أهداف ناعمة *
في تَخَيُّل هذه القصص ( أهداف ناعمة ) اعتمدت على المواد التالية :
1
ـ جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي : تاريخ الخلفاء ـ ط2 ـ دار الجيل
ـ بيروت 1994
2
ـ محمد الخضري : محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية ( الدولة الأموية ) ـ المكتبة
التجارية الكبرى ـ مصر 1969
3
ـ ابن أبي حديد : شرح نهج البلاغة ج 1 ـ طبعة لم يذكر عليها اسم دار النشر أو
التاريخ
4
ـ صحف ومجلات مختلفة .
* الهدف الناعم : لا يعني شيئاً بعينه ، قد يعني مكاناً غير
محصن ، أو لا تتوافر له الحماية الكافية ، أو ربما يكون شخصاً ضعيفاً لا يقوى
على المقاومة ... فهو في الحالات كلها هدف يسهل الوصول إليه
عالم أبيض
كان جده الأعلى غليظ القلب ، علجاً ، مغامراً يجوب الآفاق . هذا ما
روته الكتب التي تناولت سيرته ، لكن أحفاده كان لهم رأي مخالف ؛ فهم ينظرون
إليه نظرة إعجاب ، يبجلون أفعاله ، ويتباهون بروح المغامرة لديه .
ذات يوم مخر عباب الماء على رأس عصبة من الجوالين ، لم تثنَ له
عزيمة ، أو تلن له قناة .... كان الوصول إلى الطرف الآخر هدفه ، وجني الغنائم
غايته( نبيلة أو غير نبيلة ، الأمر لا يعنيه البتة ) .
بعد عَنَتٍ وتعب وطأت قدماه أرضاً مجهولة ، غير التي كانت في مخيلته
ساعة الرحيل ، فقـد وجد عالماً جديداً ، كل شيء فيه موشوماً باللون الأحمر :
التراب ، والأجساد العارية ، حتى الأحلام والحكايات كانت مصبوغة باللون نفسه .
كانت فرصة نادرة أتيحت له ليشبع هوايته ؛ فأعمل سيفه في رقاب من
رحَبَّ بمقدمه ، وأَمَّنَه على حياته .... امتزجت حمرة التراب بحمرة الدم على
يديه .
بعد مدة من الزمن أراد أن يمحو من ذاكرته لون الدماء التي سالت ،
وأن يظهر بمظهر الرجل المسالم ؛ فأصدر أمراً ـ وجد قبولاً لدى أتباعه ـ بإزالة
كل ما يمت بصلة إلى ذلك اللون ، ومنع ذكره في المجالس والأروقة .. وهكذا كان ،
بعدئذٍ ارتفع شأن اللون الأبيض. لم يختلف الحفيد عن جده كثيراً ، إذا كان
الأول استخدم السيف في عصره ، فالحفيد كانت لديه القدرة على تصنيع أسلحة أشد
فتكاً ، لكن الغريب في الأمر هو نجاحه في تكوين رأي عام لصالحه ، وإيمان لدى
الناس بضرورة استخدام تلك الأسلحة ؛ من أجل إحلال الهدوء والمسرة في الأصقاع
قاطبة !
تكريماً لجده الأعلى عشق اللون الأبيض ؛ فرفع منزلته ، وأمر أن يسود
كل ما يحيط به من أثاث ، أو يمكن للعين أن تقع عليه من مسكن ، وملبس ، وطرقات
... ولو كان بمقدوره تبييض إهاب الأرض وصفحة السماء لفعل ذلك بسرور بالغ ، خاصة
عندما قال له مستشاره إن اللون الأبيض هو اللون الوحيد الذي يتمتع بميزة
الاحتواء ، فهو يضم سبعة ألوان ، وفيه إشارات إلى سبع حضارات سابقة ، وفي ذلك
دلالة كافية للناس كافة .
عندما تناهى إلى سمعه أنْ ثَمَّ أناس ـ في مكان قصي من الأرض ـ
يتغنون بمختلف الألوان ضاق صدره ، واغتم كثيراً ! تساءل : (( كيف يُسمح لهم
القول بأن صنائعهم بيض ، وقائعهم سود ، مرابعهم خضر ، مواضيهم حمر ؟ )) ، ثم
أعلن على الملأ : (( هذا اعتداء سافر على مجتمعنا ، وخطر داهم على حلمنا الناعم
. الآن حانت ساعة الفصل ؛ من ليس معنا فهو ضدنا ، لا خيار أمامنا سوى التحدي ،
لكن علينا أن نفهمه ، نحيط به ، ندرسه ، ثم نطبقه بنعومة ... )) .
البياض يُدخل إلى نفسه السكينة والهدوء ، ويُذَكِّره بالنصر المؤزر
الذي حققه جده الأعلى في ماضي الأيام ، و( العدالة البيضاء ) التي طبقها على
أعدائه أتت أكلها ؛ اجتث رؤوسهم ، وترك أجسادهم في العراء ، تنهشها طيور السماء
، فلم يبقَ منها إلا العظام بلونها الأبيض .
كان ما كان ، شرع بتطبيق شعار العدالة البيضاء ، و .....
الحسكة : أيار 2003
ثغر ناعم
من يستطيع ـ مهما كان شأنه ومنزلته في عرض الدولة وطولها ـ أن يرفض
له طلباً ، أو يتلكأ عن المثول بين يديه ؟ لا أحد .
هذا الشأن ليس غائباً عن بال ( نائلة ) ، فهي تدرك أن ذلك ( الحلم
) الذي اتصف به ، والدراهم التي كان ينثرها على الموالين ، ويبعث بها إلى غير
الموالين لكسب ودهم ، قادته إلى العرش الذي يتربع فوقه ، وهو في سبيل الحفاظ
عليه يسلك طرقاً مختلفة ، وقد وصفه أحدهم بعد أن صحبه زمناً : (( فما رأيت
رجلاً أثقل منه حلماً ، ولا أبطأ جهلاً ، ولا أبعد منه أناة )) .
كانت زوج رجل رفيع المنزلة ، قضى نحبه عندما دخل عليه رجلان ؛ فوجآه
حتى قتلاه ، وخرجا هاربين من حيث دخلا ... لم يكن أمامها غير الصراخ ... صرخت ،
فلم يُسْمَع صراخها لما كان في الدار من الجلبة .
هاهي السنوات تمر ، وهي أرملة ليس لها من الدنيا غير الذكريات ،
واليوم ماذا يجري ؟
جاءها رسول منه ، وأخبرها بكلمات مقتضبة أن سيده قد خطبها لنفسه ؛
فطلبت إلى الرسول إعلام سيده أنها تود رؤيته لأمر هام .
مثلت بين يده ، رأته رجلاً طويلاً ، أبيض ، جميلاً ، مهيباً . سألته
بهدوء :
ـ أنت أرسلت من يخبرني أنك خطبتني لنفسك ؟
ـ نعم .
ـ من يخطب يكن له هدف وغاية ... ما الذي يعجبك مني ؟
ـ ثغرك الناعم .
ـ أمهلني ليوم غد ، فآتيك بالجواب .
ـ لكِ ذلك .
خرجت ... عيناها حمراوان ، ويدها اليمنى تقبض على فيها بعنف !
في اليوم التالي طلبت إلى خادمها أن تقف بالباب ريثما تأتيها
بالجواب ، لتذهب به إليه حالاً . لم يطل غيابها ، عادت ويدها على فمها الذي
يسيل منه الدم ، ناولت الخادم صندوقاً صغيراً ، وأشارت لها باليد الأخرى أن
تنصرف بسرعة .
استأذنت الخادم بالدخول ؛ فأذنوا لها .... تقدمت منه وجلة ، ناولته
الصندوق قائلة :
ـ هذا جواب سيدتي .
فتحه بهدوء ، نشر الصرة ؛ وقع نظره على بقايا أسنان ملوثة بالدم .
لم يتفوه بكلمة ، ظل وجهه هادئاً ، أبيض .... أشار بطرف سباته نحو
الخادم أن تنصرف .
الحسكة : أيار 2003
حمامة المسجد
( 1 )
لم يَغِب عن باله أن جده الحكم ( الأبتر ) ، وأباه مروان ( خيط
باطل ) ( 1 ) كانا طريدين ، ملعونين بقولٍ من صادق أمين .
بلغت عداوة ( الأبتر ) لـ ( صاحب الحضرة الشريفة ) مبلغاً كبيراً ،
لم يكن ذلك سراً ؛ لقد أظهرها علانية في كل نادٍ ودار . كان لا يدع مناسبة تمر
دون أن يرفع راية سخريته منه ، وبغضه له ، فيشرع (( يحكيه في مشيه ، ويغمز
عليه عينه ، ويدلع له لسانه ، ويتهكم به ، ويتهافت عليه . هذا وهو في قبضته (
الحضرة الشريفة )، وتحت يده ، وفي دار دعوته بالمدينة ، وهو (اللعين الأبتر )
يعلم أنه قادر على قتله أي وقت شاء ، من ليل أو نهار ، فهل يكون هذا إلا من
شافٍ ، شديد البغضة ، ومستحكم العداوة حتى أفضى أمره إلى الطرد ؟ )) .
وروي أنه (( كان يتحيل ، ويستخفي ، ويسمع ما يسره ( صاحب
الحضرة الشريفة ) إلى أكابر أصحابه )) في سائر أعدائه ، ويفشي ذلك عنه .
وروي أنه (( كان يتجسس عليه وهو عند نسائه ، ويسترق السمع ، ويصغي
إلى ما يجري هناك مما لا يجوز الاطلاع عليه ، ثم يحدث به الأعداء على طريق
الاستهزاء )) .
وهو في أرذل العمر نفاه ( صاحب الحضرة الشريفة ) إلى مكان قصي مع
ابنه الذي كان طفلاً لا يعقِل ؛ لذلك لم يُقيض الله للولد الفرصة البهية
مطلقاً ؛ لمشاهدة ( صاحب الحضرة الشريفة )، وهو مؤمن بها وبرسالة الخير التي
يحملها ؛ وهذا ما أفقده صفاء الصحبة إلى الأبد ... فكانا ( الجد والأب ) طريدين
، ملعونين ... وروي أن ( صاحب الحضرة الشريفة) عندما لعن ( الأبتر ) كان (خيط
باطل ) لا يزال في صلبه .
الظروف تغيرت ، الأحوال تبدلت : بعد التحاق (صاحب الحضرة الشريفة )
بالرفيق الأعلى بمدة وجيزة ، جاء مَنْ رحب بعودة والده ( خيط باطل ) ، بل
قَرَّبه من مجلسه ، ورفع من شأنه ؛ فغدا صاحب كلمة مسموعة ، وفعل مؤثر .
نعم ، ذلك هو أبوه الذي أمتلك تجربة وخبرة ، ودراية بأسرار الخداع ؛
فأحسن استغلالها بعد موت الخليفة الثالث الذي رفض طلب ( أم خالد ) أن يجعل
الخلافة من بعده لأخيه خالد قائلاً : (( لا يكون لي مُرها ، ولكم حُلوها )) ؛
ومات ، ولم يعش في الخلافة سوى أربعين يوماً .
حاشية :
خليفة لا يحب أن يلقى بتبعات قومه :
كان سميَّ جده الذي خاض غمار حرب ضروس في سبيل الوصول إلى كرسي
الخلافة ، ثم جعلها ملكاً عضوضاً أما هو فكان على النقيض تماماً ، فعندما آلت
الخلافة إليه بعد موت والده استشار ( عمرو المقصوص ) ، وكان يكن له الاحترام
والتقدير ؛ فقال عمرو :
ـ إما أن تعدل ، وإما أن تعتزل .
ـ أنت ترى ما أرى ... العدل ... العدل أن تُعيد الحق إلى أهله .
ـ نعم .
ـ لا أحد من قومي يساعدني ، بل سيقفون في وجهي إذا فكرت بهذا
الأمر .
ـ اعتزل .
ـ إننا قد بُلينا بكم ، وابتليتم بنا ، وإن جدي نازع الأمر من
كان أولى منه ، ثم تقلده أبي ، فكان غير خليق به .. ولا أحب أن ألقى الله
بتبعاتكم ، فشأنكم وأمركم ، ولوه من شئتم.
ومات الخليفة المعتزل ...
جده الذي أمر بدس السم في طعام حفيد صاحب الحضرة الشريفة قال
فرحاً : (( إنَّ لله جنوداً من عسل )) ، فهل حلَّ حفيده ضيفاً على أولئك الجنود
، وأكل من عسلهم ؟ تتعدد الروايات .
( 2 )
مات الخليفة مسموماً أو غير مسموم ، المهم في الأمر أنه غادر الحياة
الدنيا ؛ فكانت الفرصة مواتية لـ ( خيط باطل ) ، فوثب على الخلافة ، وأنشد :
إني أرى فتنةً تغلي مراجلُها
والملكُ بعد أبي ليلى لمن غلبا
بعد الوثبة تلك جاءت الخطوة الثانية وهي الحيلة ، فاتبع طريقها في
إقناع الجمهور ، وإيهامه أن الأكثرية معه ؛ وتغلب على أعدائه في معركة ( مرج
راهط ) بعد عشرين ليلة ، وقتل منهم (( مقتلة عظيمة ، لم يقتل مثلها في وطن قط
)) .
(( فلما استوثق له الأمر أحب أن يبايع لعبد الملك وعبد العزيز ،
ابنيه ، فاستشار في ذلك ؛ فأشير عليه أن يتزوج أم خالد بن يزيد ( خليفة سابق ،
أرعن ) ؛ ليُصَغِّر شأنه ، فلا يُرشح للخلافة ، فتزوجها )) .
فلما بُويع له بالخلافة قال أخوه عبد الرحمن ـ وكان لا يرى رأيه ـ
شعراً :
فوالله ما أدري وإني لســائل
حليلةَ مضروبِ القفا كيف يصنع
لحا الله قوماً أمروا خيط باطل
على الناس يعطي ما يشاء ويمنع ( 2 )
بعد أقل من تسعة أشهر قمرية جاءه هادم اللذات ، ومُفَرِّق الجماعات
بتدبير من ( أم خالد ) زوجه ؛ فمات خنقاً تحت وطأة الوسائد والبراذع ... نعم
الوسائد والبراذع . هي أداة قتل بسيطة ، والسبب عبارة بسيطة تفوه بها في ساعة
انشراح ، والمجلس غاص بأهله . كلماتها قليلة ، هي بالتمام والكمال ثلاث :
ـ اسكت يا ابن الرطبة !
ولم يكن المخاطب سوى الغلام خالد ( ابن أم خالد ) ؛ فقال له :
ـ أنت لعمري مؤتمن وخبير !
وقام باكياً من مجلسه ، فدخل على أمه ، وأخبرها ، فقالت له:
ـ لا يعرفنَّ ذلك فيك ، واسكت ، وأنا أكفيك أمره .
فلما دخل عليها مروان قال لها :
ـ ما قال لك خالد ؟
ـ وما عساه يقول !
ـ ألم يشكني إليك ؟
ـ إن خالداً أشد إعظاماً لك من أن يشتكيك .
صدقها . أما هي فمكثت أياماً تترقب ... وجاء اليوم الموعود ، فنام
عندها ، (( وكانت قد واعدت جواريها ، فقمن إليه ، فجعلن الوسائد والبراذع عليه
، وجلسن عليه حتى خنقنه )) .
( 3 )
كان قد مضى من عمره أربعون سنة عندما مات والده (خيط باطل ) خنقاً ،
لكن كيف كانت بداية حياته ، وهو ابن الطريدين ؟
(( لما شب كان عاقلاً ، حازماً ، أديباً ، لبيباً ، وكان معدوداً
من فقهاء المدينة )) . ومما يروى أنه (( ولد لستة أشهر ، أبخر الفم .... كان
عابداً ، زاهداً ، ناسكاً بالمدينة قبل الخلافة )) .
لقبه الناس بـ ( حمامة المسجد ) ؛ فكان ـ قبل أن تؤول إليه أمور
السلطة والرعية ـ أهلاً لهذا اللقب .
عندما نزل جيش يزيد الذي جهزه إلى أهل الحجاز كان هو في مسجد
المدينة كعادته ، فجاءه ( الغساني ) ، وقعد إلى جنبه .
سأل الغساني : أمَنْ هذا الجيش أنت ؟
أجاب الغساني : نعم .
قال غاضباً : ثكلتك أمك ! أتدري إلى من تسير ؟ إلى أول مولود ولد في
الإسلام ، وإلى ابن حَوَاري النبي عليه الصلاة والسلام ، وإلى ابن ذات
النِّطاقين ، وإلى مَنْ حَنَّكه النبي ( صلى الله عليه وسلم ) ، أما
والله إن جئته نهاراً وجدته صائماً ، ولئن جئته ليلاً لَتَجِدَنَّه قائماً ،
فلو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكَبَّهم الله جميعاً في النار .
كان ذلك قبل موت والده ...
( 4 )
مات والده ( خيط باطل ) حنقاً ؛ فأفضى الأمر إليه .
هكذا أتته الخلافة من حيث لا يحتسب ، أو يفكر بهذه المسألة ؛ فقد
كان منصرفاً إلى العبادة ، والزهد ، وملازمة المسجد حتى لُقِّبَ بـ ( حمامة
المسجد ) ، وَعُدَّ أحد الفقهاء الأربعة ....
إذا كان والده قد خاض صراعاً في العلن والخفاء من أجل الوصول إلى
كرسي الخلافة ، والمحافظة عليه ، فلم يدر بخلده أن يريق نقطة دم واحدة من أجل
متاع الدنيا الفانية ، فالآخرة
خير له وأبقى .
الآن ماذا يفعل ؟ هذه هي الدنيا تتمثل أمام ناظريه بكرسي الخلافة ،
بكل ما يملك من هيبة ، وسلطة ، ونفوذ ، وما يترتب على بقائها قوية من استعمال
بطش ، وحيلة ، وتصرف ببيت مال المسلمين لكسب ود كبار القوم ، فإن لم ينفع المال
فالسيف أشد مضاء ، و ...... وتلك هي الدار الآخرة التي وعد الله بها المتقين ،
الصالحين من عباده ، وقد هيأ لها نفسه ، وأعدَّ لها ما استطاع لها من إيمان
وتقوى .
منذ أن تفتح وعيه على هذه الدنيا ، وهو مواظب على التقرب إلى الله
عبادة وعملاً ، وها قد مضى من عمره أربعون سنة .
الآن ماذا يفعل ؟
كان المصحف في حجره ، وهو يقلب الأمر في رأسه . لاشك أن الاختيار
بين الأمرين صعب ، ويحتاج إلى عزيمة وتصميم ، ثَمَّ فرق شاسع بين أن تكون من
أهل اللعب بأمور الحكم ، أو أن تكون من أهل الزهد والعبادة ! الآخرة تحف
بالمشقة والعنت ، والدنيا تحف بالشهوات والمغريات . صوت في داخله يعلو : ها هي
الدنيا ملك يديك ، فإن رفضت كرسي الخلافة ، فغيرك يسعى إليها بالمال والدم
و.....
أخيراً استقر رأيه ، وهدأت نفسه ، خلع عباءة العبادة والزهد ، أطلق
تلك الحمامة البيضاء الوديعة من صدره ، وشَمَّرَ عن ساعد الجِدِّ لمجابهة
الدنيا . هذا نصيبه منها ، ولن يتخلى عنه أو ينساه ، فما كان منه إلا أن أطبق
المصحف ، وقال : (( هذا آخر العهد بك )) .
وكان ذلك اليوم آخر العهد بينهما .
( 5 )
منذ الأيام الأولى لتربعه على الكرسي سلَّ سيف الغدر من غمده ،
وأوغله في دم كل من وقف ضده علانية ، أو أثار الشك حول بيعته ، أو دعا إلى
التمرد عليه ، ورفض الانضواء تحت سلطته .
في غمرة الصراع طال سيفه عنق ابني ذات النطاقين : مصعب ثم عبدالله ،
وعمرو بن سعيد ..... وكرت السبحة ..... لم يعفُ عن صاحب فضل سابق ، أو يرحم
قريباً ... أمران لا فكاك منهما : إما البيعة أو السيف !
بعد مقتل مصعب ، ابن ذات النطاقين ، خطب بالمدينة عام الحج ، فقال
بعد حمد الله والثناء عليه : (( أما بعد ، فلست بالخليفة المستضعف ، ولا
الخليفة المداهن ، ولا الخليفة المأفون . ألا وإن من كان قبلي من الخلفاء كانوا
يأكلون ويطعمون من هذه الأموال ، ألا وإني لا أداوي أدواء هذه الأمة إلا بالسيف
حتى تستقيم لي قَناتُكم ، تكلفوننا أعمال المهاجرين ، ولا تعملون مثل أعمالهم ؟
فلن تزدادوا إلا عقوبة حتى يحكم السيف بيننا وبينكم ، هذا عمرو بن سعيد قرابتُه
قرابتُه ، وموضعه موضعه ، قال برأسه هكذا ، فقلنا بأسيافنا هكذا ، ألا وإنَّا
نحمل لكم كل شيء إلا وثوباً على أمير ، أو نصب راية ، ألا وإن الجامعة ( القيد
والغل ) التي جعلتها في عنق عمرو بن سعيد عندي ، والله ! لا يفعل أحد فعله إلا
جعلتها في عنقه ، والله ! لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت
عُنُقَه )) .
وكان كما وصف نفسه ، تحقق له ما أراد ، جمع بين القول والفعل ؛ تغلب
على الخوارج في أرض الرافدين ، دك الكعبة بالمنجنيق على رأس عبدالله ابن ذات
النطاقين . لم يذكر أنه قال يوماً يصفه بأول مولود في الإسلام ، وبالصوم
والصلاة ، و (( لو أن أهل الأرض أطبقوا على قتله لأكبَّهم الله جميعاً في
النار )) . دانت له أرض المشرق ، اتجه إلى إفريقيا ( المغرب) ، وأشعلها حرباً
لا هوادة فيها ، قضى على كاهنة الجبل البربرية .....
عرف كيف يجمع بين العطاء بسخاء وسل السيف من غمده ، حين يخفق الأول
في تحقيق ما يصبو إليه ، كان يلجأ إلى الثاني بتدبير محكم ؛ لأنه ـ في نظره ـ
هو الحل الأمثل لتثبيت أركان الدولة ... رفع صرة الدنانير بيده اليسرى ، والسيف
بيده اليمنى . عاب على ابن الزبير الذي حنكه الرسول شحه وبخله ، وقف على النقيض
منه ؛ فامتد بجناحيه صوب المشرق والمغرب ؛ واطمأن إلى استقرار الحكم له
ولأولاده من بعده ، و ...................
حاشية :
أمير المؤمنين يشرب الطلاء والدم .
كان كثيراً ما يجلس إلى أم الدرداء ، فقالت له مرة : بلغني يا
أمير المؤمنين ! أنك شربت
الطِّلاء (3) بعد النسك والعبادة .
قال : إي والله ! والدماء قد شربتها .
وقال : ولدت في رمضان ، وفطمت في رمضان ، وختمت القرآن في رمضان
، وبلغت الحلم في رمضان ، ووليت في رمضان ،
وأتتني الخلافة في رمضان ، وأخشى أن أموت في رمضان ، فلما
دخل شوَّال وأمنَ مات .
وثمة أشياء .... لم يقلها ....
الحسكة : أيار 2003
( 1 ) ـ هكذا كان يدعى ؛ لأنه كان طويلاً مضطرباً
( 2 ) ـ لحا : في المثل : من لاحاك فقد عاداك ، و( تلاحوا )
تنازعوا ، وقولهم : ( لحاه ) الله ، أي قبحه ولعنه.( مختار الصحاح ـ مادة لحى )
( 3 ) ـ الطِّلاء : ما طبخ من عصير العنب حتى ذهب ثلثاه .
المغني عارياً
كانت القاعة تغص بالمدعوين ، وصوت المغني ينساب هادئاً ، ناعماً
كنسمة طرية ، وبين أطيافه تنهض بحة حزينة ، تشف عنها نغمات مقام شهير في عالم
الألحان ! هذا ليس بالغريب على أناس وشمت ذاكرتهم ضروب من الألم والمعاناة ،
وسالت على أرضهم دماء غزيرة عبر مسارات التاريخ !
وعلى الرغم من تلك الكلمات المرسومة بألوان حزن قديم ، والإيقاع
المتناغم مع أصداء ماء أرض السواد وأشجاره ، فإن تشكيل حلقة (الدبكة ) أمر
تستدعيه الذاكرة ؛ فيجتمع النقيضان : الحزن في الأغاني ، والفرح في الدبكة .
كل من دخل القاعة كان على علم تام أن أصغر جزء من أرض السواد تحت
مراقبة شديدة ، صارمة ، وكان من الطبيعي أن يُكلم أحدهم نفسه ، أو يهمس ـ في
ساعة ضيق ـ بأذن زوجه قائلاً : (( كأننا في غرفة العناية المركزة )) .
ويعرفون أن الليل إذا عَسْعَس سيخرج ( الابن المدلل ) محوطاً
بالعَسَس من قصره إلى أحد ملاهي البلد ؛ فيتصدر المكان ، بينما عصابته تترصد
الهمسات والإشارات ، وتمارس غوايتها كما تريد وتشتهي ، لا أحد يتجرأ على
الاحتجاج . إن من يفعل ذلك يرتكب إحدى الموبقات ، ومآله ( أبو غريب ) ، وبئس
المصير .
مَنْ يذكر اسمه دون تبجيل ، من يتحدث عن هيئته بغير إجلال وتقدير ،
من يومئ إلى طول ( سيجاره ) دون إعجاب بذوقه الرفيع ... من ... من ... الويل
له !
أبوه القائد الفذ ، الضرورة ، الملهم ، المنصور بالله ..... ، أما
هو فلا يحتاج إلى تلك السلسلة من الألقاب ، اكتفى باسمه ، اسمه كافٍ لزرع الرعب
في النفوس !
كل هذا هم على دراية به ، لكن أياً منهم لم يدر بخَلَده أن يحط
عليهم بغتة كـ ( القضاء المستعجل ) ؛ فالمكان لا يليق بصاحب المقام الرفيع ،
والكلمة النافذة ، والضحكة المجلجلة كالرعد ، والنظرات الوحشية من عينين
جاحظتين ......
خابت توقعات الحاضرين ... فإذ به يدخل البوابة المزدانة بألوان
المصابيح وسط جَلَبة المرافقين ! فيتحول المغني وأعضاء الفرقة الموسيقية إلى
تماثيل من الشمع ، يسود الصمت في القاعة ، تجحظ العيون ، تتحنط أجساد المدعوين
على الكراسي ......
يفر من كان يقعد إلى طاولة قريبة بإشارة من أحد المرافقين ، يرخي
جسده على الكرسي ، يبعد ( سيجاره ) الطويل عن فمه ، يتصاعد الدخان متموجاً ،
تنفرج شفتاه الغليظتان عن ابتسامة عريضة ، يومئ مزهواً إلى المغني أَنْ : تابع
.
يصدح صوت الموسيقى ، يزدرد المغني ريقه ، يحاول رسم ابتسامة تجاري
ابتسامة ( ابن القائد ) ، لكن وجهه يأخذ بالانكماش ، والضمور .... يرفع عقيرته
، يبذل أقصى جهده كي يدخل البهجة والسرور إلى قلب ذلك الماثل أمامه تحت سحائب
دخان ( سيجاره ) ، فلا يسعفه الحظ ، يخرج صوته متحشرجاً ....
ينظر ( ابن القائد ) إلى مرافقه الذي يقف خلفه نظرة عائمة ؛ جعلته
ينحي ذليلاً ، ويصغي إلى كلمات سيده المتقطعة الأوصال ، وهو يهز رأسه مع كل حرف
يتفوه به ... عندما أشار إليه أن ينفذ ما أمره ؛ فإذ به يقف منتصب القامة ، ثم
يندفع نحو المغني وكف يده اليمنى تمسح فمه بعصبية ؛ فصمت المغني فوراً ، وقد
حسب أن الأمر انتهى عند هذا الحد ، لكن المرافق همس بأذنه يأمره أن يخفف من
ثيابه ، ويغني ، لأن الثياب تثقل كاهله ، تعيق في صوته ؛ فتمنعه عن الانطلاق
على سجيته . امتثل المغني للأمر ، فخلع سترته ، لكن إشارة من ( ابن القائد )
جعلته يرمي قميصه الخارجي ، ثم توالت الإشارات حتى لم يبق عليه سوى سرواله
الداخلي الصغير . لم تطُل وقفته على تلك الحالة ، فقد جاءته الإشارة الأخيرة
.... أصبح المغني عارياً تماماً ؛ فابتسم ( ابن القائد ) على هذا الإنجاز
الرفيع ، وابتسم المرافقون ، ثم المدعوين كافة .
ظل المغني يغني عارياً حتى ساعة متأخرة من الليل ، و..... تلك كانت
آخر مرة يغني فيها ، فقد فرَّ من أرض السواد مرتدياً ثياباً أخرى جديدة .
الحسكة : تشرين الأول 2003
أضيفت في
23/03/2005/ * خاص القصة السورية
حنان أبي
كان يتكلم بحماسة ، يُزَوِّر ( 1 ) حديثه بحركات تترى ، رشيقة ، مُعَبِّرة .
أكثر من مرَّة جذبته زوجه من كُم قميصه ، أومأت برأسها ، طَرَفَت نحو ساعة
الحائط أَنْ : انهض إلى البيت ، فالوقت قد تجاوز منتصف الليل ، والصغار وحدهم .
يلتفت صوبها قائلاً : (( طولي بالك يا عيني ! أبو كريم جارنا ، نحن أهل ، وأخوه
ضيفنا قبل أن يكون ضيفه ... ثم إن الرجل مبسوط ، انظري إليه )) .
كنت ـ كما قال ـ سعيداً بحديثه . هذه أول مرة ألتقي به ،لم يسبق لي أن رأيته ،
أو سمعت باسمه من قبل ، غِبُّ دخوله بيت أخي تعارفنا ؛ تهلل وجهه ، وقال ضاحكاً
: (( ما جئت وأم رضا ـ في هذه الساعة ـ إلا للترحيب بضيفنا )) ؛ فشكرته 0 هكذا
كانت البداية ، لكنه ما كاد يسرد طرفاً من ذكرياته في قريته حتى خُيِّل إليَّ
أنني أعرفه منذ زمن بعيد . كان جُلُّ كلامه يدور حول محور واحد ، هو طريقة
والده في الحياة .
أخيراً أذعن لإلحاحها ؛ نهض ضاحكاً ، لوح بيده قائل : (( تصبحون على خير )) .
عند باب الغرفة فتل ـ فجأة ـ على عقبيه ، رمقني هنيهة قبل أن يصرخ :
ـ تذكرت ... إليك واحدة أخرى .
ـ هات ، حكاياتك شائقة ، لا يُمَلُّ الإنسان منها .
ظل في وقفته عند الباب ، رفض أن يعود إلى مقعده . التزمت زوجه الصمت مضطرة .
قال :
ـ فعلاً كان أبي في منتهى الحنان ، يحمل في صدره قلباً رقيقاً . صحيح أن من
يراه يضربنا جميعاً ، من الكبير إلى الصغير ، يحسبه قاسي القلب ، عنيفاً . نحن
الصغار كنا نظنه كذلك . الشخص الوحيد الذي كان يواسينا ، ويخفف عنا العذاب ، هو
أخي الأكبر ( الله يرحمه) . قبل ثلاثة أعوام استشهد ، وهو في عِزِّ رجولته .
كان يعرف طبع والدي ، وشغل الأرض وهمَّ الأرض ، يراه يكد من طلوع الفجر إلى
مغيب الشمس ، يبق الدم حتى يؤمن كسرة الخبز لنا . لم نكن نُصَّدِقُهُ عندما
يكلمنا عن نوع العلاقة التي تنشأ بين الفلاح والأرض ، وعن تأثير تلك العلاقة
على البيت ، وامتدادها إلى الناس والحياة 0 للأسف ! أدركت هذه الحقيقة بعد
سنوات من العيش المرير .
صمت بعض الوقت وهو يحدق في الأرض ، كأنه يستعيد بذاكرته مشاهد من تلك الأيام .
كنت مستعداً لسماع حديثه حتى مطلع الفجر ؛ ويبدو أنه لاحظ ما أنا عليه ، فلم
ينتظر مني كلمة أو إشارة . اقترب على مهلٍ ، وقال : (( انظر إلى رأسي ... أمعن
النظر ... ماذا ترى ؟ )) .
بينما كانت أصابع يديه تعبث برأسه ؛ رحت أحدق في شعره المتناثر. رأيت ثَمَّ
خطوطاً متداخلة ، تلمع خالية من الشعر . قلت :
ـ آثار جروح ، أو ... ضرب ...
انتصب واقفاً كالعصا ، صاح :
ـ هي تلك .... آثار ضرب ، وهي مصدر فخر لي ، لا تتعجب ! والله لولا هذه الأوسمة
في رأسي لما وصلت إلى ما أنا عليه الآن .
لم أفهم نوع العلاقة ، أو الرابطة بين والده وتلك الأوسمة ( على حَدِّ تعبيره )
. غريب أمر هذا الرجل ! آثار الجروح هذه مصدر فخره ! كأنه توقع ما يدور بخلدي ،
فقال :
ـ لا تتعجب يا صاحبي ! قلت لك إن والدي كان يضربنا ضرباً .. يعني ( قفا دست ) ،
عند قيام أحدنا بعمل لا يرضيه ؛ ينتفض كأن ملاك الضرب ينـزل عليه في تلك اللحظة
، فكل من يقع في طريقه ينال نصيبه ، لا يستثني أحداً ... العقوبة عنده جماعية .
ـ اسمح لي ... لم أفهم حتى الآن ! مرة تقول إنه كان يضربكم عند أوهى سبب ، ومرة
تقول إنه حنون .... كيف يجتمع الحنان مع الضرب ؟
ـ صبرك عليَّ .... هو لا يمارس تلك الهواية إلا عندما يبدر منا تصرفاً لا يطابق
تفكيره ، أما إذا جاء أي شيء يوافق ( طَرْطابه ) ( 2 ) انقلبت صورته تماماً ،
يا رجل ! قل إنه الحنان ذاته ، يُعطي من قلب ورب0 كم تمنيت أن يظل على تلك
الحالة ! أما إذا وقع ما يُعَكِّر صفوه ، فإنه يعود إلى سيرته الأولى ، وهات يا
ضرب ! من كل صنف ولون .
أذكر أني كنت في العاشرة ، أو الحادية عشرة من العمر ، عندما خرجت للصيد ذات
يوم ؛ حملت الفخاخ وتوابعها ، وخرجت قُبيل شروق الشمس ، اخترت عدة أماكن في
محيط بستان أحد الجيران ، نصبت فيها الفخاخ ، رحت أتجول باحثاً عن بعض الطيور
.... يعني : بَيُّوضَة ، قرقفان ... أنت تعرف أن هذه الطيور تحتاج إلى حيلة
لتدريجها صوب الفخ ... طال انتظاري ؛ يا رجل ! كدت ( أطق ) من حنقي ! أخيراً
صممت على مطاردة أي طائر أصادفه في طريقي ، حتى لو كان (أبو الحن ) لن يسلم مني
، لكنه كان يوم نحس ... حملت عدة الصيد ، وقصدت شجرة توت ضخمة ، قعدت في ظلها
منهكاً ، لم أمكث سوى دقائق معدودات ؛ فإذا بي أسمع زقزقة عصفور ؛ رفعت رأسي
على مهلٍ ، نقبت عنه بنظرات ثاقبة . كان يتأرجح على غصن في أعلى الشجرة ؛ فأسرع
أخوك بِمدِّ يده إلى جيبه ، وسحب ( المطيطة ) ، نهضت حابس الأنفاس ، اخترت
المكان المناسب ، أطلقت ـ بكل عزم وقوة ـ تلك الحصاة الصغيرة ؛ فأصابت هدفها
بدقة ، انتظرت أن يسقط العصفور ، لكن شيئاً من هذا لم يحدث ....
قاطعته زوجه ، وهي ترسم على شفتيها ابتسامة غامضة : ـ يعني قل المفيد ، وخلصنا
، والله ! تعبت من الوقفة . ( وهي تنظر إلينا ) يا جماعة ! كل الحكاية أنه تسلق
الشجرة ، زلت قدمه ؛ سقط مغطى بالدم ، وجاء عمي ـ الذي لم يكن قد أصبح عمي ـ
فكَمَّل عليه بالشتم والضرب .
ردَّ عليها بنـزق : يا عيني ! هنا التفاصيل مهمة .
قالت مستسلمة : ما دمت مصراً على الدخول بالتفاصيل سأقعد ، وأمري لله .
عادت إلى حيث كانت ، هبط جسدها بسرعة ، بينما تابع حديثه من حيث توقف : تسلقت
الشجرة ، من غصن إلى غصن ، وصلت القمة ، هناك رأيته محمولاً فوق مجموعة من
الأغصان المتشابكة ؛ زحفت نحوه بحذر ، لكن الحذر لم ينفع هنا ، فجأة فتل جسمي ،
وسقطت ... الغصن الضعيف كان ينكسر تحتي ، والقوي يقذفني بعيداً عنه ، عدت إلى
حيث كنت في ظل الشجرة على آخر نفس ، شبه محطم ، لم يبق في جسدي موضع شبر إلا
وفيه طعنة قضيب ، أو ضربة غصن . لا أعرف من حملني إلى البيت .... هناك جاءني
البلاء الأحمر . السقوط من أعلى الشجرة كان أهون .... دخل عليَّ أبي كالقضاء
المستعجل ، عينك لا تشوف ! فكانت مصيبة فوق مصيبة ! هذه بعض آثارها 0 أتعجب ـ
الآن ـ كيف تحمل جسدي كل ذلك الضرب ! يا أخي ! فعلاً الجسد جبار إذا بقيت فيه
روح الحياة ، يقاوم بطريقة عجيبة ، تفوق التصور !
بعد يومين أو ثلاثة رأيت أخي ( الله يرحمه ) على غير عادته ، قعد قريباً مني
صامتاً ، كأنه كان يفكر بعمل شيء ما . بعد قليل دخل أخوتي ، واحداً بعد الآخر .
يبدو أن مجيئهم كان بطلب منه ، هذا ما تبين لي . قال بهدوء : (( اسمعوا ، أنا
أكبركم سناً ، لي من العمر ست عشرة سنة ، جسمي أقوى من أجسامكم ، انظروا إلى
هذه العضلات )) . حتى تلك اللحظة لم يفهم أي منا ماذا يقصد من مقدمته الطويلة ،
لكننا لم نسأله . فعلاً هو أكبرنا ،قوي البنية . تابع بالهدوء نفسه : (( عندي
حل لمشكلتنا ، كل ما تعرفونه عن أبيكم هو يده والضرب ، لا تنـزعجوا منه ... أنا
أعرفه أكثر منكم ، سأتحمل كل ما يقع عليكم )) . في هذه اللحظة ـ على ما أذكر ـ
دخل أبي الغرفة ، ويبدو أنه سمع طرفاً من الكلام ؛ فخاطب أخي باستهزاء : ((
حضرتك عامل حالك رجَّال ؟ شو تتحمل ، ما تتحمل ؟ )) ؛ فوقف أخي ، اتخذ هيئة
الاستعداد ، ثم مَزَّقَ قميصه عن صدره بعنف ، وخاطب أبي بكلمات غريبة ، أول مرة
أسمعه يتفوه بها ، قال له : (( أبي ! بصراحة أنت مصاب بمرض اسمه الضرب ، وأخوتي
صغار لا يتحملون العذاب ، كلما عَنَّ على بالك الضرب أنا جاهز ، اضربني بدلاً
عنهم ، اضرب قدر استطاعتك ، لن ترهبني ، بس اتركهم )) .
توقعت من أبي أن ( يَلُوحَه ) بكف على وجهه ، لكنه لم يفعل ، كأنه صُدِم بشيء
حاد ، لم يحسب له حساباً ! انسحب من الغرفة صامتاً . نظرنا إلى أخي نظرة إكبار
، كدنا نقفز من الفرح . فجأة انقلبت سحنته ، أشار بيده أن نلتزم الصمت ، وخرج .
عرفنا ـ فيما بعد ـ أن موقف أبي أصابه بألم شديد ، وهو أمر لم يكن يتصوره .
فيما بعد غدا حزن أخي أكبر ، تجلى ذلك في كثير من تصرفاته ؛ عندما سألته عن
السبب ، أجاب إنه تجاوز الحد ، وظلم والده ، وكان الأجدر به أن يعرف الظروف
التي تجعل الإنسان يخرج عن طوره في بعض الأحيان ، قد يكون بعضها بسبب الخوف من
المستقبل 0
كلمات أخي تلك كشفت لي الأيام معناها .... بعد نجاحي ( شحط ) إلى الصف السابع
نويت ترك المدرسة . عندما أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام ، أتخيل نفسي (مثل
الشيطان المُصَوَّر ) ، كما كانت أمي تصفني تماماً . كرهت الكتب والمعلمين ،
وأشياء أخرى ، لا داعي لذكرها .
حينما علم أبي بالأمر جَنَّ جنونه ، كان ترك المدرسة يعني له ـ وهو الأمي ـ
الموت . لم تكن أمي أقل منه غضباً ، احترت ! ربما تعود إليه هواية الضرب ! لم
يقف أحد إلى جانبي ، حتى أخي وقف بصف أبي . إذاً لا مفر من الدراسة ... وربك
فرجها ، جاءني من علم الغيب مدَرِّس جديد ، أخذ يُشجعني ، يُسهل الدرب أمامي ،
يُردد على مسامعي كلمات أكبر من أن أفهما ، كأن يقول: (( لدى الإنسان جانب خفي
، لا يُقَدَّر بثمن ، يحتاج إلى من يزيل عنه الغبار )) . كان لطيفاً ، الله
يُذكِره بالخير .
أمسيت حائراً بين ضربات أبي المتقنة وكلمات المدَرِّس المشجعة ؛ اتخذت قراري ،
تخليت عن بعض ( الشيطنة ) ، وانتبهت إلى دروسي ، وفي نهاية العام كنت من بين
الخمسة الأوائل ، يا سبحان الله !
نأتي إلى أهم شيء من كل هذا الحكي ... في الصف التاسع بذلت أقصى ما أستطيع
بمساعدة المدَرِّس ، تقدمت إلى الامتحان والخوف يركب كل ذرة في جسدي ... ثم جاء
ذلك اليوم الموعود ، ظهرت نتيجة الامتحان ، وكنت الأول ؛ فَجَنَّ جنون أبي ،
لكن من الفرح هذه المرة ... يا حزركم ! ماذا فعل ؟ تصوروا ! أسرع إلى الفدان (
3 ) ، رأس ماله الوحيد ، الحيلة والفتيلة ، فكه من المحراث ، ذبحه بيده ،
وفَرَّق لحمه على أهل القرية 0 ألم أقل لكم إن أبي حنون ؟ هذا الأمر دفعني إلى
متابعة الدراسة ، وها أنا كما ترون .
التفت إلى زوجه ، تنفس بعمق ، خاطبها بصوت أقرب للهمس : ـ الآن شرفي إلى البيت
.
اقترب مني ، أمال رأسه نوحي قائلاً : هل أزعجتك ؟
أجبت : أبداً .
( 1 ) التزوير :
التزيين ، وزَوَّر الشيء تزويراً حسنه وقومه .
( 2 ) الطُّرْطُبُّ : الثدي الطويل ، وفي العامية يُقال : ( جاء على طرطابه ) ،
أي حسب ما يرغب ويشتهي .
( 3 ) الفدان : آلة الثورين للحرث ، وهي البقر التي تحرث ، والمقصود في القصة
هو الثور .
في المحطة
ظل القطار يخترق السهل الأصهب ، أسير إيقاع ثابت لم يتخلف عنه ،
أو يفارقه قيد أنملة .
منذ أن ودَّع خلفه آخر محطة مَرَّ بها لم يرَ الركاب إلا الهَبُوبة(1) ، وبعض البيوت الطينية الخفيضة ، المتناثرة عشوائياً .
بات من المألوف ، والمعروف أن يقف القطار دقائق معدودات في
المحطات كافة ؛ إما لصعود ركاب ونزول آخرين ، أو لأخذ الموافقة على متابعة
السير
عندما وصل محطة ( السلام عليكم ) ، لم يخالج الركاب أدنى شك أن
هذه الوقفة مثل غيرها ، لكن وقتاً أطول من المعتاد مَرَّ دون أن تصدح صفَّارة
القطار ، أو تتحرك عجلاته ؛ فنهض كثير منهم متسائلاً ، نظروا من النوافذ يمنة
ويسرة ، لم يروا غير بناء صغير ، برزت في مقدمته لوحة متطاولة ، كُتب عليها بخط
أبيض فوق أرضية زرقاء :( محطة السلام عليكم ) ، وعلى جانبي البناء امتدت أرض
منبسطة كراحة اليد ، جرداء ، لا يوجد فيها ( صافر نار ) .
منهم مَنْ أصابه الملل ، فتراجع متأففاً ، وارتمى فوق مقعده ،
ومنهم مَنْ ظل واقفاً يحدق في الأفق الرحب حيناً ، ويبادل جاره النظارات حيناً
آخر . أما مَنْ ركبه القلق والملل ، وضاقت به ( الحظيرة ) ، فقد تحرك من مكانه،
وأسرع بالهبوط . كانت تلك الحركة فاتحة كتاب الخروج ، حيث اندفع بقية الركاب في
الممرات الطويلة باتجاه الأبواب الخارجية ... غدت العربات فارغة إلا من الأمتعة
.
اتجه رهط من الركاب إلى البناء ، صعدوا بضع درجات . ظهورهم
تُشرف على القطار المستسلم لقدره ، وعيونهم تحدق في الجانب الآخر ، تبحث عن أي
عامل من المقيمين في البناء المعزول . تناهى إلى أسماعهم قول أحدهم : ( عطل
طارئ ) ؛ فانتشر الركاب بين العربات والبناء ... وطالت مدة العطل الطارئ .
اقتربت الشمس من المغيب ... حلَّ المساء ، ثم سادت الظلمة . أصبح المسافرون
يتحركون كالأشباح ، تفرق عدد منهم في الجوار ، ثم عادوا وبيد كل منهم حزمة من
العيدان ، وضعوها على هيئة كومة ، وأضرموا فيها النار . شكل نفر من الشباب حلقة
مفتوحة ، تشابكت أصابعهم ، تبادلوا النظرات ، ابتسموا ، ارتفع صوت أحدهم : ((
يللا ع الدبكة )) . عندما سمع الواقفون بعيداً ذلك الصوت حسبوا أن الأمر مجرد
دعابة ! اقتربوا من موضع النار ، وقع نظرهم على ( راعي الأول ) وهو يضرب الأرض
بقدميه ، يقفز ، يدور حول نفسه منتشياً ؛ تعجبوا ! اكتفى بعضهم بهزة رأس ،
وأدار ظهره ، بينما ظل عدد منهم يراقب المشهد ضاحكاً .
انقضى أكثر من ساعتين .. العطل لم يعد طارئاً كما كان يُخَيَّل
! أصبح دائماُ ؛ تضافر القلق والانزعاج في خلق حالة من الجيشان ! ارتفع الصخب
والضجيج .. أرتال من الركاب تهجم على المحطة ، بعضهم يدعو إلى تحطيم الزجاج ،
والأثاث ( إن كان ثمة أثاث ) ، آخرون يرفضون القيام بأي عمل تخريبي ، ويسعون
إلى تهدئة النفوس الثائرة ، لأن السكة ، والقطار، والمحطة ... ملك الناس كافة ،
يجب عدم المساس بها ، أو إلحاق الضرر بأي جزء منها . المسؤولية تقع على المؤسسة
، ويجب أن تعالج الوضع بسرعة ، فبين الركاب نساء ، وأطفال .... والماء في
الخزان الوحيد لا يمكن أن يكفي هذا الخلق ...
من جانب آخر ارتفعت أصوات تدعو ناظر المحطة إلى إيجاد حل مناسب
، وإلا ستقع الطامة على أم رأسه ، ورأس الذي عينه !
هذا الصخب كله لم يجدِ فتيلاً ، ولولا تصدي نفر من العقلاء
للشباب الهائج ؛ لغدت المحطة نهباً للخراب والدمار . ومما هدأ من روع هذا الحشد
تنطع رجل وهو يدلي برأيه حول إيجاد حَلٍ للخروج من المأزق بسلامة ، بعد أن تبين
عجز ناظر المحطة ، حيث لم يتلق أية استجابة من رؤسائه في المؤسسة .... المهم
نقل الركاب من هذا المكان القفر إلى أقرب مدينة ، وهذا يتطلب الاتصال مع
المحافظ أو قائد الشرطة ، لتأمين وسائط النقل اللازمة ..... نال موقفه الرضا .
يدخل الرجل بوقار مكتب الناظر ، يقول بصوت أقرب للهمس :(( سأتصل
مع السيد المحافظ )) ، ينظر في دفتر صغير ، يتناول سماعة الهاتف ، يركب الأرقام
، ينتظر ، يتناهى إلى سمعه صوت ضعيف للجرس قادم من الطرف الآخر ... لا أحد يجيب
؛ يغلق الهاتف بغضب ، ينظر في الدفتر ، يركب أرقاماً جديدة ، يصيخ السمع ...
يرمي السماعة ، يهز رأسه وهو يقول : (( اللعنة ! قائد الشرطة غير موجود أيضاً
)) ؛ يجر أذيال الخيبة .
يشعر الركاب بالإحباط ! ينضب الماء من الخزان كما كان متوقعاً ؛
يعلو صراخ الأطفال . ضؤ المحطة الباهت يشير إلى أشباح تتحرك في أكثر من جهة ،
يرتفع الصخب من جديد ....
* * *
أحد الواقفين قرب الباب يلتفت إلى جاره ، ويخاطبه :
ـ انظر إلى تلك الثلة ... أحسبهم جماعة من المشاغبين ! نحن في
محطة ( السلام عليكم ) ، لكني أتوقع أن حركتهم لن تمر بسلام ... هدفهم تخريب
المحطة من باب الاحتجاج ، أنت ما رأيك ؟ .
ـ لن ندعهم يفعلون .
ـ كيف نواجههم ؟
ـ نادِ الشباب إلى هنا بسرعة .
حضر كل من وصله النداء من المعارف والأصحاب ، وآخرين من غيرهم
الذين لفت نظرهم تلك الحركة الغريبة . كان بين الحضور رجل معتل القامة ، بطين ،
حركاته توحي للرائي بقدر كبير من السخرية . عندما وقع نظره على الرجل الواقف
جانب الباب ، أسرع نحوه وهو يهز وسطه ... وقف قبالته ، افتر له ضاحكاً ، فبادله
الرجل بضحكة من مثلها ، ثم أشار بسباته ناحية تلك الثلة ؛ فالتفت البطين بسرعة
، حملق .. صرخ :
ـ لن نسمح لهم ... يخسون .
ـ النفوس ثائرة بسبب الوضع ! علينا تهدئتهم ، ومنعهم من العبث .
ـ هذا رأي رجل عاقل ، لكن ماذا ينفع العقل إذا ركب الجنون
رؤوسهم ؟
ـ لم يصل الأمر إلى هذا الحد .
ـ عندي حل ...
لم يكمل حديثه ، يصمت ... يتجه صوبهم بحركات راقصة ، يقف على
مسافة قريبة منهم ، يشمخ برأسه ، يرفع عقيرته عالياً :
ـ أنسيتم كيف كنتم تسافرون قبل سنوات قليلة ؟ يبدو أنكم كذلك
... يا راكبي الحمير ! كنتم تقضون الليل بطوله وقسماً من النهار حتى تصلوا ...
والآن عطل بسيط يفعل ( الفعايل ) بكم ، ثم إن المحطة هي من أموال الشعب ...
فجأة أصيب بالخرس عندما أطلق أحدهم ( عفطة ) ؛ بينما غرق
الآخرون في نهر من الضحك . طال صمته ، لم يتفوه بكلمة حتى عندما رأى رجلاً يبرز
أمامه منتصب القامة ، وينظر إليه شزراً ( لا بُدَّ أن يكون صاحب ذلك الصوت ! )
.
صدق ظنه ... هاهو يلوح بسباته أمامهم كأنه قائد فرقة موسيقية ؛
فيعلو أزيز قهقهاتهم ، وينخفض تبعاً لحركة يده ... وحين أشار أَنْ : اصمتوا ؛
استجاب لكلمته الضاحكون كافة ، عندئذٍ سمعه يقول بصوت عالٍ :
ـ يا سلام ع الشعب وأمواله ! يا أخي ! نحن جزء من الشعب ، ولا
أحد يهتم بنا .. ها قد مرت خمس ساعات ، ومازلت تقول إنه عطل بسيط ؟ أنت أعمى أم
مُهَبَّل ! ألا ترى بعينيك حالتنا ...
ـ بلى أرى ، ولهذا فإن أية حركة منكم لن تمر بسلام وهدوء ...
وفهمكم كافٍ ، والسلام عليكم في محطة السلام عليكم .
تبادلوا النظرات ، وساد الصمت ، فإذا بصاحبهم الذي أثار تلك
الموجة من الضحك يخاطبهم بصوت وقور:
ـ شباب ! عندي اقتراح ... ما رأيكم لو طلبنا العون من أمريكا ؟
جحظت العيون ، وقبل أن يتلقى الجواب ( يبدو أنه كان على علم به
) تابع دون أن يبدل نبرات صوته :
ـ ليس هناك أية مشكلة . الرئيس صديقي، والمثل العربي يقول : ((
الصديق عند الضيق )) . ونحن في ضائقة ...
ارتفعت الأصوات ساخرة :
ـ تقول إن الرئيس الأمريكي صديقك ! يعني كنتم تلعبون ع المزبلة
سوا ؟
ـ هذا وقت مَزْح ! إي تضرب بجحش حنكك .
ـ ولَكْ قرد ! مَنْ لا يعرفك يحسبك رجلاً عليه القيمة .
ـ لتذهب أنت وصديقك الرئيس إلى بيت .... الخلاء .
ـ قلت في نفسي : عَقِل الرجل .. ألم تترك هذه العادة ؟
ـ أنا أراه عاقلاً ... الرجل يطلب المساعدة من قوة يحسب لها ألف
حساب ، وليس من ...
تنفرج شفتاه عن نصف ابتسامة ، ويهز جسده ، يتظاهر بإطلاق ضحكة
طويلة من القلب :
ـ يا جماعة ! لا توجد مشكلة . أنا بنفسي سأتصل هاتفياً بصديقي
الرئيس ، وأطلب تقديم مساعد عاجلة . هو لن يتأخر ... هو يحب فعل الخير لوجه
الله تعالى .. صدقوني .
ـ كيف يكون ذلك ، والمسافة بيننا شاسعة ؟
ـ هل نسيت أن لصديقي قواعد عسكرية في أرجاء
المعمورة ؟ ... هذه واحدة قريبة منا ... شلفة حجر ، وراء الحدود
... يعنى : لا تمر نصف ساعة إلا وتكون حوامات الإنقاذ فوق رؤوسنا .
ـ أخاف أن يصيبنا ما أصاب الفارين من فيتنام عندما راحت حوامات
صديقك ترميهم في البحر . ألم ترهم في التلفزيون ؟
ـ بلى رأيتهم . الحق عليهم ، كانوا ضعافاً ، أيديهم رخوة ، لم
يتمسكوا جيداً ؛ فوقعوا .
ـ تتحدث حديث الواثق من نفسه .
ـ طبعاً ، الرئيس صديقي .
ـ من أين جاءتك تلك الصداقة ؟
ـ من السينما ... إي من السينما ، لا تنظروا إليَّ هكذا ! حلمكم
عليَّ ... كل فيلم من أفلام رعاة البقر شارك في تمثيله ، وعُرض في بلدنا شاهدته
أكثر من مرة ... ألم أقل لكم إني كنت أراه عن قرب ؟
ـ وما رأيك فيه ؟
ـ بصراحة ؟ هو ممثل رديء .
تعالت أصوات الضحك ، تداخلت الكلمات ، وتشظت .. غدت أشبه بطنين
النحل
* * *
لم تهدأ النفوس إلا بعد أن جاء الخبر بقدوم حافلات النقل
الداخلي ، وعدد من حافلات النقل الخارجي التي حُجِزت لنقل المسافرين من المحطة
إلى المدينة .
ما كادت أضواء رتل الحافلات تلمع في عتمة الليل حتى تسارع وقع
الخطوات ، تعالت أصوات الرجال ، صراخ النساء ، وبكاء الأطفال ...انطلق الجميع
صوبها .
ركضت مع الراكضين ، اندفعت نحو باب أول حافلة صادفتها ، لم
أستطع إيجاد موطئ قدم ؛ تحولت إلى الثانية .. انتقلت إلى الثالثة ... فما كان
مني إلا أن عدوت بأقصى سرعة نحو الحافة السابعة ، فقفزت إلى داخلها ، وارتميت
على أول مقعد فارغ .
شباط 2004
(1)الهَبُوبة : الريح تثير الغبرة ( مختار الصحاح ـ مادة :
هب ) .
لا ...
الآن .....
بعد تلك التجربة المريرة التي عشتها ، وما رأيت فيها من صلف
وغرور ، وإذلال بطريقة بشعة ، غير مبررة البتة ( حسب المصطلح الذي أصبح
دُرْجَةً هذه الأيام ) ، لا أستطيع إلا أن أقول : (( كان الله في عون من يقع
بين أيديهم ! )) .
الآن أشعر بتحسن واضح يساعدني على تذكر دقائق ما جرى ! أين كنت
وأين أصبحت ؟ بغتة انقلب كل شيء ـ بقدرة قادر ـ رأساً على عقب ! وغدا أشد وطأة
وعنفاً من حلم طويل ، مكتظ بالكوابيس !
لأني أعرف ( من هنا بدأت المشكلة .. المعرفة هي أس الابتلاء ) ،
ولديَّ خبرة تكونت خلال خمس وعشرين سنة من العمل في حفر الآبار ، والإنتاج ،
ومستودع القطع التبديلية ؛ فقد قلت بثقة متناهية ، وهدوء الخبير العارف : ((
لا ... هذه هي خلاصة الكلام )).
لم أقل ذلك لمجرد إطلاق الكلام على عواهنه ، بل نتيجة فحص ،
وتمحيص ، ومقابلة ؛ ولأن هذه الـ ( لا ) تنفي الضد وتثبت الحقيقة ، وأعتقد أن
في ذلك عين الصواب . كيف ؟ طوال المدة التي استغرقها العمل مني كنت أضع نصب
عيني الاقتراب من حقيقة الأمر ، والحقيقة ـ كما أفهمها ـ لها طرق متشعبة ، ولكي
أقترب منها ، وأنام قرير العين ، مرتاح البال ، كان عليَّ البحث عن السبيل الذي
ينفي نقيضها . كثيرون يعرفون القاعدة اللغوية التي تقول : نفي النفي إثبات .
بالنسبة لي الأمر متقارب .
لكن ، فماذا كانت النتيجة ؟
سأروي بصوت قوي وقائع ما جرى ، غير آسف ، أو نادم على ما فعلت :
استقبلني هاشاً ، باشاً ؛ قعدت قبالته ، ظلت البشاشة ترعى وجهه
، وكلامه ينساب ناعماً كنسمة طرية تلامس صفحة الماء . كل ذلك قبل أن ( أقذف )
بهذه الـ ( لا ) في وجهه . أما بعدها فقد انقلبت سحنته ، واربدت ، ثم ارتفع صخب
كلامه حاملاً صنوفاً من الوعيد والتهديد ، وكأني مجرم حرب . يا لهذه الـ ( لا )
التعيسة ! ماذا فعلتِ بإنسان كان كل همه أن يقدم تقرير خبرة مبني على الوقائع
والمشاهدات والتدقيق ؟
أنا الآن غير مصدق أني نجوت بجلدي ، ووصلت بَرَّ الأمان ! ربما
( طقت معي ) في تلك اللحظة ؛ فركبت رأسي ! نعم .. هذا ما حصل ، كنت واثقاً من
نفسي ، مقتنعاً بصحة ما أقول ... رفضت بعنادٍ أن أنساق لغير الحقيقة كما أعرفها
! ليكن ذلك باب من أبواب الجنون ، ما ألذ هذا الجنون !
في البداية رفضتُ بهدوء كتابة ما أملي عليَّ ؛ لأن الكلام الذي
سمعته لا يمت بصلة إلى الواقع ، ثم إن الأمر يحتاج إلى تدقيق وتمحيص ، وهذا لن
يتم في غمضة عين ، لا بد من الرجوع إلى ذاتيات القطع والأدوات في المستودع ،
وإجراء فحص لرؤوس الحفارات التي ضبطت مسروقة ، ومقابلة بين أرقامها وأرقام
القطع النظامية ... ربما تكون من الهوالك ، أو عائدة إلى جهة أخرى ! طرق
الحقيقة متشعبة ( كما قال الأستاذ حسن ) ، ومسك طرف منها يتطلب كثيراً من
التحري والتأني، وهذا القابع أمامي ( في الحقيقة ، وعلى وجه الدقة : أنا القابع
أمامه ، لماذا الكذب ؟ فالمزار بيني وبين عمرو بن معديكرب الزبيدي بعيد ،
ومقامي ليس مقامه ! ) ( 1 ) يريد أن أقرر بسرعة وجود سرقة موصوفة ، هكذا ( خبط
لزق ) ! هذا منطق غريب ، لا يقبل به من يملك ذرة من العقل !
إذا كان مطلوباً مني تقديم تقرير خبرة ليس إلا ، فلماذا يقابلني
هذا الرجل بصلف وعدوانية ؟ سبحان مغيِّر الأحوال ! قبل قليل كان دمثاً ، ناعماً
( مثل الراحة الممسكة ، المعطرة ) ، ثم انقلب ، وتبدل ، وتلون بعد أن تفوهت ـ
دون نية سيئة ـ بضع كلمات توضيحية !
ثمَّ شيء لم أدركه ساعتئذٍ ، ومع ذلك رفضت أن أكون مجرد دمية !
إذا كانت الغاية تحويل الأمر إلى خلق اتهامات لأطراف أخرى ، وترتيب أوضاع لا
أفهمها ، فهذا لا يعنيني البتة ! شيء خفي ـ أتعجب منه الآن ـ أثارني ، حرك في
نفسي مشاعر الغضب ! لم أستسلم ، قابلت الإصرار بإصرار أشد ، طلب إلي أن أكتب ما
يُمليه عليَّ ؛ فرفضت ، لأني مقتنع أن الكشف عن ملابسات الموضوع لا يكون بهذه
الطريقة الغريبة .
حاول أكثر من مرة إجباري على كتابة التقرير وفق رغبته وهواه ،
فلم يجد مني أذناً صاغية ، ركبت رأسي ، وصرخت دون وعي :
ـلا .. لن أكتب حرفاً يخالف قناعتي .
ـلا تنفعل ، غيرك كان أشطر .
ـأنا أقول .....
ـاسمع .. إذا كتبت ما أقوله لك تنال منا الرضا والقبول ، ومن
يكسب رضانا يرتفع ...يرتفع ، صدقني ( وضرب على صدره ) ، أما من نعضب عليه
فمصيره أسفل السافلين .
ـلن أفعل .
ـيا رجل ! افهم ...... بإمكاني رفعك إلى فوق ، وبإمكاني (
وأشار بيده نحو الأسفل ) .
ـأنا لا أريد ... ليكن ما يكون ! هذه هي الحقيقة .
يبدو أن الرجل لا يريد الحقيقة ! أو يريد حقيقة خلبيه على
هواه... إذا كان كل شخص ينظر إليها من زاويته دون أساس متين ؛ فإنها ستتشظى إلى
مزق شتى .... هذا أكيد .
كل رجل يشغل هذا المنصب يحاول عدم إظهار اليأس ، ويُعيد الكرة
مرة تلو الأخرى . لمست ذلك ، لا بل ذقت مرارته ، وقد تجلى في عبارته الأخيرة :
(( الآن اذهب ، وعُدْ ... )) . لم أسمع سوى ما وددت سماعه ، واتجهت نحو الباب
المغلق ...
عندما قُيِّض لي الخروج من ذلك البناء الشامخ أسرعت ـ بقدر
المستطاع ، وهو ليس بالكثير ـ صوب البيت ، لم ألتفت خلفي إلا قليلاً ، لكن
بغضبٍ شديدٍ .
ما كدتُ أضع قدمي ( ربما اليمنى .. ربما اليسرى ! لم أعد أذكر )
في عتبة باب الشقة حتى رحت أصرخ كالمجنون : (( أريد أن أنام ... أنام يا
عالم ! )) .
ما انفكت عيون الموجودين تحدق في وجهي بذهول ! لم أستطع ـ في
تلك اللحظة ـ تفسير ما حدث ، أو توجيه الشكر لهم على تهنئتهم لي بسلامة العودة
. معهم الحق كله أليس كذلك ؟
كان فكري في شغلٍ ، يجوب متاهات عالم آخر : (( أريد أن أنام !
هل يحسبون أني فقدت عقلي ؟ من يَمُر بالتجربة التي مررت بها يدرك أني لست
بالمجنون ، وإن بدت بعض تصرفاتي كذلك ! )) .
لم أستطع النوم كما كنت أتخيَّل وأشتهي ، لكن بعد لأي بدت عليَّ
علائم الهدوء . ( هكذا روي لي فيما بعد ) ، وجاء في الرواية أيضاً أن حالة
غريبة اعترتني ؛ فجعلتني أصرخ ( في المنام ) بين الفينة والفينة : (( أريد أن
أنام .. أنام )) .
عودة إلى البداية مرة ثانية : حسبت أن الأمر في غاية البساطة، (
كلمتان ورد غطائهما ) ... لن يستغرق مني سوى بضع ساعات للذهاب والإياب ، وأقل
من ذلك في الاطلاع على القطع المصادرة لتحديد هويتها ، وقد اختصر المدير
الموضوع بكلمات :
ـ اتصل معي أبو ....
ولوح بيده قبل أن يتابع : لا بد أنك سمعت باسمه ! هو أحد
الشباب ( 2 ) .... يريد خبيراً لأمر ضروري ؛ فلم أجد أفضل منك لهذه المهمة
... خبرتك الطويلة في مجال حفر الآبار جعلتني أفضلك ، وأرشحك لهذه المهمة ...
هي لن تأخذ بين يديك سوى (غلوة ) ( 3 ) .
ـ شكراً علىهذه الثقة . أنا حاضر .
في الحقيقة شعرت بفرح ، ووطنت نفسي على تنفيذ المهمة بدقة ، لكن
ما حدث كان على النقيض تماماً ، وعكس ما هو متوقع .
يا ليت الأمر اقتصر على ( اكتب ، لا تكتب ) ! كنت تحملت الأخذ
والرَّد بصبر ورباطة جأش ، أما أن يتعدى ذلك إلى الـ .... فتلك مسألة أخرى ،
تحتاج إلى شجاعة حتى الجنون ... ربما دخلتُ بوابة الجنون دون أن أدري !
كنت في ( المقر ) بصفة خبير ، ومع ذلك أراد أن يمارس عليَّ شتى
الضغوط ، فكيف يكون حال المتهم أو الظنين ؟ سيرى النجوم في عزِّ الظهر ، بكل
تأكيد .
عندما أبديت إصراري على أخذ عيِّنة من المسروقات وافق مضطراً ،
لكنه طلب إليَّ أن أعود على وجه السرعة حاملاَ تقريري ؛ فخرجت بالسيارة من
الباب الرئيس بعد أن وضع بعض العناصر العدد المطلوب من الرؤوس في صندوق الـ
( بيك آب ) . وماكدت أوَدَّع آخر بيت من المدينة حتى ضغطت على دواسة البنزين
بعنف ؛ فراحت السيارة تنهب الطريق الممتدة مسافة مائتي كيلو متر تقريباً .
شرحت للمدير تفاصيل ماجرى ، أبديت له وجهة نظري وظنوني ، ودفعاً
لأية شبهة يمكن أن تثار اقترحت عليه تشكيل لجنة للكشف ؛ فوافق دون تردد .
تحققت اللجنة من عدم عائدية المسروقات إلى حقل النفط الذي أعمل
فيه منذ خمسة وعشرين عاماً ، فحملتها بالسيارة ، وأمسكت التقرير بيدي ، ثم طلبت
إلى السائق أن ينطلق بأقصى سرعة .
ما كاد يقرأ التقرير حتى جنَّ جنونه ، وعلى الرغم من محاولاتي
توضيح الأمر ، وشرح موضوع آلية عمل المستودع من حيث الإدخالات والإخراجات ،
لكنه رفض ، كرر كلامه السابق ، أصرَّ على أن رؤوس الحفارات هي مسروقة من الحقل
، فلم أوافقه ، وحاولت ـ بصفتي خبير ـ أن أوضح ، وأبيِّن له خطل رأيه ، فأبى
بعنفٍ أن يسمع مجرد كلمة .
لم أظهر أمامه أي نوع من الاستسلام ، أو أبدي أي تغيير في موقفي
. قلت في نفسي : (( إذا كان هو عنيداً ، فأنا على معرفة ودراية ، وسأكون أشد
منه عناداً )) .
طلب إليَّ أن أذهب ، لأعود وأعضاء اللجنة كافة في صباح اليوم
التالي .. في الوقت المحدد كنا نقف على مسافة عدة أمتار من الباب الرئيس ،
وانتظرنا مدة ساعتين دون أن يُسمح لنا بالدخول . كلما سأل أحدنا الحارس كان
الجواب يصفعنا : (( المعلم لم يأت .... والسيد الـ .... مشغول.. انتظروا
)) .
أخيراً جاء الفرج ، أشار لنا الحارس بفوهة البارودة أنْ :
ادخولوا .
كان جواب اللجنة واحداً : (( رؤوس الحفارات موضوع السرقة لا
تعود إلى الحقل ، وهناك حقول نفط أخرى ، بعضها أجنبي ... )) . وعلى الرغم من
ذلك لم يقتنع ابن الـ ... أطلق سراحنا بعد ست ساعات من الأخذ والرَدِّ . لم
ينته الموضوع عند هذا الحد ، فقد طلب إليَّ الحضور وحدي في صباح اليوم التالي.
وكانت عودة مكتظة بالمعاناة والعنت ، وصنوف أخرى من العذاب : ((
انتظر .. المعلم لم يأمر .. هو الآن مشغول ... عُدْ بعد ساعة ... غِبْ ساعة
أخرى ... لم ينته ... ارجع قبل نهاية الدوام .. خرج قبل قليل .. عُدْ في المساء
... )) .
هكذا انقضى النهار بطوله ، وأنا ألوب من مكان إلى آخر دون أن
يسمح لي بالدخول . وفي المساء عدت خائر القوى ، انتظرت ساعة وبعض الساعة أمام
الباب قبل أن يُشير لي الحارس بفوهة البارودة أنْ : ادخل .
كدت أسقط وأنا أرتقي الدرج الأمامي ، وعند الباب الثاني أومأ لي
أحدهم أنْ أتبعه ؛ فوجدت نفسي أسير خلفه كالخروف ... ومن ممر إلى ممر ، فإذا بي
أقف قبالة باب كئيب ، وسط جدار قشف ، متآكل ، دخلت كمن يدخل مغارة مجهولة ؛
فوقع نظري على وجه جديد ... الأسئلة هي ذاتها ، كدت أفقد إحساسي بالأشياء ،
تماسكت قدر المستطاع ، حاولت أن أظهر بعض الشجاعة أثناء الإجابة ( في الحقيقة
كنت في حالة يرثى لها ) ، لم يجد عندي غير ما ورد في التقرير . أمرني بالخروج ،
والوقوف في الممر ، وتابع سلسلة أوامر الممنوعات : (( القعود ، القرفصة
، السير ، الإتكاء إلى الجدار ..... )) .
كنت كالصنم لولا حركة العنينين ، والتواء الرقبة فوق الصدر .
أول مرة أحاول النوم واقفاً ، ولولا تلك الصرخات التي تعلو بين الحين والآخر ،
قادمة من إحدى الغرف القريبة ، ربما كنت قد سقطت في الممر دون أن أدري !
قبيل الفجر دفعني أحدهم قائلاً : اخرج فوراً ، وعُدْ غداً .
عدت في الغد ، لم تتبدل الصورة ، قلت : (( لقد قربت النهاية ،
لن أصمد طويلاً )) . أصابني السأم ، شعرت بالوهن ... لم يمر طويل وقت حتى رأيت
تبدلاً في الموقف . كيف تحول المجرى ، ومن يكون وراء ذلك ؟ لا أعرف ، المهم
أن أخرج من هذا الجحيم .. تشجعت ..إذن أتشبثَ بالصبر حتى النهاية ..
وها أنا أخرج أخيراً .
إذا سألني أي إنسان : (( هل سأقول ( لا ) مرة أخرى ؟ )) .
أجيب : نعم ... لا إله إلا الله .
الحسكة ـ نيسان
2003
( 1 ) كان ممن اشتهروا بالكذب ، هذا ما ترويه الأخبار .
( 2 ) الشباب : في أمكنة آخرى يُطلق عليهم أسماء مختلفة ،
مثلاً : حبايبنا الحلوين .
( 3 ) غلوة : وقت قصير .
يحدث في ممر ضَيِّق
يخطئ مَنْ يظن أَنَّ شرطة السجن المركزي أحسن حالاً مِن السجناء
، أو أسعد حظاً منهم ، لأن كل شرطي ، مِنْ أصغرهم رتبة إلى السيد العقيد ،
يعتبر نفسه سجيناً من صنف آخر ، بل أكثر من ذلك ؛ فالسجين طرف فاعل في خلق حالة
من الهدوء ، أو إشعال نار الشغب ، بيده مفتاح الوضع داخل الزنزانات وفي باحة
التنفس ، فهو ـ من هذه الناحية ـ حر : إن أراد السلامة وراحة البال تصرف تصرفاً
لا يعكر صفو الهدوء ، وإن أراد التمرد أو الفتنة فمصيره معروف ، ومع ذلك يُقدم
على ارتكاب هذا الفعل ، وهو مدرك أنه سيكون موضع المساءلة والعقوبة .... هل
يتمتع السجان بهذه الميزة ؟ الشرطي ( يا حسرة ! ) طرف منفعل ( الصواب : مفعول
به ) ، دائماً يتخذ موقف المدافع ، لا يحس بطعم الراحة ، لا تغفل عيناه عن
مراقبة كل حركة داخل جدران السجن المرتفعة ، المتوجة بالأسلاك الشائكة ، يظل
يقظاً ، متحفزاً لكل طارئ !
هذا هو الانطباع الذي خرجت به غِبُّ مغادرتي مكتب مدير السجن ،
وتعمق أكثر بعد الذي رأيت ، وسمعت .
* * *
عندما أمسيت في الممر الضيِّق ، وممرات السجن التي سلكتها كانت
كلها ضيِّقة ، تساءلت أكثر من مرة بيني وبين نفسي : يا ترى ! مَنْ هو السجين ،
ومَنْ هو السجنان ؟ يغلب على ظني أَن لا فرق بين الاثنين إلا بكون أحدهم
مُراقَب والثاني مراقِب ، الأول يخلد إلى النوم أنْىَّ يشاء في ساعات الراحة ،
والثاني لا يعرف هذه النعمة في ذلك الوقت ، أما إذا عرفها ، ووقع مكروه خلالها
؛ فسيصلى نار جهنم ، وبئس المصير !
لقد قَدَّر لي ـ بحكم عملي ـ زيارة ذلك البناء الشامخ على ربوة
بطرف المدينة الجنوبي ... ما كدت أعبر البوابة الرئيسة حتى تجلت لي ملامح مكان
، غير الذي كان بمخيلتي : بوابة تفضي إلى بوابة ... عالم من الأبواب ، والأسوار
، والأسلاك ... هكذا وجدت نفسي في مكتب السيد العقيد ، مدير السجن . لم يكن
وحيداً كما توقعت ، وقع نظري على أربعة مقاعد مشغولة ، وجوه لا أعرفها ،
صافحتهم ، وقعدت على أقرب أريكة .
ناولته مظروفاً صغيراً ؛ ففضه بهدوء ، وبسط الورقة التي كانت
مطوية داخله ، ثم قال :
ـ كتاب تكليف من الهيئة ... أهلاً وسهلاً ... هل تريد أن تستجوب
السجين الآن ؟
ـ ليس الآن ، لم يمضِ على توقيفه إلا سواد الليل ... أقوم بجمع
الوثائق والمستندات .
ـ طبعاً ، هذا هو المفروض .
ـ أريده لسبب آخر ... مفاتيح مركز البيع بحوزته . جرى توقيفه ،
وإحضاره إلى هنا بشكل سريع ....
ـ فهمت ... ستراه ، وتسأله ... استرح قليلاً .. تناول شيئاً ...
واجب الضيافة .
شكرته ، وملت بجسدي حتى لامس ظهري مسند الأريكة . أحضر شرطي
كؤوس الشاي ، ووزعها على الموجودين بطريقة آلية ، أشار بيده للشرطي أَنْ : لا ،
ثم قال : (( شربت اليوم ما فيه الكفاية )) ؛ فسحب الشرطي يده المعلقة بالفضاء
إلى الوراء ، وأنزل الكأس بهدوء فوق الصينية ، ثم دار على عقبيه .
شعرت أن ثمة حديثاً انقطع عند دخولي ؛ لذا كنت أتوقع من مدير
السجن أن ييسر مهمتي بسرعة ، لكنه بدل أن يفعل ذلك رأيته يضع الكتاب جانباً ،
ثم يسألني عن الصحة وأحوال العمل في المؤسسة ... أجبت باقتضاب ، هزَّ رأسه ،
وقال وهو يحدق في الحائط المقابل :
ـ هذا المكان منفي خارج الحياة ... هنا لا يعرف الإنسان نهاره
من ليله .... يأتي وقت يتوقف فيه الزمن .
ارتفع صوت أحدهم :
ـ أنت مدير السجن تقول هذا الكلام ! الله يساعد المسجون .
ـ لأني أعرف أقول ..... أمضيت عشر سنوات في هذا المنصب ، تنقلت
بين سجون مختلفة ، رأيت من السجناء أصنافاً ، وسمعت من الأخبار تلالاً .. تقدمت
بأكثر من طلب نقل إلى أي موقع ،
دون فائدة ... عافت نفسي التحقيق والسجون ، أريد أن أرى الحياة
، أشم نسمة هواء نقية .
طالت مدة مكوثي ، حاولت أن ألفت نظره ، فأنا في عجلة من أمري ،
لم يراعِ الوضع الذي أنا فيه إلا بعد أن انتهى من حديثه ، فتناول قصاصة من
الورق ، كتب عليها بضع كلمات ، ضغط على الجرس ، دخل شرطي ، وقف باستعداد ،
ناوله الورقة ، طلب إليه أن يرافقني .
ودعته شاكراً ، سرت خلف الشرطي ، خطواتي تلاحق خطواته . وقف
أمام باب صغير ، حديدي مقضب ، وقفت . وقع نظري على شرطي في الطرف الآخر يستند
إلى أحد قضبان الباب بيد اليسرى ، بينما يده اليمنى تعبث بحزمة من المفاتيح ،
لم يبدل وقفته إلا عندما رأى قصاصة الورق ، قرأ ما كتب فيها ، لم ينبس ببنت شفة
، سحب مفتاحاً كبيراً ، دفعه في القفل .. طق ... طق ... طق . مدَّ يده إلى
مزلاج فوق القفل ، سحبه بقوة ؛ انفتح الباب ، دلفت والشرطي إلى الداخل . هبطنا
عدة درجات ، انعطفنا ناحية اليسار ، فإذا بي أرى ممراً طويلاً ، ضيِّقاً يكاد
لا يتسع لرجلين ، يضج بحركة رجال الشرطة ، يأتون صفاً ، يذهبون صفاً ، مثلهم
مثل أرتال النمل ، مع فارق أن النمل يسعى إلى رزقه في فضاء رحب ، بينما هؤلاء
مجبرون على الحركة تحت أنوار خافتة ، وبين جدران تغزوها بقع كالحة ، وتتسلق
الرطوبة على أجزئها السفلية .
تلقيت ـ مثل مرافقي ـ أكثر من صدمة ( كتفية ) قبل أن نجد
أنفسنا أمام باب حديدي صغير في الجهة اليسرى ، أطلت عليَّ ـ من خلال قضبانه ـ
درجات تتلوى صاعدة ، وعلى الدرجة الأولى يقف شرطي مثل وقفة زميله عند الباب
الأول . طلب إليه مرافقي أن يحضر السجين المدون اسمه في الورقة ، صعد الشرطي
الدرج ، اختفى عن أنظارنا .
* * *
طال انتظاري ، ضقت ذرعاً ، لم يعد باستطاعتي البقاء مصلوباً في
هذا الممر الضيق ! أستغليت بعض الفجوات بين الرتلين المتحركين ؛ ابتعدت عن
البوابة قليلاً . كل ما وصل سمعي كان ضجيجاً ، وصراخاً ، و ( قرقعة ) الأبواب
الحديدية في فتحها وإغلاقها ! لم أر إلا وجوه الشرطة المتعبة ، وعدد من السجناء
المصفدين بالأغلال يعبرون الباب الأول بين حراسة مشددة !
وقبل أن أقفل عاداً إلى حيث كنت طرق أذني صوت صارخ : (( قف
باستعداد )) ؛ التفت إلى مصدر الصوت بحركة مفاجئة ، رأيت رجلين متقابلين ،
أحدهما طويل القامة ، متين البنية ، يعتمر عمرة سوداء ، تحرك قليلاً ؛ فبدت
ثلاث نجمات تلمع على كل كتف ، أما الثاني فكان معتدل القامة ، نحيفها ، ثيابه
فضفاضة ، مجعدة ( كأن الكلب علكها ) ، لا تحمل ذراعه أية إشارة ، ناهيك عن
كتفيه .
تسمرت في مكاني أراقب المشهد :
صرخ الطويل يأمر معتدل القامة أن يثبت في مكانه ؛ فاستجاب
المأمور للآمر فوراً : تَسَمَّر في مكانه ، وقف كالصنم ، سابلاً يديه ، رافعاً
رأسه ، ونظره معلق في مكان بعيد افتراضي ، فإذ بالطويل يرفع يده عالياً ،
وبلمحة البرق ينزلها بقوة على صفحة خد الثاني ! مشهد غريب ، لم أره من قبل ، بل
لم أتخيل حدوثه !
حاول معتدل القامة أن يدافع عن نفسه ، رفع يده ليقي بها وجهه من
صفعة ثانية ؛ فهطلت على أذنيه صرخة كالرعد تأمره بسبل يديه ، والوقوف باستعداد
، وعندما همَّ بالكلام أمره الصوت أن يخرس ، لكنه ـ هذه المرة ـ لم يخرس كما
أمره :
ـ كيف أخرس وأنت تضربني ؟
ـ أقول لك اخرس .
ـ هناك قانون .. افرض بي أية عقوبة ، لا يحق لك أن تضرب .
ـ أنت تعرف القانون ؟
ـ أنت تعرف ، وأنا أعرف , وكل واحد يعرف .
ـ ......
ـ ......
* * *
انتبهت على صوت الشرطي يقول لي :
ـ غير موجود ... رحلوه إلى المحكمة .
ـ أية محكمة ؟
ـ محكمة بداية الجزاء في المنطقة ....
ـ المسافة بيننا مائتا كيلو متر ، ما العمل ؟
ـ ربما لن تجده هناك ...
ـ هذا صحيح ، سَيُرَحَّل إلى محكمة بداية الجزاء في الناحية
ودعت الشرطي ، وخرجت مسرعاً عبر الممر الضيِّق ...
13 آذار 2004
|