو كانت الأحوال عادية ربما، أما في هذه الأحوال ... لا .

سيحاول قائد الموكب الانتباه الى أول مطعم أو حتى قهوة شعبية للتوقف .

وسار الموكب مرة أخرى .. الطريق تبدو سالكة ... وحده خطر الهجوم الأمريكي المفاجىء يقلقنا ويدفعنا للاسراع ... فنحن نقترب من بغداد أعلى نقطة خطر في المشوار كله ..

كانت الساعات طويلة ... في بعضها استلم رامي الكلام والغناء بسنواته الأربع ... ربما هي من المرات القليلة التي لم يزعجنا فيها كلامه المتواصل واصراره على الغناء ... حتى ديما لم تتأفف وكأنه كان يبعد عنها الملل والخوف .. وراح حبيب يسايره وبسأله المزيد ويتسلى بأخباره وخبرياته ...

وبالرغم من ذلك كانت الساعات طويلة .. وبتحرك رامي المستمر كانت عظام كوعيه تتصارع مع عظام صدري وتسبب لي الآلام ..

كان الحر شديداً .. كنت في كل ربع ساعة أو أكثر أفتح براد الماء القابع تحت أقدامنا وأزيد قطعة ثلج في كأس ماء وأعطي حبيب ليشرب أو ليبقي قطعة الثلج في فمه علها تبل ريقه وتشعره ببعض الانتعاش وتهدىء تعبه وتوقظه ... ومثلي يفعل الجميع في جميع السيارات ... لم نكن فعلاً نفكر بالنعاس لأن القلق والخوف من المجهول يشدنا ويوقظنا باستمرار أما الأولاد فالملل يجعلهم ينامون وهذا أفضل.

بدأت الشمس بالمغيب .. كان الاتفاق أن نتوقف عن القيادة في مكان ما قد نجده مناسباً لينام على الأقل من يقودون السيارات.

ومرت الساعات وشارف النهار على الأفول ولم يجدوا مطعماً أو قهوة أو فندقاً للتوقف .. ويبدو أن قائد الموكب وجد طريقاً فرعياً يقود الى استراحة فأشار الى الجميع أن يتبعوه ففهلوا ...

كيلومتر .. اثنان .. ثلاثة ... خمسة ... أشار بالتوقف ... توقف الجميع ونزل الرجال من السيارات للتشاور ... كانت العتمة قد أسدلت ستائرها ... أطل زوجي للاطمئنان عنا سريعاً فسألته عن الأمر فقال انهم يعتقدون أننا في منطقة عسكرية وليسوا متأكدين عن كيفية الخروج والعودة الى الطريق الرئيسية .. لكننا سنجدها لا تقلقي وشد على يدي وأسرع حيث أسرع الجميع الى سياراتهم ...

وانطلقنا مجدداً والجميع يصلي .. قال حبيب: هل يمكن أن نصلي بصوت عال ؟؟ وأخذ رامي المبادرة ... لا شك أن صلاة الأطفال مقبولة وتثلج القلب وتطمئن الروح الا أنها تلهب الأعصاب والمشاعر ...

بحذر شديد جربوا طريقاً اولى لكنهم لم ينجحوا اذ عادت بنا الى المكان ذاته ... وكنت تفهم من الوجوه ما يحدث ولست مضطراً للسؤال.

ثم طريق ثانية ... وها نحن على الطريق السريع مرة أخرى ...باتجاه بغداد ... وعلت الابتسامات الوجوه.

توقفوا مباشرة عند رؤيتهم محطة وقود علهم يجدون استراحة ووجدوا الاستراحة علهم يجدون حماماً.

استراحة ... لم نكن متأكدين ماذا يعنون بذلك الاسم الذي لقبوا فيه المكان ... لكنه ليس بالتأكيد استراحة بالمعنى المتعارف ...

الاستراحة هي مكان يستريح فيه الانسان من عناء السفر وقد يشرب كأس شاي أو فنجان قهوة ويستعمل الحمام لقضاء حاجة بدنه الطبيعية ... في أية ساعة من اليوم ...

أما هنا فقد كانت شبه استراحة وكانت مقفلة... هي تخدم من يصل صباحاً أما من يصل مساء أو ليلاً فتباً له ... لا استراحة ولا قضاء حاجة ...

الأمر الوحيد الذي أفادنا هو الفسحة الكبيرة حولها حيث تمكنا من الوقوف بالرغم من المخاطر الا أننا كنا مرغمين واضطررنا الا نفكر بأي هجوم من العراقيين علينا لمعرفتهم أن كل من يغادر محمل بشتى أنواع البضائع والأغراض والمصاغ ... وننسى أن الأمريكان قد يهجموا أيضاً في أية لحظة ...

كان يجب أن يستريح السائقون بعد أن ملأوا السيارات بالوقود ويتمددوا ولو لبعض الوقت ... وباقي الرجال والنساء تجمعنا لحراسة المكان  فربما عددنا أبعد عنا الطامعين ...

رحنا نتآزر ونتحدث عن خوفنا حين أضعنا الطريق ... ورحنا نشدد بعضنا بحيث أن الدخول الى الحمام لن يكون مشكلتنا الكبرى فلننتظر فرصة أخرى وكأن الخوف جمد الاحتياجات الطبيعية ...

أراد الأولاد التمشي أو الركض وبالطبع لم نستطع السماح لهم فالظلام مخيم والاضاءة خافتة جداً.

مرت ساعة واذا بكل السائقين مستيقظون لا أحد منهم تمكن من النوم ...

تحلقنا جميعاً وتشاورنا ... ودون تردد أراد الجميع الانطلاق فانتظار فتح الاستراحة قد يكون دون نتيجة ونحن مستعجلون للخروج من منطقة الخطر ...

نتابع القيادة بالرغم من التعب ..؟؟؟

نعم نعم وراحوا يتبادلون الخبرات عن كيفية ابقاء عيونهم مفتوحة لا يداهمها النعس وذلك بصب المياه المثلجة على الرأس ... متابعة الأحاديث والنقاشات ..فتح الراديو لأن المحطات بدأت بالوضوح ...

وسار الموكب مجدداً ... وعلت الصلوات في قلوبنا ... وراحت عقارب الساعة تسير بطيئة بطيئة ...

وبدأ النور يشق حجاب الليل ثم بدأت أشعة الشمس بالشروق.

كنت أشفق على حبيب سائق سيارتنا فأنا لا أستطيع ايجاد أحاديث كافية تسليه وتبعد عنه النعس ... ولا هو كان بامكانه التفكير بأحاديث أخرى ... كان مهتماً بالسيارات التي تسبقه والتي وراءه يسابقها تارة ليطمئن عن الجميع ويدعها تسبقه تارة ليكون خلف الجميع ... كانت هذه كافية لابقائه مستيقظاً ... أما حين يستيقظ رامي فكانت الأجواء تختلف ... لأنه لا يكف عن الأسئلة والأحاديث ولا يقبل اجابات مختصرة.

بطيئة هي الساعات ولكنها تمر ...

قبل الوصول الى مفرق بغداد توقف الجميع للتشاور مجدداً للتأكد أنهم جميعاً لا يريدون التوقف في بغداد ... كان الاجماع والموافقة الأكيدة.  فقط الخروج من الأراضي العراقية...

وتوجه الموكب باتجاه الحدود العراقية.

 

كانت الساعة تقارب الحادية عشرة أو الثانية عشرة عندما اقتربنا من الحدود ... وراح الموكب يجد مكاناً لايقاف السيارات ... لأن عدد السيارات الموجودة كبير كبير كبير ... صحيح أن المكان كبير لكن السيارات كثيرة .

كنا نرى على الطريق سيارات كثيرة محملة مثلنا ... وهذا يعني أنهم هاربون مثلنا من أتون الحرب المتوقع ... الا أن عدد السيارات الموجودة أكبر بكثير من المتوقع.

 

تساءلنا هل يجب أن ننزل جميعاً للدخول الى الجوازات ؟؟؟

قال الرجال: لنجرب ربما النساء لسن بحاجة للدخول.

وفيما هم يتشاورون .. اقترب شخص من السيارات المجاورة ... واذا بزوجي وآخرون يرحبون به أجمل ترحيب .. وراحوا يسألونه عن أحواله ... وماذا يفعل هنا ...

كان شكله يبعث على الشفقة ... يبدو أنه قضى أياماً طويلة في لباسه نفسه ... ووجهه تعب لدرجة كبيرة ... فهمنا فيما بعد أنه القنصل اللبناني ... وقد تعرف الى زوجي ورفاقه وطلب اليهم أن نترافق في الخروج وأن يحاولوا ختم جوازات السفر معاً لأن السلطات العراقية قد أوقفت خروج البعثات الدبلوماسية منذ أسبوع ... وهو ينتظر قرار التمديد ... وحتى يصدر ذلك القرار ربما بالامكان ختم جوازه دون انتباه ان كان ضمن مجموعة كبيرة ...

لم تكن الشفقة هي التي دفعت الرجال للقبول وانما الغضب والقهر ... وذهبوا جميعاً.

 

خرجنا من السيارات ننتظر ونتريض ونحاول اراحة أقدامنا ... كان التعب آخر ما نفكر فيه ... ضممت ديمي بشوق وكأنني لم أره منذ دهر ... الحمدلله هانت .... الدرب الشاق شارف على نهايته ... والخطر شارف على الزوال ...

 

كانت النساء حولنا من سيارات مجاورة ... مثلنا بانتظار الرجال تتبادلن الأحاديث منزعجات من الساعات الطويلة التي احتاج اليها المرور من الجوازات ...

حاولت احدانا البحث عن حمام أو أي مكان يمكن فيه قضاء الحاجة ... فقد مضى علينا ثلاثون ساعة وهذا وقت طويل ... صحيح أننا اتفقنا ألا نشرب الكثير من المياه وألا نأكل الا أن الحاجة الطبيعية تذهب أبعد من ذلك ...

لم نجد أي مكان .. لائق أو غير لائق ... وكان علينا الانتظار أكثر ... والانتظار بات شبه مستحيل لكنه بدا أسهل لأننا نعلم أننا بدأنا نقترب من النهاية.

ساعة وبعدها ساعة ... واذا بعدد كبير من الرجال بدأ بالخروج من ذلك المبنى ... وذلك يعني أنهم أنهوا المعاملات ...

أتى رجالنا والسباب تخرج من أفواههم بكل الغضب ... لم نفهم التفاصيل ومن يجرؤ ليسأل عنها ... ما كنا نريده هو العودة الى السيارات وايجاد طريق للخروج ... فذلك يبدو مستحيلاً لكثرة عدد السيارات والفوضى التي تعم ...

اقترب زوجي وقال كله تمام والقنصل أيضاً وهذا هشام يريد السلام عليك زوجته هناك في تلك السيارة مقابلنا ...

قلت: أحسست أن من في تلك السيارة ينظر الينا لكن السيدة محجبة بخمار أسود، لم أعرفها ... وهي لم ترفعه لتسلم علي ...

قال: هي سامنتا زوجته الأمريكية وقد كان الحجاب أفضل طريقة لهروبها دون التعرف على جنسيتها ... وقد تمكنوا من انهاء أوراق السفر على أن جوازها سرق .

 

كيف تضحك وليس للضحك مكان ؟؟؟ في مأساة كهذه ؟؟؟

اقتربت منها وسلمت عليها وتمنينا التوفيق للجميع ... وكان كل يسرع للخروج ...

بصعورة بالغة تمكنت السيارات من العودة الى موكب واحد، بعد أن أعادوا توزيع جوازات السفر ومررنا على الجنود العراقيين في مركز العبور.

وتنفسنا الصعداء

وانطلقنا بعد أن اتفقوا على الوقوف بعد الابتعاد بعدة كيلومترات وقبل الوصول الى نقطة الرويشد حيث الحدود الاردنية ...

مسافة كبيرة تفصل الحدود العراقية عن الأردنية وهي فرصتنا الوحيدة للاستراحة وقضاء الحاجة لأن الحديث على الحدود كان كثيراً ومخيفاً عما ينتظرنا هناك ... قالوا أن السلطات الأردنية لم يعد باستطاعتها استيعاب المسافرين ولم يعد بامكانها السماح لهم بدخول الأردن لذلك كانت تجمع السيارات في مواكب طويلة من خمسين سيارة ثم تسمح لهم بعبور الأراضي الأردنية مع مرافقة مشددة ... الى الحدود السورية ...

كانت تلك أخبار مقلقة لأنها تعني المزيد من الانتظار والتعب والمياه شارفت على الانتهاء ولا مكان ولا فلوس للشراء ...

أول الهموم كان قضاء الحاجة وربما بعض الراحة ... لنتمكن من المتابعة بخير فما ينتظرنا يبدو أصعب مما توقعنا .

وبعد قيادة كيلومترين أو ثلاثة ... دخلت السيارات منطقة ترابية مفتوحة لا بناء حولها الا أن الرجال فكروا بوضع السيارات بشكل دائرة كبيرة بعد أن بدا أنه على بعد مئة متر الى الداخل انخفاض بسيط في الأرض اذن بالامكان الاحساس ببعض الخصوصية حين يبتعد الجميع ...

وتحس بالذل والقهر ... وتنسى القرف ولا تبحث عن النظافة ... فالحاجة الطبيعية جبارة ... ربما تستطيع السيطرة عليها لفترات طويلة ان كنت في مكان عام أو عند ضيوف ولا تريد استعمال مراحيضهم الا أن مرور ثلاثين ساعة وانت مرغم على عدم قضاء حاجتك مصطحباً بالخوف المستمر ذلك هو تعذيب وشعور مؤلم جداً  ... الخوف عادة يدعو البول الى الجريان وكأنه يأخذ معه الرعب بعيداً أما ان تضطر الى احتباس الخوف والبول لمدة طويلة فذلك قاس ، أمر قاس ...

أخذ الرجال بعض الوقت حتى صفوا السيارات الواحدة بجانب الأخرى مؤلفين دائرة حول المنخفض وابتعدوا عنها وطلبوا الى السيدات أن يأخذن الأولاد ويتدبرن أمورهن ...  

كنا ننظر الى وجوه بعضنا البعض ... أهو الحياء ... أم المرارة ...نزلت مع ابنتي الى الحفرة لأننا لم نعد نتمكن من الانتظار وشكرت الله أنني كنت ألبس تنورة عريضة فهي ربما تستر عورتي ...

كنت قد أطلقت العنان لحاجتي عندما بدأت تلك الأصوات العالية الفجائية تصدر عن سيارات ضخمة تتوقف بالقرب من مكاننا، لم أستطع التوقف بالرغم من كل الأصوات المرعبة ... كان الأمر أقوى من سيطرتي وكان علي أن أفرغ كل ما في داخلي ومثلي كانت كثيرات ... شعور قاس ومرّ الا أنه قسري ...

سيارات عسكرية وخطوات جنود ثقيلة ...

أسرعنا لاستطلاع ما يجري ...

ثلاث سيارات عسكرية توقفت وترجل من احداها بعض الجنود وراح أحدهم يكلم الرجال ... ثم عاد الى السيارة الثالثة ورأينا شاباً ينزل منها ويقترب للتحدث الى الموكب ...

اقتربنا بحذر ... كان الجنود نظاميون يضعون على رؤوسهم الكوفية الأردنية ولوحات السيارات تحمل أرقاماً أردنية فارتحنا عندما عرفنا أنهم أردنيون ...

وسمعنا رجالنا يقولون هيا أسرعوا يجب أن نعود الى السيارات، يبدو انها منطقة عسكرية ولن يسمحون لنا بالاستراحة هنا ...

اقترب الشاب الأشقر وعرف عنه الضابط بأنه الأمير عبدالله بن الحسين... وانه قدم عندما علم أننا نسافر برفقة السفير اللبناني وهو يطلب مقابلته.

سلم على القنصل وعلى الجميع بكل اللطف وطلب الينا عدم الوقوف هنا لأن المنطقة عسكرية وقد نجتذب سائقين آخرين للتوقف مثلنا وهذا غير مسموح به عدا أننا نضع أنفسنا في خطر ...

طمأننا واطمأن عنا وعندما علم أننا لاننوي الدخول الى عمان، أعطى أوامره الى مرافقيه لينتظرونا ننتظم في موكبنا ويساعدونا لعبور نقطة حدود الرويشد بأقصى سرعة ويرافقوننا الى الحدود السورية دون انتظار المواكب الكبيرة ...

أسرعنا حميعاً الى سياراتنا مهللين فرحين ... وكأن طاقة القدر فتحت لنا واستجاب الله الى دعائنا ...

مجدداً نسينا التعب، وأسرع الجميع ... تسير في المقدمة سيارة عسكرية وأخرى وراء الموكب.

يا لهذا الأمير الشاب الذي أرسله الله الينا بشرى وعون كبيرين ... كان هذا الظهور كاف ليرد الروح في أوصالنا لتحمل الرحلة من جديد.

نصف ساعة واقتربنا من نقطة الرويشد.

حينها فقط أحسسنا حقيقة الخدمة التي قدمها لنا الأمير الشاب ... حينها فقط أدركنا ما معنى ما كان يقوله الناس على الحدود العراقية ... أعداد كبيرة كبيرة من الناس ... خيام بيضاء منتشرة على مد النظر ... يلجأ اليها الناس لأن الاجراءات تأخذ وقتاً طويلاً والاشكالات كثيرة ... فمن هرب دون جواز لأن جوازه في مكان عمله ... ومن لا يعرف وجهته ... ومن لا وجهة له ...

قادنا الجنود الى مدخل خلفي لمبنى الحدود وفتحوا لنا باباً حديدياً كبيراً ليمر موكبنا منه...

 

ما ان توقفت السيارات ... حتى هجم على الموكب صحفيون يحملون كاميرات كبيرة وميكروفونات ... واقتربوا من شبابيك السيارات قبل أن نتحرك منها وراحت كل مجموعة منهم تتحدث الى احدى السيارات وسمعناهم يتصايحون ... عائلات الدبلوماسيين ...

لم نعرف بالضبط ما كانون يعنون بذلك ... فوجئت شخصياً وعادت الغصة تخنقني حين اقترب أحد الصحفيين وسألني ان كنت أتكلم الفرنسية ... وعندما أجبته بالايجاب راح يسألني عن الكويت والأوضاع فيها ... كيف قضينا أيام الاجتياح وهل اعتدى أحد علينا ... وهل سرقونا أو سرقوا بيوتنا ؟؟؟ هل حاولوا خطفنا ؟؟؟ هل عانينا من الجوع ؟؟؟ ما ذا كانت أصعب التجارب ؟؟؟ هل سمعنا قصصاً عما يفعله العراقيون ؟؟؟

أسئلة متتالية وسريعة ألهبت مشاعري والغصة في حلقي تكبر وتكبر وتؤلمني ...  

أخيراً سألني الى أين تذهبون ؟؟؟  وأجاب نفسه الى لبنان ؟؟؟ وهل تعتقدين أن لبنان في حال أفضل ؟؟؟...

لماذا يركز الصحفيون على مآسي الناس ومتاعبهم ويريدون الأخبار المثيرة والرنانة ...

لا يهمهم ما قد يسبب لك تساؤلهم من جروح المهم أن يحصلوا على اجابات وان كانت تحوي مأساة فذلك مثير أكثر ...

في تلك اللحظات كنت أفكر ليت أن أمي أو أحد المعارف يشاهد هذه المحطة التي تصورنا لترى أننا بخير وتطمئن فلا بد أنها تعيش في قلق دائم .

بعد زمن وجيز طلب الجنود من الصحفيين الابتعاد عنا واعطاءنا مجالاً للراحة ...

نزلنا من السيارات بعد أن لم الرجال الجوازات من جديد ودخلوا المبنى مع الضابط ...

تجمعنا ورحنا نتبادل التهاني وقد علت الابتسامات الوجوه ... بعد زمن بعيد من الاضطراب...

نسينا الحديث عن تلك التجربة المقرفة التي عانينا منها عند قضاء حاجتنا ... فقط رحنا نتذكر نتائجها المفرحة المخلصة .. التي تبشر باقتراب الفرج ... رحنا بكل الأسى والأسف ننظر الى المجموعات المنتشرة والخيام المنصوبة  وفي داخلنا فرح عميق أننا لن نضطر أن نعاني ما يعانون ...

اقترب منا الصحفيون مجدداً ولكن بهجمة أخف وكنا قد ارتحنا قليلاً فتحدثنا اليهم بحرية أكبر دون كاميرات وميكروفونات وعلمنا أنهم كانوا بانتظار عائلات الدبلوماسيين لأن اذاعة مونت كارلو أعلنت منذ بعض الوقت أن الحكومة العراقية أصدرت قرار التمديد للسماح للدبلوماسيين وعائلاتهم بالخروج من العراق وأن قافلة منهم يتوقع خروجها قريباً والجميع اعتقد أن القافلة هي قافلتنا لأننا نرافق السفير اللبناني .

أعتقد أننا جميعاً وددنا لو عانقنا السفير اللبناني في تلك اللحظات لنشكره على كل التسهيلات التي حصلنا عليها بسببه بعد أن عانى هو نفسه من مر البقاء على الحدود العراقية أياماً طويلة بانتظار الافراج عنه.. وكأن قدرنا جعله ينتظرنا ... وهو الذي اعتقد أن خروجه معنا أنقذه من انتظار أطول.

رافقتنا السيارتان العسكريتان مجدداً حتى وصلنا إلى الحدود السورية.

 

 

وصلنا وبعد؟

-7-

وصلنا أخيراً الى الحدود السورية ... وما تبقّى أهون بكثير مما فات مهما كان ...

توقفنا في موقف السيارات المخصص لنقطة الحدود ...

نزلنا من السيارات نهنىء بعضنا البعض ناسين كل التعب والساعات الطويلة التي قدنا خلالها ...

كانت الساعة قد شارفت على الحادية عشرة ليلاً ...

وتجمعنا وتشاورنا واتفقنا على اخراج كل ما تبقى لدينا من طعام وشراب لانهائها وليأكل من يريد وليشرب من يريد فقد وصلنا الى بر الأمان وفي الصباح سيكون بامكاننا أن نشرب كأس شاي أو فنجان قهوة ونأكل سندويشاً ساخناً ... يا لهذه الأمنية ... كم تمر على الانسان أيام لا يصدق فيها أن كأس شاي أو فنجان قهوة قد يكون حلماً أو أملاً مرتجا.

كان مروان أول من أسرع لايجاد هاتف يمكنه من الاتصال بعائلته ... ولحقه معظمنا ولكن دون فائدة الهاتف العمومي لا يعمل اذن ربما غدا عندما تبدأ الحركة في النقطة لا بد أن نجد حلاً.

الذين رغبوا بالأكل والشرب لم يكونوا كثر، ما أراده الجميع هو الاستراحة والنوم ... أسرع السائقون بالتمدد في السيارات للحصول على أوفر قسط من الراحة فأخيراً صار بامكانهم اغماض عينيهم ... البقية ... منهم من راح يتمشى ... ومنهم من تجمع للحديث ليتركوا المساحات للنائمين وفي نفس الوقت بامكانهم مراقبة السيارات خوفاً من سارقين غير منتظرين.

رحنا نلعب مع الأولاد ونتحدث اليهم ... لا أظننا كنا نعي ما نفعل أو نقول ... كنا نتصرف كمن في الحلم ... حتى الأولاد بالرغم أنهم كانوا متحمسين للخروج من السيارات واللعب الا أن قواهم خارت سريعاً وأرادوا الاستراحة .

جلست على الرصيف بجانب احدى السيارات واستلقى ديمي بجانبي راكناً رأسه على حجري ,, وديما لا زالت ملتصقة بي من الجانب الآخر .. أما رامي فقد مل الجلوس في حضني لا بل قل أن حضني وضلوع صدري يأنون من الألم وملّوا جلوسه .. يومان بلياليهما وهو متمركز في حضني وأعكاس يديه على عظام صدري ... ذلك مؤلم حقاً ...

لم أتململ ... لأن تحركه كان طبيعياًجداً... طفل في الرابعة تجلسه في مكان واحد لساعات طويلة وتطلب اليه عدم الحركة هذا مستحيل ... حركته كانت فقط في يديه لأن قدماه كقدميّ محصورتان ولا يمكن تحريكهما الا بعد فتح باب السيارة.وقد تحمل كل ذلك بهدوء معقول جداً وكأن المحنة تعلم الصبر حتى الأطفال وتمحو الألم ... ولكن الى حين ,, ومتى ارتحت أحسست بالألم ..

جلس رامي بجانب أخته وألقى رأسه على حجرها ...اشتاق اليها والى حنانها عليه لأنها دائما تلاعبه وتسايره ... ومثلنا فعل الجميع ... أردنا قسطاً وفيراً من الراحة قبل أن نبدأ بالتفكير عما ينتظرنا بعد خروجنا ...

ويهجرك النوم ساعة ترغبه ...

اقتربت منى مني قائلة: أنت أيضاً ليس باستطاعتك النوم ؟؟؟

دعوتها للجلوس متأسفة لعدم تكلمي معها كما اعتدنا منذ التقينا ... قالت: لا تهتمي كلنا نحس الاحساس ذاته، كلنا لم نكن نرغب بالحديث ... وأعتقد أن لكل منا ألمه الذي يعاني منه ... لكننا الآن على مشارف النهاية وعلينا أن نتعاضد ونقوى ببعضنا، فجميعنا عليه أن يبدأ من جديد ...

حين قالت تلك الكلمات ... كم رغبت بالبكاء ... كم أردت أن أجهش وأخرج ما في داخلي من مرارة القهر والأسى ... لكن عبثاً ... الغصة تكبر وتكبر ...

كانت لطيفة جداً وهمت بالمغادرة، ولم ترد فرض نفسها وحكاياتها علي... فكلنا متألم وربما لا نحتمل المزيد .. لكنني أحسست أنني أريد أن أسمعها وأفسح لها المجال لتخرج ما بداخلها من الأسى لعلني أتمكن فعل الشيء ذاته وأرتاح .

فسألتها،

وراحت تحكي لي وتحدثني عن معاناتهم، هربهم من منزلهم لأنه على الطريق العام الى منزل أخيها ولو أنه أصغر الا أنه في منطقة أمينة ... خوفها الدائم على ابنتها الصبية من الخطف أو الاعتداء فالأمان معدوم ... وابنها ذو الأعوام الأربعة عشرة كانت دائمة الخوف عليه من اختلاف مع الجيران ومناوشات بشأن اللعب بالكرة أو شراء الخبز الطازج ... أو مجرد الضجر من اللا عمل وذاك أخطر الأمور ... أخبرتني كيف كان أخوها دائماً بجانبه يجد له ألعاباً مسلية ويحمسه على قراءة بعض الكتب التي كانت بحوزته ...

 زوجها عبدلله كان مدير شؤون الموظفين في شركته ومسؤول عن كل عقودهم واجازاتهم وجوازاتهم وكان ذلك عبءاً اضافياً أوقع على عاتقه مسؤولية كبيرة ..

فمنذ اليوم الأول للاجتياح عندما كانوا جميعاً في الشركة وقبل أن يختفي أبو خالد صاحب المال الكويتي أوصاه بجميع الموظفين ورجاه أن يساعدهم كلهم بكل ما يتمكن ... وخاصة توزيع جوازاتهم عليهم ... وأحضرها كلها معه الى البيت وأراد الذهاب اليهم جميعاً لتوزيعها وراح يبحث عن عناوينهم ... لم أتركه يذهب مشواراً من تلك المشاوير وحده أخذت عباءة جارتنا أم أمين ووضعتها على رأسي ورحنا كل يوم نبحث عمن يمكننا أن نجده ويدلنا على آخرين... لا أستطيع أن أصف لك فرحة الناس بالحصول على جوازاتهم والاحساس بأن مدراءهم مهتمون بهم صدقيني كنا بفرحتهم ننسى تعبنا والمخاطرة التي نقدم عليها.

أما الصعوبة فقد بدأت يوم اتصل أبو خالد ليطمئن عنا وعن الجميع ... وعندما سأله عبدلله عن أحواله وأين هو علمنا أنهم مختفون في مكان غريب جداً الا أنه ليس لديهم مؤن كافية ... وأصر زوجي على الذهاب اليه برغم الصعاب ... وضعنا ما تمكنا في صندوق السيارة من أرز ومعكرونة وكعك متوفر وصندوقي ماء وبعض العدس والحمص وكل ما توفر وطبعاً ذهبت معه لكني هذه المرة لم أضع العباءة لأبدو غريبة في حال تعرضنا لمساءلة واتفقنا على التصرف بسيناريوهات عديدة، احداها الا نتكلم العربية أو نقول أننا نبحث عن الجدة ام سعيد ... أعتقد أننا كنا نفكر بحماقة وبلاهة ولو تعرضنا للتوقيف لفقدنا أعصابنا ... لكن الله كان معنا وأوقفنا جندي ولم يسألنا حتى الى أين نحن ذاهبون مع أن المكان مقفر في ذلك الشارع ...

يومها رأيناهم لفترة وجيزة وأقفلنا راجعين بسرعة بعد أن أفرغنا حمولة السيارة واطمأننا عنهم ... في عودتنا أوقفنا الجندي مجدداً وقد شك بعودتنا السريعة فتداركت وقلت يبدو أنني أخطأت في عنوان صديقتي وزوجي قرر ألا يأخذني اليها أرجوك كلمه لنبحث أكثر فقد نجدها ... قال : روحي يا اختي واسمعي كلام زوجك ...

لم ينبس زوجي ببنت شفة وأسرعنا مقفلين ونحن نرتجف من الخوف.

كانت تحكي وتحكي وكأنها تخبرني حوادث حدثت لآخرين دون تأثر أو بكاء ... لو كنت مكانها لما استطعت حتى التفكير بكل هذا ... هل أحسدها ؟؟؟ هل أحاول أن أتكلم كما تفعل ... عما حدث وأخبرها كيف ولدت مريم ؟؟؟ وكيف تركنا منزلنا مرة أخرى ؟؟؟

وكأنها قرأت ما يدور بخاطري وقالت: الأفضل أن تتحدثي عن صعابك ومعاناتك ... صدقيني سترتاحين أكثر لو فعلت ... 

وراحت تسألني عن الأيام التي قضيناها وكيف قضيناها ... ومن رأينا من المعارف الا أنني كنت أجيبها باختصار شديد لم أستطع أن أتحدث كما فعلت ... لم أستطع ...

قالت: يكفي هذا، لنرتاح قليلاً ... قريباً سيكون آذان الفجر ... 

مجدداً حاولت النوم ... دون فائدة ... راحت أفكاري تسوح وتبتعد بعيداً ...

كثيرون أفكر بهم ... كما فكرت طول الطريق ... أمي، حماتي وكل من خرجوا قبلنا .. هل وصلوا ؟؟؟ هل يمكن أن يكونوا بعد على الحدود في الرويشد ؟؟؟ هل تمكنوا من العبور بسهولة مثلنا ... بعض الأشخاص هناك قال أن الازدحام بدأ منذ يومين أما قبل ذلك فقد كانت الأمور أفضل ... أتمنى أن يكونوا قد غادروا حينذاك ... مريم ... طفلتي مريم ... الآن فقط بامكاني التفكير بها ... قبل الآن كان تفكيري مشلولاً ومأخوذاً دقيقة بدقيقة في الطريق التي نسلكها ... كان تفكيري مقيداً بكل قطعة أرض نغادرها والسيارات التي تسبقنا ونسبقها ... وكأننا خارج الزمان والمكان ... أما الآن فقد عدنا الى الواقع ... ترى ما هي الأخبار التي تنتظرنا عند وصولنا ؟؟؟ هل كان لديهم ما يكفي من الماء ... ترى استطاعت مريم أن ترضع ثدي أمها ؟؟؟ هل كان المكيف في السيارة جيد ... هل توقفوا طويلاً على الحدود ؟؟؟ هل عاود الاسهال على سليم وأزعجهم في الطريق التي لا مراحيض فيها.

أسئلة ... أسئلة كثيرة ولا جواب ... وتمر الساعات بطيئة لكنها دون شك أهون بكثير من تلك التي قضيناها خلف المقود.

كان هدوء الليل يبعث هدوءاً غريباً في النفس ... أهو هدوء الليل أم هو هدوء النفس ... أم هو هدوء المكان حيث الجميع نيام.

وتبدأ تباشير الصباح بالانبلاج وأول خيوط النهار بالبزوغ ويعلو آذان الفجر فتسمع الأصوات تردد يا رب ... يا فتاح يا رزاق ... 

وبدأت الحركة بطيئة في المكان ...

وصل عمال الكافتيريا للتحضير والتنظيف فوجدونا بانتظارهم وبانتظار كأس الشاي وفنجان القهوة الصباحي.

لا زال أمامنا يوم طويل ... يوم هو بداية النهاية.

كان مروان أول من أسرع للبحث عن الهاتف ... وجده ، قالوا انه يعمل ... جرب وجرب بكل الصعوبة واستطاع أخيراً أن يتصل بزوجته ويطلب منها اعداد الطعام للجميع طعام الغداء وربما الفطور اذا كنا محظوظين ... وللصعوبة لم يجرب آخرون اجراء المكالمات ...

شربنا الشاي والقهوة ثم راح الرجال لانهاء المعاملات وختم دفاتر السيارات واستعددنا للعودة الى السيارات بعد أن اتفقنا على المساعدات التي سنقدمها بعضنا لبعض في نقطة تفتيش الجمارك لأن الأغراض مكدسة بشكل يصعب انزالها بسهولة ودون مساعدة الجميع.

 كانت الساعة قد قاربت التاسعة عندما انطلقت القافلة متأهبة لعبور نقاط التفتيش الجمركي.

وصلنا نقاط العبور ... فاذا هي مفتوحة ... لا تفتيش ... لا انزال أغراض ...

لم نصدق ...

قالو: الأخوان قادمون من الكويت أهلاً وسهلاً ... ليساعكم الله ... لدينا أوامر مشددة بتسهيل عبوركم ... نحن نقدر ما عانيتم ولا نريدكم الا أن تصلوا الى بيوتكم سالمين.

فوجئنا جميعا ً وسررنا بالتأكيد ... لكننا لم نقف الا لشكرهم وقصدنا دمشق.

لم نتوقف الا أمام بيت مروان وقد كان في الضواحي قبل الوصول الى دمشق.

أراد مروان أن يصعد الجميع الى منزله قبل أن نفترق الا أن المجموعة المغادرة الى بيروت فضلت الاسراع بالمتابعة للوصول المبكر فالجميع ينتظر ... ولم يستطع منعهم وبدموع الفرح ودعناهم جميعاً وتمنينا لقاءاً مجدداً قريباً.

استقبلتنا عائلته بكل الدفء، وبالزغاريد وقد كنا بحاجة الى ذلك حقاً. نريد جميعاً الوصول المبكر الا أنها كانت وقفة فرح وحنان أعطتنا الكثير من القوة.

طلب مروان من كل منا الاتصال بأهله أينما كانوا ... لكن الاتصال الداخلي في محافظة دمشق أسهل وأقل كلفة ونحن لا نريد أن نزيد الكلفة عليه ... لذلك تذكرت رقم هاتف أمل قريبة زوجي ... كان رقمهم سهلاً وكنا دائماً نتبارى بتذكره ...

- ألو أمل ... صباح الخير ، نحن هنا في دمشق ...

وانفجرنا معاً بالبكاء ... لم تصدق .. تابعت ترديد عبارات الشكر لله والتنهد ثم تماسكت وقالت: نحن جميعاً بانتظار خبر منكم .. كلهم قلقون جداً ... تعالوا أين أنتم ؟؟ هل آتي لاحضاركم ؟؟؟

وتماسكت أنا وقلت: نريد الوصول الى حلب ... صدقيني نحن بخير الا أننا  تعبون جداً وبحالة يرثى لها وليس لدينا سيارة ... سيأخذونا الآن الى كاراج السيارات وسنكون قريباً في حلب ... أخبريهم أرجوك وطمئنيهم ...

قالت: طبعاً سأتصل بالجميع ... والدتك خاصة ولو أن الوقت ليلاً في أميركا الا أنني سأوقظها لأنها على أحر من الجمر ...تصلون  بالسلامة وسأتصل الى حلب لاحقاً وأطمئن عن وصولكم .

لم تستطع الاصرار ... تفهمت اصراري دون أن تؤلمني ... لم أتوقع أن الكلام مع الأحباء سيكون مؤلماً لهذا الحد ...

أوصلنا أحد أقرباء مروان الى مكتب السيارات لنستأجر سيارة خاصة توصلنا الى حلب ...

شرح زوجي للموظف بأننا قادمون من الكويت، ولن نستطيع الدفع مقدماً كما هو المعتاد بل سندفع عند الوصول ... لم يستطع الموظف اقرار ذلك وطلب حضور المدير ... وراح زوجي يشرح مجدداً للمدير الأسباب التي دعتنا لطلب هذا الاستثناء والدفع عند الوصول ... نظر الينا والى الأولاد خاصة وقال: الكويت نعم نعم ... سمعنا ما حدث معكم، أرأيتم ما نابكم منها الا أتعابها ... وقرأنا في عينيه مشاعر مختلفة أهي الشفقة ؟؟؟ لا يمكن أن تكون شماتة لا ... أظننا أردنا أن نقرأ الشفقة في عينيه لا الشماتة ... وافق بعد تردد ... وتفهم وضعنا ... هل هذا هو الوضع المنتظر ... الشفقة أو الشماتة ؟؟؟

ركبت في الخلف وأنا أحضن أولادي الثلاثة ... ووضع زوجي الحقيبة اليتيمة في صندوق السيارة ... استغرب السائق وقال: هذه فقط ؟؟؟ نحن نرى السيارات القادمة من الكويت محملة بشتى أنواع الأغراض وأنتم عائلة كبيرة ومعكم هذه فقط ؟؟؟

لم يكن لدى زوجي القوة للشرح فاختصر ...

جلس في المقعد الأمامي وراح يتحدث الى السائق محاولاً مغالبة النوم ... أحس السائق بهذا، فقال له: سيدي، تبدو متعباً جداً انظر الى عينيك في المرآة هما كقطعتي جمر ... يبدو أنك لم تنم منذ وقت طويل ... اطمئن أنا أجيد القيادة ولن أسرع وأنا مرتاح وهذا أول مشوار لي اليوم لا تقلق يمكنك الاستراحة والنوم .

ابتسم زوجي ... وأرخى رأسه على المقعد وغط مباشرة في نوم عميق وكذلك فعلت أنا بعد أن نام أطفالي من شدة التعب ...

ربما كانت هذه أقصر رحلة الى حلب لأننا قضيناها نائمين مرتاحين في سيارة مكيفة ... عادة ينزعج الجميع من الطريق الطويل للوصول الى حلب.

ما ان بلغنا مداخل حلب ... أيقظنا السائق قائلاً: الحمدلله على السلامة .. الى أين القصد ؟؟ قال زوجي مركز المدينة أولاً موقف سيارات الأجرة حيث مكتبة قريبنا لتأمين المال.

استيقظنا جميعاً ورحنا نمتع أنظارنا برؤية الأشجار الجميلة المزروعة على طول الخط في مداخل حلب ... وبعد ؟؟؟ وصلنا ... ماذا ينتظرنا ؟؟؟ غموض كبير يلف الأفق ومدارس الأولاد على الأبواب ... ما الذي ذكرني بالمدارس ؟؟؟ ربما مرورنا بجانب معهد حلب العلمي ... هل يجب أن نسجل الأولاد ؟؟؟ ولكن هل سنبقى في حلب ؟؟؟ لا أدري أين سنذهب ؟؟؟ بالتأكيد سنبقى ... ربما سأبقى أنا على الأقل لفترة حتى تتضح الأمور وبالطبع لا يمكننا ترك الأولاد بلا مدارس ... المدارس لها توابعها يا ربي كيف سنتحمل كل هذه المصاريف فجأة ؟؟؟ طبعاً لن يتركونا ولكن هل سنسترجع فلوسنا القابعة في البنوك الكويتية ؟؟؟ أم خسرنا كل شيء كما خسرناها في المرة الأولى عندما غادرنا بيروت ؟؟؟ لماذا أفكر الآن بكل هذا ؟؟؟ طبعاً يجب أن أفكر ... سنتدبر الأمور نعم سنتدبرها ... سيساعدنا الجميع ...

قصدنا مكتبة ابن خالتي الذي رحب بنا ترحيباً حاراً وأسرع لاحضار المال واعطائه للسائق وقال بفرح كبير ... اسبقوني وسألحق بكم ... الحمدلله اطمأننا عنكم ...

الجميع زغرد لوصولنا وكنا الفرح المنتظر ... وفي خلال نصف ساعة وصل الجميع الى البيت لرؤيتنا من الأقارب ونحن بين الاغتسال والراحة ... نريد الاطمئنان عن بقية الأصدقاء هل وصلوا أيضاً بخير ؟؟؟ قالت حماتي لينة ومي على اتصال دائم وقد أخبرناهم اليوم بوصولكم لكنني لم أعرف لأسأل عن البقية ...

واذا لينة على الهاتف

قلت: ألو لينة، وانخرطت في البكاء،

وبكينا معاً ... حتى استطعنا التماسك ...  

قالت لينة: نعم وصلوا جميعاً وهم بخير، جورجيت ومريم بألف خير ذهبت لرؤيتهم البارحة ...

 

وكأن جبلاً آخر من الهم انزاح عن كتفي ... واستطعت البكاء بحرية ... دموع الفرح.

بكينا كلما تحدثنا مع أحد ... كل من هاتفنا بكى وبكينا نعه ... كان علينا أن نعيد ونعيد القصص والمأساة والعذاب والتعب ... وحكاية المرحاض المفتوح وملاقاة السفير اللبناني وقدوم الأمير الأردني الى آخرها ...

 

عندما كنت أغتسل كنت أفكر ... كم يكون رائعاً لو كان بامكاننا غسل التجربة الصعبة التي مررنا بها كما نغسل أجسادنا وثيابنا ... وننتشلها من مخيلاتنا ... يبدو ذلك صعباً فقد انطبعت الحوادث في مخيلاتنا وجرت مصاعبها في دمائنا وتدفقت آلامها في قلوبنا ... أمرر يدي على أوجاع جسمي وأتألم لكني أعرف أن هذه الآلام ستزول قريباً... وسأنساها بعد حين ... ليت الأمور كلها كذلك ... ليت وجع الروح مثل وجع الجسد ؟؟؟

 

عندما تكون واقعاً في المصيبة تحس بقوة عجيبة أو على الأقل هذا ما أحس به أنا ... قوة عجيبة على التحمل وتوقع الأسوء والرضى بأن الأمور ممكن أن تكون أبشع بكثير ... وبامكانك استحضار أمثلة كثيرة وسرد حكايات طويلة تثبت ذلك ... لذا تتماسك وتلملم ما تعتقده تفتت وتكسر وتحتمل ... حتى تصل الى بر الأمان حينها تنهار ... تحس بكل آلامك ... كل عظمة من عظامك تئن وجعاً ... كل زوايا نفسك المقهورة تنوح ألماً... تغرق في أمواج لا تعرف الهدوء والسكينة ... وتتساءل ؟؟؟ وبعد ؟؟؟

كنت أعتقد أننا سترتاح فترة من الوقت قبل أن نبدأ بالتفكير بالخطوة التالية ... ربما شدة تعبنا جعلتنا نظن أننا سنرتاح  ولكن ؟؟؟

قالت ليلى: يجب أن نجتمع ... بعيداً عن كل ضوضاء ... فلقاؤنا معاً سيقوينا ويساعدنا على التفكير معاً ... فأوضاعنا متشابهة.

قالت مي: تأتون جميعاً الى بيتي، لن أدعو الا مجموعتنا وباستطاعتكم التكلم براحة والأولاد مشتاقون للعب مع بعضهم فلن يزعجونا ... يجب أن نلتقي قبل أن تسافر جورجيت وريمون الى أمريكا.

وفعلاً كان لقاؤنا بلسماً ... كان يجب أن نلتقي ونتحدث ونستمع ونبكي ونضحك معاً ونغضب ونكشف مخاوفنا فجميعنا نعاني من الشيء ذاته ... ووجعنا مشترك .

كان يجب أن نحكي لهم قصتنا ويحكوا لنا قصتهم ... القصص المضحكة المبكية ... اضاعتنا للطريق والدخول في المناطق العسكرية ... المرحاض المكشوف .. السفير اللبناني والأمير الأردني ...

وهم راحوا يحدثونا عن طريقهم التي بدأت بالصعاب ثم تسهلت ... عدا التأخير الذي حدث بسبب الاسهال الذي أصاب سليم بدأت العراقيل عند مداخل البصرة حين أوقفهم ذلك الجندي العراقي وأصر أن تقول له جورجيت أن طفلتها ولدت في العراق ... ولم يعجبه جوابها عندما قالت أنها ولدت منذ اسبوع في الكويت ... كانت تغلي وهي تحكي لنا غضبها وثورتها وكيف كانت ليلى تضغط على يدها لتهدئتها كي لا تتفاقم المسألة ... وكأنما أرادت أن تعاقبه على كل القلق الذي عانت منه. وأخيراً تركهم يغادروا بسلام.

وبعد ذلك سارت الأمور بالتسهيل ...

 وأخبرتنا ليلى عن الهلع والخوف حين توقفوا ليلاً في الخلاء ليناموا قليلاً حيث استعمل الرجال والأولاد مع ليلى أكياس النوم التي جلبوها لهذا السبب وتمددوا بجانب السيارات وبقيت جورجيت مع مريم في احدى السيارات وهدى في الأخرى للحراسة والتمدد ... وتركوا نوافذ السيارات مفتوحة بالتأكيد للتنفس فالحر شديد حتى ليلاً ...

نام الرجال سريعاً من شدة التعب ... وكذلك الأولاد، أما دانة ابنة السنتين فلم تستطع النوم وراحت ليلى تهدئها وتغني لها حتى غفت وكانت تضمها بالرغم من الحر الشديد ويبدو أنها غفت أيضاً...

كانت جورجيت ترضع مريم عندما انتبهت لتلك الكلاب البرية الكبيرة الحجم تقترب منهم ... وضعت مريم بجانبها بكل هدوء حتى لا تبكي وتصدر أصواتاً ترعب الكلاب ... فربما هم كلاب شرسون ... وحاولت ايقاظ ليلى ... دعتها باسمها مرتين بكل هدوء ... استيقظت ليلى وللحظ لم ترى الكلاب مباشرة والا لخافت وصرخت وربما جعلت الأمر صعباً للغاية ... حاولت جورجيت أن تفسر لها الأمر ... نظرت ليلى بكل الخوف وتساءلت ماذا نفعل  ؟؟؟  وبخبرتها الكشفية واستذكارا لكل التمرينات هدأت وأشارت الى جورجيت بالصمت والهدوء فان المحافظة على الهدوء تبعدهم ... كانوا يشمون الأقدام ويلحسونها ... هل سيتوقف الأمر عند هذا ؟ ... بدأت ليلى تفكر بآلة حادة أو ثقيلة يمكن استعمالها في حالة طارئة ... وبدأت تصدر أصواتاً خفيفة كحك الحجارة المجاورة تعبيراً عن حركة ما واذا بهم يبدأون بالابتعاد وبقيت الأمور بحدود الشم واللحس وغادروا بعد أن تركوا قلوب الأمهات ترتعد من شدة الخوف ... والرجال يغطون في نوم عميق من شدة التعب فلا الشم أحسوا به ولا اللحس.

في نقطة العبور العراقية تسهلت أمورهم عندما استلم الأوراق ضابط شاب يبدو أنه أصبح أباً منذ وقت قصير فأشفق عليهم عندما علم بأمر الطفلة الوليدة وبدل أن يصعب الأمور كما يفعل الجميع أسرع بانهاء معاملاتهم ...

في نقطة عبور الرويشد، طال انتظارهم سبع ساعات لكنها لم تكن مستحيلة ...

أما أمور المرحاض وقضاء الحاجة وهي الهم المشترك لكل المغادرين ... فراحوا يحدثونا عن سليم الذي اضطر أن يتوقف عدة مرات على جانب الطريق في اليوم الأول ... وكيف جعلوا ذلك الأمر مسلسلاً فكاهياً لتسلية الأولاد الا أن قلقهم عليه كان يكبر حتى ارتاح وتوقف الاسهال في اليوم الثاني .. بعد أن كانت المياه قد شارفت على الانتهاء ...

اضطروا للدخول الى بغداد برغم الخطر وحاولوا البقاء هناك لليلة واحدة ... الا أن الاستغلال المتفاقم للظروف كان في أشده بحيث كانو يصطنعون عدم وجود غرف ليدفع المحتاج للغرفة مبالغ طائلة مقابل غرفة واحدة ويقضي الجميع الليل فيها... لكنهم لك يقرروا البقاء وفضلوا المتابعة بعد ان استعملوا المراحيض وشربوا القهوة والشاي وتناولوا بعض السندويشات ... وغادروا ... واشتروا في طريقهم صندوقي ماء ولم يندموا أنهم أضاعوا خمس ساعات فقد  ساعدتهم على الاستمرار ...

 

والآن ماذا ؟؟

هل سنبدأ بمتابعة الأخبار ومستجدات الأحداث لنتأكد ان كان بالامكان العودة أو لا ؟؟ أو متى سيكون بامكاننا أن نفعل هذا ؟؟؟

هل سننتظر شركاتنا للاتصال بنا ودعوتنا للعودة ؟؟؟ كم سيطول بنا الأمر هكذا ؟؟؟ هل سنتحمل انتظار المجهول والى متى ؟؟؟ لكل منا عائلة وأطفال .. المدارس على الأبواب ... هل نسجلهم ؟ طبعاً يجب أن نسجلهم ... بدأنا بالفعل والأمر يبدو صعباً وليس بالسهولة فمثلنا كثيرون والمدارس امتلأت بالرغم من أن الحكومة أصدرت قراراً لاستيعاب الأطفال القادمين من الكويت وقد يفتحوا لهم صفوفاً خاصة ... كيف تقرر بهذه السرعة في أية مدارس تلحقهم والمدارس الخاصة أقساطها عالية ... وجميعنا بلا عمل ...

 هل نجد لأنفسنا أعمالاً مؤقتة أم دائمة ؟؟؟

هل نبقى مع الأهل أم نستأجر بيوتاً عندما نكون هنا في اجازة الأمر مختلف ... كم سيطول الأمر بنا ؟؟؟

اسئلة كثيرة وكثيرة ولا جواب لأي منها ولا حتى توضيح ... الجميع في دوامة ... هل كان محقاً من أصر على عدم الخروج ؟؟؟ هل ان معاناتهم أقل من معاناتنا ؟؟؟ هي ظروف غير متشابهة الا في قسوتها ...

يجب أن يفكر كل منا ويحاول البدء ... بانتظار ما سيحدث ... يجب أن نتغاضى عن كل مشاعر الشماتة التي يحيطنا المجتمع بها حتى مشاعر الشفقة ... يجب أن نبدأ من جديد  ...

 

نعم اتفقنا أن أهم ما يجب فعله الآن هو الاستراحة لنتمكن من التفكير السليم ... قلقنا هذا واضطرابنا لن يفيد ولن يساعدنا مطلقاً.

 

عندما حملت مريم بين يدي مجدداً ... ووضعتها بجانب قلبي واقترب خدها من خدي 

قلت : الحمدلله فعلاً نحن بخير ... مريم طفلتي التي ليست لي خلصت ونجت وها هي بخير ... تحظى بكل العناية والحب والدلال من أهلها والأقرباء ولكن أين هدايانا الموعودة والحفلات المنتظرة ... وضحكنا جميعاً ضحكة مبكية ... من يقوى على الحفلات في نفسية مشابهة ومن تتحمل ميزانيته الهدايا فكلنا مفلسون وما تدايناه من أهلنا وأصدقائنا لا يسمح لنا باحضار الهدايا ... لا بأس ستتحسن الأيام وسنعوض كل شيء ... حينها قالت مي: سأسمح لنفسي بتقديم هديتي لمريم ... لم أجرؤ في البدء خوفاً على مشاعركم ... لكن بما أننا اخوة ونتفهم بعضنا البعض اسمحوا لي أن أقدمها لأنني اشتريتها حتى قبل ولادتها.

فتحت جورجيت الهدية ونظرت الي ... وانفجرت بالبكاء ... يبدو غطاء قطنياً أبيضاً لمريم... فهمت وأسرعت اليها وضممتها دون أن أنظر هل يشبه ذلك الغطاء الذي تمنت شراءه من مجمع زهرة .. وتساءلت مي والجميع ما عسى أن يكون الخطأ في هذه الهدية ؟؟

وحكينا لهم حكاية الغطاء الرائع الجمال ... وقالت جورجيت: اعذروني ... لم أتحمل الصدفة ... شكراً لك يا ميّ انه غطاء رائع وأعتقد أن الله أرسله لي رسالة لألف به ابنتي حين سنغادر الأسبوع المقبل ونبدأ حياتنا من جديد هناك ... سيكون هذا الغطاء ذكراكم جميعاً أتقوى به في غربتي الجديدة ... وكلما احتجت لكلمة منكم سأضم ابنتي به وأذكركم جميعاً وقبل أن ننفجر جميعاً بالبكاء صرخت: الكاميرا أين الكاميرا ... تعالوا يا أولاد هذا لقاء نادر يجب أن نتصور جميعاً ... وصرخ بي الجميع كالعادة حتى هنا تلحقيننا بالصور ... ولا تنسين أبدأً ...

ومنذ ذلك اليوم لم نلتق جميعاً الا فرادى ... كل وجد لنفسه طريقاً جديداً أو عاد الى طريقه القديم بعد أن انتهى كل شيء ... 

 

الطبعة الأولى 2005

المراجعة اللغوية والتدقيق: هناء كرم

التنسيق والإخراج والمونتاج: هارموني لخدمات التصميم والطباعة - حلب/سورية

المطبعة: دار ربيع للطباعة والنشر - حلب/سورية

حقوق الطبع محفوظة للمؤلف

بريد الكتروني: hanasaba77@hotmail.com

 

 

أضيفت في 14/02/2008 / خاص القصة السورية / المصدر: الكاتبة

 

 

كيفية المشاركة

 

موقع  يرحب بجميع زواره... ويهدي أمنياته وتحياته الطيبة إلى جميع الأصدقاء أينما وجدوا... وفيما نهمس لبعضهم لنقول لهم: تصبحون على خير...Good night     نرحب بالآخرين -في الجهة الأخرى من كوكبنا الجميل- لنقول لهم: صباح الخير...  Good morning متمنين لهم نهارا جميلا وممتعا... Nice day     مليئا بالصحة والعطاء والنجاح والتوفيق... ومطالعة موفقة لنشرتنا الصباحية / المسائية (مع قهوة الصباح)... آملين من الجميع متابعتهم ومشاركتهم الخلاقة في الأبواب الجديدة في الموقع (روايةقصص - كتب أدبية -  مسرح - سيناريو -  شعر - صحافة - أعمال مترجمة - تراث - أدب عالمي)... مع أفضل تحياتي... رئيس التحرير: يحيى الصوفي

الثورة السورية | ظلال | معاصرون | مهاجرون | ضيوفنا | منوعات أدبية | دراسات أدبية | لقاءات أدبية | المجلة | بريد الموقع

Genève-Suisse جنيف - سويسرا © 2024  SyrianStory حقوق النشر محفوظة لموقع القصة السورية