حفلة
في حاوية زبالة
هل أنا كما أنا أم صرتُ شخصاً لا أعرفه؟ أين هم أصدقائي؟ لماذا مَن يشبهني
تصدَّت له الحياة وبقي مَن لا أشبهه؟
ثمة مَن لا يتشابهون لماذا لا أكون واحداً منهم؟
من أين يأتي كل هؤلاء؟ هل حدث أن جاءوا بعد تكسِّر صحون وثورة واندلاع أكواب
ماء من مخمور زعق بزوجته غاضباً ثم أدرك شناعة فعلته وانزوى في غرفة نومه
كحيوان غوغائي؟
لم أفاجئ أحداً بإساءة قط ،بل كانوا يضعونني في برَّادهم لأكون المريح لعسر هضم
أو لقمة محشورة في بلعوم، عسر الهضم لا يأتي جزافاً بل من لقف ولهف اللــُّقم
السريعة الدسمة
.
اللقمة الدسمة لها صيادها الماهر بينه وبين الحلال لعنة الفلس وبين الفلس ويديه
صداقة دائمة، قابضة حيناً وفاردة حيناً، بل ما أقل أيَّامها المفرودة وما أكثر
ساعاتها القابضة خاصة حين يطرق الباب صاحب حاجة أو عوز.
تنبسط وقت التظاهر بصفات الكرم لضيف صاحب نفوذ أو جاه، صاحبٌ يحافظ على امرأة
واحدة ويعبث بعشرات، أو لشخص يتمتع بإجازة ضمير أو فيلسوف يفلسف الأمور على
هواه ووفق رغبته وأطماعه.
لكل شيء بالحياة تألـُّمه، من حقي أن أتألـّم أحياناً الألم العميق يتحول إلى
فرح، اليوم أنا جداً فرح لأني سمعت أصوات سكارى جاهدوا لتتصلب أجسادهم ورموا
علب بيرة فارغة، حقيقة الإنسان تافه لماذا يتصرف المخمور ذو الشعر الطويل هكذا
ويبلل رأسي؟ لم يحلُ له غير صفيح الزبالة ليفرغ ما بمثانته ربما هناك من
سيعامله بالمثل، أو يملأ مثانة الحياة لتفرغ ما بداخلها عليه.
يمكن العـُرف هو الفساد أو من شروط الحيوية أن تتخلى عن زوجتك وتلاحق الكلاب
بين الحارات، الكلاب همَّها حراسة سكان صفيح الزبالة وهم همَّهم ما بعد هذه
المرحلة.
نطّت قطة شاردة من مطاردة قط واختبأت بين علب كوكاكولا وسفن آب،
تعثرت بزجاجات النبيذ وأطلقت ليديها حرية النبش عن عظمة أو قطعة لحم من فضلات
ابنة وزير أو ابن مومس. حين لم تجد ما يغري حاسة الشم نطت راكضة تستدرج القط
إلى صفيحة أخرى.
أنا فارغ شربوا مائي ورموني والباقون لهم رائحة الجثث، نحن كائنات حية، ماء،
خضرة، زهور، فاكهة، لحم، سمك، بط، كلنا كائنات حية لكن الأنذال متساوون بالإثم،
ديمومة حياتهم بقتل حياتنا.
يتشابهون فيما يكمن بنفوسهم، ويختلفون فيما يكمن بجيوبهم وعقولهم وضمائرهم. نحن
نتشابه بفطرتنا بسجيتنا المتواضعة الصامتة.
قررتُ أنا بُطل الماء أن أفاتح بقيَّة أخوتي بما لا يزعج الجيران ولا يغيّر
طراز حياة الشاذين أو خدم المطابخ المنزعجين من مسرح أحداث لا يجرؤون على رفضها
أو انتقادها ولو طرفة عين، أن نحتفل مثلهم.
من يسكن خارج الصفيحة مشروع تربوي ونحن مشروع نتن، هم من أصول نبيلة ونحن
المُحتـَـقـَرون المُهانون المستسلمون للتقطيع والنهب النهم ولكل الأفعال
المقتدر عليها من قبل ما اسميهم نبلاء الأفعال.
إذاً لنرقص أحبتي احتضنوا بعضكم ارقصوا دوروا في حدود مساحة الصفيح، مجـِّدوا
لذتكم وشعوركم بالبهجة، لستم البائسين وحدكم.
الأغنياء بائسون، هم لصالح الخلاف يرقصون ونحن لصالح التصالح مع بعضنا نرقص،
ارقصوا هذا زمن الرقص.
علب المشروبات الغازية مجَّدت من تراقصه وانتشت، بطل نبيذ بطل عرق بطل وسكي
المهم بطل، أنا لم أعثر على بُطـْلة ، دعوني أأنـِّث اسمي، منذ أن خلقني صانعي
وهبني اسم الذكور، أعرف أن زوجته لا تلد له الذكور لذلك أعطيته الحق وقت صنعني
وهبني اسم بطل أو ربما هو شاذ ، إذا كان شاذاً سأعذره.
لماذا لا أراقص شبيهي، دعوني أبحث عن شبيهي، في الخارج كلٌ وشبيهه يرقص.
المتشابهون يرقصون، يلعبون، يشتمون المهم الرقص. القاتلون متشابهون والمقتولون
أيضاً، أنا مَن يشبهني؟
الفئران يمكنها التفوق على الرقص، تدخل بيوت الأثرياء وترقـِّصهم على الحبل، لا
أحد يلحقها، سرعتها خفيفة حتى القطط المدللة في المنازل لا تستطيع كونها تعودت
تصحو متأخرة بعد سهرة طويلة قرب سيدتها أو سيدها، سمنت وثقلت.
هي الآن ترقـِّص مجتمع الصفيح على الحبلين، كلـَّما اهتز الصفيح وفاحت رائحته
تجمعت أسرابها فاردة شواربها باتجاه العطن، وكلـَّما عبثت ريح بالعطن تدحرجتُ
أنا إلى التيه.
مسكين مجتمع الصفيح كل من جاء رقـَّصك.
سلالة أسرتي اسمها نبع كيف أصلها وأمتلئ؟
حين أمتلئ أثقل وبوزني أعاند الريح لأتخذ مكاناً أو شارعاً لا تتسيد فئرانه.
منذ هروبي من صفيح الزبالة مازلت صفيح محاولاتي أنكبُّ على رأسي
أنهض وأقع متخيلا أن مؤنث بطل سيصنعها ماهر في مصنعه زوجته لا تلد الإناث
فيسميها" بُطلة أو يدللها " بُطيلة"، كل ما أتمناه أن صانع شبيهتي بُطلة لا
تكون امرأة شاذة حيث هنا لا عذر.
غزو جراد
يبدو أنـِّي نمتُ كثيراً أو صحوتُ متأخراً، دائما تنتابني مشاعر الالتفاف حول
الذات حين أنهض من الفراش، ليس نكراناً للآخرين بل سعياً إلى جماليَّة التأمُّل
من أجل استجواب نفسي ومحاسبتها عن أخطائها قبل أن يحاسبها الآخرون.
بما أنَّي أنتسب إلى هذا العالم لا بد أن أدخل معه في زمانه ومكانه وشكله، فلو
نظرتُ له من منظوري الخاص سأنعزل بوعي أو دون وعي منِّي وسأعثر له على ألف
حجَّة وحجَّة للتبرير.
بإصرار حاولت الخروج من الذات وتخطـِّي عزلتها، حبي للزهور التي شتلتها لا يوصف
وعلاقتي الخاصة معها أتاحت لي فرصة مناسبة لأنخرط بتفاصيل يوم جديد، ما إن
فتحتُ باب الحديقة حتى هاجمني سرب جراد والتصق بشعري دخل جيوبي وتكوَّم كثير
منه على وجهي، حاولتُ إزاحته لأتأكد من عدم التهامه زهوري وعبثه بأشجار التفاح
وأشجار أخرى عزيزة على نفسي، لم أجد غير هشيم رغم نظرتي الخاطفة.
أدركتُ شناعة ما أنا عليه من دخول ثلاث جرادات بعيني ، كل ما في الحديقة أخذ
ينظر بشرر رغم هشيمه ، دخلتُ مسرعاً وأغلقتُ الباب باندفاع وحمَق وتذمّر، نكثتُ
كل الجراد ، فرحتُ عندما رأيته يتجمع على بلاط المطبخ، رششته بمبيد الحشرات
أتقافز من زحفه على قدميَّ ، سرني انتصاري عليه ، فركتُ عيني بحدة لما أصابها
من حرقة قوية بسبب ثلاث جرادات التصقن ذلك لأني تركتُ عيني مبحلقة بقوة دفاعاً
عن سلامتها متأكداً أنَّ التصاق الجرادة الأخيرة سيزول بموتها.
غسلت وجهي وعطـَّرت جسدي كله لتعقيم أي أثر يسبب حساسية ما، لكني استعجلت
الخروج للطبيب إزاء طفح أصاب جلد يدي وتورُّم في عيني اليمين.
سلوك غير عادي في الشارع كما أن شكل الشارع غريب، ليس على غرار الشوارع التي
ألفتها، وليس التاريخ واحد أبريل ليفاجئني يومه بمزحة غريبة ويتفرَّج على
غبائي. كل شيء لونه بلون الجراد، أبواب البيوت النوافذ ممرات الشارع المخصصة
لسير الأفراد، كل شيء حتى أكياس النفايات قرب البيوت اكتست الجراد.
خفت أن تفوتني فرصة تدوين ملاحظاتي الآنية عن أي حدث، مددت يدي لأستخرج القلم
والدفتر الصغير لكني لم أستخرج غير جراد، وفيما أنا باستغرابي مرّت جرادة كبيرة
تدفع جرادة صغيرة في عربة متجهة صوب محل البقال، بملاحقتي لها ومراقبة دخولها
وجدت البقال ذاته جرادة كبيرة ترتدي قبعة لونها جرادي.
اقترب مني جراد ذكَر يحمل بيده البريد بعد أن نظر إلي طرق الباب الأول في
شارعنا، خرجت أربع جرادات بملابس مدرسية بينما الجرادة الأم استلمت الرسائل من
يده.
لا أعرف ما أصاب الشارع وما الذي حصل اليوم، ومَن الفاعل والمسبب لوضع غير
مألوف؟ حتى الحافلات على شكل جراد كبير بداخله ركـّاب من جراد.
ثمة خوف يقودني إلى الركض واللجوء إلى عيادة الطبيب، العيادة قريبة من داري في
نهاية الشارع الذي أسكن قرب كراج لتصليح السيارات، لم أكن مـُستعَدّاً لطرح
أسئلة على نفسي لهول ما رأيت، فوجئت بأن كل ما فيه جراد من الميكانيكيين إلى
السيارات إلى علب الزيوت.
حين دخلت العيادة مسرعاً اكتشفت أنـِّي جئت أعالج نفسي من الجراد وأتقبل لحظة
"جَراديـَّة" ابتداءً من الممرضات وانتهاءً بالطبيب الذي سلـَّمني وصفة
غريبة لم افهما إلا وقت سلـَّمني الصيدلاني الجرادة دواءً قرأتُ على غلافه(
مـِلـْتي جراد) ، برمتُ شفتي وتوقعتُ الطبيب الجرادة حين وجد أنِّي مصاب بفقر
جرادي وصف لي مجموعة فيتامينات من عصير الجراد.
في طريق عودتي وعند رأس الشارع المؤدي إلى داري اشتريت من بائعة الصحف "جرادة "
صحيفة اليوم ، قرأتُ عنوانا ً كبيراً تصدَّر الصفحة الأولى:
((
بجهود وتجارب عالم الأحياء البروفسور
"GARAD"
وإصراره بالقضاء على حشرة مصابة بفقر الدم اكتشف مبيداً فعالاً للقضاء عليها))
أما بقي العناوين غير واضح لمفهومي الإنساني.
تصفـَّحتُ الجريدة من الأسفل إلى الأعلى ومن الأعلى إلى الأسفل فهمتُ أن
الإنسان ليس مقياساً لتحديد الإنسانية بمفهوم الجراد، ما هو إلاَّ ترهات لا
أخلاقية وأنه حيوان خطير على الحياة.
ليلة
ٌمشوّهة ُ الملامح
قبل أن
يتغرغر الصبح بمائه ويصحو الديك من غيبوبته قررتُ أن أحكي حكاية قصيرة ، أذ
أصبح من الغريب أن تتثاءب المدن الموشومة بالبطش على صورة المشاهد اليومية
وتصبح الذاكرة العمياء مهيئةً للرذيلة ، هكذا أبقاها الملك شهريار ساذجة
تجفل من مبادئها كي يُتخم بمضاجعة أبنائها وهم في غفلة معاناتهم متوهمين
بأنهم يتكلمون وينامون ويأكلون كسائر البشر.
ترنح شهريار
وتمايلت أعضاؤه للأنتقال من وضع الجلجلة إلى وضع الخدر بعد أن لعبت اللعوب
برأسه وأدارته بصهبائها ، مد ذراعيه متثائباً وقال:
-
هنيئاً لشعبي
بي فأنا مفتاحهم لمدينة الحياة..
شغف
بحكاياتي وشغفتُ بترويضه وغزو مشاعره الباهتة المنسوجة من الرماد، تمددتُ
بثوبي الأحمر الفضفاض فبانت فتحة نهديّ الأعزلين تناولت تفاحة وتنفست نفساً
موجعاً ،
رأيت
الأبّهة الملكية الخرافية تصطاد بطشها من عيون الضعفاء، كانت في حبكتها
السرية مرتمية على قمديّ كطفلة عطشى.
مرقت قصة
البارحة وتذكرت بأننا انتيهنا عند مبادلة الخرائط ، لامستُ حزني ودمعة
غادرت بئرها استدرجت شفةً لصلواتها الليلية كي تنجو أنوثتها المنغصة من بطش
السيف، أنزعته عمامته وتركت رأسه مسترسلاً في حجري، داعبت خصلةً بيضاء في
شعره، أرخى جفنيه وتثاءب، فتطاير الرذاذ المشبع برائحة الخمر.. دغدغت عنقه
وانحنيت على وجهه إنحناءة بحر على موجٍٍ طافحٍ، بدت منه ضحكة ماجنة بينما
رحت أردّد مع نفسي:
-
من رقبة لرقبة
ثمة مجداف.
صمتُّ قيلاً
ثم استطردت :
-
يحكى سيدي ،
أن ليلة ليست ككل الليالي، حيث اعتاد الشاب مولود أن يجلس ورفاقه في غرفته
لمبادلة الأحاديث واللهو والتنفس من ضيق يوم متعب.
ألقى مولود
نظرة خاصة صوب دولاب جده وكأنه يراه لأول مرة، تساءل مع نفسه:
-
لماذا لم أحاول
فتح هذه الخزانة منذ مدة؟
وتطلع إلى
أرجاء الغرفة، لم يجد أثراً لمفتاح، اعتذر لمخيلته التي راحت تصور له ما
بداخله من كنز.
في وقت مبكر
عادت والدته إلى الدار وتساءلت فيما إذا كان لديه رغبة في الأكل، في الوقت
ذاته طرق الباب أصحابه المعتادون على السمر معه ثم لحقهم بالدخول صديقه
الذي يتصور نفسه بأنه حصان أبيض، رفع بنطاله عن ساقيه وحاول الهرولة في
الغرفة تاركاً ضجيجاً يعلو فتصرخ الأفواه طالبة منه السكوت ومولود يتوسله
بعدم إغضاب الوالدة الحبيبة.
في هذه
اللحظات المحمومة حاول كسر الخزانة وشجعه على ذلك صوت والدته:
-
لا بد من كسرها
فليس لدينا مفتاح.
صهل صديقه
الحصان وخلع نعليه وزاغت عيناه في الصندوق، جلس مولود على الأرض والأصدقاء
حوله، وبينما هم في حالة استطلاع، سمعوا صوتاً صادراً من الصندوق الخشبي:
-
مفتاحكم معي!
وبمجرد
الملامسة لهذا الخشب المحفور بعناية فائقة سمعوه يردد ثانية:
-
كونوا معي في
قلوبكم وعقولكم.
ثم أطلق
للحضور حرية الكلام وطلب منهم أن يسألوا ما شاؤا.
استغربوا من
هذا المخلوق العجيب ، أراد أحدهم تعجيزه فسأله:
-
نحن في حزنٍ
شديد، أسألك هل يحزن الحزن؟
اهتز
الصندوق وتحرك بغضب ثم أجابه:
-
لو حزن الحزن،
لما أصبح للألم لذة ، والدمعة لو ذاقت طعمها لتعالت على عناصرها الأولى
واجتازت جغرافية محاجرها..
-
لكن هذا شعر..
ثم نط ّ
الصديق الحصان واقترب من الصندوق قائلا ً
:
-
إسمع يا عم
، تأخرت الأعوام والخريف يواسي الضواحي وعيوننا ما زالت محدقة بالفراغ.
-
هل تدرك خطورة
كلامك ؟
وبدأ الغضب
يتطاير من خشبه حتى سُمعت طقطة قوية بداخله:
-
لقد خاطبتني يا
عم. لابأس يا ولدي، أُسديك نصيحة . ، يجب اختيار الطريق لا السير على
الطريق، ثم كن بنفسك واحداً أو جمعاً لأن كل إنسان هو ثمرة الله على أرضه
هل تعبد الله؟
-
كلنا عابد
ومعبود يا عم.
نط ّ أحد
الأصدقاء وأصغرهم موجهاً كلامه لصاحبه:
-
هذا شرك
بالله.. كلنا عبيد الله.
فأجابه
القائل:
-
ومعبودون من
قبل حبيباتنا وأمهاتنا.
ثم.. تتابعت
الأسئلة، منسجمة ومتناقضة محاورة ومعبّرة وتافهة أحياناً، والصندوق يهتز،
لكن سؤال مولود الأخير ترك صمتاً:
-
ما اسمك يا عم
ومن أنت؟ ومن أين جئت؟
-
أنا خلف السحاب
والصفصاف وفوق الجسد والرأس والكوابيس والشمس والمغيب و....
قاطعه مولود:
-
أريد اسمك؟
-
إسمي .إسمي
، رفع وكسر ونصب وتسكين.
تأمل الجميع
وجوه بعضهم وخرس الصندوق عن الكلام ، حاول مولود هزه وتحريكه لم يفه بأية
كلمة، إحتضنت عيونهم كل الأسئلة ودخلت المشاهد ببعضها واختبأت الصدور في
سراديبها وراح كل منهم يكوّن كلمة بين أصابعه ويعد كل حروف وأدوات الرفع
والنصب والجر والتسكين لعله يعثر على الإسم الذي يفتح الصندوق.
مشى الليل
على عجل وشهريار أزاح الشَعر عن رقبتي متلمساً بياضها ثم نظر في عيني:
-
لماذا تلغزين
في سردك القصصي؟
قلت:
-
سيدي، أنت
العارف بكل شيء ولا يخفيك علم اللغة فأسماؤك الحسنى خير دليل على عظمتك
فاشفق عليَّ من أسئلتك ، ثم أن الصباح توغل في رئة الأبواب وصوت الديك
يقودنا لنهاية الليل.
قال:
-
لا بأس .. فقد
أسكرني حديثك عن صندوقك الذي فاجأني في أعجوبته.
ناديت
الجواري وطلبت منهن جلب المسك، وإلى جانب النديم النائم زعق النهار زعقته
المضيئة وبقي سر الصندوق في قلبي ولم أخبر شهريار نهاية الحكاية ، لأنه لو
عرف أن صديق مولود الذي يصهل دائماً حين وافاه الصباح وجدوه بلا أصابع
ووجهه ممسوح الملامح وبقية صحبته تحشرجت أصواتهم بصمتها، لتململ وضجر أما
مولود فعندما دخلت أمه الغرفة لم تجده، بحثت عنه في كل مكان وفي كل شارع
وبيت طرقت أبواب أصدقائه ومعارفه، توجهت للإذاعة ومحطة التلفزيون دون نتيجة
، لكن بعد مرور عشرة أيام نُشر في الصحف عن جثة عثروا عليها مشوّهة
الملامح، ولو أخبرت شهريار عن أم مولود التي أصيبت بالجنون لتذمر لأنه لا
يحب المجانين، لذا تركته يرقد دون أن يعرف النهاية ، وسأتحايل عليه في
الغد كي لا يسألني عن سر المفتاح والصندوق ومولود
.
ليلة
ٌ مثقلة ٌبالأسئلة
في صخب
اللحظة، تهامس الناس عن سرٍ أُشيع في المدينة، وكلما تساءل أحد عن هذا
السر، أطبقت الأجفان على خوفها وتلاحمت مقيدة النظرة.
-قيل
إن أكل لحم الكلاب حلال وقيل هنا مفتاح السر.
أغمض الفضاء
عينيه ليتأكد بأن الهواء لا يتلصص عليه راجياً أن تصفو السنوات القادمة
ويتلاحم العراء مع أجساد طأطأت رؤوسها ، كان الوقت ليلاً حين خرجت القطط
من الأبواب تغرس مخالبها في وجه الأرض وتبتني جسوراً من الهرولة بين
الحشائش والنهر.
ذهب شاب
بعيداً عن بيته وجلس قرب كنيسة تتقن لهجة أجراسها، بينما المسجد لمعت
مئذنته وبرقت بصوت المؤذن ، بعد فترة من التأمـّل في المارة والشارع خرج
الشيخ الذي يؤّم المصلين يعدّ بمسبحته أسماء الله بينما السماء رسمت زرقتها
للمدى.
خرج الرجل
من المسجد يتتبع اثر الشيخ، اقترب منه وسأله:
-
هل ما سمعناه
حقاً يا مولانا؟
-
وقبل أن يكمل
نظر إليه الشيخ نظرة أوحت بالتجاهل فتردد وتلعثم ثم بلع بقية سؤاله.
سار بإتجاه
واحد وخشية أن ينهره الشيخ أطرق أرضاً وبقي صامتاً ، أما الشاب فكان
فيتطلع إليهما عن بعدٍ ويتأمل ذلك الرجل الذي يلوك سؤاله إذ ليس من اللائق
مقاطعة الشيخ وهو يسبّح بمسبحته، لكن في قلبه هودج يترجرج بإيقاعٍ لا يخلو
من عتب نحو الشيخ، أوحت إبتسامة صادرة من الشيخ بالرضا وترددت شفتاه ثم
تعطفت عليه:
-
حرّمنا عليكم
أكل الميتة ولحم الخنزير .
شده الحماس
إلى التساؤل ، لذا عليه أن يجتاز تردده البارد فخرجت من فمه كلمة متثاقلة:
-
لكن الله لم
يذكر الكلب
!
إبتسم الشيخ
مموّها عن فرح دفينٍ في صدره، ثم غير إتجاه سيره قاصداً داره مثقلاً بأسئلة
عمياء ، وفي عينيه إزدراء يشعره بأن الكلمات مجرد وهم بينما تعبر أمامه
الأجساد التي تمتص عرقها والوجوه في قلق فوضوي وضوء خافت يعتري الشوارع حيث
الضجيج ، تجشأ مخمور وأشار بإصبعه:
-
هل سمعتم عن
الكلب؟
إعتلى جدار
روحه ووقف منتصباً وبكل ثبات وقف الشاب خلفه وهما يتطلعان لما يحدث.
على باب
دكان صغير لعبت ثلاث قطط وتخابثت رابعة في البحث عن فأر يطل برأسه من فتحة
الدكان، لكن ضوضاء الأهالي واشتباك المارة إستفز الشاب إذ تحول حوار صاخب
بين اثنين إلى شجار حول أهليّة الكلب للأكل وعن تحريمه في الوقت ذاته،
تجمهر صبية حول كلب أجرب، جرّوه من ذيله في الوحل ثم ضربه أحدهم بحجر، آخر
وخزه بسيخ في بطنه وقال ثالث:
-
وكيف ستأكلونه
وهو على هذه الحال من القذارة ؟
نبح الكلب
نبحته المعهودة ثم بحث عن بقايا عظام في الأرض، أضاء صبي مصباحاً يدوياً
ووجَّهه صوب بطن الكلب فبانت اجساد هُرست أضلاعها، ضغط الصبي ثانية على زرّ
المصباح ليبدو أكثر إنارة، تجمعت العناكب والثعابين حول الكلب وضجت بأصوات
تبعث للتقيؤ أمّا عيون الجميع فكانت محملقة كشواهد وأدلــّة على الحدث، ومن
بين وجوه الجميع لمح الشيخ يقترب منه ووجده قد خبّأ مسبحته في جيبه ومثل من
يُعلن عن شيءٍ هام وقف باعتدال قائلا:
-
لا تُبقوا شيئا.
الكلب يعوي
وأصوات الأهالي رنين لا يهدأ، وفيما كان الوضع يصنع أنغامه الخاصة سمع
صوتاً أُنثوياً، وقف الشاب ساكناً في مكانه منتظراً لحظة جديدة وقد ساورته
الشكوك وهو يرى الكلب المدمّى حيث رآه مجرد حشرة تتمنى أن تمر سحابة تطهّر
روحها ، أزاح أفكاره عن توهمها ثم عاوده الشيخ : لا تبقوا شيئاً.
تمنى أن
تكون له أنياب ليمزق الكلب ويريه عاقبةً مرة ً. تسمّر في
مكانه حتى
لكأنه فقد الرؤية لكثرة التحديق ، فعاوده الصوت الأنثوي ثانية:
-
بُنيّ...بُنيّ.. قم إنه أذان الفجر، قم ياصابر ، قم للصلاة ، سبقك أخوك
مظلوم . .
ثم أعطته
مفتاح غرفة والده ليتخذ منها مسجداً.
بعد
أن صلى صلاة الفجر رغب أن يخرج خارج الدار وفيما هو في الطريق شاهد مسبحة
مبعثرة على الأرض والكلاب سائبة تهندس بحكمتها الطريق وكثافة السكان.
صمّ أذنيه
وقاطعني :
-
إيه شهرزاد
أتظنيني لا أفهم؟
-
ومن قال ذلك يا
سيدي، إن ظلك يشرق على جدار الحجرة.
هرعتُ إلى
المصباح وقدمته له:
-
إنه بعضٌ منك
يا مولاي.
مسح شاربه
بزهو:
-
أعرف ذلك ،ههههههه
، ولكن احذري من قصص الكلاب غدا.
هي ليلة
أخرى دخلت بها مرافئي حاملة رأسي لعله يبقى مرفوعاً لأكثرمن يوم أو يجاهد
ليبقى تحت رحمة ملك يتحسس مفتاحه
.
أضيفت في
24/04/2007/ خاص القصة السورية
الحافلة
الجو المسائي البارد والهواء الذي يتسرب الي العظام يجعل ركاب
الحافلة منكمشين.
المسافة من العاصمة إلي قرية أبوالحلوات ، تستغرق ثلاث ساعات في
الحافلة.
السائق يرتجف رغم شعوره بالسعادة .. لم تسعه السيارة والأرض التي
تمشي عليها .. سيعانقها عندما يصل ويقبلها ويستسلم لقهقهات رقيقة تراقص
الشفتين الناعمتين الحلوتين كالعسل .. وستفرح عندما تجده قد جلب الخاتم
الذي تحبه. فقد اختارته عندما ذهبت معه إلي العاصمة للنزهة ساعتها لم يكن
معه ثمنه واليوم بعد أن نقل الركاب ثلاث مرات ، يوما بعد يوم وفرّ ثمنه
واشتراه من تاجر المجوهرات.
رجل يرتدي دشداشة بيضاء وعقال وغترة يلف سيجارته جيداً بين أصابعه
الصفراء، يجلس بقرب السائق ساهم العينين شارد الفكر .. مع نفسه إلي لا شيء
ينظر إلي لا شيء يندهه السائق عمي ! عمي ! ما بالك ؟ سوف نصل بعد نصف ساعة
. ما بالك ياعم.؟
الرجل : كانوا يسمّونها وردة .كنزي كانت وردة . لم يكن فيها عيب
أخذوها مني وتركوا حياتي جحيماً ،أخذوها لكنهم لم ينتزعوها من قلبي من
ناظري.
منو عمو ..؟
وردة .. وردة تطاردني ، رأيتها قبل قليل تحلّق أمام السيارة بجناحين
ورديتين كخديها.
امرأة ترتدي عباءة سوداء وفوطة سوداء تقارب الخمسين تكني أم محمـــد
حجي يا جناحين يا بطيخ هاي انت وين عايش
عيوني يا أختي شاخصة لها، منذ سنوات لم تعد. كانت تذرف الدموع تلك
العينان الناعستان كيف يختبئ الذعر بينهما؟
امرأة تحمل طفلا رضيعا.
عمّو وين صارت وردتك هذه ؟
هي ضيائي يا ابنتي ، عيني التي أري بها، أخذوها مني وتركوا لي
الموت.مزقني بكاؤها، تركتني طريحاً، رأيتها فوق مع النجوم، صعدتُ إلي أعلي
السطح علّي أكون بقربها لم أستطع، طارت طارت مني بجناحيها.
أحد الرجال :
اتركوا الرجل بحاله اما ترون شكله.
تقف الحافلة في محطة أبوسدرة يركب رجلان ــ أحدهما :
أفسح لي المجال أرجوك.
طفل جالس بقرب أمه يسأل أحد الركاب الجدد : لماذا سٌمّيت منطقتهم
بأبي سدرة؟
ــ يقال يابني أن هناك رجلاً عشق سدرة كان يجلس تحتها كل يوم ويهذي
بكلمات لايعرفها أحد غيره . كان يتخيل أمرأة تظهر له من السدرة تعانقه، جٌن
بها ، بقي تحت السدرة حتي مات، سموه أبا سدرة وسميت المنطقة باسمه.
تماماً مثل قرية أبي النسوان طبعاً سمعت حكايتها . نعم نعم عمي أي
هذا المختار الذي يتحرش بالنسوان
أم محمد: ملعونات،كل الحديث علي النسوان فضّوا هذه السيرة رجل يبدو
عليه سمة الوقار
هنا المشكلة ،النسوان يا سيدتي ، أنتِ مثلاً ألست أماً وأختاً
وعشيقة.
تتحسر ، عشيقة ، يا ولد عشيقة آخ ليت الأيام تعود !
إذا أنتِ كل شيء أنت الحياة كلها مثل مثل - تقاطعه - مثل من؟
مثلها هي ، شمس، دفء ، بها اجتاز جليد العالم كله.
فتاة شابة تقارب الخامسة والعشرين .. نحن الميلاد أيها الأخ الفاضل.
عذراً أختي، أنتن داؤنا ودواؤنا ..
يبدو أنك تهتمين بالألفاظ المنّمقة.؟
هي لعبتي ومهنتي أنا صحفية.
الرجل إذاً ، وصلنا ، وأنا كاتب أين وجهتك سيدتي ؟
الفتاة إلي أبي النسوان .
يضحك الجميع ..
رجل يرتدي قميصاً ملطخاً بالأصباغ يبدو عليه الإجهاد
لقد أنكرتني أفراحي حين غابت عني أفراح
أم محمد عدنا إلي النسوان
الكاتب هل فتشت عنها؟
لم أفتش عنها لكنها تدق بابي كل يوم ،أسمع خطواتها . دقات قلبها
إنها هنا في صدري.
أم محمد تتحسر
الفتاة ما بالكِ يا خالة.؟
هي حسرة فقط لم يبق في الدينا شيء يستحق الحسرة . لم يعد يعنيني أحد
ولا أعني لأحد شيئاً.
تنادي رجلاً جالساً قرب شباك السيارة ، عيني من فضلك ، أغلق النافذة
،أشعر بالبرد يكسر عظامي.
خذي غترتي ياخالة لعلها تدفئك .
شكراً..علمتني الحياة أن أدفيء نفسي بنفسي .. هل تري هذا الصدر؟ لقد
خبأ عريه بلحمه حتي أصبح هو الخيرات بعينها لست بحاجة إلي غطاء من أحد، حين
اقع انتصب بألمي وتزداد قامتي طولاً.
( يقدم لها رجل قريب منها عباءته الصوفية) تفضلي ضعيها علي كتفك
أرجوك.
شدة البرد والانتظار وهزهزة السيارة يحول الجو إلي صمت مطبق.
بعد قليل ، تنده السائق، قف في المحطة القادمة يا ولدي( بعد أن يقف
الباص تنزل مبتسمة وتخاطب الجميع ) وداعاً. تنظر بوجوههم . لو كل واحد منكم
عمل لمحبوبته شيئاً ما ، من أجلها كسر الطوق والقيد وأخذ بيدها أما كان
أفضل من الحديث عن الذكريات؟
أنت عيني أبا خاتم ، ( توجه الكلام إلي السائق.)
هل الخاتم يكفي لإسعاد امرأة ؟ هل الحياة هي خاتم ؟ يا الله مع
السلامة.
يا حاجة عباءتي أرجوك ليس لي غيرها !
من بعيد تلوح له:
لست بحاجة إليها دعها لي، وداعاً.
تصيح بصوت أعلي بعد أن ابتعدت عن السيارة قليلاً : يا حاج عباءتي في
السيارة تركتها في مكاني.
تسير الحافلة متأرجحة في تعرجات الطريق، تقف عند أول بائع خبز تشتري
خبزاً وتدخل شارعاً ضيقاً ، ترتمي علي باب قديم في منتصف الزقاق. تضحك عند
سماعها صريره وتخاطبه كعادتها.
يا بارد عدت إليك وذراعي المريضة تسندني .. ثم تدخل وتغلقه خلفها.
ضوء
ترتدي فستانا وتفتح الراديو ،
تحب (مايكل جاكسون) أكثر من أبيها ؟! هذا الصباح ممر غرفتها مريض،
والمبالاة تجعلها في نزاع مع نفسها لدرجة أنها تبلل شعرها وأرنبة أنفها
بالعطر ،
استلقت علي فراشها تدلل جسدها الرخو ، تعرف أسماء الطيور والأغاني
الجديدة ، وتؤمن في حقيقتها بأنها أجمل النساء ، واربت باب غرفتها قليلا
وبأجفان مثقلة حدَّقت بي
وبلهجة آمرة ، قالت :
ناوليني زجاجة عطري ، رشيها كلها علي جسدي
ارتفع ألمها يعانق الجدران ، ارتعشت أكثر ، شعرت بانفصالها من
الداخل وشعرها بدأ يرسم فراغا (مدت يدها نحوي) كانت باردة
وبهمس بطيء قالت :
إني أتلاشي ، لن نلتقي ثانية ، أني أتلاشي
أدارت رأسها نحو القبلة ، وفي اللحظة الاخيرة همستُ بأُدنها ، عندما
يدخل ضوء الشمس غرفتك تتلاشين أنت .
الظل
للوهلة الأولي بدا الوجه مألوفا لديه
انطلاقا من الوضع الذي سيأخذه هذا الوجه الذي ينمو بشكل هائل عدل من
وقفته ليتفحص نفسه ،
ــ أين أنا من هذه التحولات السريعة؟
ــ هل لي أن أتحكم بعظامي؟
يشده لزج الوجه إلي درجة الاستغلال الكامل ، فيحس أنه موزع دون
ركيزة .. عيناه ضمرتا، أصبحتا ثقوباً،
وفي محاولة منه لمعرفة دوره علي هذا الشبر من الأرض وجد الكثير
بجانبه مشدودي الأيدي وكأنهم عالقون في وحل .
أحدهم قال :
ــ تعلق بالظل أكثر كي لا تضيع الفرصة المقبلة ، لسنا ندري ماهو
الدور القادم ،
ــ آخر بالكاد يرفع رأسه : هل تعني أن هناك استحالة في الخروج من
وضع التبعية هذه؟
امرأة تبدو وكأنها خرجت من القبر لتوها .. هذا هو المشهد،الشاشة
واضحة تماما .
فتاة في الثامنة عشرة..لكنه القهر ، هذا الوجه يقهرنا لا لأنه
ببشاعته يتمكن منا بل لإننا جاهزون للقهر .
ليس لنا دور سوي الوقوف ببلاهة في الظل ، كيف نواجه من قرر أن يموت؟
هبت عاصفة قوية اشرأب الوجه حتي أصبح شجرة عملاقة، حينها شعروا
بالخطر، حاولوا الوقوف جنبا إلي جنب ، أجسادهم في الظل أشجار صغيرة عارية
الأغصان ،
قالت الفتاة ، هل سمعتم بالاستنساخ ؟ انظروا إلي الرمل .. هذه
عيِّنة الكل حاول معرفة العيِّنة في ظله .
صاح أكبرهم سنا .. تماسكوا أكثر لا تخافوا التجزئة
ردت المرأة وهي مصابة بلوثة فقدان التوازن :
إنه النذير
أيها النائمون ، انفضوا غبار سباتكم نحتاج لصحوة المعجزة ركبتها
موجة من الجنون
صرخت الفتاة :
يد واحدة يد واحدة هي القابضة علي كرة الصاعقة ، وتتحكم بالموت
أما الرجل الذي رأي الوجه لأول مرة رفع جلبابه فشاهد لحمه منزوعا ،
صرخ يا إلهي .. كيف وصلت إلي هذا المصير ؟!
تقدم بجهد من رجل يقف بعيدا عنه بعض الشيء وقال ، لابد من إشارة،
أجابه الرجل الاشارة إلي ماذا ، ونحن في انحدار ؟!
قبل أن نشير يجب أن نوقف هذه اللصوصية .
رفع جلبابه ليريه جسده الأعزل .. صدقت ! إنها اللصوصية، سرقوا لحمي
، ضحك رفيقه باستهزاء .. إنها ظاهرة مألوفة
بعد أن هدأت العاصفة تفحص كل مكانه ووقف الكل متجاهلا الآخر سمعوا
جميعا المرأة المجنونة ، تقول ،
مسكينة الفتاة .لقد أضربت عن الطعام والماء حتي ماتت، انظروا ، لقد
اختفت ملامحها ، أداروا ظهورهم للجثة ودخل كل جلبابه .
برج الدلو
لا تلتفت إلي النقاط السوداء بتجاربك السابقة ، حاول أن تستفيد من
الهفوات الصغيرة التي وقعت بها .. كن أكثر تألقا .
في مكتبة تحمل اسم ابنتها ، جلست تتفحص الجريدة اليومية .. نفسها
الأخبار التي تُنزف الرئة .. بحالة هروب من الواقع قرأت طالعها ( برج
الدلو) مستهزئة، لا من الطالع، بل من الوضع السييء الذي يقودها إلي قراءة
مثل هذه التفاهات ، ضحكت علي نفسها وعلي من يكتب مثل هذه الأبراج للضحك علي
الحياة .
توقفت لحظة ثم أدلفت تقرأ الطالع مرة أخري لا تلتفت إلي النقاط
السوداء
كيف سأستعيد ذاكرتي في هذا الزمن المنسي ، ثم هذا الشعور بالحزن
الذي ينتابني كلما تذكرت وجهاً أسود .. تري هل يقصد الطالع الوجوه السوداء
أيضا؟
هذه الغرفة المنسية أليست سوداء بنسيانها لي؟
توقفت لحظة في استعراض المهرجان الماضي، لم تسعفها الذاكرة، رجعت
لزمن قريب جدا وتناولت دفتر الهاتف ، ومسحت منه رقما بعد أن قبّلته .. يجب
أن أبدأ بك .. رغم أني أعشق كل رقم فيك لكني سأتجاوز عيني الدامعة ، لست
جديراً بحبي ، مررت القلم عليه مرتين ، لست سوي رماد ووحشة سأم .. مثلك لا
يستحق أن يدَّون في ولهي .
فيما هي غارقة في محاولاتها دخل عليها متسول ، يُرعش يديه ، نظرت
إليه ، شاب قوي البنية ذو لحية حمراء ، يرتعش بطريقة مضحكة ، ابتسمت وسألته
،
أنت من النقاط السوداء الماضيه أم الحاضرة ؟
أجاب ، أنا محتاج !! مسكين !
تركته يهذي واستكملت استعراض الشريط .. كل الذكريات جروح، وطن يدفن
ليلاه !
طائر ينأي عن سمائه .
ثدي ممتليء موتاً .
كرسي يقطر دما ، تذكرت أيام طفولتها ، كيف كانت تلعب مع طالبات
المدرسة لعبة الكراسي ، وكم كانت تمقت هذه اللعبة منذ الصغر .. الذي يركض
أسرع هو الحائز علي الكرسي ، وليس الافضل ، كانت أذكي الطالبات ومرتبتها
الأولي دائما ، وأفضلهن قيمةً ووقاراً، رغم صغر سنها، لكنها لا تحوز علي
الكرسي لأنها لا تجيد المزاحمة والجري السريع .
في شهر تموز القائظ ، في أحد أيامه كانت جالسة علي كرسي في غرفة
الطعام .. فزعت فزعا شديدا ،عندما صرخ أخوها الكبير ..
هذا الكرسي لم يحتفظ بسيده .. هي القارعة بعد ذلك حفظت سورة القارعة
عن ظهر قلب !
آخر فصول العمر غيم ، كيف أمحو الغيم ، البرج قال النقاط ، يلزمني
إذاً قماش العالم كله لأمحو هذا الفصل .
ياربي كيف ينام الناس تحت مطر أسود.؟ رائحة الأجساد المتعفنة هل غنت
يوما لرصاصة ؟ هل انحني عليها أحد وأغمض عينيها ؟ .
أمي ، أحداق أمي السوداء بسكينة الحزن ، جارتي التي تخلع ثيابها
وتتنكر للصوت .
ويحك يا برج الدلو .. بأية متاهة أدخلتني اليوم مع فنجان القهوة
المرة ، دخل رجل متوسط العمر وأشتري جريدة.. سألها كم السعر؟
ــ بكم تتصور .. كم تستحق هذه الجريدة .. وبأي ثمن تقدر ؟
ــ أجابها : المتعارف عليه درهمان .
ــ حقا..يا أخ ، بحر السراب لا يستحق إلاَّ درهمين أو قد لا يستحق
.تناولت منه النقود وشكرته .
امرأة تحمل طفلا .. ترتدي عباءة سوداء وشيلة سوداء ونظارة سوداء ،
دخلت المكتبة دون أن تعير أية أهمية لمن فيها ،
قالت في نفسها .. الله يابرج الدلو حتي الزبائن سود !
سألت السيدة .. هل لديكم مجلة الشبكة ؟
ــ أجابت : ولدينا كذا .. وكذا ..
ــ لا فقط أريد الشبكة . تفحصت المجلة مثل ثور هائج ورمتها !!
ــ سيدتي ألا تشترينها ؟
ــ لا .. المجلة هذا الاسبوع لا تحمل صورة الراقصة الفلانية .
قالت في سرها غادريني أرجوك ، فوجهك مثل ظهرك، مثل حظي كلكم صخب
أسود!
تراءت لها الدروب السوداء ... المرايا .. النظارات .. الاغصان ..
النحيب .
ــ عمري الآن ثلاثة وأربعون ، ودخلت في الرابعة .. يلزمني كل دفاتر
المكتبة ، أو قد أستعير أضعافها، لأجمع النقاط مجرد رسم نقاط يكفي !
ماذا لو سألني البرج غدا عن الأقمار وعدّها ؟ أو مثلا عن الأزهار
الندية، هل يفيض التعب وردا والجوع قرنفلة وتندي النار صحو الذكري ؟
هل سمع برج الدلو عن شهيدة الحياة ، عن ميتة تمشي ، عن مقبرة جماعية
، عن الانسانية التي تسعل وتتقيأ دما، ؟عن طفلة بين النار
آه ياربي .. قرأتْ الجزء الثاني من طالعها حاول أن تستفيد من
الهفوات التي وقعت بها يا الله يجب أن أنتحر لأن حياتي هي الهفوة ، وطالما
أنا راضية علي العيش بهذا المستنقع ، إذاً أنا تافهة كيف أعبر إذاً ؟ ..
تباً لك أيُّها البرج !
قرأتْ الجزء الثالث كن أكثر تألقاً ضحكت بطريقة الرثاء .. التألق
كمن يرقص بالعتمة .
في صباح اليوم التالي تناولت الجريدة بلهفة غير مسبوقة ، سحبت
الصفحة الخاصة بالطالع ، وتركت الجريدة كلها جانباً .
تفحصت برج الدلو
مافعلته البارحة كان خطوة جبارة ، كونك قويا إلي هذه الدرجة تستحق
الثناء .. استمر في التفاؤل .. انتبه لا يأخذك الغرور
كفها ساخن اليوم .. شيءٌ يضيء داخلها .. فكرت قليلا ثم تركت القراءة
.. تذكرت مافعلته البارحة .. ها .. ها .. النقاط السوداء .. نعم تذكرت ..
طوت الجريدة كلها أربع (طويات) ومزقتها إرباً ، إرباً حتي أصغر ورقة
ورمتها في الحياة !
أضيفت في
06/05/2006/ خاص القصة السورية
مربع الشطرنج
أبحث عن لاعبٍ ماهرٍ يشاركني اللعبة .. تري هل أجده في حلمٍ مذهل ؟
سأعزف علي قلب مربعٍ وأدخل
مدينته
الشوارع نظيفة والخيول منتشية بفرسانها وكأني سمعتُ وقع حوافرها .
المهم هو قرع الطبول الذي لم يترجم نفسه حيث تلاشي مع الأبخرة
المتصاعدة
من يرفع ثورة حلمه يهتز معي كأجراس السعف التي تحرس البيوت وتتلصص
علي الصمت .
النوافذ تمنحني وجها أجد به عيونا ذليلةً لنسوةٍ يفرغن أمومةً
قاسيةً في صدري .
وقفت في مكاني لأري كيف يرسم الغيم علي مربعاتنا لحظةً فاصلة،
افترضت أن الخانة البيضاء تخصني، والسوداء تخص (ع) وافترضت أنه لاعب
ماهر -
أخذت بيده ودخلت المدينة .. رأيتُ طوابير من الجنود بأسلحتهم ..
كانوا في نعيم لا يضاهي
أفكارهم مشتتة لاتجيد إلاَّ لعبة حجر متنقل .
دخلت وصاحبي (ع ) متلصصين قافزين من مربع إلي مربع .
كانت الخيول عملاقة، كل حصان بحجم حصان طروادة .
فركت عيني عندما أفزعني حجمها .. وأنا أغمض عيني ، تراءت لي غجرية
رائعة بزينتها .. مسحت عيني بمنديلها وقادتني إلي مربع .. وقفت قبالتي علي
مربع آخر وقالت ارحميني
أحسست بأنفاسها اللاهبة تعبث بصدري ووجدت يدي مبتلة بالدموع وحين
فتحت عيني وجدت مربعا فارغا رُسم عليه خطا مائلا، أدركت بأن الرخ ترك مكانه
قاصدا حلبة صراع الديكة .
الوزير لايعرف كيف يحرك ساقيه وهو يختلق عذرا لغيابه،انحني بكل
إجلال أمام الملك ،طلب أن يمنحه يوما واحدا للقاء زوجته الثانية والتي
تكبره بعشرات السنين، وبإشارة تتلذذ بالنزوات سحب الملك قناعه مبتسما بدهاء
وغمز للوزير.
كلما رأيت قلعة محصنة بالسواد ، توقعت أنها تعشق أصوات الحياة
اقتربت منها لأمنحها صوتي، تجمع الذباب علي أكتافي والقلعة تلهث حول ذبابها
صاحبي (ع ) متلهف مثلي ليري القلاع وهي تتحرك من أمكنتها ، ومن
المصادفة أنه يستطيع أن يصغر حجمه بحجم حشرة .. هي
لحظة من الجنون أن أكون جزءاًمن جناح حشرة .
في النقلة الأولي، ثلاثة جنود يؤدون تحية افتتاحية القتال .
النقلة الثانية، جندي يتقدم نحو القلعة ،يرتطم برجل كلب متعفن قرب
صناديق خشبية
قلعة أخري تقف جريئة فوق عتمتها حيث تهتز بوحشية علي مربع أسود .
رخ آخر تلفت حول نفسه وحين سمع صوتا نادبا .. نظر إليه بتواضع ،مزق
فردة حذائه وترك رجله عارية ..
الدمدمة والأرصفة والامتداد للدهشة والتجوال بين الأجساد المكشوفة
التي تبعث رائحة نتنة .. و-ع- صاحبي الذي شرب شفتيه ووقف صامتا جعلني ألجأ
إلي التلفاز لأترك لنفسي مساحة للفرجة .
اهتز حصانان أعزلان .. بعدما عرض التلفاز فيلما عن رجل مجنون يمسك
بيديه لعبة .
ومن نافذة قناة أُخري شاهدنا في ملعب كرة تابوتا يرفع علي أكتاف
أقزام . وحين عُزف السلام الوطني التصقت المربعات ببعضها .. لم أفهم من
ضجيجها سوي هذا المقطع .
أدركتنا النقلة الثالثة عشرة ، أدركتنا النقلة .
سمعنا يومها عن سقوط الوزير مسموما بيد زوجته الثالثة .
شعرت بيد تلمس سطح قلبي ، لكن صاحبي (ع ) ربط حزامه حول وسطه ونظر
إليّ بعينين جائعتين وطلب مني ان أصغي لصوت قلبي حوافر الخيول لم تفهم
النقلة الرابعة عشرة التي مدت يدها إلي عيون نصف مفتوحة .
ومن عجائب الأمور وأنا في تلك الحالة احتجت لعود ثقاب فقط لأصفع
رأسه المتوج بالكبريت .
وضعت عظامي في علبة فارغة وأغمضت عيني .. رأيت في منامي سلما ضيقا
مليئا بالفئران .. ارتقيته .
قادني إلي سطح منزل غير مضاء وسمعت ضجيجا وبكاءً
بذلت جهدا كي أعرف مصدره وأتبين هوية هؤلاء المساكين .
كانت الأعشاب نامية علي أجسادهم ووجوههم، ووجدت أُمي ترقد علي
سريرها الحديدي .. ساعتها شعرت بأني عثرت علي كل شيء وأرغب أن أحضن العالم
كله ..
لكني وجدت بطنها مفتوحة ..توغلت في أحواض الروح كانت فارغة.
قادني العطش إلي زير قرب كبدها،مدت يدها ومنحتني لمسة أمومة.
أما في النقلة الخامسة عشرة فلقد رسم المربع نساءً مجنونات
سحبت أصابعي من ثوبها بعد أن اكتشفت بأن اللعبة من أجل التسليه، ومن
أجل سيمفونية غامضة.
واللاعب ع بعد أن دوّن شيفرة سرية دس كفه في سرواله باحثا عن
افتتاحية لأخبار الغد ، تزعمت نفسي ووقفت أمامها بكل تحدٍ،
وقلت لها : كش ملك؟
وداع
مددت يدي دون أن اُلامس شيئا .. كنت شديدة الارتباك .
شعور غريب ينتابني حين أمدُ يدي في فراغ .
الأشياء نفسها التي تسدل ستارة ضبابها في يدي .
أُحس بغرابة أصابعي .. أنظر اليها بنظرة ملؤها التحدي لكني أنطوي في
بركان وأفتح قميصا شاردا .
حاولتُ أن أشاهد اندلاق حلاوة الشباب من بين أصابعي .
تسابقت الصور بفساتينها البنفسجية والبيضاء والصفراء .
قادتني مرآة الانسجام الي فتاة في العشرين سرحت شعرها الاسود الذي
تذوق رائحة جسدها المهدد بالعبث حيث لعب بزناد الهواء باحثا عن دخان يلتصق
به .. مثّل الدخان ظلا متموجا وغادر مكانه .
تحت ضوء خافت تمتم فمُ آمن ( لو المساء يخلع ثوبه ويصبح طيعا علي
السريرلداعبتُ انفه وتهيأت لدخول قميصه المبلل بالعرق ).
وعلي سطح اللحظات استعجلني أحد الاصابع مرتبكا .
لامس شفتين مبللتين بالقبل " والمرآة دعتني أن أنحني أمام الله .
الفتاة أخذت وضع الابتسام وتظاهرت بترتيب شعرها المزعوج من مساء .
الإصبع الوسطي تبدو كسيدة تطلي وجهها بمساحيق الأيام . مضطربة ،
جميلة ، عنيفة ، حادة الملامح . باعدت بين جفنيها المكسوين بالكحل ودفعت
بكلمة رقيقة كنغمة خارجة لتوها من قيثارة ( لديك كلمة تدور في لسانك ) .
وقفت مبهورة بجمالها وقدرتها علي قراءة أفكاري . قاومت دهشتي وتصنعت
اللامبالاه . غير أنها أدركت بحسها المرهف ان كلماتٍ لامعني لها تتحول إلي
غبار يعلق في فمي .
تطلعت إليَّ بكل ثقه وقالت ( هذا أجمل شيء فيك )
دائما تجرك الكلمات نحو إغرائها . حاولت أن أشرح لها، غدت أفكاري
مشوشة ولساني هاجر بلدته ليصبح كقطعة نقود .. وفي غير مكان وغير زمان بدوت
ككتاب مشمع بالشمع الاحمر .
فكرت باسمي .. ماذا لو سألتني السيدة عن اسمي. هل يتقدم من تلقاء
نفسه ويعرفها به ؟
وكم بقي من الوقت ليتدارك وضعه ؟
تآمرت مع ضحكتها الساخرة واكتفت برعشة رثة تفوح منها رائحة عطر قديم
تمدد علي عشب وجهي المعطل في الفراغ .
ومع الوقت أصبحت فخورة بالخروج من زينتي الخاطئة .
مسكت بكلمة مبهمة تحتاج لمئتي عريضة وآلاف المتقدمين أمام باب
الاجتياح .
وعندما رأتني بصحبة نهاية لاتعرفني طبطبت علي كتفي .
كانت جذابة حين نبهتني أن أحذر سلّة المهملات وأُبصر في مرآتي حتي
لو بدوت قصيرة .. فقط أُكور ثغري ، فالروعة ليست بالثغر . الروعة أن ننظر
ونتدفق روحا تلمس رقته .
قلق غريب بإبهام محتار . وقف كرجل بلا ظل ... توقف قلبي عندما شعرت
به يلاصقني . لست أدري ، لم توقعت أنه يراقبني ؟. ذهبتُ بعيدا عن نفسي،
وجدته يقف أمامي كمن يريد أن يصنع لي شيئا .
جمعت كل حالاتي التي كانت لي والتي يمكنني الاستغناء عنها والتي تدل
علي شيئ يشبهني والتي ترشدني إلي صفعة رقصة . كي أقف أمام رجل يعتقد بأنه
كل الاشخاص . وقرر أن يعتبر نفسه كل العبارات . التي تحاذي الأرصفة والتي
تقف علي عتبة الانحدار والتي تبدو غريبة في بقايا ربيع يفكر في نفسه لعله
يوصلني لحلم بريء .
لم يسخر مني .. فقط أدار ظهره وبدا متماسكا . لست أدري لم شعرت بأنه
أبله يتعاطي خبله . لم يتخل عن وقفته . تكدس العرق متسائلا عن ضجيج وحدته
وغرقت حواسه المتسللة إلي صداها .
لا أحد غيري يراه .. أنا السيدة العظيمة أملك مايحطم غرائز
الحروف،وبياقة ثوبي أجمع أناقة الكلمات . سأدعوه إلي العشاء قبل أن يمد يده
فوق سجادة أوراقي .
حدثته .. أترغب بامرأة ؟
وبإشارة مجنونة أرخت ملامحة ستائرها وأسبل جفنيه .
وفي المطبخ بعد أن التهم وجبته الشهية التي دعوته إليها أصبح حجمه
صغيرا جدا . رفع رأسه ليشكرني شممت رائحة العزلة تنبعث كريهة من فمه
..أعطيته سيجارة وتركته أمام فنجان قهوة .
الاصابع الأخري أصابها شيء من الانكسار وعلي مسرح كفي ارتدت ثوبها
مستعجلة اللحظات وقالت لي وداعا أريد أن انام ..
حلاّل المشاكل
أعلن حضوري وأوشم التفاصيل،أعيد ترتيب الشوارع لعّل غموضها يوصلني
إلي شفة ترتدي نفسها وتصير معجزةً للوجوه المعتقة بالوجع.
الشرفات ترتب حالاتها وتستعد لبصمة خريف .
وهدوء يبوح لمرايا الوقت بسرالترمل.
المسافة ليست بعيدة بيني وبينهم .. أحدق في باطن الفوضي .. أري
عباراتٍ لامعني لها وعناوين شاحبة .. وأراني وحدي أتدحرج نحو الأبواب .
سوّرت نفسي بشجاعة هادئة في شبّاك لحظة عصيبة .
خانتني قواي ومضت تحط قرب تناثرها .. الشهقات تطارد صوتا لتخبره .
طرقة حمامة تجفف دمع باب أخرس
صعد الصوت كموجة عارمة والصيف يقطف ثمرا غريبا علي أرض غصن .
النقرة تحطم شقاءها وتحفر حلما في ضلوع الخشب .
والدقات العميقة في رحم الظلمة تفتح عينا لمعجزة .
أيها الصوت صبرا!
أنا زهرة برية تأمل بالعثور علي شجرة تشذب فروعا عوجاء وتشرب شمسها
، وأنا غزالة تشيد كوخا وتلضم قلادة .
الصوت سعفتان تهفهفان فوق باب روحي .
أيتها الحليب ، يامحدثتي إني أتشوق للهبوط معك في جزيرة أنثي أو علي
ظهر سفينة مياه نرسل الإيقاع مع الأمواج وندع البحر يتألم القلب يصغي
تتدافع يداه إلي فم يوم يدعه ينام في خدر وردة لاتملك خوفا .
يصغي يرتجف ، يجيء لثوان تلحق بي ويتصبب عرقا لعطشي .
ارتجفت شفتي كحياء نجمة واستغاثت بخاصرة الكلام .
اخترْ لي موسما أعدو فيه إلي منزل عش وقمة سدرة .
قادني الصوت ثانية لمركبة صداه .
استوحشي يديك وواجهي جنة موثقة بباب .. التهدج ، يأنس دواخلنا ..
أريحيه بنبرة تحلب ثدي قمر .
خلف ستارة لبصر ، مرقت طفلة تتأوه ، التمع ألمها ، ومشت نحوي حافية
القدمين ، ملساء ، رقيقة كحقيقة . أحاطتني بزهرات قرنفل وقالت :
الأبواب كلهم أولادك ْ.
دخلت المعاناه متدافعة واخترقت أحشائي ، أصبحت مثلها أندب سلالاتي
وأصيح باسمها .
صرت نباتا يمسك صبابة نهر . انشق النهر لنصفين ، سمعت لهاثه وهو
يكافح يائسا لينتصر علي الموت .. دفن اتجاهاته في أعماقي ونسي زلاله في قلب
امرأة .
في الماء دفعني ووجهي لأنجو مني .. أتت الأبواب بقربي ، رأيت منفيين
، طرقا غير معبدة ، حائطا مبنيا بغير إتقان .
ورأيت عيوني ترسم موجة .
ضجت بي الغصون ، أعناق النخيل ، اللقالق ، العشاق وفراشات تصطاد
أزهار النهر .
ورأيت طفلا ينام علي شرشف الأرض يراقب كذبة السماء ، وظلالا لنجوم
.. اخضر الحجر قرب جبهته .. بدا جميلا بصمته انصاع لرقة أناملي وناداني.
أماه :
لم أدر ساعتها في أي اتجاه أنا .
يامائدة الوجع وسيد العنب . كل الكؤوس تعصر الصبّار في حانة عينك
والأشواك ثوب لبدن .
فاض الحسن من بئر شفة ندية بعطشها
كان لي دمية . كرة ، ،مركب صغير .
في ليل عانس مسحت وجهي كي اصطك في منارة تتدثر بصدي ترتيلة .
وعلي عتبات سلم العقل فكرت من عساه يكون
لاشيء سوي صوت طفل يصب لهفة.
أنا بناء .. باب ،، طريق ، تراب ، وأنا جسد معلق بالهواء .
هل خذلك أحد ؟
أنا الذي يلحق بدقات قلبك وأنا الملتصق في أنفاسك .. أنا نوم لطير
أنا كعكة .
ياشبيهة الأبواب يا أمي ، قامري فأنا بذرة حلمك .
خرس الهواء وعزف الوقت بقيثارة . واختفي .
باختفاء الصوت رأيت شمعة بهيئة قديسة .
ألقت تحية مهذبة واشتركت معي بهذيان جروحي .
حملنا زهونا الموجع ،شدت علي يدي وشتلت نظرة ثاقبة حين قالت:
قلبي يمسح الطرقات ، أنا قديسة ، حقيقة اكتشاف واعتناق إرادة .
انحنت ، مال ثوبها كعشب طويل أضاء الندي وأقدح التراب .
ناولتني كيسا وتداخلت الكلمات كرذاذ، حيث أدهشتني كلمة لنحدق
رأيت الابواب تنشر أذرعتها علي حبل الحلم ، والأيادي مشرعة نحو
الفضاء .
( طوس نحاسية ) نقشت بالطلاسم مشدودة بوقفة حياء.
تضاءلت المرأة واختفت .
تشبثت بالتراب علّني أعيد ملامحها . رأيت الطفل مبتسما داخل
تراب ينبض ،، خطا نحوي وأخذ الكيس من يدي ، نبض قلب الأرض بفوضوية
وارتبكت خارطة الحصي .
أزاح تعبه ومد يدا مرتبكة .
الفرح غريب بين ضجيج الكيس . طرق الأبواب واحدا واحدا يدا يدا وطاسة
طاسة .
وفي اشتهاء مميز متناقض ومتجانس حشر البزر نفسه مع حبات حمص وزبيب
فستق . تين مجفف و( مسقول ) .
الاحتفال الجميل بين الملوحة والحلاوة أعادني إلي رصيف الذاكرة .
إنه صوت أمي يتفتح كزهرة متضرعة . تهز تمائمي وتمزق نذرها المعصوب
بقماش أخضر وتغتسل بماء البركة .
وفي تمزقها يمتد وجه الله .
يشدني انفلات عبراتها عندما تقبض علي نذرها ، وحين تصل قمة توهجها
تقف صافية العينين هادئة وتمنحنا بلاد صدرها .
نرقص في فجر صلواته وهي تضع في أيادينا الصغيرة المنقوشة بالحناء
عرف طقسها الخاص وتطعمنا حلاّل المشاكل
الحضارة تقرع جرس كفها وتسكب نقشا لنهار .
نرقص قرب ضفاف عباءتها . يشع المكان بنا ، والضوء يحلب وجوهنا .
أضيفت في
01/02/2006/ خاص القصة السورية
بعضٌ من لياليها
مفتاح شهريار..
على عكازة الشيخوخة يتنزّه سيوفا ً مصهورة وتاجا ً أضيق من ثقب إبرة
..
وأنا امرأة..
تكتب أنثاها ،
وتتفتت !
الطريق الذي تخلى عن اجنحته ، ورفض الطيران في العلا..،
لأ نه يعشق الطيران في اعماق البحر ،
حيث صارت أجنحته زعانف سمكة،
هو الطريق الذي لم أجدكَ فيه !
نعرف أين تولَد
المياه ويُولَد الشرر ..
كم هو صغير ٌ هذا العالم أمام قطرة مطر .
وفاء
المسيح لم يتحرر من امرأة
في صلاته الدائمة ،
لذا
دعوتُ الأخرى
ودخلتُ فاصلة الحياة .
ليلة ٌ تساقطت نجومُها
بعد قليل سأترك خشبتي الميّتة باحثا ً عن جهات بعيدة عن حجر ، قررتُ
أن أترك قدميّ تمتحنان الدروب وتحتسيان الرمل ،عبر الجسور والطرقات
المعفّرة والتي تتوجّس قارها .
كان النسيم باردا ً في غيبوبة الصحو ، وكانت الأعشاب طرية وكل شيىء
يبعث بسمة ً وانتشاء ً . ويُفترض إني أشعر بطمأ نينة وأنا أتسلل من ثلجي .
كانت الشوارع مكتظة بمخلوقات غاضبة مُنذرة بالشؤم . أما الأسواق والمتنزهات
، فكان الرجل يبدو فيها مشطورا ً لنصفين . مررتُ فوق جسر يشطر المدينة
ويربطها بريفها أو بنصفها الآخر
متمنياً الاَ أتوحّش مثلهم ، رأيت رجلا ً واقفا ً في نهاية الجسر
وبيده كأسا ً من الدم يستقيها على مهل وبتلذذ والقطرات تتساقط من كأسه
رؤوسا ً فارغة أو جماجم
جوَف .
امرأة عجوز متسوّلة تتكىء على عكازها ، منثورة الشَعر رثة الثياب ،
بدت اسنانها الطويلة الصفر مثل كوخ خرب أو كغابة تعتصر العمر بحرائقها
المدمّرة .
وددتُ لو أعود لذاكرة الصمت وخشبتي العزلاء ، لكن الحلم الشاسع في
عيني عاود تجلياته ، فتساقطت النجوم شهيّة على قدميّ تستحم بحرية قربي
وتتجوّل كغانية سكرى .
بينما أنا كذلك مرقت امرأة مغسولة بالرعب يشق الهذيان قامتها
المنتصبة ،ممتلئة ْ بعض الشيىء وشاحبية، ورفيق غياب بشري يحيطها بالجنون.
فجأة ،امتلأ الجسر بأفاع ٍ رقط ، وعلت أصوات هرج ٍ ومرج ، مرَّ رجال
ممزقون بالنبال ما عدا شابا ً في التاسعة عشر ناداني وسألني :
-أتشتهي شيئا ً ؟
-بلى.. أشتهي .. وأرغب ..
غادرني الرجل مختوما بغياب روحه وتركني محموما ً بالفراغ الذي
ناولني نصفه وترك النصف الآخر يبتلع الطريق .
في يده قطعة خبز بدت كفاكهة لذيذة في نبل الجوع. طفلٌ جميل المحيّا
، له عينان واسعتان وأنف حغير حدّق بي بنظرة ودود وغاب دون أن يتفوّه بكلمة
واحدة .
تقدمت نحوي طفلة تتقلّد حلية من حجر رخيص ، ناولتني قرصا ً من الخبز
مربوطا ً بقفل ، حين شعرتُ بحركة جوع في أمعائي خامرني فضول أن أتفحص
الرغيف.
-لمَ القفل ياصغيرتي ؟
-هذا كي تتحسس دفئه ولا يتسرب السم إلى جسدك كله .
-لكنه غير ساخن ؟
-لأنه غير ساخن سيصبح سُما ً .
تأبطت أنوثتها وتركتني مجنحا ً بالأسئلة . رميتُ القفل في النهر
واتكأتُ على سياج الجسر متلذذا ً بأول قضمة بعد أن شعرتُ بحرقة اللعاب في
فمي .
قلتُ في ذاتي :
-ما أجمل أن تبادل المعدة جوعها باللعاب وطعم الخبز!
سرت أول لقمة بجلال ٍ طاغ ٍ عبر فمي ، متعرجة لينة وهي تعبر بلعومي
حتى كدتُ أشعر بها كالعسل .. ثم استرجعتُ ذاكرة صلصال ٍ كوّ نني .
وعندما بلعتُ اللقمة والتهمتُ الأخرى التفتت إليّ بعد أن أخذ السير
بها مأخذا ، ثم عقدت حاجبيها وقالت :
-ليلعنك الله .
-وبللت أهدابهتا بثدي أعماقها، في اللحظة ذاتها شاهدت ُامرأة تتلفت
في الجهات كلها خجلة ً من بكائها وعثرات الطريق ، وكمن يتعثر بسلاسل
متشابكة ، مسكت الطفلة من يدها واحتضنتها مثل وعاء ساخن مرّ بقطعة ثلج .
-ألم أقل لك ِ لاتغيبي عن ناظري ؟ .. كدتُ أفقدك .
أرخت الطفلة يدها بيد والدتها المكسوّة بالغبار واستدارت لي بشهقة
الوداع بينما رعشت الطفولة متراقصة اليدين .
باي .. باي .. باي .
أشرتُ إليها بحركتها نفسها وانشغلتُ بكلمتها ( باي ) حتى بدت
الطفلة كظل . شعرتُ بتمزق ٍ في أحشائي، خاطبتُ المارة طالباً ذراعا ً
مرحّبة ً بي ، عذرتهم حين تحلّوا بالصمت إذ كيف لمقتول ٍ أن يملك شكيمة ً
تنقذ مسموما ً برغيفه ، تحاملتُ على وجعي وقررت العودة لخشبتي . طغى
حضور آخر حين تفقدتُ تكويني ، تراء ت لي صورة الطفلة حين وضعت يدها في يدي
، شعرتُ بشيىء يشبه المعدن في باطن كفي إذ كان له شكل مفتاح ، تحسسته ،
لهوتُ به بينما طفلة جميلة تلهو بتمثال أسوَد على خشبة قديمة، فتمنيتُ لو
تبادلني الخارطة .
كان هذا آخر مانطق به التمثال وهذه الأمنية سيّدي شهريار ،كلمة
تترفع على اللغة ، قوية بنفسها ، سيذكرها كل تمثال بذكر جميل ويحلم بمبادلة
الخرائط .
-ولكنه مجرد تمثال شهرزادي الجميلة ، وهل تحلم التماثيل ؟
-سيدي ! أرح قلبك ودع لي أمل التلذذ بصورة جديدة تلهو بذاكرة طفلة
علّها تسعفني ليلة الغد وتتركني أتحسس رقبتي ، ولربما سيصبح هذا التمثال
قدوة ً لكل التماثيل .
|